الثقافة الإلكترونية وإعادة تشكيل المعرفة
طويلة كانت تلك الليالي التي قضّاها أصدقاء الكتب، في المطالعة وتقصّي جماليات المعرفة، حتى صارت كلمة مثقف، ربيبة ذلك الجنس البشري الذي تخلّى عن كثير من مُتع الحياة من أجل الظفر بمتعة القراءة، والوصول إلى لذّة المعرفة التي لا تضاهيها لذة.
كل تلك الملذات والمتع، تبخّرت وفرغت من معانيها، حينما وضعت التقنية كل ذلك على مرمى زرّ، تخرج المعلومات من أيّ وعاء، وتلصقها فورا بالذاكرة، هذه الذاكرة البشرية التي تحتفظ بكل ما يقع أمامها، حتى إذا ما امتلأت وضاقت بها الأمكنة بما رحبت، جرى مسح أجزاء منها لاستقبال المعاصر والجديد.
هذا ما أحدثته الطفرة الإلكترونية المعرفية، حينما صار الدخول إلى أتون المعرفة باليد، وخير من ألف كتاب على رفوف المكتبة يحتاج تقليبها إلى الوقت والزمن والصبر والإرادة، لذلك، شكلت ثقافة “الموبايل والأجهزة الذكية” حالة من اختلاط الحابل بالنابل من حيث صحة ما ينشر، وما يتداول على هذه الأجهزة التي لا يعي من يثق بها القدرة التدميرية التي تمتلكها والسلطة المطلقة التي نالتها من حيث تشكيل ثقافة جديدة لا جذور لها، تسحق بهدوء كل ما قدّمه الباحثون والدارسون من علوم معرفية سيماها الدقة والوضوح والأدلة.
في زيارة لإحدى المقاهي التي تكتظ بها المدن العربية، نلاحظ الفرق بين ما كانت عليه المقاهي في السابق، وما هو عليه حالها اليوم، إذ لم تعد كما كانت في زمن ليس بالبعيد، البيئة النموذجية لمعرفة الناس وسماع حكاوي المجتمع، والتي كتب فيها نجيب محفوظ وغيره أهم أدبياتهم، هي ذاتها في أجوائها وتفاصيلها، بعد أن بنت الهواتف الذكية جدارا عازلا فصل مرتادي المقاهي عن بعضهم حتى أولئك الجالسين حول طاولة واحدة.
المقاهي كانت تكتظ بالمثقفين والكادحين والعائدين من وظائفهم والمتقاعدين منها، يجتمعون لقراءة الصحف وتداول قضايا الحياة بين شخصي منها وعام، مما منح محفوظ أرضية خصبة باعتبارها الطبقة المتوسطة التي كتب عنها وتوجه إليها معالجا همومها وعاكسا قلقها وتوجساتها، إلا أن مقاهي اليوم باتت أشبه بمقبرة تضم أجسادا لا روح فيها مترامية بتثاقل على الكراسي، يد تمسك بعصا “الشيشة” والأخرى بالهاتف النقال، يمر الوقت دون أن تسمع كلمة، حتى أن جملة “السلام عليكم” باتت مؤرقة، فالرد يعني حرمان المبحر من إتمام غرقه في لجّة أمواج التواصل الاجتماعي، تلك الأمواج من الفيديوهات والقصص والمواعظ التي معظمها مفبركة، لا تسمن ولا تغني من جوع.
إن المقاهي التي خرجت منها “أولاد حارتنا” و”بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية” و”خان الخليلي”، المقاهي التي تعكس الملامح الحقيقية لأي مدينة، والتي كانت تحتضن العشاق أيضا ولوعاتهم عن الحبيبة الغائبة على وقع طربيات أم كلثوم، تآكل كل معنى فيها، فلا يربط بين الجالسين سوى كلمة السر التي يكتبونها على هواتفهم من أجل جعل عربة “الواي فاي” تدور لتبتلعهم في ذلك العالم البعيد الساخر.. ولو أن نجيب محفوظ ما يزال حيّا.. لجلس في بيته وحيدا بلا مقهى!
