الثقافة والردة في الجزائر

من التوفيقية إلى التلفيقية
الجمعة 2019/03/01
مفهوم النُّخبة يشكِّل منطلقا لفهم لحركة التاريخ (لوحة محمد عبلة)

ينطوي العنوان مشكَّلا بهذه الصّيغة على الرّغبة في معالجة موضوع ذي صلة بدور المثقّف. وأنا أعرف جيِّدا أن الخطاب حول وظيفة المثقّف في المجتمع، هو موضوع متكرِّر بشكل مدهِش لكونه موضوعا ذا بال. وممّا لا شكَّ فيه أنّ تكرار مثل هذا الموضوع مرتبطٌ بالإلحاح الذي لا يمكن إنكارُه، والإحراج على ضرورة تفعيل هذا الدور الذي لا يزال المجتمع في حاجة ماسّة إليه، ولا سيما حينما يتجاوز مستوى الشعارات من مألوفِ الكلام ومُمَيَّعِه.

ما نشهده ــ منذ بضعة عقود ــ مِن مظاهر الردّة التي تطاولت على سحر الجزائر وطالت المجتمع الجزائري على جميع الأصعدة تقريبا، مِن شأنه أن يدفع إلى محاولة إعادة تصنيف وضع هذا المثقَّف الأداة، وترتيب أدواره المتقلِّبة: وهو ما ننشده في ما يأتي عرَضاَ من تناول هذه المعضِلة. ذلك أنّ تلك الردّة أسفرت عن ارتكاس منزلة المثقف إلى المرتبة الثانوية أو منزلة المساعِد والموظَّف عند الدولة مرةً، وخارج مجال التأثير مرات عديدة، ودون أن يبرح مكانه في “دائرة الضوء” المبهِرة والمهرِّجة والساطِعة مِن الشاشة الصغيرة عند بعض الحالات، (Ce qu’on appelle le rôle d’auxiliaire « accessoire », de serviteur soumis ou bien de seconde importance)، حتى أنه لم يعد يؤدي أدنى ما يمكن من وظائف نقل الثقافة والقيم، ناهيك عن تسلّم وظيفته الاجتماعية التي يُحاوَل إبعادُه عنها نهائيّا.

أم أنّ حالة عدم اليقين هي التي يتوقّف عليها ويتحدّد تعدُّد وجوه المثقف كما يلاحظ طاهر لبيب (في مقال له: غرامشي في خطاب المثقّفين العرب)[1]. ثم لماذا أضحت الثقافة في أيامنا وجها لوجه مع أزمات السياسة، حتى لتكاد تنسحب لصالح الردة؟ وهل المجتمع هو من يصنع الثقافة مرة والردّة كرة أخرى، أم أنّ الثقافة هي التي تبني المجتمع وتتبنّاه بحسناته وعيوبه، لتصبح الرداءة عنوانا للثقافة؟ سنستعين لحل بعض هذه المفارقات بشيء ممّا أدلى به محلِّلو الخطاب الثقافوي على غرار الأكاديمي الفرنسي باتريك شارودو (Patrick Charaudeau) الذي عني بالتفاعلات بين الخطاب والمجتمع وتجلياتها.

إن إشكالية مقالنا مسطَّرة هكذا، تروم الإسهام بإعادة قراءة النوازع بين الثقافة والردة، بوصفهما يحيلان معا بطريقة مفارِقة (paradoxalement) وبحسب زاوية النظر، على الدينامية والحركية التي يحتاجهما كل مجتمع من أجل التقدم والرفاهية والاستمرارية ودخول معترك المنافسة العالمية. ومن الناحية المنهجية تنبع الإشكالية مِن التصوّر الجدلي الدينامي المتعلِّق بعلاقة المجتمع بالثقافة. مع أنّ المجتمع المعني هنا هو مجتمع نرى أنه استُخلفت فيه الردّة واستُبدِلت بالثقافة. وعليه، نتوقع ــ لا محالَةَ ــ حصاد ما يحدث مؤخرا من المساومات والمواربات بين الشعب والحكّام، ثم بين الحكام أنفسهم، وأثناء ذلك كلِّه بين الداخل والخارج.

