التفاحة التي غيرت العالم
حين حمل السوري الأصل، والأميركي الجنسية الراحل ستيف جوبز آلة “الهاتف الذكي” في يناير من العام 2007، وعد الحاضرين بأن ما يحمله سيغيّر كل شيء. وكان أول هاتف ذكي مجهز بشاشة يمكن من خلاله استخدام الإنترنت والهاتف والاستماع إلى الموسيقى، وبالفعل، أصبح الهاتف الذكي السلعة الأسرع نموا في الانتشار التجاري العالمي. فتفوّق على مبيعات الكمبيوتر الشخصي أربع مرات.
نحو نصف البالغين في العالم اليوم يحملون هاتفا ذكيا، وفي سنة 2020 سترتفع النسبة إلى 80 بالمئة من البالغين. وبات بعض المراقبين يرددون أن ثلاث تفاحات غيّرت العالم: تفاحة آدم وتفاحة نيوتن، مكتشف قانون الجاذبية، وتفاحة شركة “أبل” التي أسسها جوبز، الرجل الذي مات في 5 أكتوبر 2011.
من يطالع العناوين في وسائل الإعلام الإلكترونية والمكتوبة، يدرك التغيير الذي أحدثته هذه الآلة، إذ نسفت المعايير وقلبت الموازين والعلاقات الاجتماعية، فنقرأ في عناوين المقالات عبارات طبيّة مثل “الهاتف الذكي يغيـّر وجه العالم… ويقوّض دور الطبيب” و”الهواتف الذكية يُمكن استخدامها كأداة مُكَمِّلة للمناظير التشخيصية والعلاجية”، واقتصادية “الهواتف الذكية تتسبب بكساد سوق الكتب الدينية”، وتقنية “اختلف المختصون. هل قتل الهاتف الذكي فن التصوير؟” وسوسيولوجية مثل “الهاتف الذكي بيت المراهقين الثاني”، و”العصر الذي نعيش فيه هو عصر الهواتف الذكية والأشخاص الأغبياء” وسياسية “ديمقراطية الهواتف الذكية”، وبحثية “أدب الهواتف الذكية.
الشباب يقرأون أكثر من أي وقت”، و”إن الهواتف الذكية لا تحول أي شخص يقتنيها إلى زومبي بل قد تفعل ما هو أبشع!”، و”خلافا للتوقعات، الهواتف الذكية تعيد القراء إلى الكتب التقليدية” و”الصين تعيد اختراع الأدب” وتشاؤمية “في حين تنمو ذاكرة الآلات الذكية، تضمحل ذاكراتنا”. هذه ما هي إلا الجزء البسيط من كم العناوين التي تعطي صورة عن “ثورية” الهاتف الذكي في السلب وفي الإيجاب، بين الإفراط في الذكاء والإفراط في تعميم الغباء في الوقت نفسه، فالدراسات تقول إن الأميركي العادي يمضي أكثر من ساعتين في اليوم وهو ينظر في هاتفه الذكي.
أما المراهقون البريطانيون فأفادوا أنهم يفضلونه على التلفزيون والكمبيوتر وألواح الألعاب الإلكترونية، فالعلاقة العصابية بالهاتف ظاهرة بلغت مبلغا من الانتشار حمل البريطانيين على اشتقاق كلمة لوصفها “نوموفوبيا”، أو ما نسميه بـ”رهاب فقدان الهاتف الذكي”، ويعني توتر الشخص حينما لا يكون هاتفه الذكي بحوزته، حيث كان استطلاع للرأي على عيّنة من حوالي ألفي شخص، من البريطانيين، قد أشار في العام 2008 إلى أن 58 بالمئة منهم يميلون للتوتر والتعصب، حينما لا يكون هاتفهم الذكي معهم، وتظهر أعراض هذا النوع من الإدمان في علامات كثيرة.
