التفكير بالقارئ.. أخلاقيات القراءة والقراءة الأخلاقية
فليس هناك خوف على القراءة من الانقراض إزاء التقنيات التكنولوجية الجديدة (التي تفتح في الواقع إمكانيات جديدة للقراءة) قدر وجود خوف على القراءة إزاء خطر الهجوم عليها من قبل الأخلاق.
وذلك يجعلنا نتساءل عن نوع الأخلاق التي ترتبط بالقراءة. إن الأخلاق التي ترتبط بالقراءة ليست بالأخلاق المعيارية بمعناها الكانطي، والتي تجعلنا نقبل العمل الذي يدعم الخير وما ينبغي أن يكون ونرفض العمل الذي يعرض الشر وما لا ينبغي أن يكون، ذلك لأن أخلاقيات القراءة عكس الأخلاق بمعناها المعياري، فالعمل له قانونه الخاص الذي يحكمه والعظة الأخلاقية على سبيل المثال كثيرا ما تقف حجر عثرة في طريق التحليل الموضوعي للعمل والذي يهتم بما هو كائن أكثر مما يهتم بما ينبغي أن يكون.
إن السلطة المطلقة لفعل القراءة تنبع فقط من المسؤولية التي أتحملها كقارئ إزاء ذلك الفعل وليس الآثار المرتبطة في ما بعد. وبذلك تعد لحظة القراءة محصلة لكل من (الموضوع – القارئ – النص) يدلي فيه كل واحد بدلوه وليس من حق أي طرف من الأطراف أن يصادر على الآخر بمقتضى أي سلطة سواء كانت (الأخلاق، العظة، الواجب). فالمؤلف حر في اختيار موضوع ما من زاوية ما والقارئ حر في قراءة ذلك الموضوع من أي زاوية والنص أيضا حر لما يحمله من إمكانات يتحرك خلالها ومن فضاء يسمح بتعدد المعاني وتعدد القراءات. والحقيقة أن ثمة اختلافا دقيقا بين “أخلاقيات القراءة” و”الأخلاقيات أثناء القراءة” أو القراءة الأخلاقية.
أخلاقيات القراءة: وتشمل قناعاتنا وانحيازاتنا واهتماماتنا. وأخلاقيات القراءة تتحدث عن قراءتنا كما لو كانت، مهما كانت رائعة، تقترح بعض التساؤلات أكثر مما تقدم الحلول؛ أي القراءة من منظورات متعددة.
أما الأخلاقيات أثناء القراءة فهي محاولة لفهم ماذا كان يقول المؤلف لجمهوره الأصلي المتخيل، ولماذا وكيف استجاب الجمهور الواقعي؟ وما هي أسباب استجابته؟ الأخلاقيات أثناء القراءة تختلف في توجيهها الانتباه لقيمة المنحنى المعرفي، فهي تنطوي على انتباه لقضايا أخلاقية نجمت عن الأحداث الموصوفة داخل العالم المتخيل.
إن التساؤل الأخلاقي إذن لا يكون خارج العمل لأننا بهذا الصدد لا نحتكم إلى الأخلاق المعيارية ولكن إلى أخلاق العمل وروعة الحبكة والسرد والمسكوت عنه ومفاتيح النص وعتباته وعنوانه، إن الإثم والحرام داخل العمل الأدبي لهما قيود وحدود مختلفة فنيا. وهناك فرق بين المضمون الجنسي لرواية “الحرام” والسياق الجنسي لها، أي بين المعنى العام للجنس ومقتضيات الحبكة والسرد التي تؤدي إلى البعد الجنسي في العمل إنها تسأل الأسئلة الأخلاقية المتضمنة في فعل التحول من “الحياة إلى الفن”.
ونلاحظ قضايا من قبيل معاداة السامية من قبل باوند Pound أو اليوت Eliot، ورعاية العنصرية من قبل بعض الكتاب الأميركيين في القرن التاسع عشر.