1- الثقافة بوصفها مركز ثقل الديناميات الاجتماعية

قبل التفصيل علينا ــ أولا ــ بتعريجٍ بسيط على الثقافة بوصفها مركز ثقل الديناميات الاجتماعية التي كان من الخليق أن تقف جدارا صامدا وصمّاما واقيا أمام عادات الانقلاب الخسيس أو بالأحرى الارتداد الذي لا يجادِل اثنان حول السلبية التي يختصّ بها مفهومُه سواء اقترن بالدين أم بالأيديولوجيا أم بالتاريخ (المزيَّف عادة)، أم بغيرها من المذهبيات والعقائد التي لا يسلم التخلِّي عنها بعدما يكون قد تمّ اعتناقها؛ لأن الانقلاب لا يُستَساغ ولا يُحتمَل مهما تكن الشريعة التي تسوِّغه والصحافة التي تسوِّق له. ثمّ إنّ الانقلاب ليس كالثورة ــ أو حتى التمرّد المضادّ للاستبداد ــ أو التعديل والإصلاح والمراجعة في شيء، بل هو رِدّة بصريح العبارة تصبّ جام غضبها دون هوادة، وذلك بوصفه يقوم على ترتيب غامض لإنهاء مهام طرف على إثر نهاية المصلحة المشتركة والمفتعلة دون سابق إنذار، وباعتباره ذا تأثير عميق على سمعة الأشخاص المنقلب عليهم أو الأفكار التي يتمّ التخلّي عنها بعدما يكون قد تعدّى الأمر مسألة التشكيك في جدواها. وعادة ما لا تعلن الانقلابَ دراساتٌ تحليليّةٌ استشرافيةٌ استشارية جيوسياسية، بقدر ما يستعان فيه بالجَوسَسة والاستراتيجيات الحربية التمويهية حتى في عزّ السلام، وينتصر لانتشار العلاقات الزائلة القائمة على المساومة والمحاباة والمحسُوبية، ويعتدّ فيه بتقنية السوسبانس (Suspens) ــ المترجمة خطأً بالتشويق والانتظار والترقّب وإثارة الشغف ــ التي يُستجدى بها في السرديات وتحمِل القارئ على قلب صفحات واحدة تلو أخرى دون وعي منه وبشغف حقّا.

ثمّةَ مِن علماء الاجتماع وبعض الأنتروبولوجيين مَن يرى أنّ دور الثقافة ــ ومعه دور المثقف ــ يتحدّد بحسب المجتمعات ويتجسّد بتحليل حاجات كل مجتمع على حدة، وهي حاجات لا يمكن إسباغ الكمّ التراكمي عليها في الوقت الذي تهمّ وجاهة الكيفية الانتقائية فيها[2]. لذلك يصف عالم الاجتماع والإثنيات دروبيشيفا (L. M. Drobishewa)، الحاجات الثقافية كعوامل تدفع إلى الحركة التي كلّما استجاب لها أفراد ذلك المجتمع واندمجوا في دينامياتها يقع إفراز أفكار جديدة ذات مردود عملي حصيف[3]. ويتّسع نطاق الأفكار الجديدة عمليّا ليشمل فئات المجتمع كلّها: ما يجعل بإمكان الثقافة أن تصبح واقِعا فعليّا ومحرِّكا للتنمية، وذلك عندما يقوم مفهوم التنمية على عملية الإبداع المنظّمة مؤسّساتيّا، شريطةَ أن تقوم أيضا على الاعتراف بالاختلافات، وتكريسا لظهور الهويات الجديدة والصياغة الجماعية للمشاريع[4].

في هذا السياق يصبح المثقَّف هو مَن يضع آليات ومبادئ احتواء رجل الدولة ضمن مشاريع يمكن تنفيذها في بعدها النفعي العائد بالفائدة على الرعية بالدّرجة الأولى[5]، وليس كما يحصل عكسيّا في مجمل الدول ذات الحكم الرّيعي حيث يستمد الحاكم شرعيّته من سلطة التعيِين الاعتباطي. وأمام استمرار هذه الجدلية المركَّبة ــ كما يلمِّح إليها إدغار موران (Edgard Morin) ــ تظلّ الثقافة حتى في بعدها الشعبوي ــ la culture de masse ــ المسلك الوحيد الذي يخوِّل تمسّك السواد الأعظم من الشعب بأمل طفيف ريثما تحتلّ النخبة مكانتها ويُحتمَل أن تضطلع بدورها[6].

كانت جميع حركات التفكير في القرن الثامن عشر، والتي أطلق عليها البعض اسم “الوعي الأوروبي”، أرضية خصبة للمناظرات التي منعت حصول الردة. إنّ الأصول الفكرية للثورة الفرنسية التي قامت في يوم جميل من مايو 1789، متعدِّدة: من الواضح أن روسو، فولتير، وديدرو بموسوعته …الخ، قد أسهموا في بعث هذه الدينامية الثقافية، لكن المجتمع بأكمله هو الذي عمل بعمق في ترسيخ هذه الثقافة بسبب القلق على مستقبله

ثم إنّ تمييز الأفراد ثقافيّا لا يجلب إلا حشدا من المكاسب، ذلك أنّ انتماء الأفراد إلى مجموعة من الأشخاص يمكّن من الحصول على هوية اجتماعية إيجابية، إذ يخوّل لهم فرص مقارنة أنفسهم لصالحهم مع المجموعات الأخرى، مما يدفعهم إلى التصرف بطريقة تمييزية تجاه هذه المجموعات نفسها، انطلاقا مِن أنّ كلّ الهوية مبنية على أساس مكاني، اجتماعي، حتى اجتماعي اقتصادي، واجتماعي ثقافي[7]. فهل نحتاج دائما إلى بعضنا البعض لكي نعرف أنفسنا؟

