الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬متحولة

الثلاثاء 2016/03/01
تخطيط: فيصل لعيبي

وبعد فترة‭ ‬وجيزة‭ ‬تغيّرت‭ ‬تقاليد‭ ‬الحديث‭ ‬والحوار‭ ‬والكتابة‭ ‬وأصبحت‭ ‬النبرة‭ ‬العالية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالسرعة‭ ‬وبقلة‭ ‬التفكير‭ ‬قاعدة‭. ‬احتل‭ ‬العنف‭ ‬والإثارة‭ ‬واجهة‭ ‬الأحداث‭ ‬وأصبحت‭ ‬الصور‭ ‬البشعة‭ ‬تملأ‭ ‬الفضاء‭. ‬لا‭ ‬وقت‭ ‬للتفكير‭ ‬لدى‭ ‬المتحدثين‭ ‬العموميين‭ ‬ولا‭ ‬وقت‭ ‬لدى‭ ‬الجمهور‭ ‬ليستمع‭ ‬بعمق‭ ‬إلى‭ ‬حديث‭ ‬عقلاني‭ ‬مبني‭ ‬بناء‭ ‬عقلانيا‭ ‬ولا‭ ‬مساحة‭ ‬للحوار‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭. ‬صراخ‭ ‬في‭ ‬الشاشات‭ ‬وفي‭ ‬صفحات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ونواح‭ ‬في‭ ‬البيوت‭ ‬وأدعية‭ ‬وصلوات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬والمقابر‭ ‬تكاد‭ ‬تحتل‭ ‬الساحات‭. ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأوضاع‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬العقل‭ ‬ضروريا‭.‬

‭‬تحولات‭ ‬الفضاء‭ ‬الثقافي‭ ‬وتحولات‭ ‬الخطاب

تحول‭ ‬الفضاء‭ ‬العربي‭ ‬بسرعة‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬مشحون‭ ‬بالمشاعر‭ ‬القوية‭ ‬والنزعات‭ ‬المتطرفة‭. ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬التحول‭ ‬برزت‭ ‬سمات‭ ‬وملامح‭ ‬جديدة‭ ‬للخطاب‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭. ‬ظلت‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬تتميز‭ ‬بسمات‭ ‬متميزة‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬التحولات‭ ‬الكبرى‭. ‬فقد‭ ‬عرف‭ ‬رواد‭ ‬النهضة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وبداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬كيف‭ ‬يوجّهون‭ ‬دفة‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬نحو‭ ‬قضايا‭ ‬أمّتهم‭ ‬لجعلها‭ ‬“تواكب”‭ ‬العصر‭ ‬بأفكاره‭ ‬وتحولاته‭ ‬العاصفة،‭ ‬وخاضت‭ ‬حركات‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭ ‬والبناء‭ ‬القومي‭ ‬معركة‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الجديد‭ ‬الرامي‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬دول‭ ‬حديثة‭ ‬وبدأت‭ ‬بعض‭ ‬ملامح‭ ‬الحداثة‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬تطبع‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تنامي‭ ‬الطموحات‭ ‬الاستقلالية‭ ‬والمشاريع‭ ‬التنموية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬الناشئة‭. ‬وتحدّدت‭ ‬ملامح‭ ‬الفضاء‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬عموما‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬شخصيات‭ ‬محورية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منطقة‭ ‬ثقافية‭ ‬تضطلع‭ ‬بمسؤولية‭ ‬تحريك‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬وإعطائها‭ ‬الوجهة‭ ‬الملائمة‭ ‬للمرحلة‭ ‬حسب‭ ‬مراحل‭ ‬تطور‭ ‬الثقافة‭ ‬فأرسوا‭ ‬تقاليد‭ ‬الممارسة‭ ‬الثقافة‭ ‬ورسّخوا‭ ‬العلاقة‭ ‬بالمؤسسة‭ ‬التعليمية‭ ‬والإعلامية‭ ‬وبالمجتمع‭. ‬وبوسائل‭ ‬بسيطة‭ ‬فعالة‭ ‬لأمنها‭ ‬استطاعت‭ ‬بعض‭ ‬الشخصيات‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬مؤسسات‭ ‬قائمة‭ ‬بذاتها‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬نشأتها‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬حلّت‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الحركة‭ ‬الثقافية‭ ‬تدعمها‭ ‬بالموارد‭ ‬وتسندها‭ ‬بالإعانات‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬تحولت‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬تالية‭ ‬إلى‭ ‬قيد‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تحول‭ ‬السلطة‭ ‬إلى‭ ‬سلطات‭ ‬عسكرية‭ ‬أو‭ ‬أمنية‭. ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬الفضاء‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬يزداد‭ ‬ضيقا‭ ‬بالمثقفين‭ ‬وبالثقافة‭ ‬وبالفكر‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يزداد‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬تشددا‭ ‬وتعنتا‭. ‬وتزداد‭ ‬أصوات‭ ‬المثقّفين‭ ‬خفوتا‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يرتفع‭ ‬ضجيج‭ ‬السياسة‭.‬