أمر آخر، إنني وأثناء اطلاعي على المجلات والكتب الأدبية الصادرة قبل وصول الهواتف والإنترنت إلى كل يد وإصبع، أثار انتباهي عمق وثراء المواد المنشورة فيها، لم تلتفت للغث ولم تعترف إلا بذوي الدراية أسلوباً وعمقاً وأصالةً ولغة. ففي السابق، تتمطى روح الكاتب بالسعادة والفخر، إذا ما وافقت دار نشر أو مجلة أو صحيفة على نشر ما يكتب، بل إنه يتباهى بذلك كفتح ثقافيّ عظيم لم يتسنّ للآخرين وصول عتباته، وعيون دور نشر والمجلات والصحف الأخرى تلاحقه، لعله يرضى على نشر نفائس ما يكتب عندهم.
فلكتّاب ما قبل “غوغل” بريقهم الخاص، نال خلالها المجتهدون نصيبهم، بينها وبين ما يحدث في زماننا مدى شاسع حينما فُرّغت عملية الكتابة من فحواها، وباتت مجرد “فهلوة” أدواتها مسخ ونسخ وقص ولصق، مما أثر على الجودة والمستوى وعلى صناعة النشر لولا جهود الهيئات والمؤسسات والجمعيات الثقافية العربية الكبرى المتواصلة في دعمها للجيّد والرصين والمتميز. المئات من الكتب الأدبية فقيرة المستوى صدرت من دور نشر أهلية عربية لم يسمع بها أحد، وضعت الزبد مع ما ينفع الناس في سلّة واحدة!
ويبقى السؤال الأهم، هو الكيفية التي يمكن من خلالها الوصول إلى فرضيات ومقترحات بإمكانها استعادة وهج الثقافة القديم، من خلال الحرب الضروس التي دارت رحاها بين الورقي والإلكتروني، ووضع الحلول والمعالجات الكفيلة لإعادة وهج الثقافة عبر الذهاب إلى المعرفة من خلال بوابة الكتب، بوصفها حاجة لا ترفا.
وعلى الرغم من المبادرات العظيمة التي اعتمدتها الجهات الحكومية لعدد من الدول العربية، في نصرة المعرفة الورقية، من حيث إقامة المسابقات والمعارض والمهرجانات ومضاعفة أعداد الإصدارات، إلا أن الهوّة ما تزال كبيرة، والعزوف عن الذهاب إلى الكتاب أيضا قائم.
أسباب عديدة، حضّرت الفرد والعائلة والمجتمع العربي للتخلّي عن الدروب القديمة للاطلاع والمعرفة، أهم تلك الأسباب وأشدها مضاضة، النظرة المتشائمة والمريبة الموجهة لمن يتعاطى مع الكتب، والأحكام المسبقة وما يترتب عليها من تلك التي تطلق على عشاق الكتب الشغوفين بقراءتها، والتي تحولت إلى باعث قويّ لدى كل فرد للتخلّي طوعا أو قسرا عن هواية اقتناء الكتب أو مجرد الاقتراب من أيّ مكتبة، وحرمان الروح من فرصتها في اللحاق بركب العالم البعيد الآخر، باعتبار أن نسبة لا يستهان بها في مجتمعاتنا العربية، تنظر إلى قراء الكتب ومريديها على أنهم مرضى يعانون من اضطرابات نفسية، يعيشون في عالم القصص القائم على الخيال والذي لا يتلاءم مع الهرولة السريعة نحو كلّ ما له علاقة بالمكاسب والمنافع المادية في عصرنا.