بيد أنّ هذا المنحى الذي يسلِّم جدلا بالثنائيات التي غرق فيها علم الاجتماع من الثقافة والبنية، التغيّر والاستقرار، الديناميات والاستاتيكيات، الفردية المنهجية والجمعية، الطوعية والجبرية، الطبيعية والرسمية، الموضوعية والذاتية، الحقائق والقيم، الوحدات الصغرى والكبرى، سرعان ما سجِّل عليه بعض مآخذ لكونها تمثِّل إشكالات مفتعلة لا حاجة إليها[8]. مع ملاحظة أنّ التأمل الثنائي يشكِّل ضربا من التعقيد الفكري الذي يرمى من خلاله الوضوح والتبسيط والنظام، وذلك باختصار الطريق. وفي هذا الصدد يجب التنويه بتلك النصيحة التي كان ألفريد وايتهد (Alfred North Whitehead) قد قدّمها مرّة لعلماء الطبيعة وهي تحمل الحكمة الآتية “أنشدوا البساطة ولا تثقوا بها”، وانطلاقا من هذه الروحية، يمكن له أن يكون قد قدّم لأصحاب العلوم الاجتماعية النصيحة الآتية “أنشدوا التعقيد ونظموه”[9].

يشير هذا القلق الناشئ عن المقتضيات المنهجية إلى ضرورة إضفاء الطابع الرّسمي على مؤسسة الثقافة في أدائها لوظيفة تجسيد النسق في الأوساط الجماعية التي لا تعني دائما المجتمع. مِن هنا فلا نستغرب أن تُستهدَف الثقافة مباشرة بشتى أنواع المواجهة التي سجلت احتمال تخليها عن واجباتها كمعدِّل ومقوِّم للسلوكات الفردية لتتماشى وروح العصر السائدة. وفي هذا المجال الهائل من التفكير والعمل، هناك قضيتان رئيسيتان تستحقان إشارة خاصة. أولا: يجب أن نتساءل عن السبل والوسائل لمساعدة الجميع على الوصول إلى الثقافة والمشاركة فيها بنشاط في أطر مختلفة. بعد ذلك ــ وكما يرى برتراند راسل ــ يتم اختيار الابتكار على مستويين مختلفين للغاية: إنّ درجة قبول فكرة جديدة، على سبيل المثال، تعتمد على درجة الإقناع، أما المستوى الثاني فهو أخلاقي يتعلّق بالنزاهة والصرامة في التعامل[10].

إلاّ أنّ الثّقافة غير المدعومة بفعل فكريٍّ، دائم العطاء، وغير المدعَّمة سياسيّا وماديّا؛ تتعرّض لهزّات الردّة المشؤومة بارتداد قويّ ومدوّ أكثر من تلك التي تدعِّمها الأعمال الفكرية العميقة بقوالب لغوية متماسكة وجميلة وبالحكامة السياسية الراشدة. الثقافة التي تستمدّ مِن الفكر قوتها واللغة التي تتفاعل معها روحيا وواقعيّا، تناولها اللسانيون الأنتروبولوجيون قبل أيٍّ من العلماء والمحلِّلين، بدءا من فريدريك فون هومبولت الألماني، وإدوارد سابير وبنيامين لي وورف الأميركيين. فاليوم لا يمكن لأحد مِن رجالات الثقافة في العالم العربي أن ينكر انجذاب الفكر للثقافة واستقطاب الثقافة للفكر، ومدى إمكانية إسقاطهما على الواقِع؛ لكن ماذا يحدث مع ذلك من الفصل المنتظم بين الفاعِليْن؟

لقد كانت جميع حركات التفكير في القرن الثامن عشر، والتي أطلق عليها البعض اسم “الوعي الأوروبي”، أرضية خصبة للمناظرات التي منعت حصول الردة. إنّ الأصول الفكرية للثورة الفرنسية التي قامت في يوم جميل من مايو 1789، متعدِّدة: من الواضح أن روسو، فولتير، وديدرو بموسوعته …الخ، قد أسهموا في بعث هذه الدينامية الثقافية، لكن المجتمع بأكمله هو الذي عمل بعمق في ترسيخ هذه الثقافة بسبب القلق على مستقبله[11].

لهذا بات في الشبكة الثقافية الفرنسية هذا الحرص على تثمين الحوار وروح النقد والترقية المستمرّة لقيّم ثورتها، مثالا يحتذى عالميا: فكلّ من راسين وفولتير وكورني وغيرهم أسسوا لنزعة نقدية خوّلت فرنسا مكانة لم تعصفها تيارات الردّة التي عرفتها عبر الزمن. أما هتلر الذي حاول إعادة الاعتبار للرايخ والشعوب الآرية بناء على أيديولوجية عِرقيّة أكثر مما هي ثقافية، لم يفشل فحسب بل ترك بصمته تاريخيا على أنه سفاح لا غير، بعدما ضربت الثقافة السائدة لما كان فتى صاحب موهبة الرسم، ضربت موهبته عرضَ الحائط فثار يثأر لأنفَته بأن سخّر ثقافة العنف. وكم من أشباح سفاحين ولدتها أسر جزائرية وتتلمذت في المدرسة الجزائرية كادت أن تشيَّد لها تماثيل؟

