التواصل الايديولوجي بين الإسلام الداعشي والعالم المعولم
بدأ توصيف المفكر لما أطلق عليه اسم “اللحظة المناسبة” توصيفا سرديا يبتعد عن حرارة اللحظة. وبدا هذا المصطلح الذي لم يرفد بتوظيف مباشر يمكن لمتلقيه أن يعثر على انعكاساته في قلب الحدث السوري، وكأنه مستل من معجم قديم بات غير قابل للاستعمال ويراد إسقاطه على واقع لحظة إنما قامت أساسا على نفي المعاجم القديمة والبحث عن تأويلات جديدة للمفردات الشائعة.
وبذلك لم نفهم ما الذي تعنيه “اللحظة المناسبة” تماما قياسا الى لحظة الألم السوري الفظيع ولحظة البراميل المتفجرة ولحظة المعجزات السورية اليومية التي باتت عادية لكثرة شيوعها. إن الركون إلى توصيفات من قبيل شرائط البحث السوسيو-تاريخي تهمل واقع التفكيك الذي قامت به الثورة السورية لكل أدوات المعرفة أو هي، على الأقل، أجرت إعادة إنتاج لها تفرض عليها إعادة ابتكار نفسها وأدواتها، فلم تعد مهمة المفكر النظر من فوق ومن موقع المتعالي عن الحدث بل من موقع المشارك فيه.
لا ننكر على المفكر استخدام أي مصطلح، ولكنّنا نرى أن عليه تقديم، ولو عرض موجز، للكيفية التي يمكن أن يشتغل فيه انطلاقاً من اللحظة السورية والعربية القائمة.
مفردة الحرية
المشاركة تعني هنا أن يترك المفكر نفسه للحدث، وان يعي مسبقا أنه غير قادر على الإمساك به، بل إن مهمته تكمن في التقاط وتسجيل ما يتركه هذا الحدث الذي يعبره من معان وأفكار.
يلاحظ كذلك غياب مفردة الحرية في حديثه والحديث الدائم عن ثنائية العمل والكرامة وهي ثنائية مستقاة من التوصيف الفرويدي الذي للتوازن النفسي. فرويد كان يقول “أن تحب وأن تعمل” وكان يعتبر أن هذين العنوانين هما مفتاح الصحة النفسية السليمة. الطيب تيزيني يبني على هذه الثنائية الفرويدية ويركب على أساسها ثنائيته الخاصة بالكرامة والعمل ويهمل مصطلح الحرية.
مفهوم الحب الذي يعد مصدر السلامة النفسية لا يمكنه الوجود دون الحرية التي تشكل شرط تحققه. الخلل النفسي الذي يتجلى في هيئة عصاب إنما هو في الأساس خلل في الحرية يستتبع خللا في القدرة على الحب وعلى العمل.
الأمر أكثر راديكالية في ما يتعلق بالكرامة والعمل حيث أن الكرامة هي أحد التفاصيل التي تتفرع من المفهوم الكلي الجامع الذي هو الحرية. لذلك يظهر استعمالها دون الدلالة أو الإشارة للمفهوم الجامع الذي انطلقت منه، وبنيت على أساسه بمثابة تخفيف من وهج العناوين الكبرى التي طبعت الحدث الثوري في العالم العربي عامة، وفي سوريا بشكل خاص.
كانت مفردة الحرية هي التصعيد الأقصى لغياب الحياة في سوريا الأسد ولقد انتشرت بسرعة رهيبة في أوساط كل الفئات التي ثارت على سلطته. كانت مفردة تدفع اللغة إلى حدودها القصوى لأنها مشحونة بخطر الموت، لذا كانت دوما مفردة أخيرة من ناحية، وفاتحة للكلام المستعاد من ناحية أخرى. السوريون وجدوا فيها عنوانا للخروج من مضيق الأبد الأسدي وإعادة إنتاج لجغرافيتهم النفسية.
خطاب الرعب
يعترف الطيب بأن هناك تعبيراً شبابيا ينحو إلى إنتاج خطاب شبابي جديد بشكل جدي، ولكنه يبقى مع ذلك متواطئا مع الخطاب السابق عليه، ويرى أن الخطاب السياسي مغيب أو ضعيف بشكل عام في أوساط الشباب ويرى أن السبب يعود إلى أن السياسة قد استؤصلت في سوريا منذ أمد بعيد.
