التمرد على الزمن
إن ملحمة كلكامش مثلا، وهي من أقدم النصوص الإبداعية التي عرفها تاريخ المعرفة الإنسانية، بقدر ما عبّرت عن إشكالية وجودية تتعلق بزمنها، فإنها تواصل حضورها على امتداد الزمن بكل متغيراته، وما زالت تواجهنا بأسئلة جمالية وفكرية في آن واحد، وإن إشكالية الحياة والموت وهي الموضوعة الأساسية فيها، ظلت مما يشغل الإنسان على توالي العصور وما زالت حاضرة حتى الآن في الحياة الإنسانية رغم كل ما عرفه الإنسان من تقدم على جميع الصعد، لو نظرنا إليه بمنظور الماضي، لما بالغنا حين نصفه بأنه تقدم أسطوري.
ومما يلفت النظر ويتطلب البحث الجاد، كون هذا التقدم، وعلى جميع الصعد، لم يحرر الإنسان من تعلقه بما هو خرافي وأسطوري، حتى كأن المتخيّل الأسطوري على زمن كلكامش، لم يتغير بعد، إذْ ما زال كثيرون من بني البشر يبحثون عن حلول لمشاكلهم الحياتية في ما هو أسطوري وخرافي، حتى ليبدو لي أحيانا أن كلكامش ومن معه أكثر عقلانية منهم.
إن الإنجازات الإبداعية المهمّة، مع انتسابها إلى حقبة زمنية معينة، غير أنها تتجاوز التحقيب لتكون بعض فضاء الإبداع، وما ذهبت إليه بشأن كلكامش، يمكن أن يشمل الإلياذة أيضا، التي تنسب كتابتها إلى الشاعر الإغريقي هوميروس، عن حرب طروادة، في القرن الثامن قبل الميلاد، غير أنها ما زالت حاضرة ليس ببذخ بنائها الفني فحسب، وإنما بما طرحت من قضايا مثل البطولة والتضحية والحب وعلاقة المرء بوطنه وما إلى ذلك من قضايا وجودية، وهي قضايا لم تزل حاضرة هي الأخرى في حياة الإنسان، ويمكننا أن نذكر على هذا الصعيد عددا كبيرا من الأعمال الإبداعية، ليس مما يقتصر على أجناس الكتابة فقط، بل في النحت والموسيقى والرسم والعمارة.
إن جدارية اللبوة الجريحة مثلا، وهي من أجمل ما أنجزه النحت الآشوري، تكاد تكون في حضورها إضاءة دائمة لكل فنان يحفر بإزميله على الحجر.
وكذلك هو الحال مع كلاسيكيات الموسيقى والرسم وما شهدت من تحولات، ولا بد أن نتذكر في ما نحن فيه، ألف ليلة وليلة وما كتبه الجاحظ وأبوالعلاء المعري والخيام وسرفانتس وشكسبير، وهي جميعا، بقدر انتسابها إلى حقبها، غير أنها تواصلت مع فضاء الإبداع، فما زلنا نقرأ امرؤ القيس ولبيد وطرفة بن العبد وعمر بن أبي ربيعة، وما زالت نصوص الشعراء العذريين والمتصوفة وشعراء المدن، في مقدمتهم أبونواس، تشاركنا قراءاتنا وخبراتنا الإبداعية، وما زال الملايين من الأشخاص يزورون المتاحف والمدن الأثرية، لمشاهدة ما أنجز الإنسان في الحقب التي عاشها وآلت في ما بعد إلى هذا الفضاء المعرفي الذي ينقل الماضي إلى الحاضر وإلى المستقبل، ولا ينقل الحاضر إلى الماضي ويكون على قطيعة تامة مع المستقبل، كما يفعل الجهلة المتعصبون.
إن الخطر الداهم الذي يفكك بنية المجتمعات الإنسانية ويخرب الحاضر على كل صعيد وفي جميع المجالات الحياتية، هو هذا الانصياع للماضي، انصياعا سلبيا، بعيدا عن النقد والمساءلة والاحتكام إلى العقل، حيث يلغي النقل أي دور للعقل، وتشيع ثقافة النقل من دون أن يكون ما نقل عن الماضي ونسب إلى مصادر تمنح صفة القداسة، قد تعرض للنقد الموضوعي، نقد المقدس الذي نسب إليه المنقول، وما هو المقدس، ومن أين جاءت إلى هذا المصدر صفة القداسة، ومن ثم نقد الرواة، وهل كانوا موجودين حقا، أم ارتجلهم من كان في خدمة السلطان، أي سلطان، المتسلط أو الطامع في السلطة، وإنْ كانوا موجودين، فهل كانوا مؤهلين عقليا وأخلاقيا إلى مثل هذا الدور، وهل تقبل رواياتهم على عواهنها، حتى وإن كانت على تناقض مع العقل.