والهاتف الذكي بحسب مجلة الـ”إيكونوميست”، (فبراير 2015) لم يغيّر حياتنا الفردية الشخصية فقط، بل سيغيّر دنيا الأعمال التجارية والصناعية والعلوم أيضا. بل إن الكاتب الفرنسي فرانسيس بروشيه يناقش في كتابه “ديمقراطية الهواتف الذكية: الشعبوية من ترامب إلى ماكرون”، ظاهرة التحول في الممارسة السياسية والديمقراطية في العديد من الدول الغربية من واقع اتساع تأثير خدمات الهواتف الذكية في عمليات الدعاية الانتخابية، وأيضا في توسيع وتسريع فعالية قنوات التواصل بين الساسة والناخبين والمواطنين العاديين بشكل عام. إذ أن الهواتف الذكية التي باتت الآن في أيدي الجميع قد غيرت جذريا من العلاقات الاجتماعية والسياسية، وبفضلها، صار لدى الناس انطباع عام بأن لديهم قوة تأثير مؤكدة، في العالم، هذا التحول الذي كرس نوعا من الديمقراطية المباشرة، دون وسطاء كالأحزاب والهيئات التمثيلية، وهذه القدرة على التغيير سببها آلة الهاتف الذكي الصغيرة الحجم والمتعددة الوظائف.
ثقافة جديدة
غرض المراهقين الأول في استعمال الهاتف الذكي، ليس إجراء مكالمة ولا حتى إرسال رسالة نصية. وهم يجمعون على أن الغاية من الهاتف هي الاستماع إلى الموسيقى، وإرسال رسائل فورية بواسطة تطبيقات مثل “سنابشات” أو “إنستغرام”، ونشر “قصص” مع صور عن حياتهم اليومية، وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، ومشاهدة شرائط فيديو على “يوتيوب”. يترافق ذلك مع أحاديث كثيرة عن تأثيرات سلبية تسببها الهواتف. بعض المتخوفين من تفشي دور التكنولوجيا في حيواتنا، يحذرون من أننا لربما أصبحنا كحيوانات السيرك التي سيتحكّم بها الذكاء الاصطناعي. فالتكنولوجيا الذكية باتت تسونامي تفرض نفسها كأنها نمط حياة تماما كما السينما من قبل، بل تفرض لغتها وناسها وأدبها.
أثر الهواتف الذكية وطوفانها جعلا بعض دور النشر البارزة تبحث عن أطر لكتابة كلاسيكيات الأدب بلغة معاصرة تناسب جمهور الهواتف الذكية، لنتخيل أنه في ذكرى مرور 400 عام على رحيل أبوالإنكليزية المسرحي شكسبير، انتشر خبر مفاده أن دار “راندوم هاوس″ قررت كتابة مسرحياته بلغة معاصرة بتكليف روائيين من أنحاء العالم. وأعادت الدارُ التجربةَ من جديد لكن هذه المرة بـ”عصرنة” روايات سيدة الكتابة في المملكة المتحدة جين أوستن. هكذا ستتحول رواية “كبرياء وتحامل” إلى “مؤهل للزواج” للكاتبة الأميركية كورتس سيتينفيلد، التي لقيت سيلا من الانتقادات لأنها ذهبت بها إلى أقصى حدود العصرنة ما أفقد شخصيات أوستن هالة المثالية التي أحاطت بها. جوبهت رواية سيتينفيلد بانتقادات حادة أبرزها أنها تخلت عن العمق الأدبي لمصلحة السخرية اللاذعة.
هجر اللغة الكلاسيكية التي كُتبت بها أعمالٌ لصالح تقديمها بلغة تواكب مستلزمات الحياة المعاصرة الإنترنتية، يبدو أقرب إلى عملية تدمير هالة تلك النصوص.
“الأدب اليوم في ظل عالم افتراضي لم يعد يأبه كثيرا باللغة والأحاسيس العميقة وبالنظم التي ابتدعها سابقا، أصبح في خطر حقيقي، ومهددا بالانتفاء”، هكذا قال الروائي واسيني الأعرج، في مقال له؛ فقد اتسع العالم الافتراضي ليبتلع كل شيء، ونحن نكتب عن الهواتف الذكية وأثرها، يحضر في ذهننا مقال الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين “العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي” (1936)، ويدرج العنصر الذي جرت تصفيته في الفن خلال القرن الماضي وهو “الهالة” التي تطير في استنساخ الأعمال الفنية، والأمر نفسه في “عصرنة” الكتب الكلاسيكية، وتجريدها من زمنها.
