البيت الجديد: الأنا والآخر والموبايل
لم يعُد هناك شك عند أي مشتغل في مشكلة علاقة التقنية بحياة الإنسان، بأن التطور العاصف بالإنسان الراهن ثمرة لهذه العلاقة، لم يألفه التاريخ البشري، اللهم إلى بعد اختراع الآلة البخارية. ولعمري بأن أدق تعريف فلسفي لجهاز الموبايل هو: الموبايل هو بيت الإنسان الجديد. أجل الإنسان يسكن الآن في بيت لا تتجاوز مساحته 30 سنتيمترا مربعا، والزمن الذي يقضيه خارج هذا البيت لا يتجاوز نسبة ضئيلة من زمنه اليومي. داخل هذا البيت مختلف أشكال الحياة المعرفية والروحية والتواصلية.
تنزع الأنا مُذ وعت حريتها على الظهور والكبت معاً، فتعاني من ازدواجية الأنا الظاهر والأنا الخفي. وها هي بعد أن أقامت في الموبايل صارت تطل على العالم من عدة شُرَف، وتظهر في كل شرفة على نحو خاص، فمن شرفة الهاتف وأشكاله المتعددة راحت تطلّ على الآخر تعرفه بالصوت متى شاءت، ومن أي مكان شاءت. فلقد ازداد حجم حرية الأنا في المخاطبة المباشرة مع الآخر أضعاف مضاعفة بالقياس إلى الهاتف الثابت الذي هو جهاز مشترك في البيت، أو المؤسسة، فيما صار الموبايل بيت الصوت المتحرّر من الآذان القامعة.
فالأنا مع الموبايل صار أقدر على الظهور كما يشاء، وضاق حجم المكبوت الشعوري الأخطر على الذات. فلقد أصبح التواصل الذي ينطوي على البوح بما كان مقموعاً حالة عادية من حالات التعبير دون أي إحساس بالخطر. فالهاتف والمسنجر والواتسآب والسكايب والفايبر وغيرها.. كلها وسائل وفّرت للأنا حرية الظهور وسهولته أمام الآخر.
من هو الآخر في هذا البيت الجديد؟ لقد وفّر الموبايل للذات أنماطا متعددة من الآخرين الذين يمكنها أن تتواصل معهم. ففضلاً عن الآخر الصديق المعلوم الذي عشنا معه تجربة حيّة في الحيّ والعمل والمقهى، فهناك الصديق المجهول. فلأول مرة في تاريخ البشرية مصطلح الصديق المجهول.
الصديق المجهول الذي لا تعرف عنه شيئا سوى المعلومات التي يضعها هو في تعريفه الشخصي، وقد ترى صورته وقد لا تراها، وقد يكون اسمه مستعاراً، لقد وفّر لك الموبايل آخر تجهله وتجري معه حوارا مكتوباً.
وهناك الصديق الآخر الذي صرت تزوره لتقرأه دون أن يعلم هو بذلك. في الواتس يبني جمهور صغير ما يسمّونه الغرفة المشتركة، فتتشكل أسرة الصداقة ممن شيئاً فشيئاً يتحوّلون إلى عالمك الجديد. ويقوم الحوار والقيل والقال والشجار وكل أنماط القول الممكنة.
ولد الآخر الذي لا تعرفه ولا يعرفك بالأصل، هذا النوع من الآخر ذو سمات جديدة، إنه في لحظة يكفّ عن أن يكون آخر بالنسبة لديك بكبسة زرّ من الحظر منك أو منه أو بسبب إغلاق البيت الذي كان يجاور بيتك.
الفيسبوك وأشكال الظهور
قالت دائرة الفيسبوك بأن عدد المشتركين في وسيلة التواصل هذه قد بلغ مليارين من الذين يجيدون القراءة والكتابة. وهذا يعني أن نسبة كبيرة من أفراد المجتمع صارت قادرة على التواصل اليومي من جهة والتعبير عن أفكارها وآرائها ولا شعورها وعدائها وأحقادها وثأرها وعشقها وحبها وكرهها وذكرياتها ورغباتها وحياتها اليومية ومواقفها السياسية والأخلاقية وجديتها وسخريتها وآلامها وفرحها وسخافاتها وجهلها وشجاعتها وجبنها وحيائها ووقاحتها ومعرفتها وثقافتها وصدقها وكذبها واهتماماتها وشهوتها في الحضور بشكل مختصر ومكتوب.