ربما يمكن للمرء أن يناقش هذه الفكرة بالقول إن مؤسسة إنتاج القيم كل القيم في المجتمع السوري منذ أكثر من أربعين عاما كانت محصورة في النظام الذي عمل عبر إحكام سيطرته على كل وسائل إنتاج الرأي العام على تحويل عبادته واعتبار وجوده وسيطرته على كل مقاليد الأمور في سوريا نوعا من قدر لا يمكن رده، لذا لم تكن السياسة فقط غائبة بل الحياة نفسها بكل ما فيها من حركية وديناميكية. يمكننا القول دون أن نكون قد ذهبنا إلى مجال التصورات الشعرية إن السوريين كانوا طوال هذه الفترة الطويلة من حكم عصابة الأسد يعيشون موتهم. عيش الموت هو حد أقصى لا تستطيع السياسة ملامسته بوصفها ليست في نهاية المطاف سوى نوع من أنواع الأمل الواقعي. دس النظام الأسدي المستحيلات في تلافيف أدمغة السوريين، وحوّل حضوره الإجرامي إلى نوع من سيكولوجيا عامة يعرّف المواطن السوري عن نفسه من خلال ما تبثه فيه من رعب وقهر.
إننا نخالف الطيب تيزيني في قراءته لواقع الأمور في أنه عودة إلى ما قبل التاريخ وإلى زمن الإنسان الوحش. ما يحدث لا يحمل سمة النكوص والعودة بل سمة الالتصاق بالعصر والعولمة والزمن
لم تكن السياسة غائبة وحسب بل لم توجد أساسا في سوريا، فإذا كان المطلوب من الشباب السوريين الذين يقضون تحت التعذيب والبراميل صناعتها، فإن هذا يتطلب تحقيق شروطها الأولية التي تتطلب العودة إلى حد أدنى من العقلنة.
هذا المطلب يبدو مستحيلا في لحظة التعذيب، لأن لا أحد يمكنه أن يلتقط بوضوح تام معنى أن يشاهد شخص ما صورة أبيه الذي قضى تحت التعذيب على شاشة التلفزيون ويتعرّف عليها. لا نعرف، وأعتقد أننا لا نستطيع أن نعرف، وبالطبع لا تستطيع السياسة العبور ولا المثول في العيون الجاحظة لجثث من قضوا تحت التعذيب، ولا في الأشلاء المتطايرة لضحايا البراميل. تستطيع أن تتكوّن بعد غياب القاتل والديكتاتور ولقد التقطت أغنية للفنان السوري سميح شقير هذا النبض حين قالت “بس يرحل الطاغية كل شي بصير”.
ابتكار المستحيل
ننتظر من السوريين ابتكار مستحيل في حين أن عدم ركونهم جميعا رجالا وأطفالا ونساء وأجنة إلى تبني التوحش الكامل هو مستحيل منجز في حد ذاته. كذلك أعتقد أنه لا يحق لأحد أن ينكر أن مجرد الثورة ضد الأسد كانت مستحيلا منجزاً وتام الأركان وواضح المعالم، وكانت رداً بليغاً على مستحيلات النظام بمستحيل شعبي صنع في سوريا، ولم يستطع أحد ادّعاء أبوّته الشرعية له. السياسة فعل يتطلب إسقاط النظام كشرط وجود له.
قيمة الإنسان
كرر الطيب تيزيني أكثر من مرة تعبير ماركس الذي يقول إنه كلما ارتفعت قيمة الأشياء هبطت قيمة الإنسان، ولكنه لم يربط هذه المقولة بسياق متصل يمكِّننا من قراءة واقع أحوال المنطقة والعالم والسياسة العالمية تجاه سوريا وأسباب نشوء داعش.
في اللحظة التي قصف فيها النظام السوري أطفال الغوطة بالسلاح الكيميائي وبدا أن أميركا على وشك التدخل وصدّق الجميع ذلك بادر الأسد إلى تسليم سلاحه الكيميائي ولم تحصل الضربة. كان الغرب ينظر إلى قيمة “الشيء” الكيميائي فائق القيمة ويبخس من قيمة أرواح أطفال الغوطة، وكذلك كان النظام يعلم أن لا أحد سيتدخل لإسقاطه وبأن المجال سيترك له ولبراميله المتفجرة، لأن الإنسان السوري لم يصبح معادلا للأشياء بل أقل قيمة منها.