ومن أجل الظفر بالحياة المرفهة وملذاتها المتشعبة والمتعددة، وباعتبار أن المهووسين بالقراءة، وفقاً للنظرة الغرائبية لمجتمعاتنا وأحكامها المسبقة، هم أناس عالة على مجتمعاتهم، يعيشون خارج إطار الزمن، هذه النظرة وأشياء أخرى جعلت من العائلة العربية تقرر التخلّي عن الكتاب، فهو من وجهة نظر الكثيرين، جلّاب الشؤم والحظ المستقبلي العاثر والمجهول، ولن تحظى العائلة أو أي فرد منها متهم بالقراءة إلا بشقاء مؤجل، وقلة حيلة وقصر يد، ولأنها لا تريد لأحد أفرادها أن يخيب كما خابت هي، حينما عاشت حياة هانئة هادئة مع قصص الجدات والروايات التي ضيعوا أموالهم في شرائها، وامتلأت منها نفوسهم لا جيوبهم، ولكي لا تصيب أولادهم لعنة حبّ القراءة وما قد تجلبه لهم من نقاء وصفاء لا فائدة من كليهما، وقد تحولهم إلى مواطنين صالحين لا تثير لعابهم الأموال ولا المكاسب ولا المصالح ولا ملذات الحياة الأخرى، وبعدوى مزمنة لا شفاء منها، جاء ذلك القرار بالتخلّي عن القراءة، التي هي أول خطوط الصدّ لموجة الفوضى التي بدأت ثمارها العفنة تفتك بجسد المجتمع، وما تنامي الإرهاب وأفكاره الضالة والمضللة إلا حينما توقفت المجتمعات عن حمية القراءة، فضعفت مناعتها وتناقص وعيها، وصارت فريسة سهلة لأضأل فيروسات الأرض وخرابها الذي تحمله معها أينما تحلّ.
من هنا، انطلق أنصار المكتبات الإلكترونية يبشرون بالمستقبل الجديد للمعرفة، وأنه لن يكون للورق مكان في عالم يذهب بكل أدواته وطاقاته وأفكاره وتوجهاته وتعاملاته نحو الإنترنت والسهولة التي يأتي بها، حينما يمكننا أن نحصر في رقاقة صغيرة لا يتعدى وزنها غرامات معدودة، أو هاتف نقال ذا ذاكرة عظيمة، الآلاف من العناوين والكتب. فهل للمكتبة الورقية ورفوفها الممتدة على عرض الحائط والتي يلامس بعضها السقوف من فائدة في زمن تحتضر فيه المعرفة مثل زمننا؟
وفي المقارنة بين زمنين، زمن قديم ولّى كان فيه من لا يملك مكتبة في منزله يعتبر جاهلا أميّا لا نفع فيه للمجتمع ولا فائدة منه في الحياة ويقع على من حوله من أقرباء وأصدقاء ومعارف وجيران تجنب جهله، مما يضطرّ البعض على اقتناء مكتبة في منزله، وملئها بكتب لا يقرؤها ولن يقرأها وربما لا يعرف محتواها، فقط ليدفع عن نفسه أمام زوّاره شبهة الجهل.
أكبر الشرائح التي تضررت من الحصار الذي فرضته أميركا على العراق في تسعينات القرن الماضي، هم المثقفون، باعتبار أنهم كانوا قبل ذلك ينعمون بالعيش الرغيد المعتمد على راتب الوظيفة الشهري أو الراتب التقاعدي، حينما أصبح ذلك الراتب إبّان الحصار لا يكفي ليومين اثنين بحكم تدهور العملة النقدية وقتها ولا وجود لبدائل تسدّ ذاك الجوع ونقص المال، فاضطرّ أكثرهم إلى بيع كنوزهم ومدخراتهم، حيث كانت المكتبة أهم كنز وأعظم مدخر، وهي آخر مغادري تلك المدخرات، لقيمتها المعنوية العالية في نفوس من باعوا ودموعهم بين الحدقتين تتلألأ من شرّ ما أصابهم من وهن وانكسار.