ومنذ‭ ‬هزيمة‭ ‬1967‭ ‬عادت‭ ‬بوصلة‭ ‬الفكرة‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬وبرزت‭ ‬توجهات‭ ‬ماضوية‭ ‬تشكك‭ ‬في‭ ‬الاتجاه،‭ ‬ومع‭ ‬فورة‭ ‬النفط‭ ‬في‭ ‬سبعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬تحول‭ ‬مركز‭ ‬الاستقطاب‭ ‬والجاذبية‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬الحواضر‭ ‬ذات‭ ‬العراقة‭ ‬الثقافية‭ ‬(القاهرة‭ ‬وبغداد‭ ‬ودمشق‭ ‬وبيروت‭ ‬وتونس‭ ‬والرباط‭ ‬والجزائر)‭ ‬إلى‭ ‬العواصم‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تسبح‭ ‬في‭ ‬بحار‭ ‬النفط‭ ‬والتكنولوجيا‭. ‬وحلت‭ ‬القوة‭ ‬المالية‭ ‬الجديدة‭ ‬بتوجهاتها‭ ‬المحافظة‭ ‬محلّ‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ ‬الحداثوية‭ ‬وبدأت‭ ‬توجهات‭ ‬الانفتاح‭ ‬الاقتصادي‭ ‬تدفع‭ ‬باتجاه‭ ‬الانغلاق‭ ‬الثقافي‭ ‬والفكري‭. ‬هذا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬أصبحت‭ ‬فيه‭ ‬القوة‭ ‬الناعمة‭ ‬عنصرا‭ ‬حاسما‭ ‬في‭ ‬الصراعات‭ ‬الدولية‭ ‬وتزايد‭ ‬دور‭ ‬العلم‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬وزن‭ ‬الثقافة‭ ‬وتجديد‭ ‬فاعليتها‭.‬

كانت‭ ‬المعرفة‭ ‬عنصرا‭ ‬تتزايد‭ ‬أهميته‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬طيلة‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬ومع‭ ‬المعرفة‭ ‬كانت‭ ‬تنمو‭ ‬الفنون‭ ‬والآداب‭ ‬وأساليب‭ ‬الحياة‭ ‬الحديثة‭. ‬وعرفت‭ ‬الحياة‭ ‬الفكرية‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الازدهار‭ ‬رغم‭ ‬جمود‭ ‬البنيات‭ ‬الفكرية‭ ‬والسياسية‭. ‬وبدأ‭ ‬العالم‭ ‬يتطلّع‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬عربي‭ ‬حديث‭ ‬يقيم‭ ‬معه‭ ‬علاقات‭ ‬ندية‭ ‬وحوارا‭ ‬حضاريا،‭ ‬ولكنها‭ ‬بدأت‭ ‬تتراجع‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬حين‭ ‬تصاعدت‭ ‬الحركات‭ ‬العنيفة‭ ‬بخطابات‭ ‬معادية‭ ‬للعصر‭ ‬وللعقل‭. ‬وساعد‭ ‬الريع‭ ‬النفطي‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬مراكز‭ ‬الثقافة‭ ‬ومحتواها‭ ‬وخطاباتها‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭. ‬تحولات‭ ‬الفضاء‭ ‬الثقافي‭ ‬أفضت‭ ‬إلى‭ ‬تحولات‭ ‬الخطاب‭ ‬الثقافي‭ ‬واتجاهاته‭. ‬فانتقال‭ ‬المراكز‭ ‬الثقافية‭ ‬رافقه‭ ‬تحول‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬الخطاب‭ ‬الثقافي‭ ‬وفي‭ ‬اتجاهاته‭: ‬من‭ ‬خطاب‭ ‬عقلاني‭ ‬حداثوي‭ ‬متجه‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬ومتجه‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭ ‬في‭ ‬نزعتين‭ ‬تقدمية‭ ‬أو‭ ‬ليبرالية‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬ديني‭ ‬منغلق‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬وماضوي‭ ‬ذي‭ ‬نزعتين‭ ‬متطرفة‭ ‬وأكثر‭ ‬تطرفا‭.‬

الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬الانغلاق‭ ‬إلى‭ ‬التراجع

‭ ‬مع‭ ‬توقف‭ ‬مشاريع‭ ‬التنمية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬وتراجع‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬الرامية‭ ‬إلى‭ ‬تكييف‭ ‬المنطقة‭ ‬مع‭ ‬متطلبات‭ ‬النمو‭ ‬الرأسمالي‭ ‬العالمي‭ ‬تراجعت‭ ‬مكانة‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬المستويات‭ ‬العلمية‭ ‬والمعرفية‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬للمنطقة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬وزن‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬قوّتها‭ ‬النفطية‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬الأدوار‭ ‬المحلية‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تضطلع‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬حفظ‭ ‬الأمن‭ ‬ومحاربة‭ ‬التطرف‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬مصالح‭ ‬القوى‭ ‬المهيمنة‭ ‬على‭ ‬العالم‭. ‬وبهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬أعيد‭ ‬إدماج‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬رقعة‭ ‬شطرنج‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬لتؤدي‭ ‬وظيفة‭ ‬ثانوية‭ ‬في‭ ‬الصراعات‭ ‬الدولية‭: ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬طرفا‭ ‬تابعا‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬حقبة‭ ‬القطبية‭ ‬الثنائية‭ ‬أصبحت‭ ‬كمّا‭ ‬مهملا‭ ‬في‭ ‬الحقبة‭ ‬الحالية‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬فيها‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬خارطة‭ ‬العالم‭ ‬وإعادة‭ ‬توزيع‭ ‬الأوراق‭ ‬بين‭ ‬الفاعلين‭ ‬الأقوياء‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬الفاعلية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والقدرة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬والوزن‭ ‬الحضاري‭ ‬للثقافات‭ ‬المختلفة‭.‬

‭ ‬بعد‭ ‬حربين‭ ‬طويلتين‭ ‬تعرض‭ ‬العراق‭ ‬للاحتلال‭ ‬والسودان‭ ‬للتقسيم‭. ‬وبعد‭ ‬ضمور‭ ‬المشروعات‭ ‬الوطنية‭ ‬والقومية‭ ‬الحماسية‭ ‬عادت‭ ‬الطموحات‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬قطرية‭ ‬وأصبحت‭ ‬الهموم‭ ‬الشعبية‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭ ‬والسكن‭ ‬والوظيفة‭ ‬وتفادي‭ ‬ازدحام‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬العواصم‭ ‬العربية‭ ‬الكبرى‭. ‬صارت‭ ‬الاهتمامات‭ ‬الثقافية‭ ‬ترفا‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬القحط‭ ‬الثقافي‭ ‬العام‭ ‬تراجعت‭ ‬نوعية‭ ‬الحياة‭ ‬واستفحلت‭ ‬الحركات‭ ‬المتطرفة‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬تحقير‭ ‬العقل‭ ‬والعلم‭ ‬والعمل‭. ‬وبتشجيع‭ ‬من‭ ‬الأنظمة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬القمع‭ ‬ورفض‭ ‬الحق‭ ‬والعدل‭ ‬وتوزيع‭ ‬ريع‭ ‬النفط‭ ‬حسب‭ ‬الولاء‭ ‬عادت‭ ‬النزعات‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الانغلاق‭ ‬الفكري‭ ‬والطائفية‭ ‬الدينية‭ ‬والمذهبية‭ ‬والاتكالية‭ ‬ورفض‭ ‬المشاركة‭ ‬الإيجابية‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬الواقع‭ ‬المعيش‭. ‬أصبحت‭ ‬الكفاءة‭ ‬خطرا‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬العام،‭ ‬والعلم‭ ‬بدعة،‭ ‬والعقل‭ ‬انحرافا‭ ‬تنبغي‭ ‬محاربته‭.‬

لم‭ ‬تزد‭ ‬تحركات‭ ‬الشارع‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الخمس‭ ‬الماضية‭ ‬الأمر‭ ‬إلا‭ ‬تعقيدا‭: ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الأزمة‭ ‬وانطلاق‭ ‬الغرائز‭ ‬والأهواء‭ ‬يصبح‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬التلاعب‭ ‬بالنخبة‭ ‬وتضليل‭ ‬الجماهير‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء‭ ‬المشحونة‭ ‬تتجلّى‭ ‬السمات‭ ‬البارزة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭: ‬الآنية‭ ‬والحدثية‭ ‬والعاطفية‭ ‬والانغلاق‭ ‬المذهبي‭ ‬والطائفي‭ ‬والتشييئ‭ ‬والتجزيئية‭ ‬والتبريرية‭ ‬والاتهامية‭ ‬وفكر‭ ‬المؤامرة‭ ‬وغلبة‭ ‬الاتصال‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬وسيادة‭ ‬التبرير‭ ‬بدل‭ ‬التفسير‭ ‬والتعليل‭ ‬وسيطرة‭ ‬الارتجال‭ ‬على‭ ‬السلوك‭ ‬العام‭ ‬والخاص‭ ‬حتى‭ ‬يغدو‭ ‬الإعداد‭ ‬للمستقبل‭ ‬أو‭ ‬مجرد‭ ‬التفكير‭ ‬فيه‭ ‬ضربا‭ ‬من‭ ‬المحال‭.‬

في‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬البيئة‭ ‬المعادية‭ ‬لروح‭ ‬العصر‭ ‬يبدو‭ ‬العالم‭ ‬فضاء‭ ‬للمشاحنات‭ ‬وتوجّس‭ ‬الشر‭. ‬أصبح‭ ‬العرب‭ ‬يتوجسون‭ ‬مما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬منطقتهم‭. ‬هكذا‭ ‬تتجلى‭ ‬الأزمة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العربية‭ ‬الراهنة‭: ‬لا‭ ‬الاستقرار‭ ‬الذي‭ ‬يسمح‭ ‬بالنموّ‭ ‬الطبيعي‭ ‬أو‭ ‬بالتنمية‭ ‬التدريجية‭ ‬الإرادية‭ ‬ولا‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬تغير‭ ‬الواقع‭ ‬تغييرا‭ ‬ثوريا‭.‬

ثورة‭ ‬بلا‭ ‬ثوار

لعل‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب‭ ‬كانوا‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬فاجأته‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬جرفت‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬حراك‭ ‬متعدد‭ ‬الأوجه‭ ‬وفي‭ ‬اتجاهات‭ ‬متعددة‭. ‬كان‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬قد‭ ‬تخلّوا‭ ‬عن‭ ‬مزاعمهم‭ ‬المذهبية‭ ‬واستكانوا‭ ‬للوضع‭ ‬القائم‭ ‬تحت‭ ‬رعاية‭ ‬السلطات‭ ‬السابحة‭ ‬في‭ ‬ريع‭ ‬النفط‭ ‬ونعيم‭ ‬السلطة‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬استعاد‭ ‬بعضهم‭ ‬وعيه‭ ‬فساير‭ ‬التيار‭ ‬الجارف‭ ‬محاولا‭ ‬التغطية‭ ‬على‭ ‬ماضيه‭ ‬بإحداث‭ ‬ضجيج‭ ‬مقصود‭ ‬لضمان‭ ‬مكان‭ ‬لنفسه‭ ‬في‭ ‬سيل‭ ‬الأحداث‭ ‬المتلاحقة‭. ‬هكذا‭ ‬برز‭ ‬“الشيخ”‭ ‬و”الداعية”‭ ‬و”الناشط”‭ ‬جنبا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬“الخبير”‭ ‬و”المحلل”‭ ‬و”الاستراتيجي”‭ ‬بديلا‭ ‬للمثقف‭ ‬والمناضل‭ ‬والرفيق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتصدر‭ ‬المجالس‭ ‬ويقود‭ ‬المظاهرات‭ ‬المنددة‭ ‬أو‭ ‬التظاهرات‭ ‬المؤيدة‭. ‬وفي‭ ‬غمرة‭ ‬الأحداث‭ ‬حلت‭ ‬شاشات‭ ‬التلفزيون‭ ‬محل‭ ‬صفحات‭ ‬الكتب‭ ‬والمجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬وأصبح‭ ‬تيار‭ ‬الأحداث‭ ‬الجارف‭ ‬عائقا‭ ‬أمام‭ ‬الفكر‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬تقديس‭ ‬الماضي‭ ‬عائقا‭ ‬أمام‭ ‬التفكير‭ ‬فيه‭ ‬لدى‭ ‬بعض‭ ‬الفئات‭ ‬من‭ ‬“المفكرين”‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬الاستقرار‭ ‬سدّا‭ ‬أمام‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المستقبل‭ ‬لدى‭ ‬النظام‭ ‬القائم‭ ‬أصبح‭ ‬التاريخ‭ ‬نفسه‭ ‬موضع‭ ‬صراع‭ ‬والواقع‭ ‬نهبا‭ ‬للأطماع‭ ‬وغاب‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭.

