التعليم التربوي يغذي التطرف.. تجربة الأردن في تغيير المناهج
تستوقفني هنا حال المناهج التعليمية في الأردن، على سبيل المثال لا التحديد، فمذ سنوات عديدة يؤكد المسؤولون والخبراء التربويون وبعض النواب والكتّاب والإعلاميون في المملكة على وجود خلل في بعض المقررات، ويطالبون بتغييرها وتنقيتها من كل ما يشجّع، بشكل مباشر أو مضمر، على التطرف والتشدد والعنف، وجعلها تقوم على ترسيخ معاني الاعتدال والوسطية والقيم الإنسانية العليا، مثل العدالة، والتسامح، والمحبة، وقبول الآخر في الحياة، واحترام المرأة وحقوقها، والرأي والرأي الآخر، والانفتاح على حضارات العالم.
كما عُقدت مؤتمرات وندوات وورشات وحلقات نقاشية حول هذا الشأن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن خبيراً تربوياً مرموقاً هو الدكتور ذوقان عبيدات نشر قبل مدة دراسةً بعنوان «الداعشية في المناهج والكتب المدرسية» كشف فيها عن عدد من الاتجاهات والقيم الشائعة في المناهج والكتب المدرسية، خلافًا لما خططت له وزارة التربية والتعليم، مثل التعصّب والتحيز لاتجاه ما، وعدم احترام الآخر، أو عدم الاعتراف به. واعتبر عبيدات أن لـ»الداعشية» وجهاً آخر في المناهج التعليمية الأردنية «تتمثل في غياب الفن والموسيقى والشعر، وقيم التفكير المنطقي العلمي والعاطفة والحب والحنان والذوق، إضافة إلى تغييب أفكار وأشعار لأدباء وشعراء عظماء، أردنيين وعرباً، كعرار ومحمود درويش»، وكذلك وجود ما يسميه بـ»المنهج الخفي» وهو المعلّم الذي لا يقتصر أداؤه على تطبيق المنهج الأصلي، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حين يلقن التلاميذ أفكاراً تتعارض مع فلسفة التربية ومبادئ حقوق المرأة حين يقول لهم «إن المنكر هو خروج المرأة دون حجاب، أو دون إذن زوجها»، وغير ذلك من الأفكار والرؤى التي تعبّر عن ميوله وثقافته الشخصية، وتفاقم من أزمة المناهج. ويرى عبيدات أن ذلك يحدث «في ظل غياب الرقابة»، واستناد المعلم «إلى شرعية ما».
وإزاء ذلك فقد نصّت خطة الحكومية الأردنية لمحاربة الفكر المتطرف، التي أقرها مجلس الوزراء الأردني في حزيران/ يونيو الماضي على ضرورة تعديل المناهج، وقامت وزارة التربية والتعليم بطرح مناهج جديدة (تجريبية) لبعض المراحل الدراسية، ابتداءً من العام الدراسي الحالي (2016)، باستثناء منهاج اللغة الإنكليزية الذي طُوّر وعُدّل العام الماضي. وقد جرى تطوير هذه المناهج بناء على معايير عديدة، منها مواكبة المستجدات العلمية والتربوية، وتعزيز القيم الإنسانية من خلال نصوص تشجع على الحوار، واحترام الرأي والرأي الآخر، والمبادرة، ونبذ العنف والتطرف، والتسامح الفكري. إضافةً إلى أن المناهج والكتب الجديدة استخدمت لغة خطاب موحدة بعيدة عن التفرقة والتمييز، واستلهمت مبادئ رسالة عمان، بحيث تعمل على معالجة مفاهيم العيش المشترك والتسامح والعدالة والتعددية بين المواطنين.
كما جرى إلغاء مادة «الثقافة العامة» لمرحلة التوجيهي، وحلت محلها مادة بعنوان «تاريخ الأردن». وكانت تلك المادة قد أثيرت حولها انتقادات شديدة بسبب ما تضمنته من هجوم قاس على العلوم والتقنيات الحديثة كما تنص إحدى الفقرات فيها «أبعدت البشر عن الأمور التي تضفي معنى على الحياة: مثل العبادة، والدين، والعائلة، والطبيعة، والشرف، والحب، والصداقة، وقد أربكت الإنسان من حرية إرادته بنظريات بيولوجية وكيمياوية ونفسية تتظاهر بأنها تعرف كل شيء عن الإنسان وأنها تستطيع التنبؤ بسلوكه. وزادت في معدلات الطلاق، والخلافات الاجتماعية، وتعاطي المخدرات، والإدمان على الكحول، والجرائم، والاكتئاب في مختلف أنحاء العالم.. ولعله الأسوأ، أنها لم تجعل الناس أفضل أو أفضل خلقاً، بل على العكس فقد جعلتهم أسوأ وأسوأ مطلقاً»! وكذلك بسبب تحاملها على الفلاسفة قاطبةً، كما في هذه الفقرة التي تشير إلى «ضعف الإيمان لدى الفلاسفة بوجود معرفة روحية في كل أنحاء العالم» واستمرار «هذا الضعف لدى الفلاسفة، وحتى لدى المؤمنين إلى يومنا هذا»!