العكس تماما يحدث اليوم، ومن عاصر الزمنين يعرف ويعي ما نقصده في عصر عقوق الكلمة الذي نعيشه، يشعر وكأنه انتقل عبر آلة الزمن إلى زمن غير زمنه لم يكن يحلم ولا يخطر على باله أن يعيش فيه إلا من بوابة الخيال أو السحر. من يملك في منزله مكتبة اليوم، يعتبر شخصا لا يفهم الحياة ولا يدرك توجهاتها واحتياجاتها، بل يجب الحجر على التواصل معه، كي لا يلوّث العقول المتعولمة بمرض المعرفة الذي هو وباء على الوقت ولا يجلب سوى الخيبة، كما أنهم ينظرون إلى من يحوي مكتبة في منزله على أنه شخص خيالي، يتوجب عليه زيارة طبيب لتخليصه من عثة ما تورّم منها رأسه.
الأجانب وعلى وجه الخصوص الإنكليز يقرؤون بشراسة وكأنهم يلتقون بالكتب لأول مرة، نراهم في رحلاتنا عبر المطارات وفي المواصلات، وعلى البحر، وفي الحديقة وحتى في موقف الباص، غير إن عالمنا العربي في تعولمه السريع لم ينتبه أو أنه يتجاهل عمدا أهمية الكتاب والقراءة عند الآخر، بل يكابر مدعيا أنهم لا يعانون ما نعاني، وأنهم مرفهون وهذا نوع من الرفاهية التي حرمنا منها في عالمنا العربي كما يدعي. أما وجهة النظر الأخرى، فتعتمد في توجهاتها على أن الإنترنت والمكتبات الإلكترونية السهلة وفي متناول اليد ولا تكلّف جهد البحث عنها ولا تثقل كاهل الجيوب، فلأي سبب يضحي بحاجة عائلته للأجزاء الواسعة من المنزل لمكتبة استعاض عنها الجميع بالمكتبات الإلكترونية، إلا من تغلغل فيه حبّ الكلمة الورقية المكتوبة.
إن المكتبة الإلكترونية ومن ضمنها ما يوفره الهاتف النقال من مزايا معرفية هي أداة مميزة، أدحضت حجّة المتقاعسين عن القراءة ووفرت للمتكاسلين منطقة لاقتناء الكتب، سواء كانت كتبها مجانية أو لقاء مبلغ من المال، فخواص المكتبة الإلكترونية تؤدي أيضا أغراضا متعددة في محاولاتنا لمعرفة العالم، وهي مثل مثيلتها الورقية في وظيفتها في خلق نوع من التواصل والتفاعل بين النص وبين القارئ، كما أنها تلبّي حاجات القارئ من حيث إمكانية وجود اللذة.
فأن تكون في ثواني قادرا على إيجاد قصيدة شعرية لأحمد شوقي أو مقطع لمظفر النواب أو أبيات لمحمود درويش، أو أن تكون في لحظة قادرا على إيجاد رواية لماركيز، أو مسرحية لسعدالله ونوس، هو شيء يمكن لأي شخص تقريبا القيام به.
إن معظم الناس في عصرنا هم متعلمون إلى حد ما، وقادرون على قراءة إعلان ومطالعة جريدة، والدخول إلى المعرفة عبر الهواتف المتحركة، لكن هذا وحده لا يجعل منهم قرّاء ومثقفين. وهنا يمكن القول إن الصراع بين طرفي الأزمة، القديم والجديد، الورقي والإلكتروني، هو صراع يمكن التخفيف من حدّة وطأته، من خلال اعتراف أحدهما بوجود الآخر، وعقد صلح طويل الأجل بين الطرفين، يكفل حقوقهما ولا يتعدى أحدهما على الآخر، وذلك لن يتأتى إلا بالعيش جنبا إلى جنب بعدالة ومساواة وحسن جيرة، من خلال ما يسميه ألبرتو مانغويل في كتابه “فن القراءة” بالمكتبة المثالية، والتي بحسب وصفه هي “مكتبة افتراضية ومادية معا، تماشي كل تكنولوجيا، كل صندوق، كل تجلّ للنص”.