جنوح وتراجع
ليست هناك نتائج حاسمة وموحدة حول تأثير الهاتف الذكي على الكتب وثقافة المعرفة والناس، فأثر هذه الآلة بين الهبوط والصعود، بين الجموح والتراجع، يكتب الصحافي آدم مينتر في صحيفة بلومبيرغ” “قد تؤدي الهواتف الذكية إلى هلاك المطبوعات في الصين وانقراضها، لكنها في الوقت ذاته تحدث ثورة في الأدب، حيث قرأ 333 مليون صيني خلال العام الماضي 2017 روايات تمت كتابتها خصيصا لهواتفهم وأجهزتهم، بحسب بيانات حكومية. ففي نهاية التسعينات، بدأ مؤلفون في نشر روايات مسلسلة على منتديات ولوحات نشرات على الإنترنت؛ وكانت تلك طريقة نشر غير رسمية وبعيدة عن أعين الرقابة، وحظيت بعض الروايات الأولى، وبخاصة الرومانسية منها، بشعبية كبيرة.
ومع الانتشار السريع للهواتف الجوالة في الصين، أصبحت الروايات المسلسلة ظاهرة بارزة. ومنذ عام 2012، شهد سوق أدب الإنترنت نموا بنسبة تزيد على 20 بالمئة سنويا.
في المقابل، تبين من تقرير صادر عن المكتبة العامة في بريطانيا أن الانتشار الهائل للهواتف الذكية دفع القراء للعودة إلى الكتب التقليدية بدلا من هجرانها كما كانت تسود التوقعات، وبحسب التقرير البريطاني فإن رواد المكتبات العامة ارتفعت أعدادهم بنسبة 10 بالمئة في حالة إقبال كبيرة وملحوظة على الكتب التقليدية، مفسرا هذا الارتفاع بأنه يرجع إلى “الاشتياق من قبل القراء للكتب الورقية المطبوعة”. وأشار بحث أُجري على مبيعات الكتب الإلكترونية في المملكة المتحدة إلى أنها شهدت تراجعا بنسبة 17 بالمئة في عام 2016، في الوقت الذي زادت فيه مبيعات الكتب الورقية بنسبة 7 بالمئة.. ووفق ما أعلنته رابطة الناشرين فإن الأبحاث التي أجريت في الولايات المتحدة أظهرت نتائج مشابهة أيضا، حيث انخفضت مبيعات الكتب الإلكترونية بنسبة 18.7 بالمئة خلال الأشهر التسعة الأولى من 2016، بينما ارتفعت مبيعات الكتب الورقية بنسبة 7.5 بالمئة خلال تلك الفترة. وتمثل هذه البيانات تأكيدا جديدا على أن سوق الكتب المطبوعة ليس على وتيرة واحدة، هو في مرحلة قلقة، سيظل على قيد الحياة، لكن لا نعرف ما الذي تحمله “ثورة” الهاتف الذكي في السنوات المقبلة. ويؤكد الخبراء أن هناك سببا رئيسيا آخر وراء انخفاض مبيعات الكتب الإلكترونية، هو أن الأشخاص أصبحوا يبحثون عن تقليل وقت تعرضهم لشاشات أجهزة الكمبيوترات والهواتف الذكية.
الورقة والشاشة
ثمة صورة أخرى أشبه بنمطية وتفيد أن ذكاء الآلة يؤدي إلى غباء الإنسان، بمعنى من المعاني “الإنسان عدو نفسه”، اخترع شيئا ليكون ضحيته، في دراسة نشرها موقع “حكمة” الإلكتروني بعنوان “لمَ يفضّل الدماغ الورق؟” وموقعة باسم ف. جبر، تفيد أنه “منذ ثمانينات القرن الماضي، نشر باحثون متخصصون في علم النفس وهندسة الكمبيوتر وعلوم المكتبات والمعلومات، على أقل تقدير، أكثر من مئة دراسة أُجريت لاستقصاء الفروق بين الكيفية التي يقرأ بها الناس من الورق وتلك التي يقرأون بها من شاشات الكمبيوترات.