لذا فإنّ الثقافة التي غالبا ما تكون مهيمنة في كل شيء من المظاهر بما فيها الأحداث اللغوية[12]، تبقى ضمانا يقي من تسلُّل مثل هذه الأضرب الرجعية الرِدوية. غير أنّه لا توجد مؤسّسة اجتماعية، وفق التحديد الذي منحه إميل دوركايم (Émile Durkheim) للمؤسّسة، أكثر غموضا من “الثقافة”[13]. وليس ثمّة مسألة أشدّ تعقيدا وامتيازا من البعد الثقافي للّغة، لذا فليس من الغرابة أن يقال إنها علامة فارقة لهوية الفرد بجدارة[14].

2- الثقافة وروح مقاومة الردّة

تاريخيّا لم يَسلَم من “العشريات السوداء والسويداء” أحدٌ من الجزائريين إلا وتأثّر بها بطريقة أو بأخرى، ومع ذلك فقد استمرّ الجزائريون في العيش دون التمتع بالحياة قليلا أو كثيرا، بشيء من الاختلاف مع الوضع الذي ساد من قبل لما كانوا يناضلون ضد الإمبريالية متّحِدين أو فرقاء. وباتت المؤسّسات الوطنية تمارس عملها طبيعيّا كالعادة. إذن قد نعلن منتصِرين: إنّ هذا ليس أمرا ممكنا لولا سديم الثقافة القويّ المغروس في النسيج الاجتماعي الجزائري: بإمكان أن يكون هذا التّقرير فرضية عمل ورقتنا هذه. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الثنايا هو: ما مدى قابلية أي مجتمع أن يتخبّط بين الثقافة والردّة مع المدى المفارِق الكائن بين طرفيْ نقيض هذيْن؟

بناء على ما سبق، وإذا ما انطلقنا من عدم وجود مجتمع خال من الثقافة بالمفهوم التايْلُورِي أي جملة العادات والتقاليد ونمط المعيشة واللّغة والقوانين والأعراف التي تميل بالمجتمع نحو التجانس والتماسك العضوي، أصبح بالإمكان القول إنه لا مكانَ للردة بعد ذلك على الإطلاق، لأنّ الثقافة التي ستشمل هذه المكوّنات لا مكانَ فيها لتداعيات الردّة التي تُذكي نيرانَها ثلّة من الناس ثم تنسحب مغالَطة على كافة فئات المجتمع. والحال أنّ مجتمعات كما هو حال الجزائر في أيامنا ــ تقدِّم لنا أمثلة عن تفشي مظاهر الردة بشكل غير مسبوق. أليست الهجرة التي تأبى الجزائر الرسميّة أن تستسلم لواقعها شكلا من الردّة: هجرة الأدمغة أو هروب رأس المال البشري، ذلك النزوح الكاسح ذهنيا وفكريا، وبالأحلام، لعدد غير قليل من أفراد المجتمع المتميِّزين، نحو أوروبا أو أميركا وفي قوارب الموت أحيانا، نحو عالم مجهول؟

إنّ تدفّقات الهجرة التي مسّت العلماء والباحثين والأفراد ذوي المهارات العالية مؤشرٌ دالٌّ على عدم استقرار البلد وغياب التماسك الوطني وتفويض أمر السلطة لغير أهلها. علاوة على أنّ الظاهرة باتت تشكِّل خطورة صادمة على المخططات التنموية. وهنا يجب التمييز بين التماسك الاجتماعي الذي هو مرادف الاتساق الثقافي وبين التماسك الوطني الذي بوصفه قائما ــ هو الآخر ــ على أسّ الثقافة فهو تتكفل به السياسات المرسومة من قبل وزارة الثقافة كمظهر للاهتمام بواقِع الثقافة ومصيرها حيث يطغى نموذج (الثقافة الفعل) المكرِّس للعمل الثقافي الذي هو الوحيد الكفيل بحلّ معضلة اختفاء الفرد داخل الجماعة[15]. من هنا تراعى آثار الثقافة على السلوكات الفردية علاوة على انعكاساتها الاجتماعية. وكذلك يتمّ تعزيز الثقافة وتظاهراتها التي تُفهم هنا باعتبارها دعامة ديمقراطية قادرة على توفير الأدوات والمهارات للطبقة الشعبية لتمكينها من استعادة وسائل إنتاج ثقافتها المهمَّشة. وعليه فإن الاتّساق الثقافي أقرب ما يكون إلى الاتساق النصي، حيث العلاقات الداخلية أهمّ مِن العلاقات الخارجية التي هي من قبيل الانسجام نظير التماسك الوطني. لهذا فإن تحقيق هذا الأخير لا يتم بمجرّد تهدئة الأوضاع الاجتماعية التي نشهدها جزائريّا لعشرين عاما خلت، وفق معادلات توفيقية جهوية “لا تُسمِن ولا تغني من جوع فكريٍّ” إلا في حدود ما يصطنع من أساليب التلفيق المجاني ضمن المهرجانات المكلفة ماليّا. وسرعان ما تتبيّن سخافة مثل هذه التظاهرات “الثقافية” البائسة بمعرفة أنّ تيارا مِن الأفكار لا يمكِن أن يشكِّل لوحدِه حركة ثقافية ولا سياسيّة إلاّ إذا تمّ الإقرار بالأفكار المقترَحة خارج حلقة الاختصاصيِّين والمحترفين في أعماق المجتمع[16].

