البحر المسكون بالسرد
“أيها المتوسط على ضفافك، مازالت تبتهج بالانتصار أصوات قد صمتت، قد آمنت بك بعد أن جحدتك!“.
(ألبير كامو)
البحر المتوسط هو أقدم فضاء مأهول بالسّرد، يُقال إن المواجهة بين الهويات المختلفة هي العنصر الحاسم في إنتاج سردية للذات على المستوى الفردي والجماعي، والبحر المتوسط هو أقدم فضاءٍ، تاريخيًا وسياسيًا وحضاريًا، تشكلت داخله الهويات في إطار العلاقات الجدلية بين الذات والآخر.
في العصر الحديث تعدّ الرواية أحد أهم أدوات إعادة إنتاج الهويات، وأحد ضمانات استمراريتها، حيث عادة ما تتم صياغة الاجتماعي والسياسي والثقافي في جسد سردي، فضاء المتوسط إذن لا تسكنه شعوبه فقط وإنما تزاحمها فيه الذكريات والسرديات. جغرافيًا البحر المتوسط فضاء مغلق، تحوطه ضفاف ثلاث قارات مختلفة احتضنت عددًا لا يُحصى من الحضارات القديمة كان الاتصال بينها عبر مياهه حتميًا، اتصال تجاوز التبادلات التجارية، والحروب الدموية، إلى التثاقف العميق والمستمر بين هذه الحضارات.(Braudel, Il Mediterraneo. Lo spazio, la storia, gli uomini, le tradizioni, Bompiani, Milano
2008, p. 60).
جعل كل هذا المتوسط قلبا نابضا لجسد يتشكل من هذه الضفاف، وأصبحت مياهه امتدادا طبيعيا لها، وسعت كل قوة ناشئة على شاطئٍ لبسط سيطرتها على البحر، وهل كانت الحرب الرومانية القرطاجية إلا صفحة أولى في تاريخ حروب السيادة على الماء. (جون جوليوس نورويش، “الأبيض المتوسط تاريخ بحر ليس كمثله بحر”، المركز القومي للترجمة، 1970 نفسه 17).
في العصور القديمة لم تكن هناك طرق، وكانت وسيلة الاتصال الوحيدة المؤثرة عن طريق الماء، مع ميزتها الإضافية وهي القدرة على نقل أحمال ثقيلة لا تستطيع أي وسيلة أخرى تحريكها (Cassano, Il pensiero meridiano, Laterza, Roma-Bari, 2007, p. 42; C. Schmitt, Terra e mare (1954), Adelphi, Milano 2002, p. 42-46).
هكذا كان الجزء الأيوني من البحر المتوسط هو الطريق الرئيسي للتوسع ولتنمية المستعمرات اليونانية. وقد وجد العديد من الباحثين في اختيار الإغريق المغادرة والتوسع عن طريق البحر نوعا من القطيعة المعرفية والثقافية، حيث بدأت حركة لم تتوقف من اقتلاع جذور الذات من الأرض (Schmitt, Terra e mare (1954), op. cit., p. 59, 66).
شخصية المتوسط
البحر المتوسط الذي هيمنت عليه الحضارة اليونانية الرومانية في البداية، أصبحت تتلاطم مع أمواجه تلك الهويات العائمة التي تضرب بجذورها في الماء، وهنا بدأ البحر يمتلئ بالموضوعات التاريخية الجديدة. وعندما فقدت الإمبراطورية الرومانية – التي تدهورت بسبب هجمات الفاندال والفايكنج والنورمان – سيطرتها على البحر، كان المسار الجديد لأحداث التاريخ قد اتضح، والطريق إليها قد أصبح مفتوحا، فقبل أن يمرّ قرن على ظهور الإسلام كانت الشعوب التي اتحدت تحت رايته تغزو قرطاج، وتفتتح حقبة تاريخية طويلة أصبح فيها البحر المتوسط جسراً باتجاه الأراضي الجديدة التي يجب غزوها. هكذا أصبح البحر والأرض شيئا واحدًا. فضاء سياسي للصراع.
“كل تحول تاريخي كبير يتضمن بالضرورة – دائمًا- تحولًا في تصور الفضاء” (Bazzicalupo, Politica Rappresentazioni e tecniche di governo, Carocci, Roma 2013, p. 25)، وهذا التحول في الخيال المعاين للعالم له آثار عملية فورية، حيث تتم إعادة تعريف تمثيلات الفضاء، ويتخذ كل تمثُّلٍ منها قيمة سياسية ترتكز عليها رؤيته للعالم.
يتحول فضاء التعددية الثقافية في البحر المتوسط ببطء إلى تعددية التمثيلات للذات وللآخر، تهدف إلى البحث عن “نحن” يمكن من خلالها “تحميل تمثيلات الهوية بقيم ومعايير تنتج فائض من المعنى يوظفه أعضاء الجماعة بشكل فاعل يحميها من التفكك” (Rossi, Identità per differenza, in P. Rossi, L’identità dell’Europa, Il Mulino, Bologna 2007)، هكذا بعد أن عوَّم المتوسط – الباب الوحيد المفتوح للخروج من رتابة عالم الذات – جذور الفرد والجماعة، تأتي الآن التمثيلات التي تشكلت في فضائه لتساهم في بناء الهويات القائمة على التناقض والتضاد مع الآخر، فأول إشارة إلى “الهوية الأوروبية” لم تأت إلا في سياق الصراع بين الإمبراطورية الكارولنجية الناشئة (٨٠٠ – ٨٨٨) والجيوش العربية الإسلامية المتقدمة بثبات باتجاه الفضاء الأوروبي (السابق ص 105).
وكما يؤكد بييترو روسي كان الصّراع المستمر لقرون مع العالم الإسلامي حاسما في بناء الهوية الأوروبية، حيث كان يتم تعريف الحضارة الأوروبية الناشئة بالاختلاف مع الإسلام، بل بإشهار التناقض الصريح معه (Marramao, Passaggio a Occidente. Filosofia e globalizzazione, Bollati Boringhieri, Torino 2003, p. 59; E.W. Said, Orientalismo, Bollati Boringhieri, Torino 1991, p. 9).
أما جاكومو مارمارا فيقول إن فرادة أوروبا يمكن تمييزها في حقيقة أنه “في حين تتشكل هوية كل حضارة من خلال تمحورها حول ذاتها، ونظرتها إلى نفسها على أنها “مركز الكون”، فإن هوية أوروبا تشكلت من خلال ثنائية قطبية داخلية بين الشرق والغرب، ولذلك فإنّ النقيض المطلق للشرق هو الغرب، هذه الثنائية النموذجية لا نجدها في الثقافات الأخرى، فهي رمزية – أسطورية خاصة بالغرب، وقاصرة عليه” (Bottici, La politica immaginale, in A. Ferrara (ed.), La politica tra verità e immaginazione, Mimesis, Milano-Udine, 2012, pp. 63-79).
يلعب إذن العنصر التخييلي دورا جوهريا في صناعة الهويات، حيث لا يمكن استيعاب تجليات حضارة ما، أو شعب ما، إلا من خلال الخيال الجمعي الذي يتخذونه مرجعية لهم (Philip Gleason, Identifying Identity: A Semantic History, in Journal of American History, LXIX, 1983).
