الاعتراف وحبل الكذب
كان لبعض كتب الاعترافات التي ظهرت في بعض العواصم الأوروبية، فضل إرساء المعالم وتحديد سمات “أدب الاعترافات” ومناخه والقصد منه. وأن يعترف الكاتب أو الشاعر أو المفكر أو حتى رجل الدين، يعني أن يتناول بالكشف و”الفضح” وتعرية ذلك المتعلق به، وإماطة اللثام عما ينطوي في أعماق سريرته وذاته من آثام أو مكنونات جنسية وماجنة أو “منحرفة” أو باطنية أو حتى هذيانية، أحيانا يكون المكتوب ممتعا بالنسبة للمتلقي، وربما يكون باعثا على النفور والاشمئزاز والنميمة، وفعل الاعتراف يزيح عن كاهل صاحبه أو سارده عبئا نفسيا ثقيلا، ربما يتحوّل فضيحة ثقيلة، يصعب محو تداعياتها انطلاقا من مقولة كارل كراوس “القصيدة تبقى جيدة حتى نعرف من كتبها”. وعلى هذا لا تتسم الاعترافات على سمت واحد، وفعل الاعتراف مشروط بالقدرة على إمتاع القارئ.
وكتابة الاعترافات هي “سيرة النفس″ أو سيرة عريها، ومن بين المحاولات المبكرة في تاريخ الأدب، تنهض “اعترافات” القديس أوغسطين معلما بارزا في أدب الاعتراف، لأنه من غير تحرج أو مواربة تناول خفايا حياته الخاصة تناولا صريحا وعاريا ومتجليا، وكانت هنالك عدّة أسباب دعته إلى الاعتراف وتناول أناه الخاصة، وجعلها ابتداء وقبل كل شيء، عملا اقتدائيا تمثليا لكل أصحاب الآثام من الناس الذين مازالوا يرزحون تحت وطأتها، ثم جاءت “اعترافات” جان جاك روسو (1712 – 1778) لتضيف طورا في هذا الأدب، حيث صوّر صاحبها نفسه من دون تحفظ، ونقب في طواياه عن جذور النقائص التي اقترفها في حياته من طمع ونفاق، وما كان يعتريه من جموح واندفاع وتهوّر، فأظهر خفايا نفسه، ولذا قال “إنني في هذا الكتاب لا أخفي سيئة ولا أضيف حسنة”، وقدّم فيه أدبه من وجهة نظر لا تتراجع أمام البوح، ومن جهة ثانية لأنه في معرض تأريخه لذاته أرّخ للإنسان ولوجوده وتكوّن فكره في هذا العالم، قائلا “أريد أن أعرض الإنسان طبقا لطبيعة حقيقته البشعة، وهذا الإنسان هو أنا”.
وتوالت الاعترافات التي كان أشهرها اعترافات توماس دي كويني وعنوانها “اعترافات مدمن أفيون إنكليزي”، التي صوّر فيها ما كان يعانيه إذ يتناول الأفيون علاجا لما يكابده من آلام، وما كان يظهر له من أوهام وهذيان، وكان لهذه الاعترافات فضل تجلية كلمة “السيرة الذاتية” التي بدأ استعمالها عام 1809، فيما يؤرخ لها “مختصر قاموس أكسفورد” فذكرها لتدلّ على “كتابة إنسان لتاريخه، أو قص حياة إنسان بنفسه”، فهي تتضمن معلومات يُفترض أن توفر أكبر جانب من “الصدق” فيها، مع الصراحة والمكاشفة والبوح والإقلاع عن المخاتلة.
ولذا فلم يتردد بعض الكتّاب أمثال ستندال وأندريه جيد وجورج صاند وأوسكار وايلد في الإفضاء بتجاربهم الجنسية والحميمية وخبراتهم في مجالها، وما لابسها من ظروف وصاحبها من أجواء، ولهذا أشار الباحث ميشيل فاوكاولت إلى أن فن الاعتراف ربما هو أكثر الصفات البارزة التي طبعت الثقافة الغربية المعاصرة، وبهذا تحوّل الإنسان الغربي إلى “حيوان اعتراف”، بحسب ملاحظة الكاتب العراقي سلام صادق، ويعتبر فاوكاولت أن المجتمع الغربي وتبعا لذلك أصبح مجتمعا مطبوعا على سجية الاعتراف، وترك الاعتراف تأثيراته العميقة والواضحة في بنية هذه المجتمعات “.