إن‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬فلسفة‭ ‬للحكم‭ ‬ولا‭ ‬تقودها‭ ‬نخبة‭ ‬ولا‭ ‬يؤطرها‭ ‬تنظيم‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬مشروع‭ ‬تخريبي‭. ‬أما‭ ‬حين‭ ‬يستولي‭ ‬عليها‭ ‬المرتزقة‭ ‬والمنحرفون‭ ‬والمغرضون‭ ‬والفاسدون‭ ‬فتصبح‭ ‬جريمة‭ ‬موصوفة‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬الثورات‭ ‬العالمية‭ ‬الحديثة‭ ‬وليدة‭ ‬حراك‭ ‬فكري‭ ‬وسبقها‭ ‬أو‭ ‬رافقها‭ ‬ظهور‭ ‬تيارات‭ ‬فلسفية‭ ‬ونزعات‭ ‬عقلية‭ ‬قادها‭ ‬عمالقة‭ ‬الفكر‭ ‬والفلسفة‭ ‬وبذلك‭ ‬طبعت‭ ‬تلك‭ ‬الثورات‭ ‬العالم‭ ‬الحديث‭ ‬بطابعها‭ ‬الإنساني‭ ‬والعقلاني‭ ‬وأصبحت‭ ‬منارات‭ ‬تاريخية‭ ‬لشعوبها‭ ‬وللعالم‭. ‬أمّا‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬فقد‭ ‬سبقه‭ ‬القحط‭ ‬الثقافي‭ ‬والجمود‭ ‬الفكري‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬العداء‭ ‬من‭ ‬الفلسفة‭ ‬والفن‭ ‬والجمال‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬غياب‭ ‬أيّ‭ ‬دور‭ ‬للنخبة‭ ‬حاملة‭ ‬الفكر‭ ‬الحداثي‭. ‬ورغم‭ ‬ظهور‭ ‬رموز‭ ‬فتيّة‭ ‬رافقت‭ ‬تحركات‭ ‬الشارع‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأمر‭ ‬فقد‭ ‬خلا‭ ‬الجوّ‭ ‬للشيوخ‭ ‬والقادة‭ ‬الدينيين‭ ‬الذي‭ ‬أعادوا‭ ‬الجماهير‭ ‬إلى‭ ‬صراعات‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬واستعادوا‭ ‬المعارك‭ ‬المذهبية‭ ‬والطائفية‭ ‬ممّا‭ ‬طمس‭ ‬الروح‭ ‬الشعبية‭ ‬لهذه‭ ‬التحركات‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬وجيز‭ ‬وسهّل‭ ‬التلاعب‭ ‬بالشارع‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الخاضعة‭ ‬لسلطان‭ ‬المال‭ ‬أو‭ ‬لمال‭ ‬السلطان‭.‬

‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬ابتكرت‭ ‬عناوين‭ ‬تسويقية‭ ‬جذابة‭ ‬للتحولات‭ ‬الجارية‭ ‬تلائم‭ ‬القوة‭ ‬الفاعلة‭ ‬"الربيع"‭ ‬العربي‭ ‬و”المعارضة”‭ ‬و”الجيش‭ ‬الحر”‭ ‬والثوار”‭ ‬وانبرى‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬يؤيد‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬تخدم‭ ‬مشروعه‭ ‬التجاري‭ ‬أو‭ ‬المذهبي‭ ‬أو‭ ‬النفطي‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬نتيجته‭ ‬أن‭ ‬برزت‭ ‬تيارات‭ ‬دينية‭ ‬سلفية‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭: ‬الشارع‭ ‬والشاشة‭ ‬والإعلام‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬التكنولوجيات‭ ‬الحديثة‭. ‬وعملت‭ ‬على‭ ‬إسقاط‭ ‬الرموز‭ ‬السياسية‭ ‬مع‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بجوهر‭ ‬النظم‭ ‬القمعية‭ ‬التي‭ ‬تستخدم‭ ‬اليوم‭ ‬أرقى‭ ‬التكنولوجيات‭ ‬لتسويق‭ ‬أكثر‭ ‬الأفكار‭ ‬والمواقف‭ ‬تخلفا‭. ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬تستخدم‭ ‬الآلية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬لتمكين‭ ‬أكثر‭ ‬الجماعات‭ ‬الدينية‭ ‬تطرفا‭ ‬من‭ ‬الحكم‭ ‬باسم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تنقلب‭ ‬على‭ ‬المبدأ‭ ‬الديمقراطي‭ ‬ليتم‭ ‬تعزيز‭ ‬القمح‭ ‬السياسي‭ ‬بالقمع‭ ‬الديني‭. ‬وفضلا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬برزت‭ ‬تيارات‭ ‬ميركانتيلية‭ ‬تتاجر‭ ‬بالموارد‭ ‬والمبادئ،‭ ‬وتيارات‭ ‬انتحارية‭ ‬تشكلت‭ ‬في‭ ‬السر‭ ‬وتحررت‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬القوى‭ ‬الاستبدادية‭ ‬المنهارة‭ ‬وتغوّلت‭ ‬بفعل‭ ‬التدخل‭ ‬الأجنبي‭ ‬المباشر‭ ‬أو‭ ‬المسانَدة‭ ‬المحلية‭. ‬وهكذا‭ ‬لم‭ ‬يتمخض‭ ‬التحول‭ ‬عن‭ ‬تحرير‭ ‬المواطن‭ ‬بل‭ ‬استبدل‭ ‬رعبا‭ ‬برعب‭ ‬وخوفا‭ ‬بخوف‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الاتجاهات‭ ‬و"المشاريع"‭ ‬ظل‭ ‬الغائب‭ ‬الأكبر‭ ‬هو‭ ‬مشروع‭ ‬العقل‭ ‬والعلم‭ ‬والعدل‭.. ‬فلم‭ ‬يمنع‭ ‬العنوان‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬تحويل‭ ‬الأحداث‭ ‬إلى‭ ‬خريف‭ ‬إسلامي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وتونس‭ ‬و”شتاء‭ ‬أطلسي”‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬وإلى‭ ‬دمار‭ ‬شامل‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬واليمن‭.‬