ولمّا كانت السياسة أبعد ما تكون من مجرّد تسوية مؤقَّتة، إذ هي ــ وكما لخّصها مالك بن نبي ــ “تتكفّل بالمجتمع في الوقت الذي يتكفّل المجتمع بالفرد تربويا وثقافيا”[17]، ولمّا كانت الثقافة مقاومة ــ كما يراها إدوارد سعيد الذي لم يستطع العيش خارج الالتزام[18]؛ ولما كانت التّربية كما وصفها جون ديوي (John Dewey) أحد مسالك التنمية الفردية بالفعل، وكما يرى العالم الأنثروبولوجي مالينوفسكي (Bronislaw Malinowski) في الثقافة ما يحتضن جميع الظواهر الاجتماعية لأنها تمثّل ما أسماه (الوحدة العضوية) Unité organique[19]؛ فقد صار مِن الطّبيعي أن تتاح الفرصة لممثِّلي الجماعات والأفراد، بدْءا من الباحثين المشتغلين في الأوساط السياسية ــ أو حولها ــ وفي المحيط الجامعي خاصّة، لاحتضان الممارسة السياسية بصدر رحب. بيد أن ما نشهده من العزوف عن المشاركة السياسية يشكِّل أمارة أخرى للردّة ذات الصبغة الجزائرية. ببساطة نحن إزاء واقع وقَّع اسمَه مضعَّفا تحت وطأة الردّة الفكرية أو الأمية الجامعية ـــ أو أطلِقوا عليها أيّ لقب ترونه مناسبا لحال مَن يتوقَّع في المدرَّج ما يملى عليه مِن حروف ليستذكرها أو يتمّ استنجاح[20] الطلبة باستنساخ المحفوظات من الدّروس: فلا مشاحة في الاصطلاح لما يحضر الذهن ويتواجد الوجدان متماسكا بما هو موجودي في أوج تأزّمه (c’est-à-dire Ontologiquement parlant de la crise qui frappe notre société).

تاريخيّا لم يَسلَم من “العشريات السوداء والسويداء” أحدٌ من الجزائريين إلا وتأثّر بها بطريقة أو بأخرى، ومع ذلك فقد استمرّ الجزائريون في العيش دون التمتع بالحياة قليلا أو كثيرا، بشيء من الاختلاف مع الوضع الذي ساد من قبل لما كانوا يناضلون ضد الإمبريالية متّحِدين أو فرقاء. وباتت المؤسّسات الوطنية تمارس عملها طبيعيّا كالعادة. إذن قد نعلن منتصِرين: إنّ هذا ليس أمرا ممكنا لولا سديم الثقافة القويّ المغروس في النسيج الاجتماعي

والأسباب الكائنة وراء الأزمة ليست خارجية دائما ــ على خلاف ما يحاوَل إقناعنا به ــ مع ذلك يمكن لبعض الثقافات أن تختفِي تحت تأثير الحضارة الحديثة الكاسحة، وتنغلق أخرى على نفسها بنفس القدر الذي يدخل بعضها الآخر في علاقات تفاعلية مع غيرها[21]. بيد أنّ الخلل الذي يطال مجتمعات ويسمح بتمرير رسالات ضمنية فيندفع وراءها عامة الناس حتى الأديب الذي هو حارس الجمهوية، جاءنا من منافذ الردّة ونفوذها المتسلطة على العقول. لقد تولّت بعض الصحافة هذه المهمة الاستدراجية بامتياز، تستطلع الآراء لفائدة من يقرر مصير الشعب مع تنامي الردة في أوساطه، ولا سيما من خلال مواقع التواصل الاجتماعي كاليوتيوب حيث مساحات مخصصة لأمير دزد وزيتوت وغيرهم، انتهت المقالة الصحافية أين كان الزيات يعض بالنواجذ على الرأي والرأي المضاد في الرسالة، والبشير الإبراهمي يندد، وابن باديس يفنّد. فكانت النتيجة الثورة التي داهمتها المستعجلات، وقوض قواعدها بناة الأمس أنفسهم بوحي من أسباب الردة التي تتغلغل في جسد المجتمع كلما ضعفت الثقافة الأنتروبولوجية التي أشرنا إليها أعلاه، والتي يطغى عليها الطابع الجماعي والاجتماعي والإثني. وتعلن الردة أيضا حينما يسكت الضمير الذي يعتبر ضربا جوهريّا من الثقافة التي تدعى الثقافة العارفة أو العالمة (La culture savante). وثمة صنافات وتقسيمات عديدة لهذا الضرب الذي ينفرِد بالطابع الفردي. يمكن التنويه بأربعة منها نراها تخدم تحليلنا هذا. وقد فصّل إدغار موران القولَ في ثلاثة منها[22]، أي الثقافة العلمية (Culture scientifique) التي تتمحور حول الأشياء التي يعالجها العلم، وبالتالي لا يمكن الظفر بها إلا بالتكوين المتين، والثقافة الأدبية (Culture littéraire) التي تعوِّل كثيرا على المتعة، والثقافة الشعبية/العامة/التبسيطية (Culture de masse) التي تيسر تكاليف الحياة للفرد في علاقته بالغير والأشياء والعلم. علاوة على الثقافة الفلسفية (La culture philosophique) حيث يمارَس التأمل العقلي حول العلم والأشياء والوجود والله والخير والشر ..الخ، وكذا الثقافة الدينية (La culture religieuse) التي يسودها التأمل الروحي والطقوس الدينية.