إن الانصياع للماضي تحت سلطة المقدس، أي مقدس كان، توظف فيه سلطة المقدس للإرهاب الفكري والاجتماعي، وحين يكون المقدس بغطاء ديني، يشمل فعله المجتمع والسلطة الزمنية، ويعمد إلى إلغاء الحاضر بكل خصائصه ومعطياته وما شهد من تحولات اجتماعية وثقافية ويدخله في نفق النقل عن الماضي.
ومثل هذا المقدس، يوظف النقل، ليس لمجافاة العقل فحسب، بل لتخريب فضاء الفكر، في إطار اتهام حاضر ومجرب ومصمم، بتشويه الماضي المجيد، فسلاح النقل يشتغل بأقصى طاقاته، لوضع الماضي ومعه الفضاء الإنساني- الإبداعي في صورة تخدم أهدافه وتبرر جميع مقولاته، وتجعل ما حشد من متخيلات وخرافات وأساطير وروايات، في مواجهة العقل والحقيقة، وإذا كانت السلطة الزمنية تواجه متغيرات الحقبة بالمنع والمحاصرة في ظل قوانينها لا في ظل قانون الحياة، فإن سلطة المقدس تواجه كل متغير وكل جديد بالتحريم وبالوعيد.
إن الماضي الذي كرسته بكثافة النقل وتغييب العقل، وهو ماض متخيَّل، لا علاقة له بالماضي الحقيقي، ويمكننا القول إن هذا الماضي المتخيل، لا يحمل من الماضي الحقيقي إلا ما يتلاءم مع صورة الماضي المتخيل، يعمل جهاز سلطة المقدس على أن يكون بديلا للحاضر، أو هو الحاضر.
إن أي جديد في ما يبدع الفكر الإنساني، علما وفنا وأدبا، يواجه بالرفض أو بالتشكيك، أما المقولات ذات الطابع النقدي التي تحاور المقولات المنقولة، فتعد جريمة ينبغي أن يعاقب القائلون بها ويُكَفَّرون ويُخوَّنون ويعزلون، وطالما كانت أدوات العقاب التي تستهدف الفكر الجديد والمفكرين المتنورين، أدوات غير فكرية، بل يكون العقاب بالقمع والإساءة والتشويه والتحريم، ولا يتوقف مثل هذا العقاب بجميع أدواته عند الشخص الذي حاول أو يحاول النظر إلى النقل بمنظور العقل، بل يشمل محيطه الاجتماعي، ومما عرفت من أحداث وتجارب تؤكد ما أشرت إليه، ذلك أن أحد المتنورين وكان يعيش في مدينة متزمتة اجتماعيا، وإذ كان يواجه أطروحات المتزمتين بما هو عقلي من أفكار، فحاربه المتزمتون في مدينته، فعاش فقيرا معزولا، وإذ طلبت منه يوما أن يشارك في ندوة تلفزيونية ثقافية، يقول فيها ما عرف عنه واشتغل عليه، اعتذر وقال لي: لم أعد قادرا على المواجهة، إذْ أن الاضطهاد شمل أفراد عائلتي، وأذكر أنه قال لي: حتى شقيقاتي لم يجرؤ أحد على التقدم لخطبتهن خشية من سطوة الطغاة الذين اختلفت معهم في توجهاتهم.
والتقيت مرة برجل دين، عرف بفكره النقدي واستمعت إليه وهو يتحدث عن معاناته، ومما قاله: إن الاختلاف مع السلطة ونقدها ومعارضتها أيسر عندي من أبسط اختلاف مع المؤسسة الدينية التي أنتمي إليها، وعقوبة السلطة أيسر عندي كذلك من عقوبات هذه المؤسسة.
إن أصحاب هذا الموقف، بقدر عزلتهم عن الحقبة التي يعيشون فيها، وعدم إدراك خصوصياتها ومتغيراتها، فإنهم في الوقت ذاته لا يدركون الفضاء الإنساني، بما فيه الفضاء المعرفي، لأنهم يعيشون في الزمن الذي ينقلون عنه، وفي الفضاء الذي تصوره لهم وترسم ملامحه وتحدد خصائصه، نقولاتهم التي تستعبدهم ويتعصبون لها ولا يرون شيئا إلا من خلالها.