ودون أدنى شك فإن كان الأدب في أحد وجوهه يعنى بالمتعة في الحكي والاستمتاع، واهتمامه بالحكايات والسير الخارقة للأبطال والفرسان والأساطير والحروب والمعجزات، فإنه اتجه نحو وجهة مغايرة تماما الآن، بحيث أصبح ملائما لضرورات أخرى تكمن في أنه (أي الأدب) وفي أعمق أعماقه وفي جوهره وجمالياته صار يعمل على إبراز الحقيقة من بين كلماته”. لكن أين العرب من كل ذلك؟ وهم يرفعون شعارات كبيرة مثل “إذا بليتم فاستتروا”، فضلا عن أن الإسلام لا يقرّ بمبدأ الاعتراف كقاعدة سلوكية.
ولا ريب أن العرب اطلعوا على ألوان الأدب الاعترافي الغربي، وكانت لهم وجهة نظر تبيّن مدى استجابتهم بالتأييد أو العزوف في هذه الألوان الأدبية التي تتضمن جهر الأديب بمكنونات حياته وخفاياها. فعبدالرحمن شكري يقول “ليس فريضة على صاحب الاعترافات أن يذكر نقائصه، هل فعل ذلك روسو أو غوته او شاتوبريان، كلّ، ومهما عظم نصيب صاحب الاعترافات من الصراحة، فلا بدّ أن يكون عنده من الجبن والحزم واحترام النفس وما يغري بإخفاء الكثير من نقائصه”. وفي مطلع السبعينات، نشرت مجلة “الكاتب المصري” مقالة تقارن بين “اعترافات” لأوغسطين و”المنقذ من الضلال” للغزالي.
يلعب الكذب والخيال دورا كبيرا في موجة الاعترافات الراهنة كما لعباه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عصر ازدهار الاعترافات. وقتها خرجت إلى المكتبات مئات الكتب تحوي انطباعا بالصدق والأمانة، اعترافات أخرى استخدمت المؤلفات الجادة والصادقة مظلّة تختفي تحتها كتب عديدة قائمة على الكثير من الكذب والخيال، وبعضها بغرض التشهير بحسب تعبير الكاتب ممدوح الشيخ، حين نراقب بعض المحطات الثقافية، نلحظ أن صاحب الاعتراف "يكذب"
وتوصل كاتب المقالة إلى أن الثقافة المسيحية كانت أقرب إلى السيرة الذاتية من الثقافة العربية والإسلامية، لأن المسلمين لم يعرفوا “أدب الاعتراف”، بمعنى التكفير عن الخطايا بمجرد البوح بها. وللأسف، يقول المترجم العراقي سعيد الغانمي انتشرت هذه الفكرة بحيث صار أدب الاعتراف إذا صح وجود أدب كهذا، أو مجرد طقس الاعتراف نفسه، نظيرا مطابقا لأدب السيرة الذاتية أو ترجمة النفس. وكانت النتيجة الحط من قيمة السير الذاتية العربية باعتبارها سيرا ناقصة، وتفتقر إلى أدب البوح الذاتي الداخلي، وترتكز بالكامل إلى الإعلام الأيديولوجي الصريح الذي يتطابق مع الهوية الجماعية.
***
وبغض النظر عن المبدأ العام لأدب الاعتراف ومدى انتشاره وأبرز نجومه، نقرأ عبارة للزعيم العمالي البريطاني أنورين بيفان تقول “كل السير الذاتية أكاذيب”، ويوصي باودولينو بطل أمبرتو إيكو «إن أردت أن تصبح متأدبا أو أرفع شأنا، إذا أردت أن تكتب ذات يوم أخبارا، يستوجب عليك أن تكذب، وأن تختلق بعض الحكايا، وإلا كان “تاريخك” مضجرا». لا ضرورة للشطح والحديث عن الأدب والحقيقة والكذب في الرواية، لكن في أدب الاعتراف الأمور أكثر تعقيدا.
هل يجوز الكذب في الاعترافات؟ هل نبوح بـ”خطايا” كاذبة، أم نستعمل الكذب لنمتن السرد والبوح؟ يلعب الكذب والخيال دورا كبيرا في موجة الاعترافات الراهنة كما لعباه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عصر ازدهار الاعترافات. وقتها خرجت إلى المكتبات مئات الكتب تحوي انطباعا بالصدق والأمانة، اعترافات أخرى استخدمت المؤلفات الجادة والصادقة مظلّة تختفي تحتها كتب عديدة قائمة على الكثير من الكذب والخيال، وبعضها بغرض التشهير بحسب تعبير الكاتب ممدوح الشيخ، حين نراقب بعض المحطات الثقافية، نلحظ أن صاحب الاعتراف “يكذب”، الكذب هنا أبيض، وغالبا ما يرتبط بظرف سياسي واجتماعي وحتى ذاتي، الروائي نجيب محفوظ نفسه عندما أجرى معه رجاء النقاش حوارا طويلا على مدار سنة كاملة ونُشر مسلسلا في إحدى المطبوعات، وكان بمثابة اعترافات على أسرته وأهله أثار ضجة كبيرة، فاضطرّ إلى حذفها من النسخة التي أصدرها في كتاب بعد ذلك. وفي علم النفس التحليلي تلجأ الشخصية غالبا إلى حذف المواقف والأشياء التي تشكل مصدر شعور بالألم والتوتر. برغم أن القديس أوغسطين، يعتبر أن الاعترافات تحرر الإنسان من عبء ثقيل إن لم يخلصه من سمّ أليم؛ يخلصه من عذاب ضمير.