تسخَّر الثقافة في المجتمعات الراقية أداة لحمل أنماط التفكير وتوصيلها وتوسيع دائرتها. بيد أن ما حدث في الجزائر من التطوّرات البطيئة ــ وأقصد التغيرات الكثيرة ــ ولم تتكفل الثقافة بصياغتها أفكارا، أصبح الموجّه الحقيقي لما يحدث في أيامنا من انقلابات خامدة ليس من السهل التحكم فيها ولا التنبؤ بها، ولكن يظل الأمل الوحيد الذي لا بد أن يبقى هو صياغته في سرديات مركّبة كما يصفها سعيد يقطين متأثِّرا بإدغار موران الذي فَلْسَفَ للرابطة الوثقى بين البسيط والمركَّب. لذلك فمنذ ما يقرب من قرنٍ، اهتمّت أدبيات الرواية الجزائرية في نسختها العربية وبصيغتها الفرنسية وعبر لغة بينية نقديّة، بالاضطرابات الاجتماعية التي أبلغت عن مناقشات المثقّفين ومخاوفهم وتوقّعات المجتمع وطموحاته نحو الازدهار من دون إحداث تنازلات تنال من الثقافة في حدِّ ذاتها. وتعتبر الكتابة الروائية من أقوى المنابر التي تهتف من خلالها الحناجر وتكتب الأقلام. ذلك أنّ اللغة الخاصة برواية ما، تقدّم دائما وجهة نظر خاصّة عن العالم تنزع إلى دلالة اجتماعية تدقيقا، باعتبار الخطاب نصّا أيديولوجيا[23]. ناهيك عن كون اللغة دون تجلياتها السردية لا تستطيع إلاّ أن تقف حائرة بين طرفيْ ثنائية التوفيقية والتلفيقية التي يرجع إليها جانب كبير من مسؤولية تفسّخ المجتمع الجزائري.

ثمّ إنّ كافّة النصوص التي تعرّضت لدوامة الردّة التي استحالت إلى حركية استبدلت بها دينامية الثقافة، وقفت عند هذا الطابع التلفيقي. وذلك بما عايش بعض الروائيين الجزائريين ــ لا سيما المنضوون في الكتابة بالفرنسية (لأني اهتممت بهم كثيرا) ــ من تاريخ العنف في صميمه، وهو العنف الذي ولَّد المشاعر التي أفرزت التشكيك في الهويات المتعاقبة على مدى أكثر من نصف قرن وهي ما يطلق عليها أدبيات الهوية[24]، كما أنتجت هذه الأدبيات أعمالا تعتمد طبيعتها على مصادر متعددة الأصول، على غرار روايات مولود فرعون وكاتب ياسين التي تؤكد قوة الحاسمة والعازم على رفض مغريات الردة، مستأثرين بلقب النخبة.

3 -سديم النُّخبة وتشتّت النُّخب..

تُطلق كلمة (النُّخبة ـــ مفردا) و(النخب ــ جمعا) على فئة ذات امتياز معنوي أو مكاسب تتّصل مباشرة بالفكر؛ تكون قد تبوّأت مكانة ضمن أفراد المجتمع نظرا للأدوار الفاعلة التي تؤدّيها من تنوير الرأي العام وتوجيهه، وذلك حالما يكون صاحب هذا اللّقب العظيم منشغلا بالشأن العام كما يستلزم الأمر الميل إلى التغيير في عزّ الأزمات التي تضرب الأمم فتقاوم نسبة إلى طموح يتأسّس على المقوِّمات العضويّة المتجذِّرة في ثقافتها، والمشاركة في الإشعاع الثّقافي، وإظهار الالتزام بمبادئ لا تتغيّر إلاّ بموجب الضرورة والحاجة التي تعبِّر عنها بأدوات سلميّة إلا إذا استدعى الأمر أن تلبس لبوس الثورات المنصِفة، بعيدا عن الشِّعارات التي لا تحقِّق سوى بعض المنافع ولا تشبع سوى أشباح المصالح الآنية. ولهذه الفئة القدرة على التأثير في ذوي السلطة بالقوة أو بالرمز، ورسم المستقبل على المدى المتوسط والمدى البعيد سواء تهيّأت الظروف أم لم تتهيّأ: فابن باديس لم ينتظر حتى تتهيّأ الظروف كي يستبق الأحداث نحو الإصلاح التربوي وتأصير المجتمع بدينه الحنيف وتاريخه، وقد كانت لملك بن نبي نظرة شموليّة أخذ في تنفيذها منذ روايته “لبّيك” حيث كان ينصح الشباب الجزائري المغترب الذي قتلت همّته معاقرة الخمر وأخذ يتآكله الفساد؛ ومع سعيه إلى رسم خطط التقدم، وقف ينشد التقوى متوجها إلى هذه الفئة بالنصح. ولم يرتد عن سبل التقدم ولم يرتد عن الدين.

