التفكير لا يقتل والأسئلة لا تموت
من المهم جدا أن يدرك الناس أن الخطاب المشبع بالأسئلة الذي يميز كتابات قلة من مثقفينا ونخبنا الإعلامية والسياسية في عالمنا العربي، ليس خطابا تآمريا، كما يريد أن يشيعه حراس “السياج الدوغمائي المغلق” بتعبير محمد أركون، بل هو خطاب ضاغط على العقل يصفعه ليستفيق من سكرته، فالأسئلة المقلقة والإشكالية تستفزه ليبحث عن إجابات شافية لغوامض تلف واقعا أو قضايا وأحداثا كان يعتقد بأنها حقائق ثابتة وأزلية لا تقبل الشك في صحتها أو قابليتها للتغير والدحرجة، والأسئلة كذلك وسيلة لتشخيص المرض الذي يصيب الجسد الاجتماعي والثقافي والسياسي، ومشرط جراحة دقيق، في الوقت ذاته، قادر على استئصال الورم من جذوره لإنقاذ هذا الجسد العليل.
إن بعض هذه القضايا لا تفقد راهنيتها وإن تقادم عهدها، لتعاود من حين إلى آخر شغل حيز كبير من تفكيرنا واهتماماتنا الكثيرة، لكأنها تعيد إنتاج نفسها من جديد في ظروف وبيئات غير تلك التي ظهرت ونضجت فيها لأول مرة، بشكل يوحي أيضا بأنها تحمل بذور النشأة المستأنفة في ذاتها، ما يتطلب تحريك آلة السؤال واستنطاق هذا الظهور المتكرر، لأنه ظهور ينم عن وجود خلل أو فشل في معالجة القضية، وكمثال على ذلك، قضية الإصلاح والنهضة في عالمنا العربي وسؤال شكيب أرسلان الكبير “لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم” الذي ما فتئ يتكرر منذ عقود كثيرة إلى اليوم، دون أن يحظى بإجابة شافية كافية أمام استمرار حالة التخلف والانحدار إلى القاع.
الأسئلة لا تموت بالتقادم، عميقة كانت أو تافهة، تبقى تُجلجل داخل رؤوسنا حتى نجد لها إجابات شافية، ولو بعد عشرات أو مئات أو حتى آلاف السنين، كلها تستحق عناء التفكير وإجاد إجابة وتفسير علمي ومنطقي لها، فحتى السؤال عن أسبقية الوجود، هل للدجاجة أم للبيضة، والذي يبدو لنا، كشعوب غير مفكرة، عدميا وعبثيا، وجد إجابة علمية شافية سنة 2010، بعد أن شغل حيزا من تفكير الناس منذ فجر التاريخ.
يقول نبينا صلى الله عليه وسلم “إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم”، ومفتاح العلم السؤال.
للوهلة الأولى، تبدو لنا المعادلة الرياضية 1+1 =2، بسيطة ومسلما بها، لكنها بالنسبة للعالم النحرير الذي خلص إليها كانت ذات مشقة ومشوار طويل من التفكير والبحث والتساؤلات العميقة، فقد احتاج عالم الرياضيات والفيلسوف البريطاني، السير بيرتراند راسل لأكثر من 350 صفحة ليثبت صحة هذه الحقيقة الرياضية، كما أن توماس إيديسون أجرى ما يقارب 1000 تجربة قبل أن يتوصل إلى اختراع المصباح الكهربائي، وبعكس ما يعتقد البعض بأن نيوتن قد اكتشف قانون الجاذبية، بعد سقوط التفاحة على رأسه، فهذا غير صحيح، لأن ذلك جاء بعد سنوات من البحوث والجهود العلمية المضنية.
وكلما زادت معرفة الإنسان بالأشياء والحقائق، تغيرت نظرته إليها واختلفت ظروف استفادته منها، فقد ينظر الإنسان العادي إلى قطعة من الصخر على أنها مجرد شيء لا يضر ولا ينفع، ولكن العالم الجيولوجي يعتبرها سجلا تاريخيا لعصور ماضية يكتشف من خلالها خصائص تلك العصور.
إن التفكير مصدر كل ذلك كله، فهو مصدر العلم، والعلم مصدر لتعديل سلوك الإنسان، لذلك يختلف سلوك الإنسان عن الحيوان الذي لا يتغير ولا يتطور، فمتى نعمل على جعل التفكير “فريضة” كما قال العقاد يوما، ونهدم “الأصنام الذهنية” التي تتواجد داخل عقول أجيال عديدة، جعلتها مجردة من ملكة التفكير، مشدودة إلى التقليد الأعمى والسلوك “الآلي” الذي لا يناقش ولا ينتقد ويكتفي بالمسلمات فقط ولو كانت ضده وضد تطوره، فلا يكلف نفسه عناء البحث والكد، ومكابدة الرزايا والصعاب في سبيل تحصيل وجمع الحقائق الخالصة واليقين الذي من شأنه الإعلاء من قيمته وقيمة مجتمعه، أو بالمجمل قيمة الإنسان وحياته، وفوق ذلك ترانا نسوم علماءنا ومفكرينا سوء العذاب، ونرتبهم في أدنى السلم الاجتماعي، ولا نقيم لهم وزنا.
حضارة شرق آسيا تقوم على عقيدة فريدة من نوعها، وهي أن الإنسان يبتكر ويخلق منفعة لتشمل جميع أفراد المجتمع، لذلك فتفكير المخترعين والمبتكرين والعلماء يرتكز على هذا المفهوم، وغالبية إنتاجاتهم الفكرية والتكنولوجية تكون نابعة من حاجة المجتمع ومتطلباته، لذلك فالخلود عندهم يكون من خلال تقديم هذه المنفعة الجماعية.
وفي الغرب، أوروبا وأميركا تحديدا، فإن عقيدة الحياة تقوم على الابتكار والإبداع في جميع المجالات والميادين بهدف تحقيق مصلحة مادية شخصية، وصيت وشهرة للفرد فقط، لذلك ينبري أغلب المفكرين والعلماء على تحقيق إنجازات عظيمة لتخليد أسمائهم، أما عندنا فللأسف الشديد، تحولت عقيدتنا الحياتية، المبنية في الأصل على عالمية رسالتنا الهادفة إلى نشر الخير بالعالم والعمل على توفير منفعة كونية، إلى عقيدة خمول واستهلاك مفرط، لا هم للأفراد سوى استهلاك ما تنتجه الحضارات الأخرى.
إن العيب ليس في موروثنا ولا لغتنا ولا ديننا ولا حتى في المادة الرمادية بداخل عقولنا، العيب في استسلامنا لصورة نمطية أصبحنا سجناء لها: “العربي لا يفكر ولا يسأل”، كأن التفكير يقتل والأسئلة تشتعل كالوميض الخاطف، ثم لا تلبث أن تموت ولا تجد إجابات شافية، لأن السؤال في هذه الجغرافيا ممنوع.