وحين أصدر الناقد عبدالله إبراهيم كتابه “السرد والاعتراف والهوية”، رأى أن هذا الأدب هو محط شبهة وارتياب، فالقارئ يرى في جرأة الكاتب على كشف المستور وفضح المجهول، خروجا عن السياق الرسمي للأدب والمجتمع. وتدفع المخاوف في هذا الشأن، كتّابا كثرا إلى “اختلاق تواريخ استرضائية” وإلى “ابتكار صور نقية لذواتهم” مؤثرين عدم الخوض في مناطقهم السرية.
وما زالت غالبية من القراء والنقاد أيضا، تتلقى أدب الاعتراف بصفته “جملة أسرار” أو “مدونة فضائح”، والأمر هذا انعكس سلبا على الكتّاب فراحوا يتحاشون ذكر الوقائع النافرة أو الفاضحة وغير المستساغة لدى القراء. وهذا يتعارض مع مهمة أدب الاعتراف، وثمة بعض الشواهد الحسيّة، تدل على مدى الرقابة الذاتية في أدب البوح والاعتراف.
عندما نشرت القاصة ديزي الأمير رسائل الشاعر خليل حاوي، حذفت اسمها من الرسائل إلى جانب بعض الجمل. وكذلك الحال أيضا، عندما نشر الكاتب المسرحي توفيق الحكيم في منتصف السبعينات كتابا جمع عددا من الرسائل المرسلة إليه خلال حياته الأدبية، فحذف من كتابه كل ما يتصل بعواطفه. دار الآداب نشرت الجزء الأول من سيرة سهيل إدريس ولم تنشر الجزء الثاني لأسباب معروفة. رسائل إلياس أبوشبكة إلى محبوبته ليلى العظم أحرقت. وحتى أبرز شخصية في أدب الاعتراف العربي لا تزال موضع جدل وريبة، والقصد هنا الروائي المغربي محمد شكري صاحب “الخبز الحافي”، السيرة التي شكلت صدمة قبل عقدين أو ثلاثة، ففي المدة الأخيرة خرج حسن العشاب، وهو المعلم المدرسي الأول لشكري، ليقول “لقد تعلم شكري القراءة والكتابة في سن الحادية عشرة. وما كان يروجه من أنه ظل أميا حتى سن العشرين، كان من أجل إثارة الانتباه فقط. وعندما كنت أثير معه هذا الموضوع، كان يجيبني بأن 60 في المئة من الكتب التي تتناول حياة أصحابها تعتمد المبالغة وبعض الكذب من أجل التشويق”.
ويعود العشاب بذاكرته إلى الوراء، وبالضبط إلى أربعينات القرن الماضي “بعد العودة من المدرسة، كنت أجلس في أوقات فراغي في مقهى شعبي للصيادين تطل نوافذه على الميناء وتحمل اسم صاحبها موح. كان موح صاحب المقهى وطنيا كبيرا، وكان مدمنا اقتناء الصحف. أما دوري أنا فقد كان فريدا من نوعه. موح يهيّئ للصيادين مجلسهم في المقهى لأقرأ أنا الأخبار اليومية وأشرح لهم مضامينها بحماسة”.
ويتابع العشاب “كنت ألاحظ بين الصيادين طفلا صغيرا لا يتجاوز عمره 11 سنة ينظر إليّ بإعجاب. كانت تربطه بالمقهى تجارة السجائر الأميركية التي يبتاعها من السوق السوداء في الميناء ليبيعها بالتقسيط في المقهى. صارحني الطفل محمد حدو التمتماني (اسم محمد شكري الحقيقي) برغبته في تعلم القراءة والكتابة. وهكذا أخذت في تعليمه الحروف الهجائية وبعض السور القرآنية والأحاديث. ولقد استمر تعليمي إياه سنتين في طنجة، ثم واصلتُ تعليمه خلال العطل حينما انتقلت إلى مدينة العرائش”.
سيتوسط حسن العشاب لشكري في ما بعد لدى مدير مدرسة في العرائش عام 1955 ليسجله في مدرسته مباشرة في الصف الخامس الابتدائي رغم سنه المتقدمة. وقد وجد “صعوبة كبيرة في التأقلم مع التعليم الرسمي. ورغم أننا كنا نشجعه ونساعده بالدروس الإضافية، فقد ظل مستواه متواضعا. لذلك حينما تخرج من المعهد الثانوي بعد ثلاث سنوات وأصبح معلما، لم يسمحوا له بالتدريس لأنه لا يجيد اللغة العربية، وكانت كتاباته ملأى بالهفوات والأخطاء اللغوية والإملائية”.