والذي يتجسد في بنى اجتماعية وسياسية متغيّرة فمن الضّروري أن يكون واضحًا أن الهوية لا يمكن تصوّرها كما لو كانت جوهر دائم لا متغير، منزوع من سياق التحولات التاريخية (Polanyi, La grande trasformazione. Le origini economiche e politiche della nostra epoca, Einaudi, Torino 1974, p. 63).
ضفاف المتوسط وتناقضات الحداثة
كان البحر المتوسّط، وما زال، الأفق المفتوح لبسط النفوذ السياسي، بوابة الخروج إلى العالم، لكنّه إلى جانب ذلك كان أيضا فضاءً حرًا للتبادل الحر، تبادل يعطي المساحة والحرية لأطراف عملية التبادل لإضفاء طابعهم الخاص على ما يتمّ تبادله سواء كان ذلك بضائع زراعية وصناعية أو أفكار دينية وفلسفية وحكايات (فرانشيسكا كراو: حكايات جحا الصقلي، ترجمة لمياء الشريف وحسين محمود، المجلس الأعلى الثقافة، القاهرة 2018، ص 18)، ولعل حكايات جحا التي تلوّنت بألوان ضفاف البحر المتوسط في رحلتها عبر ثقافاته خير دليل على ذلك، فكون هذه الحكايات شعبية يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن عملية التبادل الثقافية لم تكن قاصرة على النخب بل شارك فيها الجمهور العام من أبناء ضفاف المتوسط، فقد تلوّنت شخصية مثل جحا بلون المجتمعات التي تبنتها وأعادت إنتاج حكاياتها، فجحا في تركيا معلم، وفي مصر فقيه، وفي صقلية لص. هناك مثل شعبي صقلي يقول “مثل جحا لا يحسن القيام بشيء” (Schmitt, Terra e mare (1954), op. cit., pp. 42-46, 59, 66).
ولم تكن هناك حاجة لمؤسسات تنظم تلك التبادلات، فقد كانت هي نفسها التي تلعب دور المؤسسات، كانت البضائع والأفكار تمر من ضفة إلى أخرى، ثم تتم إعادة تكييفها وتعديلها واستخدامها لأغراض مختلفة من قبل كل طرف مشارك في التبادل.
لذلك غالبا ما كان ينتج عن عملية التداول عملية توليد للأشياء والمعاني والأفكار، فكل عميلة تبادل تؤدي إلى تكاثر وتعدد وجوه ما يتم تبادله. كان البحر الأبيض المتوسط هو الفضاء المتميز حيث يتم إنتاج صيغ الحداثة الأولى وتبادلها وإعادة إنتاجها، وقد ولدت الحداثة كما يرى بعض الباحثين على وجه التحديد من خلال ثورة الفضاء في القرن السادس عشر. فالانفتاح المكاني على عالم جديد، والأهمية المتزايدة للبحار ومركزيتها (خاصة المحيطات) للسباق من أجل تنمية الحضارات والشعوب، جعلت الحاجة إلى “نظام قانوني جديد” يتميز بمركزية أوروبية الرؤية؛ ضرورة ملحة (Gozzi, Diritto internazionale e civiltà occidentale, in G. Gozzi, G. Bongiovanni (eds.), Popoli e civiltà. Per una storia e filosofia del diritto internazionale, il Mulino, Bologna 2006, p. 26; Y. Ben Achour, La civiltà islamica e il diritto internazionale, in G. Gozzi, op. cit., pp. 45-72).
ساهمت ثورة الفضاء في القرن السادس عشر في إطلاق عملية تحديث عالمية تهدف إلى فرض السيادة “التقنية الثقافية” لأوروبا، وفرض أنظمتها القانونية الخاصة؛ (N. Eisenstadt, Modernità, modernizzazione e oltre, Armando editore, Roma 1997, p. 68) على المساحات الشاسعة التي قامت باستعمارها، والتي تدخل فيها الضفاف الجنوبية وكذلك الضفاف الشمالية على حدّ سواء، فقد خلقت الحداثة فجوة بين دول الشمال والجنوب الأوروبي، جعلت تجربة تبني الجنوب الأوروبي للحداثة أقرب ما تكون إلى تجربة الضفاف الجنوبية والشرقية للمتوسط، ولا يقلل هذا من التباين الكبير بين التجربتين، ولكنه تباين يعكس مسافة البعد والقرب عن المركز، كما يعكس تفاوت قوة وسرعة آليات ضمّ هذه المناطق لعالم الحداثة، دون أن ينفي تشابه هذه الآليات وتشابه ردود الفعل عليها.
لذلك وعلى الرغم من انتشار الحداثة في جميع أنحاء العالم تقريبًا، إلا أن هذا الانتشار لم يؤد إلى ظهور حضارة، أو إلى نموذج واحد من الاستجابة الأيديولوجية والمؤسساتية، ولكن إلى العديد من المراكز لمختلفة (Galli, Spazi politici. L’età moderna e l’età globale, Il Mulino, Bologna 2001).
كان لتداول أفكار الحداثة، ولتداول الأفكار عنها أفضلية في البحر الأبيض المتوسط ؛ لكن هذه العملية التاريخية كشفت النتائج المتناقضة للردود على الحداثة. لقد استقبلتها كل حضارة أو ثقافة أو شعب وتفاعلوا معها بشكل مختلف. فعلى ضفاف المتوسط هناك حضارات قديمة تميزت عناصرها الرئيسة بالاستمرار عبر آلاف السنين، ومن الصّعب اختزالها لتكتمل عمليات الاندماج في الحداثة، وهو أدّى إلى تناقضات تولدت عن ثنائيات غير قابلة للاختزال، حيث يتم تأييد مسار الحداثة من ناحية، بينما تنطلق آليات رجعية ذات نتائج غير متوقعة من ناحية أخرى. وهو ما تمّت ترجمته في ذلك التعايش والتلاؤم، رغم التناقض الواضح، بين الثنائيات القديمة: “نحن/ الآخرين، الحرب/الإرهاب، الشرق/الغرب، عالمي/محلي” (Arnold Toynbee,Civiltà al Paragone, Bompiani, 1983).
وقد امتدّت هذه التناقضات في الضفة الشمالية للمتوسط إلى اليوم، فمثلا نجد أن الدفع باتجاه الفتح الكامل للحدود من أجل الاقتصاد يتعايش بانسجام تام مع إغلاق الحدود أمام حركات الهجرة، وتعدد مظاهر هذه التناقضات في داخل كل حضارة على حدة، ليكون الاختلاف الجوهري بينها هو أن كل منها يفسر عناصر الحداثة بطريقته الخاصة.
ولا تكون التناقضات بين طرفي الثنائيات بل أحيانا يكون التناقض متجسّدا في الرغبة في الشيء الواحد، فإذا أخذنا على سبيل المثال دمج الاقتصاد المحلي في النظام الاقتصادي العالمي الرأسمالي نجد أنه، من نواح كثيرة، قد فرض فرضا ضد إرادة وثقافة بعض الشعوب التي من ناحية أخرى قامت بتبني نفس النموذج من أجل تحقيق الرخاء والتنمية الاقتصادية، في الواقع، غالبًا ما يكون هناك مشاركة قوية للعناصر المبتكرة وأحيانًا يتم اتخاذها كنموذج يجب اتباعه.