لقد قدّم الفيسبوك والتويتر والواتس، كنوافذ مهمة من نوافذ بيتنا الجديد -الموبايل، منصة ما كانت لتخطر على بالٍ لممارسة شهوة الحضور التي لا يخلو منها كائن بشري مهما كان عالمه ضيقاً. فلقد صار كل مشتهٍ للحضور قادراً على أن يحضر كما شاء، ويُظهر وجوده كما شاء، من الظهور المبتذل للرعاعي عبر الكلام الخالي من المعنى والفائدة، وعبر الأخبار الفردية التي لا تهم أحداً، إلى حضور المثقف المبدع: الشاعر والروائي والمفكر والفيلسوف والنحات والرسام وكاتب المقال، المتحقق بالأصل، ولكنه شهوتهم للحضور راحت عبر آلاف المتابعين. والملاحظ أن شهوة الحضور تبرز بشكل قوي عند الفيسبوكيين العرب من المثقفين العاديين، لا سيما عند أولئك الذين ليس لديهم إلا هذه الوسيلة للحضور، وعند جمهور من المثقفين الذين لم تسعفهم مواهبهم البسيطة في الحضور عبر الكتاب والمجلات والصحف وشاشات التلفزيونات التي كانت وحدها وسائل حضور الكاتب الكلاسيكية. وعدد هؤلاء في عالم العرب كثير جداً.
الموبايل والمكبوت العنفي
لقد وفّر الموبايل بما ينطوي عليه من وسائط ظهور في الكلمة والصورة لنزعة العنف أن تعبّر عن نفسها دون خوف من الآخر ودون إحساس بالذنب.
فلقد كان الشجار المباشر، أو العنف المباشر بين شخصين أو أكثر مشروطا بالوجود الواقعي بين المتشاجرين، الذي من شأنه أن يستدعي الحذر، والأخذ بعين الاعتبار النتائج غير المحمودة.
لكن الأمر قد اختلف مع الموبايل، فالشجار يتم عبر مسافات طويلة دون أي إحساس بالخطر، وهذا مما وفّر للعنيف أن يظهر كل مكبوتة العنفي، وبخاصة بالنسبة لمن تنقصهم الشجاعة، حيث وجدت نفوس الرعاديد في الموبايل أداة لتعويض جبنهم في الحياة، فيظهر مكبوتهم العنفي بأعلى أشكاله الفجة.
ومما هو لافت للنظر في الفيسبوك العربي -من خلال متابعتي للمكتوب- حجم العنف والعدوانية في القول مع الندرة في التعفّف عن هذا الأسلوب في التعبير. فإذا استثنينا الجمهور القليل والمحدود جداً من الكتّاب المعروفين والمشهورين عربيّاً ممن حررتهم مكانتهم من هذه النزعة فإنّا لواجدون غياباً لقيمة الحياء واحترام الآخر لدى جمهورٍ كبير من كتبة الفيسبوك، يصل حدّ التطاول على الآخر بالكلمات البذيئة والشتائم المباشرة.
لقد نشرت مرة كلمات حول الاختلاف بين عالم اليوم والعالم القديم والمدينة اليوم والمدينة القديمة، وإن ما كان قبلاً من سلطة وقيم ومعايير لم يعُد قابلاً للحياة. فإذا بمئات من الإسلامويين، والذين كنتُ أظنهم عفيفي اللسان، يهجمون عليّ بالكلمات البذيئة والتي طالت أمي وأبي وأختي. وقس على ذلك. والحق إن دراسة العنف اللغوي الذي يعجّ به الفيسبوك عند الأغلبية تضع أمام الباحثين الاجتماعيين والنفسيين قضية جديرة بالتأمل والدرس، لأن المسافة بين العنف اللغوي والعنف الجسدي قصيرة جداً.
ثقافة المعرفة وثقافة التسلية
يحتوي هذا البيت الجديد على مكتبة تزخر بآلاف الكتب والمقالات، وعلى أرشيف بكل أنواع المعرفة يتزايد ثراؤه يوماً بعد يوم، حتى ليمكن القول: لقد حطم الموبايل احتكار المعرفة. ووفّر لغير القادرين على شراء الكتاب فرصة للإطلاع على أهم الكتب مجاناً.