إن‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬فلسفة‭ ‬للحكم‭ ‬ولا‭ ‬تقودها‭ ‬نخبة‭ ‬ولا‭ ‬يؤطرها‭ ‬تنظيم‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬مشروع‭ ‬تخريبي‭. ‬أما‭ ‬حين‭ ‬يستولي‭ ‬عليها‭ ‬المرتزقة‭ ‬والمنحرفون‭ ‬والمغرضون‭ ‬والفاسدون‭ ‬فتصبح‭ ‬جريمة‭ ‬موصوفة‭. ‬وحين‭ ‬يمعن‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬التمويه‭ ‬والتضليل‭ ‬خدمة‭ ‬للقوى‭ ‬النافذة‭ ‬وللقوى‭ ‬الفاعلة‭ ‬فإن‭ ‬الجريمة‭ ‬تصبح‭ ‬مضاعفة‭.‬

تراجع‭ ‬خطاب‭ ‬العقل‭ ‬والجمال

ما‭ ‬يلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬في‭ ‬التحولات‭ ‬الجارية‭ ‬هو‭ ‬تراجع‭ ‬القضايا‭ ‬ذات‭ ‬الأهمية‭ ‬التاريخية‭ ‬مثل‭ ‬قضايا‭ ‬التحرر‭ ‬واستعادة‭ ‬الأرض‭ ‬والموارد‭ ‬وقضايا‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬والرقيّ‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬والجهل‭ ‬والأمية‭ ‬والقهر‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والتمايز‭ ‬الفئوي‭ ‬والطبقي‭ ‬والمذهبي‭ ‬والطائفي‭. ‬وبنفس‭ ‬القدر‭ ‬تراجع‭ ‬خطاب‭ ‬العقل‭ ‬والجمال‭.‬

وفي‭ ‬الواقع‭ ‬تلقّى‭ ‬الخطاب‭ ‬الثقافي‭ ‬العقلاني‭ ‬ضربة‭ ‬قوية‭ ‬بصعود‭ ‬التيارات‭ ‬السلفية‭ ‬التي‭ ‬تبرأت‭ ‬من‭ ‬العقل‭ ‬والعقلانية‭ ‬وبرعت‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬أجنبي‭ ‬وتحديدا‭ ‬غربي‭. ‬وساد‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬خطاب‭ ‬يمجد‭ ‬“العودة”‭ ‬إلى‭ ‬الذات‭ ‬بالتخلي‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬خطاب‭ ‬عقلاني‭ ‬باعتباره‭ ‬جريمة‭ ‬فكرية‭ ‬لا‭ ‬تغتفر‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬تمثل‭ ‬حادثة‭ ‬منع‭ ‬محمد‭ ‬أركون‭ ‬من‭ ‬إلقاء‭ ‬محاضرته‭ ‬عن‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬وإنزاله‭ ‬من‭ ‬منصة‭ ‬“مؤتمر‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي”‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1985،‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬محمد‭ ‬الغزالي‭ ‬وتلميذه‭ ‬النجيب‭ ‬يوسف‭ ‬القرضاوي،‭ ‬حدثا‭ ‬رمزيا‭ ‬يؤرخ‭ ‬لانقلاب‭ ‬الوضع‭ ‬وسيادة‭ ‬التيار‭ ‬الفكري‭ ‬السلفي‭ ‬الرافض‭ ‬للعقل‭ ‬وللعلوم‭ ‬الحديثة‭. ‬ولم‭ ‬يكتف‭ ‬الشيوخ‭ ‬بمقاطعة‭ ‬المحاضر‭ ‬المرموق‭ ‬والتشويش‭ ‬والحكم‭ ‬عليه‭ ‬بالردة‭ ‬بل‭ ‬طالبوه‭ ‬بإعادة‭ ‬إعلان‭ ‬إسلامه‭ ‬والتلفظ‭ ‬بالشهادة‭ ‬أمام‭ ‬الملأ‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬إلا‭ ‬لأنه‭ ‬طبّق‭ ‬منهجا‭ ‬علميا‭ ‬في‭ ‬دراسته‭ ‬للنص‭ ‬الديني‭.‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬برفض‭ ‬“الآخر”‭ ‬الأجنبي‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬رفض‭ ‬المختلف‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الثقافة‭. ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬برفض‭ ‬العلم‭ ‬والعقل‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بتكفير‭ ‬الفكر‭ ‬واستتابة‭ ‬العقل‭ ‬باعتباره‭ ‬خروجا‭ ‬كليا‭ ‬عن‭ ‬الدين‭. ‬وقد‭ ‬ترتب‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬“الانتصارات‭ ‬التي‭ ‬حققتها‭ ‬النزعات‭ ‬الدينية‭ ‬هو‭ ‬تحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬حركات‭ ‬“سياسية”‭ ‬تسعى‭ ‬لإقامة‭ ‬دولة‭ ‬“الإيمان”‭ ‬بديلا‭ ‬لدولة‭ ‬العقل‭ ‬والعلم‭ ‬والعدل‭. ‬وقد‭ ‬استفحل‭ ‬أمر‭ ‬تلك‭ ‬الحركات‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬التسعينات‭ ‬على‭ ‬مرآة‭ ‬ومسمع‭ ‬-وربما‭ ‬بمؤازرة‭ ‬بعض‭ ‬القوى‭ ‬الرامية‭ ‬إلى‭ ‬توظيفها-‭ ‬ثم‭ ‬ها‭ ‬هو‭ ‬الأمر‭ ‬يتكرر‭ ‬مع‭ ‬نفس‭ ‬الحركات‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬مسّتها‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الخمس‭ ‬الأخيرة‭.‬