يعدّ تاريخ البشرية جزءا مِن الصّراع بين مجموعتين مهيمنتين في المجتمع: أولئك الذين يمارسون السلطة السياسية ومَن يمثِّلون الواقع الثقافي[25]. لكن هذا لم يمنع النخب أن تتوزّع أحيانا بحسب القطاعات التي ينبري فيها كلّ ذي مثل هذا الامتياز. فنسمع إذن مركّبات من قبيل (النُّخب السياسيّة) و(النّخب الثقافيّة) و(النّخب العلميّة) وكذلك (النّخب الفنيّة) ..الخ.

ويهمّنا منها المفهوم الذي يحمل معه عناصِر (الوجاهة والجوهريّة) في ضوء اقتران الطبقة المثقَّفة التي تستمرّ في التميُّز حتى تصير بمثابة (نخبة) بفعل إنتاج الأفكار. وعليه نتساءل: كيف يتمّ هذا الإنتاج؟ وهل الأحداث هي التي تحمل الطبقة المثقَّفة على إصدار ردود أفعال بحيث يحدث جراءها إنتاج الأفكار؟ وما جدوى أفكار النخب في صنع طموح التعايش بين الشعوب ــ ولا سيّما حينما تكون هذه الأخيرة ذات روابط تاريخية ولغويّة وعقائديّة مشهود بها كحال بلاد المغرب العربي؟

هذا، مع العلم أنّ مفهوم النُّخبة يشكِّل منطلقا منهجيا ومنعرجا في كل فهم حصيف لحركة التاريخ. كما تنبري أهمية النُّخب الفكرية والثقافية بما لها من فضل تاريخيّ في تحديد الأنظمة السياسية وأشكالها ومدى تطورها، في علاقة جدلية بين (النُّخب) وبين أشكال الأنظمة. بيد أنّ تكريس النُّخبة سياسيّا ليس مسألة خلق “حساسيّات” ووضع الطبقة المثقَّفة المستغلّة والمستثمَرة سياسيّا في معادلة الصراعات الضيّقة وضمن عناصر قد تتداخل مع موازين القوى الداخليّة أو لعلّها تكون موازية لاستراتيجيات خارجية. وإنّما الفكرة أعمق من ذلك، إذ تشمل التّفكير في كيفيّة التّدخُّل برسم الخطط ووضع السياسات العمومية التي يجب اتّباعها في الحال ومستقبلا على المستوى القطري (في الجزائر) وعلى الصّعيد الدّولي. ذلك أنّ مِن آيات نضج الثقافة نزوع أهلها إلى معالجة القضايا المتعلِّقة بالتنوع والتعددية التي لا مفرَّ مِنها ولا سيما حينما يتعلق الأمر بالأبعاد اللغوية والجوانب الثقافية للتجربة الإنسانية[26].

منذ ما يقرب من قرنٍ، اهتمّت أدبيات الرواية الجزائرية في نسختها العربية وبصيغتها الفرنسية وعبر لغة بينية نقديّة، بالاضطرابات الاجتماعية التي أبلغت عن مناقشات المثقّفين ومخاوفهم وتوقّعات المجتمع وطموحاته نحو الازدهار من دون إحداث تنازلات تنال من الثقافة في حدِّ ذاتها. وتعتبر الكتابة الروائية من أقوى المنابر التي تهتف من خلالها الحناجر وتكتب الأقلام. ذلك أنّ اللغة الخاصة برواية ما، تقدّم دائما وجهة نظر خاصّة عن العالم