يضيف العشاب «”في العرائش، كان شكري يطلعني على بعض كتاباته التي أراد أن يؤلف منها كتابا، شجعته على ذلك. لكنه علّق بسخرية “كيف لي أن أنشر كتابا وأنا أعيش فقط بالخبز الحافي؟”». فأجبته بأن «”الخبز الحافي” الذي تحكي عنه الآن يجب أن يكون عنوان هذا الكتاب».
وبغض النظرة عن موقع شكري في عالم الرواية الآن، يبقى السؤال هل كان يبالغ في روايته أو سيرته لجذب الانتباه؟ هل ما قاله العشاب موضع شك وكلام لمجرد الغيرة وتحطيم أسطورة التلميذ الأسطورة؟ وهل يؤثر الكلام على مضمون “الخبز الحافي”؟
بغض النظر عن المبدأ العام لأدب الاعتراف ومدى انتشاره وأبرز نجومه، نقرأ عبارة للزعيم العمالي البريطاني أنورين بيفان تقول “كل السير الذاتية أكاذيب”، ويوصي باودولينو بطل أمبرتو إيكو «إن أردت أن تصبح متأدبا أو أرفع شأنا، إذا أردت أن تكتب ذات يوم أخبارا، يستوجب عليك أن تكذب، وأن تختلق بعض الحكايا، وإلا كان “تاريخك” مضجرا». لا ضرورة للشطح والحديث عن الأدب والحقيقة والكذب في الرواية، لكن في أدب الاعتراف الأمور أكثر تعقيدا
ولا يقتصر سؤال الكذب في أدب الاعترافات على شكري، ففي المدة الأخيرة، حصل سجال صحافي حول روايات تشارلز بوكوفسكي وشعره، باعتباره بات منتشرا بقوة ومترجما بكثافة في العالم العربي، ويهوى أدبه الكثير من الشبان، ويتناقلون خبرياته ومواقفه الشريرة، وتعاطيه الكحول بإسراف، وعلاقته السيئة مع النساء.
وكان للشاعر العراقي باسم المرعبي موقف مغاير نشره في موقع “ضفة ثالثة” قائلا “يبدو بوكوفسكي واحدا من أولئك الكتاب والشعراء الذين لا يتورعون عن تسطير كل ما يجول في الخاطر من دون أي وازع جمالي أو قيمي وبموهبة متواضعة أو منعدمة”، بوكوفسكي هو “صنيعة الماكنة الثقافيةـ الإعلامية الشرهة للنظام الرأسمالي.
وقد كان التلقف الأوروبي له سابقا على الأميركي”، ورد عليه الروائي التونسي كمال الرياحي معتبرا “أن قراءة بوكوفسكي أصعب من قراءة دوستويفسكي لأن أعمال بوكوفسكي أعمال تنفي نفسها وتتقنع بالبساطة والرداءة ويتواطأ الكاتب نفسُه ضدها”؛ والروائي العراقي علي بدر كان أكثر حدّة في تحديد موقفه من بوكوفسكي في تعليق فيسبوكي، قال “لم يقنعني (أي بوكوفسكي) لا في شعره ولا في رواياته، على الأرجح هو ظاهرة صنعتها دور النشر الأميركية، ولا سيما بعد أن اعترف كاتب سيرته أن أغلب مشاهد سكره العلنية هي تمثيل بطلب من ناشره ووكيلته الأدبية. الأمر ينطبق على محمد شكري أيضا”.
وأضاف “كتبت البوست السابق بعد أن قرأت البيوغرافيا التي كتبها هوارد سونس عن تشارلز بوكوفسكي، مطوقا بذراعي حياة مجنونة، من أجل ترجمتها ونشرها في دار ألكا، وبعد اقترابي من الصفحات الأخيرة، وقبل أن أرسلها للمترجم، عدلت عن رأيي. شعرت بضرورة أن أكتب ما كتبت عنه، بالنسبة إليّ من زمن وليس اليوم، هو شاعر نعمْ، ولكنه ليس له رؤية بول تسيلان، ولا رينيه شار(…). وهو روائي ولكنه ليس كهمنغواي ولا شتاينبك، طيب هو شاعر هامشي وسكير، وإلخ. وصدقت هذا، ولكن السيرة تقول غير ذلك، إنه عدل حياته، واشترى منزلا وأصبح يجمع المال ويكتب حسب طلب الناشر والوكيلة الأدبية، واغلب مشاهد السكر العلنية كانت مخترعة”.