وقد خلصت معظم التجارب التي أجريت قبل عام 1992 إلى أن الناس هم أبطأ سرعة في قراءة القصص والمقالات من الشاشات، وأقل قدرة على تذكر مضامينها، ولكن ما إن صارت شاشات الأجهزة بمختلف أنواعها أكثر دقة، حتى بدأت الدراسات تُطلعنا على مجموعة من النتائج المتفاوتة”، وتضيف “معظم الدراسات التي نشرت منذ أوائل تسعينات القرن الماضي تُثبت صحة الاستنتاجات السابقة التي تفيد بأن الورق، من حيث كونه وسيلة للقراءة، لا يزال يتفوق على الشاشات” وإن التباينات في فهم القراءة بين الورق والشاشات يمكنها أن تتضاءل إذا ما واظب الناس على تغيير مواقفهم. ولعل العبارة الشهيرة ‘المجلة هي آيباد لا يعمل’ سوف يزداد نجمها تألقا، إذا ما خفّت حدة الأحكام المسبقة التي تبدو منتشرة بصورة مبطنة بين الأجيال الأكبر سنا حيال الشاشات”.
على أن هناك بعض البحوث تشير إلى أن “استبدال الورق بالشاشات في سن مبكرة له سيئات لا يجوز أن نتغاضى عنها بهذه البساطة”. والحال أنه برغم أن الهاتف اسمه الذكي لكن هناك العشرات بل المئات من الدراسات التي ترجح أنه محطة “إلى الغباء”.
كشفت دراسة كندية حديثة أجراها عدد من الباحثين في جامعة “Waterloo” أن الهواتف الذكية تدفعنا نحو الكسل والغباء. وأكدت الدراسة أن الأشخاص الذين يملكون قدرات عقلية كبيرة لا يقضون وقتا طويلا في استخدام الهواتف الذكية ولا يضيعون ساعات طويلة في تصفح هواتفهم، على عكس الأشخاص الذين يملكون قدرات عقلية ضعيفة، حيث أصبحت الهواتف الذكية سببا في الشعور بالكسل، فأي شيء يقف أمامنا نلجأ إلى الهاتف لحله في ثوان معدودة دون أن نبذل أي مجهود عقلي للتفكير فيه. وحين أصدر الفيلسوف الإيطالي موريزيو فيراري كتابا بعنوان “الغبي الذي هو أخيرا أنا” يُعالج مسألة الهاتف الخلوي وبالنسبة إليه الغباء صار جزءا من الشرط الإنساني. ذلك أن هذا الجهاز الميتافيزيقي يُقارن مع الغباء الإنساني لا سيما إزاء سلسلة التطبيقات الذكية والتي أدخلت الإنسانية في عصر ما بعد الحقيقة، لا سيما مع المجال الافتراضي الذي أحدثته التطورات التكنولوجية الحديثة.
موريزيو الإيطالي الذي نهل من الروائيين الكبار، لديه أفكاره الإشكالية وآخرها إثارته مسألة الغباء كشكل من أشكال مقاربة التطور الذي أحدثه الهاتف الخلوي في الحياة العامة. يتحدث موريزيو عن الهاتف الخلوي كظاهرة، ليس فقط كوسيلة استخدام أو وسيلة نقل، أو وسيلة تواصل وإعلام، بل طريقة في تحويل المفاهيم وجعل الأشياء مرئية أكثر ولا سبيل إلى المناورة في شأنها، وتأثيره على الواقع الاجتماعي كجزء من التحولات التي أحدثتها العولمة.
وليس بالضرورة أن ينتج الهاتف الذكي غباء، لكن هذا وجه من وجوهه الكثيرة والمتعددة والمتشعبة، فهو من دون شك ساحر، وفتاك فن آن. هناك من يقول إن الهواتف الذكية ربما تختفي كما اختفى الفاكس، لكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، فمن يضع الأسس لهذه الخطى سوى الشركات الضخمة!