القوة‭ ‬الناعمة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الجاهلية‭ ‬السياسية

في‭ ‬خضم‭ ‬تحركات‭ ‬الشارع‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬العقل‭ ‬الفكر‭ ‬المستنير‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬وجدت‭ ‬المخابر‭ ‬الغرب‭ ‬بدائل‭ ‬فعالة‭ ‬لرموز‭ ‬الماضي‭ ‬القريب‭: ‬بدائل‭ ‬للزعامات‭ ‬السياسية‭ ‬وحتى‭ ‬لرمز‭ ‬الإرهاب‭ ‬الذي‭ ‬جعلت‭ ‬منه‭ ‬الدعاية‭ ‬بعبعا‭ ‬عالميا‭: ‬أسامة‭ ‬بن‭ ‬لادن؛‭ ‬فتم‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬مقتله‭ ‬ورمي‭ ‬جثته‭ ‬بسرعة‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬ثم‭ ‬نسيه‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬التحولات‭ ‬المثيرة‭ ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬على‭ ‬جبهات‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭. ‬ثم‭ ‬استتبّ‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬عدة‭ ‬بدائل‭ ‬ضرورية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إخراج‭ ‬الأمر‭ ‬بشكل‭ ‬تقبله‭ ‬المرحلة‭:‬

*‭ ‬نظم‭ ‬متهاوية‭ ‬لم‭ ‬تفلح‭ ‬في‭ ‬التنمية‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬السيادة‭ ‬ولا‭ ‬ضمان‭ ‬مشاركة‭ ‬الشعب‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬أخف‭ ‬من‭ ‬الريشة‭ ‬في‭ ‬مهب‭ ‬الريح‭.‬

*‭ ‬حركات‭ ‬إسلامية‭ ‬تسعى‭ ‬للسلطة‭ ‬بلا‭ ‬مشروع‭ ‬سياسي‭ ‬حقيقي‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬قابلة‭ ‬للتوظيف‭ ‬والتلاعب‭.‬

‭ ‬*‭ ‬الهيئات‭ ‬الدولية‭ ‬جاهزة‭ ‬لضبط‭ ‬التفاصيل‭ ‬ومتابعة‭ ‬الأحداث‭ ‬ميدانيا‭ ‬و-إن‭ ‬اقتضى‭ ‬الأمر-‭ ‬القيام‭ ‬بالأعمال‭ ‬العسكرية‭.‬

*‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لمنح‭ ‬غطاء‭ ‬“الشرعية‭ ‬العربية”‭ ‬للقرارات‭ ‬التي‭ ‬تتخذ‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬دولي‭.‬

*‭ ‬أموال‭ ‬النفط‭ ‬متوفرة‭ ‬لشراء‭ ‬السكوت‭ ‬الدولي‭ ‬والمحلي‭ ‬على‭ ‬نظم‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬ولدعم‭ ‬التدخل‭ ‬الأجنبي‭ ‬لقلب‭ ‬النظم‭ ‬الجمهورية‭.‬

*‭ ‬تعميم‭ ‬نظام‭ ‬الإخوان‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬بعد‭ ‬إسقاطهم‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وتونس‭ ‬خدمة‭ ‬لمصالح‭ ‬الغرب‭ ‬الذي‭ ‬أفلح‭ ‬في‭ ‬استخدامهم‭ ‬في‭ ‬أفغانستان‭ ‬ضد‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ويستعملهم‭ ‬ضد‭ ‬أوطانهم‭ ‬حاليا‭.‬