ولكي تكون قراءتنا أخلاقية على نحو ما يفترض دانييل شوارز Daniel Schwarz أن هناك عدة مراحل يمر بها القارئ بحيث يتحرك من الاستجابة البسيطة إلى الاستجابة العميقة نحو الفهم، هذه المراحل هى على النحو التالي:
أولا: الانغماس في عملية القراءة واكتشاف العوالم الخيالية. فالقراءة هي المكان الذي يلتقي فيه النص والقارئ معا في صفحة، فبينما نفتح النص فإننا نلتقي مع المؤلف كما لو كنا في طريقنا إلى رسم خارطة على مكان مجهول، فنعلق جزئيا إحساسنا بعالمنا وندخل في عالم متخيل جذاب.
ثانيا: السعي نحو الفهم، حيث يكون مرتبطا بنحو قريب من النشاط الإبداعي التتابعي الخطي والزمني للقراءة، فالسعي هنا يعمل على سد الفجوات التي بين ما تقوله وما نعنيه، ففي الكتاب خلاف التحدث، لا يمكن للكاتب التصحيح أو التدخل أو التعديل لفهم القارئ ولا يمكنه استخدام الإيماءة. فبينما نقوم بنشاط تفكيكي لعقدة الحبكة الروائية على سبيل المثال، فإننا نسعى لاكتشاف مبادئ أو رؤية العالم التي نتوقع من خلالها فهمنا لسلوك الشخصيات.
ثالثا: تأمل الوعي الذاتي: فالقارئ يكتشف دلالة النص من خلال علاقتها بخبراته الأخرى متضمنة خبرات القراءات الأخرى. إنه واع بمرجعيته للعالم الداخلي الذي يشكل محاكاة المؤلف ومرجعيته للعالم الذي يعيش فيه.
رابعا: التحليل النقدي. كما يقول بول ريكورPaul Ricour؛ لكي تفهم نصا فعليك أن تتبع حركته من المعنى إلى المرجع، فنحن دائما نتحرك من الدال إلى المدلول.
وفي كل الأحوال فإن الإشكالية الأساسية التي تواجه كل من يتصدى لموضوع أخلاقيات القراءة هي ضرورة التمييز بين الأخلاق المعيارية المرتبطة بالواقع (الخير والشر) وبين الأخلاق المرتبطة بالخيال والإبداع، وإذا كانت الكتابات رغم تنوعها وتعددها التي تناولت هذه التفرقة تطرقت إلى المسألة بأدوات مفاهيمية متباينة، فإننا نقترح تمييزا يمكن أن نطلق عليه “أخلاقيات الشكل” و”أخلاقيات المضمون”. بحيث يهتم الأول بما هو جمالي في العمل الأدبي. ويهتم الثاني بما هو أخلاقي في العمل، هذا إذا أخذنا بالرأي الذي يجعل من الإبداع نوعا من الأخلاقية.
وفي هذا الصدد نعرض بشيء من التفصيل لهذين النوعين من الأخلاقية أو هذين النمطين من القراءة، وتحضرنا في هذا السياق محاكمات أوسكار وايلد الخاصة برأيه عن علاقة الأدب بالأخلاق، وذلك من خلال القصة التي نشرها في مجلة “الحرباء” بعنوان “القسيس وخادمة الكنيسة” والتي تدور حول علاقة جنسية بين القسيس وخادمة أدت إلى فضيحة عندما ضبطوا الخادمة في غرفة القسيس. ورغم أن أوسكار وايلد اعترف بأن القصة من ناحية الأخلاق المعيارية في غاية القذارة وأن الموضوع متعفن، إلا أن أوسكار وايلد نفسه أكد أنها من ناحية المنظور الأدبي خرقت قواعد الفن والجمال وأن العمل الأدبي ليس له أثر على الأخلاق بمعناها المعياري، لأن الأدب له أخلاقياته التي تحكمه وأنه لا يهتم إلا بما هو “أدب” أي بما هو “فن”، فلا نهدف إلى عمل الخير والشر وإنما فقط إلى تحقيق ما له قيمة جمالية، كما أنه بالنسبة للفكر يقول وايلد “لا شيء أخلاقيا أو لا أخلاقيا، إن الأحكام المعيارية تكون فقط بالنسبة للعواطف وليس للأفكار، وبما أن كتابة الأدب في الأساس هي تجسيد لمخطط فكري فلا علاقة للأفكار بالأخلاق”.