اللافت أن المنظومات الأصولية اتبعت الخطاب الغربي نفسه في رفع قيمة الأشياء وتبخيس الإنسان. كل هذا الذبح وإهدار الدماء السخي والذي يتم بطرق هوليوودية إنما كان يحدث خدمة للإسلام الذي صار “شيئا” أكثر قيمة من كل الدم المهدور في سبيله.
لوحة: فيصل لعيبي
تشييء الإنسان
يمكن في هذا الصدد ملاحظة التواصل الأيديولوجي العولمي بين داعش والغرب ونظام الأسد في التأسيس لشيئية الإسلام وهذه الفكرة التي يمكن من خلالها فهم إشاحة النظر العالمية والدولية عن كل هذا الدم المراق في منطقتنا.
يترك الغرب لداعش مهمة تشييء الإسلام وتحارب من أجل أشيائها من قبيل النفط والغاز والموارد. يترك الإنسان العربي والمسلم يموت دون أن ينجح موته مهما كبر وتعاظم في تحقيق أيّ ردة فعل أو جرح في الضمير العالمي والدولي. لو كان الأمر يتعلق بمواطن غربي لكانت ردة الفعل متناقضة تماما، وذلك لأن الإنسان الغربي ليس مفصولا عن التشييء، بل يمثله ويتداخل في بنيته ويتوحد معه في أوصافه، ما يجعله مؤهلا لاكتساب قيمته ومعناه.
وينسحب هذا الامر على الحيوانات والآلات، من هنا عملت أسماء الأسد مؤخرا على استصراخ الضمير العالمي للمشاركة في الحرب ضد أعداء النظام ومن يسمون بالتكفيريين، من أجل إنقاذ طائر أبو منجل المهدد بالانقراض في تدمر.
أبو منجل هو شيء والإنسان السوري لا شيء، ولذلك لم تكن مخاطبة أسماء الأسد للمجتمع الدولي سخيفة وحمقاء وغير واقعية، بقدر ما كانت حقيرة وتبني على واقع الاتصال الأيديولوجي بين الغرب وداعش والعولمة.
الغرب يرى في داعش الخطر الوحيد والداهم ليس بسبب التناقض معه بل بسبب التماثل والتطابق. تشييء الإسلام هو هدف ومنطق مناسب، فالذبح في هذه الحالة سيكون ذبحا متصلا معولما يمكن فيه لقتل الناس أن يحدث أمام عيون الماركات المسجلة، وأمام عيون الأشياء المرفوعة إلى مرتبة القداسة كنوع من تسلية .
القتل هو تسلية الأشياء، ولعل الحرص على تصوير عمليات القتل بالطائرات والإبادات والتعذيب يفصح عن نزعة العقل الذي يحرص على إظهار مدى تفوق الأشياء على الإنسان، فحتى من يقوم بقيادة وتوجيه الآلات فإنه ليس سيدها ومالكها بل إن قيمته تكمن في أنه جزء منها. وحين يحاول الانفصال عنها والعودة إلى نفسه فإن هناك آلة إدارة كبرى تدافع عن نفسها بوصفه بالمجنون والمخبول. القناص الأميركي في فيلم “أميركان سنايبر” لا يمارس القنص ولكنه يصير آلة قنص، وهذا المنطق غالبا ما روّجت له الأفلام والدعاية الأميركية منذ ظهور سلسلة أفلام رامبو للمثل سيلفستر ستالوني الذي يوصف في أحد أجزاء الفيلم بأنه آلة للقتل وبأنه إذا كان الرب يرحم فهو لا يرحم.
من هنا نقول إننا نخالف الطيب تيزيني في قراءته لواقع الأمور في أنه عودة إلى ما قبل التاريخ وإلى زمن الإنسان الوحش. ما يحدث لا يحمل سمة النكوص والعودة بل سمة الالتصاق بالعصر والعولمة والزمن. داعش ليست إسلاما جريحا يعود لينتقم بل إسلام معولم ديجيتالي يمارس الذبح والقتل ديجيتاليا، ويستقي توحشه من شيئية الوجود الذي نحياه والذي يظهر كواحد من تجلياته الأكثر سطوعا ووضوحا.