يستخدم أرنولد توينبي استعارة كاشفة في معرض مقارنته بين الحضارات حيث يصنّف الاستجابات المختلفة التي للمجتمعات الواقعة تحت ضغط “قوة خارجية” إلى نوعين أساسيين: الهيرودية والزيلية؛ الهيرودية نسبة إلى هيرود الذي لم يولد يهوديًا بل أدوميًا و”تحول” إلى اليهودية وأصبح زعيمًا لها – وهو ما يمكننا التعبير عنه بلغة اليوم بالاندماج الكامل، أما الزيلية فهي مفردة كنسية من العصور الوسطى تشير إلى فرط الحماس لإثبات مجد الرب، وهو ما نسميه اليوم بالتعصب، أي التمسك الشديد بثقافة المرء والرفض العنيد للآخر (Cassano, Il pensiero meridiano, p 69). في الحالة الأولى، من خلال الالتزام الكامل أو الجزئي بالنماذج المقترحة (أو المفروضة) من قبل الآخر، تتلاشى تدريجيا هوية الفرد أو في أحسن الأحوال تضعف ويتم اختزالها إلى مظاهر خارجية لا تجاوز السطح، بينما في الحالة الثانية تحدث اندفاعات قوية نحو الانغلاق والتطرّف، وسعي محموم نحو الالتزام بإطار تلك الهوية المتخيلة التي توفر الشعور بالانتماء إلى المجتمع.
إن فقدان الروابط الاجتماعية والأخلاقية القديمة أو التخلّي عنها، وما يترتّب على الرّغبة في المشاركة في النموّ المتسارع للاقتصاد، يقود قطاعات مهمّة من السكان إلى الالتزام بنطاق التغيير الحديث؛ لكن الخطر يكمن في انتشار الأمراض الاجتماعية الناتجة عن ذلك الاندماج القسري على نطاق عالمي. وفقًا لكاسانو، تمثل المافيا بطريقة رمزية ذلك “الهجين المنحرف للحداثة والتقاليد”، حيث يوجد التزام كامل بدائرة ونماذج الاقتصاد الدولي من ناحية، بينما تستمرّ من ناحية أخرى في الحفاظ على صيغ محلية قديمًة للسلطة الاجتماعية، والتي غالبًا ما تشير إلى “تقاليد” لا يمكن تحديدها (Serge Latouche, La sfida di Minevra, Razionalita occidentale e ragione medirterranea, Bollati Boringhieri, Torino 2000, p. 46-57).
تمثل عملية التهجين حالة فريدة جدا تتحدى فكرة التاريخانية، لاسيما تلك التي ربطت بشكل لا ينفصم بين فكرة التقدم والتصور الغائي للتاريخ، فقد كانت منطقة البحر الأبيض المتوسط فضاء استثنائيا لنشر الجوانب المتناقضة للحداثة. في سياق يتّخذ فيه نضج الأفكار خصائص تتباعد باستمرار عن مكوّنات الهجين التقليدية والحداثية، لقد أعادت الحضارات القديمة تشكيل الحداثة بطريقتها الخاصة. فأصبح التهجين بين الحداثة والمحافظة السمة المسيطرة لحداثة هذه المنطقة، وهي حداثة قائمة على إمكانية التعايش بين المنطق والأسطورة، والتقليد والابتكار، والنظام السياسي والثورة. بشكل يجعل المنطق العقلاني الغربي يقف على الجانب الآخر من معقولية البحر الأبيض المتوسط.
يرسم سيرج لاتوش مسارين متوازيين، مسار العقلاني المنطقي المحض، ومسار المعقول المستند إلى رؤى جدلية، ويرى أن انتشار العقلانية وسعيها إلى محو أو على الأقل تجميد الجدل والصراعات الناتجة عنه وهو ما يجرّد هذه المجتمعات من أصالتها، أدى هذا إلى خلق ديناميات إعادة تعريف الهويات، فقد ولدت النزعة التسلطية للحداثة ردود فعل معارضة، قومية ودينية قامت ببناء ماض متخيل لا يؤرقها إلا حنين العودة إليه. (٢٠)
إن تمييز لاتوش الثاقب بين “العقلانية” و”المعقولية” يوضّح لنا كيف تحوَّل الجهد العقلاني الحداثي في الثقافة العربية إلى جزء من إشكالية هذا الواقع العربي، لأنَّه شاء أم أبى سقط في فَخِّ الانطلاق من ثنائية “الأصالة والمعاصرة” أو “التراث والحداثة” أو “التقليد والتجديد” وما أكثر ما أطلقنا عليهما من أسماء.
لقد أصبحت هذه الثنائية مثل “ثُقْب أسود” يلتهم كل جهد عقلاني وكل وعي نقدي يقترب منها، بعد أن تشدُّه إليها فيقوم باستبدال الواقع بها، لقد تحوّلت هذه الثنائية من جزء من الواقع إلى كل الواقع، فأصبح كل فكر ينطلق منها أو يتوجّه إليها هو فعل تكريس لها وتعميق للهُوَّة التي تجسدها هذه الثنائية، “هكذا أصبح الصراع بين أنصار الحداثة وأنصار الهوية/الأصالة محور التفكير العربي الحديث، ومصدر حواراته الأساسية، وأصبح تاريخ الثقافة العربية الحديثة هو تاريخ تطور هذا الصراع وتبدل أشكاله وانبعاثه المتواتر، وعليه ومنه تنطلق كل المواقف الأخرى التي يحدد كل فرد وكل تيار من خلالها موقفه من الغرب أو من الحضارة أو من الدين أو من العلم أو من السلطة أو من المستقبل (برهان غليون: اغتيال العقل، محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية، دار التنوير، ط2، 1987).
لقد جعلت هذه الثنائية المشهد الثقافي العربي اليوم محزبًا متناحرًا، ذلك التناحر الذي أدَّى إلى استعمال العنف والقتل وتبادل الاتهامات بالكفر والاستغراب والسلفية والرجعية والجمود. هذه التناقضات جوهرها أننا نمارس – شئنا أم أبينا – النمط الحداثي ونعيشه، فالحداثة ليست مجموعة من المقولات المعرفية التي يمكن أن نقبلها أو نرفضها أو حتى نتخيَّر منها، الحداثة جزء جوهري من حياتنا نمارسه في كل لحظة وتتحدَّد به أشكال علاقتنا بالعالم المحيط بنا والمجتمع الذي ننتمي إليه، إلا أن البعض يرفض الحداثة – رغم ممارسته لها – إلى حدّ القطيعة، والبعض الآخر يتماهى معها حتى يرى تراثه وسياقه التاريخي عقبة في سبيل التقدم.
يعكس هذا التناقض عمق التمزّق والتوتُّر الذي يعيشه الوعي العربي المعاصر، هذا التمزق غَيَّب الثقة في خطاب عربي يحمل عبء النهضة والتطوّر لأن كل خطاب يَخْضَع دومًا للتَّصنيف “إن مفاهيم الخطاب العربي الحديث والمعاصر لا تعكس الواقع العربي الراهن ولا تعبر عنه، بل هي مستعارة في الأغلب الأعم إما من الفكر الأوروبي حيث تدل هناك في أوروبا على واقع تحقق أو في طريق التحقق، وإما من الفكر العربي الإسلامي الوسيطي حيث كان لها مضمون واقعي خاص أو يعتقد أنها كانت كذلك بالفعل، وفي كلتا الحالتين فهي توظف من أجل التعبير عن واقع مأمول غير محدد، واقع معتم مُتَفَسِّخ إما من هذه الصورة أو من تلك الصور النموذجية القائمة في الوعي/الذاكرة العربية. ومن هنا انقطاع العلاقة بين الفكر وموضوعه، الشيء الذي يجعل الخطاب المعبر عنه خطاب تضمين وليس خطاب مضمون (محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992).