ونستطيع أن نلتمس في تحليلنا لرواية “الحرام” ليوسف إدريس خير تجسيد لذلك، فالبطلة في رواية “الحرام” كانت ضحية لظروف مجتمع قاس. والتساؤل يأتي بدءا من العنوان “الحرام” ويظل حتى النهاية له دلالة، وهي هل الحرام هو ما فعلته البطلة وما وقعت فيه من إثم أم أن الحرام هو ما مارسه عليها المجتمع من قهر؟ هل البطلة في هذه الرواية جانية أم مجني عليها وقعت ضحية واقع مرير؟ وهل ممارستها للجنس في إطار غير شرعي في لحظة ضعف ما يمكن الحكم عليه من منظور الأخلاق المعيارية أم أن للعمل الأدبي أخلاقا أخرى تحكمه؟ أي أننا نضع ذلك السلوك ضمن سردية تعكس إرادة غير حرة منغمسة في واقع عفن، وإلى أي مدى ظلت هذه الإرادة مصاحبة للبطلة منذ البداية حتى النهاية؟
والتي قامت فيها البطلة بقتل طفلها ونفسها. هل البطلة جانية أم مجني عليها؟ إن التساؤل الأخلاقي إذن لا يكون خارج العمل لأننا بهذا الصدد لا نحتكم إلى الأخلاق المعيارية ولكن إلى أخلاق العمل وروعة الحبكة والسرد والمسكوت عنه ومفاتيح النص وعتباته وعنوانه، إن الإثم والحرام داخل العمل الأدبي لهما قيود وحدود مختلفة فنيا.
وهناك فرق بين المضمون الجنسي لرواية “الحرام” والسياق الجنسي لها، أي بين المعنى العام للجنس ومقتضيات الحبكة والسرد التي تؤدي إلى البعد الجنسي في العمل. فمن منا لا يبكي على هذه السيدة وعلى النهاية الأليمة التي دفعت فيها الثمن وحدها، وهي نهاية حتمية للفقر والعجز. هي رواية من وجهة نظرنا المتواضعة. ينصهر فيها ما هو سياسي بما هو اجتماعي بها هو جنسي في بوتقة الفقر.
إنها قصة ليست جنسية ولا مدعمة لما هو إباحي، لكن الجنس موظف، والذي يخرج من هذه الرواية بحكم أخلاقي معياري على ما فعلته المرأة أو ما فعل بها، فهو لا يفهم معنى الأدب ولا يستطيع أن ينفذ إلى مكنونات النفس الإنسانية.
وعلى الرغم من أن الرذيلة شيء فظيع إلا أن الرواية بلغتها وحبكتها استطاعت أن تضع الواقع في قفص الاتهام وتندد بالظلم والجور الموجودين في الواقع. وإذا كان المؤلف قد التزم بشكل كبير بأخلاقيات الكتابة فعلى القارئ أيضا أن يلتزم بالقراءة الأخلاقية لهذه الرواية، والتي ترتفع بها من مجرد الأسئلة الساذجة عن الفضيلة والرذيلة وما ينبغي أن يكون وما لا ينبغي أن يكون.
كذلك الكلام عن الجنس في رواية “أريد حلا” لحسن شاة وكذلك “رواية السراب” لنجيب محفوظ إنما يكون داخل الإطار الضروري لتكوين الشخصيات وتصوير بنيتها وظروفها. وهذا الكلام هو أحد الخطوط الرئيسية المكونة لشخصية الأبطال تماما مثلما يكون الكلام عن الأمراض ضروريا في الطب، كما أن الخيانة الزوجية في رواية “أنا كارنينا” لتولستوي التي تم تمصيرها في فيلم شهير بعنوان “نهر الحب” وأثار حفيظة المشاهدين في ذلك الوقت لم تكن من اختراع المؤلف، لكنها محاكاة لنماذج واقعية وبذلك فهناك فرق بين الأخلاق الأدبية الكاشفة وبين الأدب المكشوف غير الموظف، وكذلك بين الأدب الذي يعري الواقع وبين الأدب العريان في ذاته الذي يخلو من أي معايير جمالية.