بل إن الأسئلة التي تخطر على البال مباشرة، سرعان ما تجد الأجوبة عنها في هذه المكتبة التي بين يديك. وليس هذا فحسب، بل وتجد تعدّد أجوبة عن سؤال واحد.
وبالمقابل، وفي الوقت نفسه، تحوّل الموبايل إلى أهم أداة من أدوات التسلية وقتل الوقت. حيث غدت التسلية حالة أو قل نمط حياة يعيش فيها المرء خارج أيّ ثقافة ذات معنى من شأنها أن تسهم في زيادة معرفة الإنسان بالعالم، وتفعل فعلها في تكوين موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي، بل قل التسلية عندما تصبح نمط حياة يومية فإنها تعبّر عن موقف سلبي من كل مشكلات الإنسان المعاصر، وتزيد اغترابه غير الواعي وفقره الروحي، وهشاشة موقفه الأخلاقي والسياسي.
إذا ثقافة التسلية ببرامج الموبايل وألعابه هي ثقافة نسيان الواقع أولاً، ثقافة التسلية هذه تحاول أن تُنسي الإنسان العربي المسحوق والمعذب والمضطهد والفقير واقعه النفسي المعذب والواقعي المدمر، بل لقد صارت ثقافة التسلية الموبايلية أشبه بمدمن يولي وجهه شطر الخمرة أو الحشيش لكي ينسي همومه الواقعية. ناهيك عن أن ثقافة التسلية تحشو ذهن الشاب العربي بمعلومات لا قيمة لها ولا تنفعه لا في حياته العملية ولا في تنمية حياته الروحية.
الموبايل والكينونة الجديدة
مع الموبايل تأسست كينونة إنسانية جديدة، بمعزل عن تقويمنا لهذه الكينونة سلباً أو إيجاباً. وليس لأحد القدرة على أن يمنع تشكلها واستمرار تعينها غير المتوقع. وأهم سمة من سمات هذه الكينونة أنها كينونة صارت تملك أوسع حقل لممارسة حريتها. وراحت تشعر باستقلالها العاصف.
فالكينونة التي كانت تتشكّل بفعل إرادي من قبل الآخر بما يملك من سلطة أيديولوجية وإعلامية، صارت كينونة حرة في الشرب من أي ينبوع تشاء. وبالتالي صارت حرة في أن تختار لذاتها ما تشاء من معرفة وموقف قبولا أو رفضا أو نقداً.
وإذا كان صحيحا بأن الأيديولوجيا قد وجدت في الموبايل وسيلة لتسويق نفسها، فإن الكينونة الجديدة التي تنوعت مصادر معرفتها ووعيها صارت قادرة على الاختيار. وعليه، فإن أمام الباحثين السوسيولوجيين والسيكولوجيين ومؤرخي الأفكار مادة مفرطة الغنىً لدراسة الوعي المعرفي والجمالي والأخلاقي والسياسي في الخطابات قراءة هذه الآلة الجبارة.
والأهم من هذا فإن الموبايل قد ولد ذات قادرة على الظهور في الخطاب، والتعبير عن الموقف بالخطاب أمام جمهور واسع جداً. فولادة الخطاب الموبايلي حطم ثقافة الصمت والسكوت، بل إن التحايل على الخوف من صدور الخطاب يتم الآن عبر الاسم المستعار.
بل إن الكينونة تخوض التعبير عن الاختلاف والتناقض والتضادّ في حلبة الموبايل، وتغدو الصراعات مكشوفة للخلق. بكلمة واحدة صار للكينونة رأي يقال بالعلن دون إذن من أحد. فضلاً عن أن حالة الكينونة النفسية من حبّ وكره وحقد وفرح وحزن وتأفف وقرف وإحباط وأمل ويأس لم تعُد قارة في النفس، بل راحت تعبّر عن ذاتها، مما وفّر لها الراحة الوجودية. أجل الموبايل بيتنا الجديد الذي لا يستطيع أحد أن يهدم جدرانه مهما حاول ذلك، إنه تطر جديد للكينونة البشرية.