ولا أعتقد أن هذا التناقض والتمزق خاص بالعقل المتوسطي فقط، إنه حاصل اللقاء بين حضارة قديمة راسخة ومستقرة في الزمن مع حداثة لا تسمح، كما سمح دائما فضاء المتوسط، بتعددية حقيقية، فمثلا اليابان التي خطت خطوات واسعة في القرن الماضي نحو التقدم وحققت قفزة هائلة علميًّا واقتصاديًّا لم تستطع حتى اليوم تجاوز هذا التمزق كما يقول جونيشيرو تانيزاكي “سلك الغرب طريقه الطبيعي للوصول إلى وضعه الحالي، أما نحن فإننا لم نستطع، في حضور حضارة أكثر تقدمًا، إلاَّ استيراد هذه الحضارة غير أن ذلك تم بصدمات. لقد دفعنا إلى أن ننعطف نحو اتجاه يختلف عن الاتجاه الذي سلكناه منذ آلاف السنين، أعتقد أنّ عوائق وخيبات عديدة تولدت عن ذلك” (جونيشيرو تانيزاكي: مديح الظِّل، ترجمة الحبيب السالمي، دار معالم، ط1).
تؤكد هذه الإشارة إذن على الطابع المعرفي لهذه الإشكالية، إلا أن هذا الطابع المعرفي يتشكل في الواقع اليومي للإنسان البسيط وفي ممارساته الحياتية، وهو الواقع الذي أَدْمَنَّا مفارقته وإهماله، إن ثنائية صراع الأصولي حارس الهوية والحداثي فارس التجديد ثنائية وهمية وزائفة فالمثقف العربي بشكل عام “أسير النماذج الأصلية والعصور الذهبية، يستوي في ذلك التراثيون والحداثيون، إذ الكل يفكّرون بطريقة نموذجية أصولية. فالتراثيون، على اختلافهم، يفكّرون باستعادة العهد النبوي أو عصر الراشدين أو العصر العباسي، أو هم يحاولون احتذاء عقلانية ابن رشد أو واقعية ابن خلدون أو قصدانية الشاطبي، والحداثيون، على تباينهم، يفكرون باستعادة عصر النهضة أو العصر الكلاسيكي أو عصر الأنوار، أو هم يحاولون احتذاء منهجية “ديكارت” أو ليبرالية “فولتير” أو عقلانية “كانط” أو تاريخوية “هيجل” أو مادية “ماركس” (علي حرب: أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1996).
يمكنني الآن أن أعيد صياغة هذه الثنائية على النحو التالي: التقليد (تقليد التراث أو تقليد الحداثة) والفاعلية في الواقع، فتمزّق الهوية الذي يعاني منه العربي المعاصر سببه الرئيسي والأهم أنه غير فاعل في واقعه، إنّ الفاعلية المبدعة في العلاقة مع الواقع والآخر هي ما يشكل الهويَّة الإنسانية وهي ما يوفِّر الانسجام المفقود بين “الآن” وتاريخه وبين “هنا” ومحيطها، أزمة العقل العربي أنه لا يعيش انسجامًا في الزمان أو في المكان، لا يعيش انسجامًا بين الزمان والمكان، فالأصولي حارس الهويَّة يعيش في الـ”هنا” ويغترب في “الآن” حيث يقيم في الماضي المجيد وأنصار الحداثة يعيشون في “الآن” ويغتربون في “هنا” حيث تهاجر أفئدتهم إلى حيث تريد أن تنتمي هناك في الغرب، العقل العربي (التراثي والحداثي) يعمل إذن بنفس الآلية – مع اختلاف المرجعية – فهو يجعل من المنجز الفكري – تراثي أو حداثي – هويَّة له ينتمي إليها، بدلاً من أن تكون هذه المرجعيات موضوعًا لبحثه ومجالاً لعمله.
يمكنني أن أدَّعي الآن أنه لا يوجد عربي يعيش في اللحظة الراهنة لا ينتمي للحداثة بنفس القدر الذي ينتمي به للتراث وعلى هذا تتخذ ثنائية الاتصال والانفصال وجهًا آخر، فالتراثي والحداثي كلاهما مُتَّصِلٌ بالتراث وبالحداثة – وإن اِدَّعوا غير ذلك – وكلاهما منقطع عن الواقع اليومي، وإن لم يعترفا بذلك.
وقضية التراث والحداثة في مصر كانت وثيقة الصلة بالبحر المتوسّط الذي كانت عروسه الإسكندرية تحتضن كل أبناء ضفافه، عندما كانت مدينة كوزموبوليتانية يسكنها أناس من أعراق وديانات وملل مختلفة، والذين رغم التنوع الشديد بينهم كانوا يجسّدون ذلك الهجين المشوه للحداثة والتقاليد، حيث نطالع في كتابات أشهر أدباء المرحلة الكوزموبوليتانية مثل كفافيس ولورانس داريل وفورستر ذلك الحنين إلى ماض وإلى مدينة مصنوعة ومتوهمة، فالإسكندرية عاصمة الذكريات كما يقول داريل، أو هي مدينة الفقد كما يقول المؤرخ المصري خالد فهمي، حيث “دائمًا ما ارتبطت الإسكندرية في المُخيلة الغربية بفكرة الفقدان” (خالد فهمي، روح الإسكندرية ورائحتها، ترجمة سمية عبد الوهاب، https://khaledfahmy.org/ar/2016/12/10/%D8%B1%D9%88%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%83%D9%86%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D8%A9%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%A6%D8%AD%D9%87%D8%A7/.)، “وتلعب الذاكرة دورًا محوريًا لاسترجاع تلك المدينة المفقودة وإعادة بنائها. وهنا تُثار حاسّة الشمّ وتتمّ الإشارة إلى ‘الروح’ السكندرية ويبدأ البحث عن الوقت الضائع ويكثر الكلام عن عبق الماضي. وفي خضمّ كل ذلك يتم خلق مدينة مثالية، مدينة تستند في مصداقيتها إلى اقترابها من الصور الشعرية وليس الولاء إلى وقائع تاريخية. تكمن روح المدينة هنا تحديدًا في طبيعتها الهشة وغير الملموسة. فهذه المدينة؛ عاصمة الذكريات، هي المدينة الكوزموبوليتانية المفتوحة الباقية من خلال العدد اللامتناهي من المذكرات والأعمال الأدبية التي تسعى حثيثًا للإبقاء على هذه الذكريات” (السابق).
