التلاعب بالعين وكذلك بالصورة
تعد موضوعة الاستهلاك مبحثا من مباحث علم الاقتصاد، فهي تمثل الضلع الثالث في مثلث البحث الاقتصادي: الإنتاج – التوزيع – الاستهلاك. وظل الاقتصاديون يعتبرون وفرة الإنتاج ومعدلات الاستهلاك من علامات الانتعاش الاقتصادي، الذي ظل لفترات طويلة طامحا – فحسب – إلى تحقيق حد الكفاية، وتلبية احتياجات المستهلك الأساسية، الترفيهية في الحدود المناسبة.
لكن هذا التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، لم يستمر مع دخول الدول الغربية ما يسمّى بعصر الأنوار بعقلانيته الحديثة، التي تشبّعت بالنظرة الاستغلالية للطبيعة والإنسان الذي استنزفت الرأسمالية "قوة” عمله ثم قدراته المالية القليلة – مع غيره من الطبقات الأكثر ثراء- تحت إغواءات الاستهلاك التي لا تنتهي.
ومع توالي الثورات الصناعية، منذ كوبرنيكوس إلى ما يتردد الآن عن دخولنا عصر الثورة الرابعة، لم تعد الأسواق الوطنية قادرة على استيعاب كل هذه المنتجات الضخمة والمتنوعة. وقد نتجت عن ذلك ظاهرتان: ظاهرة الاستعمار التي تهدف إلى فتح أسواق جديدة بالقوة. وظاهرة "عولمة” الاستهلاك، وتسييد ثقافة استهلاكيّة، تقوم على تسليع كل شيء، فبعد أن كان فتح الأسواق يتم بالقوة، أصبح يتحقق بتغيير أنماط الوعي والسلوك.
وهذا ما تعنيه الثقافة في أبسط معانيها الأنثروبولوجية، فهي "أساليب حياة تتضمن معاني ودلالات يعيش الناس بمقتضاها ويتشبثون بها ويتواصلون من خلالها” ("ثقافة الاستهلاك في المجتمع المصري” د.سعيد المصري موقع قضايا). وهو تعريف يمزج بين الجانب الرمزي للثقافة والجانب المادي للاستهلاك، وتصبح ثقافة الاستهلاك، المراد تسييدها هي كافة المعاني والرموز والتصورات الدافعة للاستهلاك والمصاحبة له.
ولا شك أن ثورة المعلومات، وتدفقها اللحظي على مستوى العالم قد ساعد على ما يسمّى بعولمة الحياة اليومية القائمة على هذه الثقافة الاستهلاكية، وهو ما يؤدي إلى ظاهرتين متناقضتين في الظاهر لكنهما متماهيتان في الحقيقة وهما: الإحساس الزائف لدى المستهلكين بأنهم قد أصبحوا قادرين كغيرهم، أو الاغتراب بسبب ما يمكن أن نسمّيه البؤس الاستهلاكي القائم على الفجوة الواسعة بين التطلعات الاستهلاكية، والقدرات الفعلية.
حيث يقع الفرد فريسة "تقليد” الآخرين تحاشيًّا للشعور بالنقص وهو ما يأتي على حساب تنمية الذات واستثمار ملكاتها، هناك إلهاء عن حقيقة "الذات ” -رغم ما هو شائع عن تأكيد قيم الفردية- يتوازى مع الإلهاء عن حقيقة "الأشياء” المستهلكة التي يتمّ التركيز فيها على الجانب الجمالي لا الوظيفي، وتقديم التجديد الشكلي على الجودة الحقيقية، وهو ما تتسم به ثقافة ما بعد الحداثة التي تتغلب فيها الصورة على الواقع، والتلاعب بالعين والحواس الأخرى لإغواء المستهلك، ويقدم التظاهر بالقدرات الاستهلاكية بوصفه علامة على التمايز الاجتماعي بغض النظر عن الأعباء المادية المترتبة على ذلك.