ويبدو أن هاتين الفقرتين في الكتاب الملغى قد وضعهما مؤلفون يحملون أيديولوجيات بالية مناهضة للعلوم الحديثة والفلسفة. نستنتج هذا من قول الباحثة الأردنية دلال سلامة إن «المشكلة في المناهج التدريسية في الأردن هي أن الإخوان المسلمين كانوا قد سيطروا على وزارات التربية والتعليم بشكل متتال لفترة طويلة من الوقت إلى حدّ أن الناس صاروا يعتقدون أن تلك هي الطريقة الصحيحة لتدريس المناهج».
ولا تكتفي الباحثة دلال سلامة بذلك، بل تؤكد في بحثها الموسوم بـ»المناهج المدرسية المعدّلة والتطرف: أغلفة جديدة لكتب قديمة»، المنشور في شهر أيار/ مارس 2015، أن «قراءة أولية في الكتب الجديدة التي تقول صراحةً لأطفال في السادسة والسابعة إن الكتب المقدسة لأتباع الأديان السماوية الأخرى ‘محرّفة’، وإن التعايش السلمي قيمة مطلوبة بين المسلمين حصراً، تؤشر على أن العقلية القديمة هي التي أنجزت الكتب الجديدة. أول ما تلفت إليه القراءة في هذه الكتب هو الشحنة الدينية الهائلة، لا في كتب التربية الإسلامية فقط، وهذا مفهوم، ولكن أيضا في كتب تُدرّس للجميع، مثل اللغة العربية والعلوم ومنهاج التربية الوطنية والاجتماعية».
المناهج الجديدة بين القبول والرفض
رغم أن التعديلات (التجريبية) التي أجرتها وزارة التربية والتعليم على المناهج هي تعديلات جزئية، فقد شهد الأردن جدلاً ساخناً غير مسبوق، ووقفات احتجاجيةً ضدها، وتهديداً بالتصعيد والإضراب عن العمل من قبل أطراف مجتمعية وتنظيمات سياسية متشددة في حال لم تتراجع الوزارة عن قرارها، إضافةً إلى قيام بعض من هؤلاء بحرق الكتب الجديدة التي وصفوها بأنها «علمانية»، وجاءت استجابةً للضغوطات الأميركية والإسرائيلية بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر. وبالمقابل أعلنت جماعة أخرى تطلق على نفسها حركة «نعم لتطوير المناهج» (ناشطون يساريون وعلمانيون)، في بيان أصدرته، عن تأييدها للتغيير الذي طال المناهج، محذرةً مما أسمته «خضوع المجتمع الأردني لحملة التجهيل والتضليل». ورأت هذه الجماعة أن «التعديلات» جاءت في معظمها إيجابية، لأنها، على سبيل المثال، حسّنت صورة المرأة ودورها كعاملة وشريكة في خطط التنمية، كما ركزت على الهوية الوطنية والإنسانية، دون المساس بالهوية الإسلامية، وأكدت مبدأ المواطنة، والاعتراف بتعددية المجتمع الثقافية والدينية، إضافةً إلى استبدال عبارة «سكان الأردن مسلمون» بـعبارة «أغلب سكان الأردن مسلمون».
وقد اضطرت وزارة التربية والتعليم إلى الدفاع عن خطوتها بإصدار بيان قالت فيه إن الكتب الدراسية جديدة بالكامل وليست تعديلات هنا وهناك، كما زعم البعض، وإنها هدفت إلى «تطوير مهارات التفكير والتحليل لدى الطلبة والابتعاد ما أمكن عن حالة التلقين والحشو الزائد، وركزت على قيم الأمة وحضارتها ووسطيتها وثوابت عقيدتها الإسلامية وليس كما زعم بعضهم أنها دخلت في معركة مع القيم الإسلامية وانسلخت عنها». كما عقد وزير التربية والتعليم مؤتمراً صحافياً مشتركاً مع وزير الدولة لشؤون الإعلام، الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية في بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر، أوضح فيه أن المناهج التعليمية لا تخضع لأيّ نوع من أنواع التأثير الخارجي، ولم يتدخل أي طرف أجنبي في تأليفها، بل إن الذين ألّفوها وراجعوها هم أردنيون وقامات وطنية ومن أصحاب العلم والمعرفة والدراية.
وشدد على أن الوزارة لن تبعد الإسلام عن مناهجها، وهي حريصة على غرس قيم الثقافة الإسلامية لدى النشء الجديد، وأن مضامين الكتب الجديدة تشكّل نقلةً نوعيةً في تكوين الكتاب المدرسي الذي لم يتعرض لأيّ تطوير منذ 10 سنوات. واعتبر أن ما حصل من ردود أفعال سلبية هو حملة ترويجية سلبية ضخمة ترفض التعديلات على المناهج من دون تحديد أيّ منهاج، وأن المقصود من هذه الحملة ليس الكتب المدرسية، وإنما تشويه قصص النجاح التي حققتها الوزارة ويشهد لها الجميع، بعد أن تأذّت المصالح الخاصة لبعضهم من الخطوات الإصلاحية التي اتخذتها نتيجةً لتطبيق القانون. وأكد الوزير أن أيّ خلل في الفهم ورد في المناهج الجديدة تمكن مراجعته وتعديله باعتبار أن الكتب الحالية هي طبعة تجريبية وليست مقدسةً.