وتتجسّد فكرة تعايش المتناقضات التي نقلناها عن كاسانو في وصف روبرت ماربو للهوية الكوزموبوليتانية للإسكندرية «لقد كان المجتمع السكندري مجتمعًا مفتّتا، وذلك ليس وفقًا لتقسيم المصريين/الأجانب فقط. فالأجانب أنفسهم لم يشكلوا مجموعة متجانسة. فأولئك ممن كان لديهم هوية قومية واضحة تمسكوا بها: فلقد كانت أساس كينونتهم. أما أولئك الذين انتسبوا للهوية السكندرية الكوزموبوليتانية فقد اندمجوا معًا وشاركوا في المناسبات الثقافية، واستطاعوا إجراء حوارات معًا حول موضوعات ثقافية بعينها. ولكن في الوقت نفسه ظل الشوام شواما، والإيطاليون إيطاليين، واليهود يهودا [… وعلاوة على ذلك] فإن الطبيعة المزدوجة للحياة الاجتماعية بالإسكندرية الكوزموبوليتانية كان يمكن تلمسها في تواجد اقتصاد مفتوح [بينما] ظلت مناحٍ أخرى للحياة مغلقة […] ومن ثم، كان يجب التعامل مع هذا المجتمع بحرص، وظهر الانطباع بأن الحياة الاجتماعية تتسم بالراحة والدعة والمرح. لقد وُجِد هذا الانطباع، وبدأ الناس في الاعتقاد «بأننا سعداء معًا». […لكن] القاعدة الذهبية كانت ألا تتحدث بجدية أبدًا حول الأمور الأهم: مثل اختلاف القيم أو الاختلاف في وجهات النظر الدينية والسياسية» (Robert Mabro, “Alexandria 1860–1960: The Cosmopolitan Identity”, in Alexandria: Real and Imagined, ed. Anthony Hirst and Michael Silk (London: Ashgate, 2004), 247–262; quotation from 247–248. نقلا عن بحث خالد فهمي المشار إليه في المرجع السابق).
ولا يعني هذا انفصال الإسكندرية عن محيطها المتوسطي بل هو على العكس يؤكد انتماءها له بوصفه فضاءً لتعايش المتناقضات. فالإسكندرية التي كانت فضاءً مصغرا لعالم المتوسط كانت أيضا الميناء الذي خرج منه رفاعة الطهطاوي وأبناؤه باتجاه الضفاف الشمالية للمتوسط ليرجعوا إلى مصر ويؤسسوا النخبة الثقافية التي أسست لفكرة الهوية المتوسطية لمصر كما يؤكد الباحث والكاتب الصحفي سيد محمود في بحثه “جذور الهوية المتوسطية” والذي نشره مركز الدراسات الاستراتيجية للأهرام، ويذهب إلى أن فكرة انتماء مصر جغرافيا وحضاريا للبحر المتوسط ارتبطت بتجربة التحديث التي قادها محمد علي باشا (1805 – 1848) الذي أراد أن يكون هذا التحديث على النمط الأوروبي.
وقد سعى محمد علي في اتجاهين أساسيين: الأول، التعليم المدني النظامي (الحكومي)، كمسار موازٍ للتعليم الديني التقليدي للثقافة الأصولية المحافظة في الأزهر. الثاني، إرسال البعثات التعليمية إلى أوروبا بغرض توفير كوادر إدارية لجهاز الدولة ذي الطابع العسكري، آنذاك. إلى جانب تزويد الدولة والثقافة الوطنية بوسائل محددة للتواصل مع أووربا عبر جهاز فعال من المترجمين.
وقد كانت إيطاليا هي الوجهة الأولى لهذه البعثات التعليمية في البداية، قبل أن تتحوّل إلى فرنسا التي حظيت بنصيب الأسد من المبعوثين المصريين اعتبارا من العام 1818. وقد أفرزت تجربة البعثات جيلا من النخبة الذين أسهموا في وضع أسس محلية للنهضة مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801 – 1878) صاحب كتاب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” الذي يمكن النظر له من ناحية كنصّ فريد في أدب الرحلة، لكنّه من جانب أعمق يبدو أقرب ما يكون إلى برنامج عمل لمشروع متكامل لحداثة مصرية، لكنه يربط هذا المشروع باستمرار العلاقة مع الضفة الأخرى من المتوسط. وهو ما دفعه إلى تأسيس مدرسة الألسن عام 1836 والتي لعبت دورا مهما في نموّ فرص التواصل والحوار بين جهاز الدولة الإداري، ممثلا في خريجيها وخريجي غيرها من المدارس العليا، من ناحية، والخبراء الأوروبيين الذين جاءوا للعمل في مصر، من ناحية أخرى.
وكانت خطة الدولة هي توجيه الخريجين لترجمة كتب علمية تعين الدولة على إنجاز مهام التحديث. وكان الطب على رأس هذه الأولويات، ثم الهندسة، والتاريخ، وأخيرا الآداب. ومن الملاحظ أن حركة الترجمة لم تكن منظمة في البداية لكنها في عصر إسماعيل أصحبت أكثر تنظيما، واحتلت العلوم الاجتماعية والآداب فيها مكانة متقدمة انطلاقا من تصور سياسي عن النهضة يربطها بخبرات الأمم الأخرى. (سيد محمود: جذور الهوية المتوسطية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة 2019).
وبسبب عمق تأثيره في النهضة المصرية، هناك من يرى أن رفاعة كان تمثيلا رمزيا في الواقع لانتقال مصر بأكملها من القرون الوسطى إلى الحياة العصرية، وحين تم افتتاح مشروع قناة السويس جرى النظر للقناة باعتبارها “رحم للحداثة” يساعد على ميلاد مصر الجديدة (أنور عبد الملك، نهضة مصر: تكون الفكر والأيديولوجية في نهضة مصر الوطنية، ترجمة حمادة إبراهيم (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983)، نقلا عن سيد محمود، المرجع السابق). ويرى لويس عوض أن الدولة في عهد إسماعيل كانت منحازة لتجديد مصر على أسس المدنية العصرية. والمقصود هنا أن تكون الحضارة المصرية جزءا من حضارة البحر المتوسط. وكانت المعاصرة عنده قائمة على نقل الحضارة المادية وكذلك قيمها الثقافية والفكرية. (لويس عوض، دراسات في الحضارة (القاهرة: دار المستقبل العربي، الطبعة الأولى، 1989)، نقلا عن سيد محمود، المرجع السابق).
بعد احتلال بريطانيا لمصر في العام 1882 اهتزت الثقة في الفكرة التي كانت ترى في الالتحاق بأوروبا مسارا للهروب من الدولة العثمانية. ودخلت مصر عصر “الحداثة الملغومة” لأن نخبتها المثقفة التي تعلّمت في أوروبا تحمّلت، إلى جانب عبء مقاومة الأفكار المحافظة التي ناصبت الغرب العداء، مهمة أخرى، وفي الوقت ذاته، هي مقاومة المحتل الأوروبي، وضاعفت الحرب العالمية الأولى من مشكلات هذا التيار لأنه كان مطالبا بتقديم تفسيرات مقبولة لهذا الوضع الذي وصلت إليه أوروبا.. كانت أوروبا خيار الليبراليين المصريين، وعلى رأسهم طه حسين (1889 – 1973) الذي يمكن اعتباره أول المنظرين للفكرة المتوسطية في مصر من خلال كتابه: مستقبل الثقافة في مصر، الصادر في عام 1938، والذي يعالج قضيتين أساسيتين. أولاهما، الهوية والانتماء الحضاري. وثانيتهما، مشكلات التعليم والثقافة في مصر (سيد محمود: جذور الهوية المتوسطية. السابق).