وهناك عدة مبادئ يجب التسليم بها كما يرى منظرو نظريات القراءة والتي تتمثل في:
أولا: إن أخلاقيات القراءة كما يرى ايكو يجب أن تفرق بين تأويل النص وبين استعماله قائلا “يمكن أن أستعمل قصيدة ‘ووردز ورث’ بشكل فيه الكثير من السجال الساخر لكي أبين كيف يقرأ نص ما في علاقته بسياقات ثقافية متعددة أو على العكس أستعملها من أجل غايات شخصية مثل أن أستلهم منها تأملا ذاتيا، أما إذا أردت تأويل هذا النص فعلي احترام خلفيته الثقافية واللسانية.
ثانيا: إن تلازم الحرية مع المسؤولية في فعل القراءة وفقا لكل من كيركجارد وسارتر يتطلب فرضية لمسؤولية لا تقوم على هوية ثابتة أو معروفة، أي مكانة الشخص أو موقعه الثقافي أو الاجتماعي، يمكن أن يمثل ذلك الشخص سلطة نهائية مما قرأه أو كتبه بأية حال، وأن الإبداع الحر من حق أي شخص وهو ملازم له طيلة حياته وبحسب ما تعلم من التاريخ الشخصي لكل من سارتر وكيركجارد أنهما كانا غير قانعين بالمساومات الربحية على فعل الإبداع. فقد رفض سارتر جائزة نوبل وكذلك كيركجارد كان يستخدم اسما مستعارا في كتاباته.
ثالثا: تحتم القراءة الأخلاقية استعداد كل من الطرفين (الكاتب والقارئ) لمواجهة الطرف الآخر إلى النهاية وذلك إذا كان الكاتب حاضرا، طالما أن لكل منهما استراتيجيته في الدفاع، فقد يحدث أن يحمل النص توجها معينا لم يكن المؤلف واعيا به، إلا أنه إذا جاءت القراءة الجديدة موضحة ذلك، بشرط أن تكون هذه القراءة لها وجاهتها، فعلى كل من القارئ والكاتب أن يتناقشا في ذلك كما حدث مع ايكو في عمله الشهير “اسم الوردة” Nom de la rose حيث قدم له قارئ ملاحظة لا يمكن تجاهلها وهي أنه استخدم لفظ العجلة في مواضع كثيرة في النص. فهل كان يقصد ذلك؟
أجاب ايكو أن القارئ كان منصتا بوعي تام للنص مما جعله يصل إلى ما يسمى بالاستفزاز الكامن للنص أو للمكنون الدلالي. يقول ايكو “سواء أردت ذلك أم لا فأنت في الحالتين أمام تساؤل هام طرحه النص واستفز قارئا واعيا يحترم النص”.
رابعا: تعني أخلاقيات القراءة عند ليفيناس Levinas استيلاء الآخر على الذات والآخر عند ليفيناس متأسس في التمييز النوعي بين الرجل والمرأة فكانت قضية النوع عنده واحدة من أهم المشكلات الرئيسية في أخلاقيات القراءة. صحيح أن النزعة الذكورية تختلف عن النزعة الأنثوية إلا أن هذا الاختلاف الجنسي لا ينبغي أن يكون هو المحدد لاستجابة القارئ، وإنما مضمون النص وكذا الظروف التاريخية التي نشأ في ظلها إضافة إلى الظروف التاريخية للقارئ.
لا تأتي مساهمة القارئ في إنتاج حقيقة ومعنى النص من مجرد الرغبة الذاتية للقارئ فقط، ولكن أيضا من خلال إغواء النص. فالبنية الخاصة والمميزة للنص الأدبي، باعتباره نصا مفتوحا ينطوي على فجوات غير محدودة، هي ما يستفز قدرات القارئ من أجل العمل على سد هذه الفجوات. والحقيقة أن تحقيق مشاركة القارئ الفاعلة والمبدعة إنما يتطلب قارئا من نوع خاص، قارئا مدربا وخبيرا يتجاوز القارئ التقليدي
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: من أي زاوية يمكن للكاتب أن يؤسس أخلاقياته تجاه قارئه؟ إن المسألة لها شقان: الشق الأول متعلق بالشكل والشق الثاني متعلق بالمضمون.