فالمستهلك -هنا- واقع تحت ضغوط اجتماعية مستسلمة بدورها لثقافة إشهارية إعلامية، تصنع الذوق الاستهلاكي على مستوى العالم وتوحيد السوق. ومما يزيد الأمر تعقيدا الانتقال من الإنتاج كثيف العمالة إلى الإنتاج كثيف المعرفة، ومن إنتاج الوفرة إلى إنتاج السرعة وبهذه الاعتبارات أصبح المستهلك هو المحرك الأساسي للإنتاج. ومن هنا أصبح استهدافه، والتأثير عليه أمرا محتوما من خلال تفعيل آلية الدعاية والإعلان والتسويق عبر مواقع الإنترنت، وتوظيف الجنس ومغازلة أحلام الحظ عن طريق الاندماج في الاستهلاك وشيوع شعارات من قبيل: "تشتري أكثر تزيد فرصك في المكسب أكثر”.
وكان لا بد أن تترك هذه الظاهرة آثارها السلبية على الأدب، الذي أصبح سلعة تقاس أهميتها بدرجة الانتشار، وتحقيق أعلى أرقام التوزيع وتراجعت معايير العمق والإجادة وجماليات النوع الأدبي، وتخلت دور النشر الخاصة عن طباعة الشعر بسبب عدم الإقبال عليه. وعلى الرغم مما يقال عن زمن الرواية فقد شاعت منها نوعيات معينة تتسم بالتبسيط الذي قد يصل إلى درجة التسطيح والإثارة الفضائحية سواء كانت جنسية أو سياسية.
بل إن دار نشر مصرية قد طرحت عدة روايات تحمل هذه العناوين المثيرة "لا تظلموا الملبن” والمقصود "جسد المرأة” لحسناء الحسن، الذي يبدو أنه اسم مستعار. و”لست عذراء” لرضوى رأفت و”متاهة المحرمات” لأحمد سلام. وهو أمر لا يختلف عن أغاني الفيديو كليب المعتمدة على الإثارة الجنسية، وتوظيف جسد المرأة وتصديره كأداة للمتعة.
وهكذا يلتقي عصر ما بعد الحداثة مع عصور الرق في تسليع جسد المرأة. إن أجيالا متعاقبة من الأدباء، لم يقعوا في هذا الابتذال رغم طموحهم الطبيعي إلى الانتشار لكنهم لم يهدفوا إلى تلك الأرباح الخيالية التي أصبحت تحققها حفلات الشعر مدفوعة الأجر مثلا، حيث لم تكن العولمة وثقافة الاستهلاك، قد أدت إلى تسليع كل شيء بعد. ومع ذلك ينبغي أن نقول إن هذه الظاهر "الأدبية” السلبية لا تمثل – مهما بلغت درجة انتشارها – متن الأدب العربي الجاد الذي كان – ولا يزال – ضد هذه النزعة الاستهلاكية سواء على مستوى الكتابة الأدبية أو على المستوى الاجتماعي.
وقد كان الروائي المصري صنع الله إبراهيم أكثر الروائيين تمردًّا على هذه الظاهرة وتصويرا لآثارها المدمرة منذ رواية "اللجنة”، التي عرّت بشاعة النظام الرأسمالي وهيمنته على العالم.
وفي رواية "ذات” يتعرض الكاتب لهذه الظاهرة بأساليب مختلفة منها "الوصف الخارجي لبعض الأماكن التي تظهر فيها الأضواء الحمراء، لمحلى الويمبي وكنتكي فراي تشيكن والمطعم الفخم ذي النجوم… والوصف الداخلي لمنزل أحد الأثرياء، الذي بدا مثل سوبرماركت كبير للأدوات المنزلية” أو تفسير "ذات – صادقة لا ساخرة – لخروج إحدى السيدات بمفردها في منتصف الليل وتلويحها بيدها في انفعال وهياج شديدين بأنها "لازم عاوزة موكيت” ("الرواية والسلطة" د.محمد السيد إسماعيل ص83).
الأمر الذي يصور مدى استحكام نزعة الاستهلاك عند"ذات” وغيرها منذ مرحلة الانفتاح الاقتصادي في مصر.