يرى طه حسين أن “العقل المصري منذ عصوره الأولى إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر المتوسط”، ثم يعود ليؤكد نفس المعنى في قوله “إذا كان ولا بد من أن نلتمس أسرة للعقل المصري ونقره فيها، فهي أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم”. وينظر طه حسين للمتوسطية كوحدة حضارية متجانسة وليست وحدة سياسية، إذ يقول “فما بال هذا البحر ينشئ في الغرب عقلا ممتازا متفوقا ويترك الشرق بلا عقل أو ينشئ فيه عقلا منحطا ضعيفا”. ويقرر “ليست بين الشعوب التي نشأت حول بحر الروم وتأثرت به فروق عقلية وثقافية وإنما هي ظروف السياسة والاقتصاد” (طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، القاهرة: هيئة الكتاب، طبعة 2013).
من ناحية أخرى، كانت قد ظهرت في فرنسا خلال الثلاثينات أيضا حركة أدبية باسم “المتوسطية”، كانت تنظر لشمال أفريقيا كجزء من هذا الأفق. وكان طه حسين متابعا للنقاشات التي ارتبطت بظهورها. و يبدو أن طه حسين استغل عقد معاهدة 1936 لإعادة الثقة في فكرة الأخذ عن الحضارة الغربية، لكن في صيغة “المتوسطية” كفضاء للندية والتوازن، وهي فكرة توفيقية أيضا مكملة لتراث الشيخ محمد عبده والتي حاولت إزالة التناقض بين الإسلام والمدنية الحديثة، وإقامة الجسور بين ما أسماه علاقة الأخذ والعطاء عندما التقى العقلان الفرنسي والمصري (أحمد زكريا الشلق، مقدمة كتاب مستقبل الثقافة في مصر، هيئة الكتاب 2013، ص 28).
وفي مقالات تمّ جمعها مؤخرا بعنوان “من الشاطئ الآخر”، يصوّر طه حسين علاقة مصر بفرنسا كنموذج تطبيقي لعلاقة مصر بثقافة البحر المتوسط، ويراها حوارا متكاملا عريق الجذور بين مجموعة من الثقافات، خاصة بين ثقافتين رئيسيتين ممتازتين تمركزت إحداهما في مصر بينما تمركزت الأخرى في أوروبا (طه حسين، من الشاطئ الآخر، ترجمة عبد الرشيد المحمودي، القاهرة، كتاب الهلال، يوليو 1997).
وإلى جانب هذه الرؤية التوفيقية التي تبحث عن توازن ما في العلاقة بين ضفتي المتوسط نجد النموذج الهيرودي الذي أشرنا إليه في بداية المقال، حيث الاندماج التام في النموذج المقترح دون تحفظ أو انتقاء ويمثل هذا التيار سلامة موسى (1887 – 1958). الذي اعتبر أنّ الشرق أعلن إفلاسه وأن الحضارة الوحيدة الجديرة بالانتماء إليها هي الحضارة الغربية، وليس معنى هذا أن نقبل الغرب الاستعماري، ولكن علينا أن نستفيد من ذروة الحضارة الإنسانية المعاصرة التي تمثل خلاصة مساهمات العقل الإنساني. وبهذا المعنى، لا يصبح التوجه للغرب نوعا من التبعية بل هو خطوة في التطور كما كان يعتقد. في حين رأى حسين فوزي (1900- 1988) أن الحضارة كل لا يتجزأ، فلا يمكننا أن نأخذ جانبها المادي فقط ونتجاهل عناصرها الثقافية (السيد أمين شلبي، الغرب في كتابات المفكرين المصريين، طبعة مكتبة الأسرة، 2003، ص 19). وهو في هذا التصور يقارب إلى حد كبير ما انتهى إليه مفكر آخر هو صبحي وحيدة في كتابه “في أصول المسألة المصرية 1950” من “أن الحضارة ليست بالشيء الذي ينتقيه المرء كما يشاء وإنما في الثمرة المحتومة للأوضاع الاجتماعية التي تتخذها الشعوب. وهذه الأوضاع تسير الآن نحو الوحدة” (صبحي وحيدة، في أصول المسألة المصرية، طبعة مكتبة الأسرة، 2015). وينتهي وحيدة الذي درس في إيطاليا إلى القول بأن الاختلاف بين شعوب المتوسط لم يصب الخطوط الكبرى التي جرت عليها النظم العامة لدى هذه الشعوب من قريب وأن الذين جهدوا في الرجوع بظروف مصر الحاضرة إلى أنّ تغاير هذه النظم مخطئون. وطالب وحيدة بوضوح ألا تتستر مصر على أسباب ضعفها على نحو يعطّل سعيها لحداثتها بل إنها مطالبة بتعويض فقر الدم الذي عاشته مصر خلال العصر العثماني وأبقاها في التبعية للغرب (انظر سيد محمود، المرجع السابق).
وفي سلسلة مقالات نشرها على نحو متأخر لويس عوض، طور من الفكرة وتناول ما أسماه “حوض الحضارات”، أكد خلالها أن فكرة “الأم العذراء” أو الإله المعذب هي فكرة شائعة في الأديان التوحيدية، ما يعني أن كافة أديان حوض المتوسط تتقاسم بناء ميتافزيقيا واحدا عن فكرة الخلاص. كما أن ثقافة المتوسط تجسد سعي الإنسان الدائم للبحث عن غاية كلية. وأوضح عوض أن النظر للدين داخل هذه المنطقة جاء لأن الدين من أهم مكونات الثقافة (لويس عوض، دراسات في الحضارة، القاهرة: دار المستقبل العربي، طبعة 1989).
وتحت عنوان “مصر والبحر المتوسط”، كتب مؤنس داعيا لاستمرار العلاقة مع الغرب المتوسطي ولكن استنادا على علاقة ندية بعد أن استقلت دول الشرق. لكنه اعتبر تقسيم شرق وغرب تقسيما ناتجا عن الصراع السياسي وبالتالي فقد رفض الشرقية كسياسة وكتوجه عام. إذ يقول على نحو قاطع “لنا في هذا البحر رسالة هي التي يكتمل بها وجودنا ويستقيم كياننا وميزان حياتنا”، منتهيا إلى القول بأن انتماء المصريين إلى الإنسانية جمعاء، وحضارتنا هي الحضارة الراهنة التي تسمى غربية لأنها تضم خلاصة تجارب الأمم كلها بما فيها أمم الشرق. والفكرة الأهم لدى مؤنس، من وجهة نظر سيد محمود، أنه اعتبر الرافضين للتوجه نحو الغرب هم جماعة من “السلفيين” الذين أحسوا في أنفسهم العجز عن مواجهة الحاضر فهرولوا إلى الماضي ليدفنوا رؤوسهم في الرمال (حسين مؤنس، مصر ورسالتها (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، سلسلة الثورة والحرية، 2011)، ص 49 وما بعدها. نقلا عن سيد محمود، المرجع السابق).