- فمن ناحية الشكل يجب على الكاتب أن يكون واعيا بمسؤوليته في اختيار اللغة التي يعبر بها عن رسالة العمل. والمقصود باللغة هو الألفاظ والعبارات التي يستخدمها الكاتب أو المؤلف.
وهناك بعض الكتاب يتعمدون استخدام لغة مبتذلة، ليستميلوا بها الشباب، وذلك قد تحقق بشكل كبير في ظاهرة “الكتب الأكثر مبيعا” وهذه الظاهرة أصبح لها نجوم وأسماء لامعة ذات صيت في هذا المجال، مثل أحمد مراد ومحمد صادق وغيرهما على نحو ما نجد في فيرتيوجو، وتراب الماس، وهيبتا… إلخ.
- أما من حيث المضمون فهناك بعض الكتاب يتعمدون “التغريب” والذي أصبح السمة المميزة لأعمالهم. كما نجد في “عزازيل، جوانتانامو ليوسف زيدان وشيكاغوا لعلاء الأسواني”، والتغريب هنا ليس البعد عن الواقع وإنما اختيار نوع خاص من الواقع لم يألفه القارئ؛ واقع شيق ومثير إلا أنه مختلف عنا.
بعد هذه الرحلة النقدية القصيرة التي قطعناها على مدار المقالة، لا نملك إلا التأكيد على أهمية القراءة الجمالية بوصفها فعلا إبداعيا، وكذا التأكيد على دور القارئ باعتباره مبدعا ثانيا يقف على قدم المساواة مع المؤلف.
فظروف العصر تحتم علينا عدم الاكتفاء بمجرد التلقي السلبي للأعمال الأدبية القديمة والمعاصرة، ذلك أن التلقي الإيجابي هو وسيلتنا الوحيدة للحفاظ على حيوية الإرث الأدبي الذي يحمل روح الأمة وروح العصر، ويملك القدرة على الإجابة عن الكثير من التساؤلات المتجددة التي تؤرق الإنسان. فالعمل الأدبي ليس مجرد بناء، كالأبنية الحجرية، يتم الانتهاء منه لمرة واحدة في لحظة تاريخية معينة إلى الأبد، ودونما قابلية لإعادة البناء عن طريق الحذف والإضافة.
إن مادة العمل الأدبي ذات الطابع اللغوي هي التي تميزه عن أي بناء إنساني آخر، وتمنحه القدرة الدائمة على الحياة ومخاطبة أناس مختلفين في أزمنة مختلفة، وبهذا المعنى يختلف النص الأدبي عن النصوص الأخرى اختلافا جذريا، لأن النصوص غير الأدبية تصف أهدافا موجودة بالفعل أو تعد شرحا لها، ومن ثم فهي نصوص ثابتة، بعكس النصوص الأدبية التي تبدع أهدافها بذاتها بالرغم من ارتباطها بعناصر العالم المادية التي تعبر عنها. هذا وعلى الرغم من أن النص الأدبي لا يقدم حقائق ثابتة إلا أنه يرسخ حقائق جديدة وخاصة بفعل مساهمة القارئ واستجابته، بحيث تتمثل تلك الحقائق في لا محدودية النصوص الأدبية.
ولا تأتي مساهمة القارئ في إنتاج حقيقة ومعنى النص من مجرد الرغبة الذاتية للقارئ فقط، ولكن أيضا من خلال إغواء النص. فالبنية الخاصة والمميزة للنص الأدبي، باعتباره نصا مفتوحا ينطوي على فجوات غير محدودة، هي ما يستفز قدرات القارئ من أجل العمل على سد هذه الفجوات. والحقيقة أن تحقيق مشاركة القارئ الفاعلة والمبدعة إنما يتطلب قارئا من نوع خاص، قارئا مدربا وخبيرا يتجاوز القارئ التقليدي السلبي الذي يقنع بما يقدمه له النص مباشرة، وبما يقدمه المؤلف من معنى.