وبعد‭ ‬القصف‭ ‬الإعلامي‭ ‬والأيديولوجي‭ ‬المكثّف‭ ‬خلال‭ ‬الخمس‭ ‬سنوات‭ ‬الماضية‭ ‬ها‭ ‬هي‭ ‬ملامح‭ ‬الصورة‭ ‬تتضح‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئا‭:‬

يكفي‭ ‬للنجاح‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬أن‭ ‬تعلن‭ ‬هذه‭ ‬الحركات‭ ‬عن‭ ‬إلغاء‭ ‬الرسوم‭ ‬الجمركية‭ ‬لزيادة‭ ‬الواردات‭ ‬وتصريف‭ ‬البضائع‭ ‬الكاسدة‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬الغربية‭ ‬لتوفير‭ ‬مخرج‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الأزمة‭ ‬وتخفيض‭ ‬الضرائب‭ ‬لصالح‭ ‬التجار‭ ‬وبائعي‭ ‬السلع‭ ‬المستوردة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تشترطه‭ ‬القوى‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الباحثة‭ ‬عن‭ ‬أسواق‭ ‬جديدة‭. ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬منع‭ ‬الخمور‭ ‬وتخفيض‭ ‬رحلات‭ ‬العمرة‭ ‬ومنع‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬رمضان‭ ‬ووقفه‭ ‬أثناء‭ ‬أوقات‭ ‬الصلاة‭ ‬وتمديد‭ ‬أيام‭ ‬العيد‭ ‬وتنظيم‭ ‬الزواج‭ ‬الجماعي‭ ‬والسماح‭ ‬بتعدد‭ ‬الزوجات‭ ‬وإباحة‭ ‬زواج‭ ‬الكبير‭ ‬بالصغيرة‭ ‬زواج‭ ‬المسيار‭. ‬وهذا‭ ‬فحوى‭ ‬البرنامج‭ ‬الانتخابي‭ ‬الموجه‭ ‬للجماهير‭ ‬المؤمنة‭ ‬التي‭ ‬فقدت‭ ‬عقلها‭ ‬السياسي‭ ‬الضروري‭ ‬للعيش‭ ‬المشترك‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬واكتفت‭ ‬بأحلام‭ ‬دخول‭ ‬الجنة‭ ‬حسب‭ ‬وصفات‭ ‬حركات‭ ‬الإسلام‭ ‬“السياسي”‭ ‬الحديث‭.‬

والغريب‭ ‬أن‭ ‬النزق‭ ‬الذي‭ ‬ميّز‭ ‬حكام‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬النفط‭ ‬الذين‭ ‬اكتشفوا‭ ‬في‭ ‬عائداته‭ ‬مفعولا‭ ‬سحريا‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬حكام‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬"الربيع"‭ ‬الجميل‭ ‬الذين‭ ‬اكتشفوا‭ ‬مفعوله‭ ‬السحري‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الوضع‭. ‬فهل‭ ‬سيكون‭ ‬هذا‭ ‬مآل‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬العرب؟‭ ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬ضحية‭ ‬هذا‭ ‬المأزق‭ ‬التاريخي‭: ‬جمهورية‭ ‬“دكتاتورية”‭ ‬بحكم‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬حركات‭ ‬إسلام‭ ‬سياسي‭ ‬جاهلية،‭ ‬وكلاهما‭ ‬يحظى‭ ‬بدعم‭ ‬الغرب‭ ‬والأغلبية‭ ‬الخرساء‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعنيها‭ ‬السياسة‭ ‬ولا‭ ‬السيادة‭ ‬أصلا‭.‬

ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرقعة‭ ‬مترامية‭ ‬الأطراف‭ ‬يعيدنا‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬الصفر‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬الثقافة‭ ‬السياسية‭ ‬للنخبة‭ ‬الحاكمة‭ ‬والجمهور‭ ‬المتفرج‭ ‬معا‭: ‬رسوب‭ ‬في‭ ‬امتحان‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬وفشل‭ ‬في‭ ‬اختبار‭ ‬العمل‭ ‬الميداني‭. ‬هزيمة‭ ‬العلم‭ ‬وانتصار‭ ‬الجاهلية‭ ‬السياسية‭. ‬هذه‭ ‬محصلة‭ ‬المواجهة‭ ‬بين‭ ‬القوة‭ ‬الناعمة‭ ‬التي‭ ‬يوظفها‭ ‬العالم‭ ‬المعاصر‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬العنف‭ ‬والقوة‭ ‬المادية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭.‬

ما‭ ‬مصير‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الاستحالة‭ ‬هذا؟‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬مصير‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬العقل؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.