وعلى الرغم من تأكيد هؤلاء المفكرين انتماء مصر إلى الهوية المتوسطية إلا أنهم يختزلون مكونات هذه الهوية إلى الغرب فقط، في حين أكد طه حسين دائما على أن هذه الهوية تتشكل من “علاقة” حضارية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، وهي علاقة بين أطراف متعددة هم شعوب البحر المتوسط في الشام والعراق ومصر وشمال أفريقيا من ناحية وشعوب شمال المتوسط من ناحية أخرى، وهي علاقة ممتدة في التاريخ يمثل الإسلام إحدى حلقاتها، وهو ما يفرّق بوضوح بين رؤية طه حسين من ناحية أولى ورؤية الأصوليين الإسلاميين الذين يجعلون من الإسلام المكون الرئيس للهوية من ناحية ثانية؛ ورؤية العلمانيين المتشددين التي تريد أن تستبعد الإسلام من تاريخ هذه العلاقة من ناحية ثالثة. فالهوية عند طه حسين لا تتكون من عناصر ثابتة في صيغ مغلقة، وإنما هي عملية دينامية مظهر حيويتها هو العلاقة مع الآخر.
وقد استمر طه حسين يؤكد على هذه الفكرة في كل مناسبة بل إنه وصفها بالحتمية في خطابه في افتتاح معهد فاروق الأول في مدريد في عام 1950 “أنا لا أؤمن بحتمية التاريخ، بل أعتقد على عكس ذلك أن الإنسان سيد حياته ومسيطر على مصيره إلى حد ما، ولكن هناك حتمية لا يستطيع أحد إنكارها: هي الحتمية التي تعني أن الإنسان لا يستطيع نقض التاريخ ما إن يُصنع، ولقد شاء التاريخ أن تنشئ العربية والإسبانية معا خلال عدة عقود حضارة جديرة بالإعجاب، لا شك أن الانسجام بينهما لم يكن دائما هو القاعدة، ولا شك أن مشاعر الأخوة لم توجه دائما هذا العمل المشترك، ولكن هذا العمل أتى بثمار مفيدة أعظم الفائدة للإنسانية، وبفضل ذلك افتتحت آفاق جديدة في مجال الأدب، لا في إسبانيا وحدها، بل في فرنسا خلال العصور الوسطى على سبيل المثال، وبفضل ذلك أيضا تقدمت الفلسفة بخطى كبيرة، ونقل تراث اليونان القديمة إلى أوروبا وإلى الغرب بأسره في العصر الوسيط وذلك قبل عصر النهضة بمعناها الدقيق. أجل كان لدى العرب كما كان لدى الإسبان كثير من الانتصارات والهزائم؛ ويمكن أن يقال إنهما سويا رويا بدمائهما هذه الحضارة التي تحدثت عنها لتوي؛ وهي لذلك عزيزة عليكم كما هي عزيزة علينا” (عبد الرشيد محمودي، طه حسين: الأوراق المجهولة، القاهرة: المركز القومي للترجمة 2016).
لا يرى طه حسين أن هوية مصر موجودة في شمال المتوسط أو في جنوبه وإنما في الجسر الحضاري الذي ربط ضفتي المتوسط طوال تاريخهما، الذي جعل تلك الهوية التي روتها دماء شعوب المتوسط قدرا لها مؤسسا على ما يشبه الحتمية التاريخية، والواقع أن عميد الأدب العربي لا يرى في حوض المتوسط حضارتين وإنما حضارة واحدة، وهو في هذا أيضا يقف وحيدا في مواجهة كل رواد النهضة الكبار من أبناء جيله، ففي سياق مواز، جاءت روايات توفيق الحكيم ويحيي حقي، وكتابات قاسم أمين ومحمد حسين هيكل والعقاد لتعكس حيرة بعض المثقفين المصريين تجاه أوروبا وحضارتها، لتنتهي إلى صيغة توفيقية وصل بها توفيق الحكيم إلى تصور ثقافة ثالثة تجمع بين مادية الغرب وروحانية الشرق، ثقافة حية وجميلة سوف تصدر عندما يستخرج الشرق مفاهيمه الفكرية وحكمته المتراكمة وذلك بعد صبغها بصبغة أوروبية (انظر: توفيق الحكيم، عصفور من الشرق: القاهرة: مكتبة مصر، د.ت).
لكن ما وضع طه حسين في مرمى نيران الجميع ليس اختلافه الجذري في رؤية الهوية المصرية وإنما لأنه جعل الحرية شرطها الأساسي وجعل غيابها من المجتمع والثقافة والسياسة هو أزمتها الكبرى. اعتبر طه حسين قضية الحريّة مفتاحاً للنهضة، فلا نهضة بلا حريّة، ولا حريّة بلا نهضة، فهو القائل “كلّ الناس يعلمون أنّ الأدب لا قيمة له إذا فقد الحريّة” (محمد فتحي فرج: طه حسين وقضايا العصر “أربعون عاماً من الحضور رغم الغياب”، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطبعة الأولى، 2014)، ويمتد هذا أيضا إلى البحث العلمي فهو يقول في كتابه الشعر الجاهلي “يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العلمي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكلّ مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكلّ ما يتصل به، وأن ننسى ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين، يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح. ذلك أننا إذا لم ننسَ قوميتنا وديننا وكلّ ما يتصل بهما فسنضطر إلى محاباة وإرضاء العواطف، وسنغلّ عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدين، وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا؟ إن كان القدماء عرباً يتعصبون للعرب، أو كانوا عجماً يتعصبون على العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد؛ لأنّ المتعصبين للعرب غلوا في تمجيدهم وإكبارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم، ولأنّ المتعصبين على العرب غلوا في تحقيرهم وإصغارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضاً” (طه حسين: في الشعر الجاهلي، الطبعة الأولى، القاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، 1926).
وقد ربط طه حسين حرية الأدب والبحث العلمي بالحرية السياسية التي وجد في فسادها السبب الرئيس للصراع الوهمي بين العلم والدين “المسألة هي أن نعرف هل كتب على الإنسانية أن تشقى بالعلم والدين أم هل كتب على الإنسانية أن تسعد بالعلم والدين؟ أمّا نحن فنعتقد أنّ الإنسانية تستطيع أن تسعد بهما دون أن تجتهد في ألا تشقى بهما. وسبيل ذلك عندنا واضحة، وهي أن ينزع السلاح كما يقولون من يد العلم والدين، أو قلْ سبيل ذلك أن تُرغم السياسة على أن تقف موقف الحيدة من هذين الخصمين.
فالعلم في نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، والدين في نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، ولكنّ السياسة تريد وتستطيع الأذى غالباً” (طه حسين: من بعيد، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2012). لذلك انخرط طه حسين في العمل السياسي من أجل نشر التعليم الذي رآه شرطا ضروريا للحرية المنشودة يقول “إنّ العلم كالماء والهواء، يجب أن يكون متاحاً لكلّ أفراد الشعب، ولا يمكن أن تقوم ديمقراطية حقيقية من دون أن يتعلم الشعب” (محمد فتحي فرج، طه حسين وقضايا العصر، ص 51).
ولذلك يجب أن يتعلم الشعب إلى أقصى حدود التعلم، ففي ذلك وحده الوسيلة الأولى إلى أن يعرف الشعب مواضع الظلم، وإلى أن يحاسب الشعب هؤلاء الذين يظلمونه ويُذِلونه ويستأثرون بثمرات عمله (محمد فتحي فرج: طه حسين وقضايا العصر، ص 51).
خاض طه حسين معارك كثيرة من أجل الحرية كانت أكثرها قسوة معاركه ضد الآباء التاريخيين لليبرالية المصرية مثل زعيم ثورتها الكبرى سعد زغلول حيث كانت الليبرالية عندهم لا تتجاوز حدود السياسة إلى نقد المجتمع وثقافته الغيبية المتغلغلة. ويكفي أن نشير إلى ما كانت تكتبه صحف الوفد الليبرالية عن سعد زغلول فقد ارتفعتْ باسم سعد إلى مستوى الأساطير. ” كانت صحف الوفد تروى أمورًا هي الخرافة بعينها. قالوا إنهم رأوا قرون الفول نابتة في إحدى مديريات الصعيد وقد كتبتْ الطبيعة على بعضها عبارة ‘يحيا سعد’ وقالوا إنّ طبيبًا استمع إلى جنين في بطن أمه قبل أيام من مولده. فإذا هذا الجنين يقول ‘يحيا سعد’ وأنّ الطبيب دعا غيره ليسمع ما سمع. فكرر الجنين يحيا سعد” (محمد حسين هيكل “مذكراتى فى السياسة المصرية” ج 1 مكتبة النهضة المصرية، عام 1951 ص 169) .
وعن الواقعة الثانية كتب د. هيكل “إنّ ما حدث هو تضليل يجب إنقاذ الأمة منه. وأنه استخفاف بحكم العقل. والعقل وحده في نظرنا هو كل شيء وهو صاحب الإملاء بالحق. فإذا لم نقاوم هذا الضلال وقعت الأمة في براثن الطغيان. وهيهات أنْ تبرأ منه أو تبلغ من أغراضه في الحرية أيّ مبلغ. إنّ العلم هو الذي يُصّور مصير العالم. وأنّ منطق العقل يجب أنْ تكون له السيادة” (محمد حسين هيكل – المصدر السابق – ص 170).
لم تحم الحكومة الليبرالية حرية الفكر والبحث العلمي كما يظهر من موقف سعد زغلول من كتاب “الإسلام وأصول الحكم” حيث كتب “قرأتُ كثيرًا للمستشرقين ولسواهم فما وجدتُ من طعن منهم في الإسلام حدة كهذه الحدة في التعبير. على نحو ما كتب الشيخ على عبد الرازق. لقد عرفتُ أنه جاهل بقواعد دينه بل بالبسيط من نظرياته. وإلاّ كيف يدّعى أنّ الإسلام ليس مدنيًا” ويختتم سعد رأيه بالموافقة على قرار الأزهر بإخراج المؤلف من زمرة العلماء (محمود الوردانى “ثمن الحرية” مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان – عام 2002 ص79، 80).
يصف وائل عبدالفتاح في مقال عن ألبير قصيري -الابن البار للضفتين حيث عاش بين شمال المتوسط وجنوبه- ذلك التعايش بين المتناقضات بالانسجام القمعي “ثقافة الأفندية كانت جنين الانسجام المصري الذي ولد محافظًا. وسطيًّا. وتزداد هذه النزعة كلما أراد قادتها إثبات الخصوصية الشرقية/الإسلامية/المصرية. وبشَّروا بنهضة توفق بين “الأصالة” و” المعاصرة” أو “التراث” و”الحداثة”، ولم ينتج عن هذه المحاولات الفخمة إلا تلك القشرة الغليظة، بتركيبتها العجيبة، وقوتها الخرافية في التغطية على التنوع المبتور والمقموع، وتحويله إلى كل هذه التشوهات التي فوجئ بها الجميع بعد الخروج الكبير في يناير 2011” (وائل عبد الفتاح: فخ الكل في واحد، https://www.medinaportal.com/file/moneera-om-kalthoun-qoussery/).
قرن كامل من التعايش بين المتناقضات ليس فقط في فضاء المجتمع، وإنما في داخل كل فرد من أفراده قمنا بتحنيطه في إطار الصور النمطية للعلاقة بين “الأنا والآخر” متغاضين عن الشروخ الظاهرة في الأنا، عن تعايش رغباتها المتناقضة داخلها، عن تصارع صورها عن ذاتها، عن سعيها المحموم للالتئام في “مدينة تبحث عن اكتمال حداثتها، عن التئام المدنيتين الحديثة والقديمة، في هذه الشروخ بين المدنيتين تعيش شخصيات ألبير قصيري” (وائل عبد الفتاح، السابق).
وكل الشخصيات الروائية لأبناء الضفتين الذين توهموا أن في التئام ضفتي المتوسط خلاص ذواتهم التي تتصارعها الصور والرغبات، ليدركوا في النهاية أن البحر لا يفصل الضفتين وإنما يصلهما، وأن المسافة الحقيقية التي تفصلهم عن الالتئام هي الحرية؛ حرية العقل وحرية الروح وحرية الإرادة والخطوة الأولى في سبيل هذه الحرية هي الانفكاك من أسر الصور النمطية التي شكلت وما زالت تشكل وعينا بالضفتين.
إن تمزق الهوية الذي يعاني منه العربي المعاصر سببه الرئيسي والأهم أنه غير فاعل في واقعه، إن الفاعلية المبدعة في العلاقة مع الواقع والآخر هي ما يشكل الهويَّة الإنسانية، وهي ما يوفِّر الانسجام المفقود بين “الآن” وتاريخه وبين “هنا” ومحيطها، أزمة العقل العربي أنه لا يعيش انسجامًا في الزمان أو في المكان، لا يعيش انسجامًا بين الزمان والمكان.
أخيراً، لا بد أن اشير هنا إلى أن هذه الدراسة ستستكمل بقسم ثان يدرس الشخصيات الروائية التي عبرت البحر بين الضفتين سعيا للالتئام، وكيف ساهمت في تطور هذه الحالة من تعايش المتناقضات التي ما زالت تحكم رؤيتنا لذواتنا وللعالم، رغم تخفينا خلف ثنائيات تقليدية مثل الأنا والآخر. فكل مجتمع يبني رمزياً صورة للعالم من خلال حس ثقافي “يتم التعبير عنه بلغة ومعرفة وذاكرة مشتركة” (Assmann ، The Cultural Memory cit.، P. 109)، تلعب فيه الرواية دورًا سرديًا مؤسسًا (Bollati Boringhieri، Heimat and the memory of Europe، Turin 2009. p 26) حيث تساهم الرواية بقوة في تكوين خيال جماعي، بالدرجة نفسها التي يساهم بها المخيال الجمعي في إنتاج العمل الروائي، هذه العلاقة الجدلية تلعب دورا حاسما في تشكيل الهوية، والتأثير فيها وإعادة انتاجها في سياق شروطها التاريخية.
كما ستحاول الدراسة الاشتباك مع الأبحاث الجديدة التي تتناول سرديات الهجرة والهوية بين ضفتي المتوسط مثل دراسة “فيليبو كوريليانو” عن الهوية المتخيلة، مفردات ومفاهيم عن المتوسط (Filippo Corigliano, L’identia immaginata parole e concetti sul mediterraneo, Daedalus, 5- 2014) والتي أفادت هذه الدراسة منها كثيرا على الرغم من عدم تجاوزها للربط القسري الشائع في الدراسات الغربية للأدب العربي بين الرواية والسياسة.