غير أنّ الأنساق الثقافية التي ولّدتها علاقة المجتمع بالدين، تغيّرت مسالكُها وتبدّلت مساراتُها من محرِّك إيجابيّ كان متمثِّلا في الثورة التي أعقبت إحراز الاستقلال، إلى عامل لاستفحال الردّة ذاتها، ولتفسح المجال لمجتمع شديد التديّن ولكنه متخلِّف. فليس أضر بالدين من هذا المجتمع كما أزعم، لأن هذه العلاقة الطبيعية بين التديُّن والتخلُّف تخلِّف ثغرات للردة متعددة الأوجه مكوناتها استعمار الأمس والسلطة الرّاهنة والأصولي الأعمى والشعب الضحية والمثقف المستعطَف والمتعاطِف دون جدوى. ينبثق من وسط التديّن من يعادي أخاه في البشرية ويقتله باسم الدين ويقاتل من يتحالف مع من سمي عدوا وهميا لأنه مرتدٌّ دينيا هذه المرة أي (Apostat). إنّ التناقض المتأصِّل في مثل هذه المواقِف يكاد يكون غريبا وافدا على المجتمع الجزائري الذي قاوم باسم الدين حتى عند الماركسيين والتقدميين والاندماجيين. لنا مثالٌ تاريخي سجّلته صفحات فرحات عباس في ظل العلاقة الحميمية بين المجتمع والدين تحت وصاية الثقافة، إذ كان أكثر المدافعين عن الإسلام، مع مطالبته فرنسا تجنيس الجزائريين بحق تاريخي يؤهِّلهم للمشاركة في التحضّر قبل صناعة القرار وبفضل وعيه أولا ليتم له تقرير مصيره.

أما طاهر جاعوت فسيُلقِّن من اغتاله درسا مستبقا ومستقبليّا، لما استلم جائزة الحوض المتوسطي في حفل تكريمه بفرنسا، لا يتباهى أمام من كان يطريه وهو جان درمسون (Jean d’Ormesson) بقوله إن العنصر القبائلي تقدّمي متعدد اللّغات وأكثر انفتاحا، قائلا له: مهلا يا سيدي إن باقي الشعب الجزائري هكذا حاله، فلا شيء يميز القبائلي إلى هذا الحد، مؤكِّدا له مدى تشبّث الجيل اللاحق بنضال الأصول[27].

هكذا، فكما أنّ في الماضي كانت هناك نخب إصلاحيّة وأخرى استقلاليّة وأخرى اندماجيّة، فقد ضرب كلٌّ بسهمه في الساحة السياسيّة الجزائريّة حتى في مخاض الصراعات الحادّة إلى أن تولّد التحرير فعلا بعدما كان مجرّد فكرة. وهذا بفضل السّهر على تجنيد دور النخبة مع ما كانت هذه الأخيرة تحمل في طياتها من علامات التأزّم الذي ألجأ الثوار إلى الإلقاء بأفكارهم في الشارع فاحتضنها الشارع الذي تحوّل في المظهر إلى ما يدعى بعد فترة الاستقلال بالشّعب المخفي وراءه رواد أفاعيل دنيئة دناءة المصالح الضيّقة، فسحقا للمصالح التي انجرّت عن الضائقة! بل ولّدت عنفا يشتدّ حينا ويفتر آخر، أحدث تطبّعا معيّنا يتمتّع بالديمومة وبقابلية الانتقال، أي يستطيع توليد ممارسات تنطبق على تلك المبادئ التي استبطنها العمل التربوي ذاته بوصفه عملا ترسيخيا (متواصِلا) طويل الأجل، تلك المبادئ التي يرى بيار بورديو (Pierre Bourdieu) أنها تمثل نموذجا معيّنا من التعسّف التربوي[28]. بيد أنّ السلوكات الرّاسِخة التي يتم تعديلها حتى من قبل المحدِّدات الثقافية، يمكن إعادة تشكيلها في العادة المكتسبة والأذواق والميول التي تدفع الرجل والمرأة إلى العمل والتي تقود الإنسان إلى التميُّز ورفع التحدّي[29].

فلتحيا ثقافة التحديات ولتُعدَم الردّة بشتى مهازِلها، ولا نفارق ذكرى من حرّر وطننا الوحيد، ما دام العزاء باقيا ولو من خلال ساحة الشهداء وشارع العقيد عميروش بالعاصمة.

خاتمة

خلاصة، أصِرّ على أنّ أنكَر أضرُب الردّة انقلاب الأب على أفراد أسرته بإهمالهم لحساب شخصه الصغير، وانقلاب المسيِّر المهووس بالمناصب على خِيرة أبناء مؤسّستهم لاختلاء السبيل أمام الغرباء الانتهازيِّين، باختلاق مشكلات زائفة ومزيِّفة للواقِع، واصطناع مرتزِقة وتجنيد عملاء، لتكريسهم خدمة لمصالحه الضيِّقة، ومِن أجل الحِفاظ على مركزه السيادي الفظيع.

أيها المتلقّي القارئ، إذا أنت قصَدت افتتان الجمهور فإياك أن تتوجّه بأفكارك الجهنّمية إلى وعيهم، بل مِن الأفضل لك أن تخاطب  “اللاوعي” الباطني الساكن في كلِّ ذات منهم، وتستميل المشاعر الدفينة، وتختبر أسلوب الردّة ذات السريرة القبيحة، لأنه الأسلوب القابل دائما لانطلاقة جديدة من درجة الصفر وفق عادة قديمة.

هذا رأي حفيد سيجموند فرويد (Sigmund Freud) المدعو إدوارد برنايس (Edward Bernays) مؤسِّس فنّ توجيه الرأي العام[30].

وبه أختِم مقالي كمن يزكّي فضح الردّة في زمنها، وأنا ابن زمانه وبيئته كما يقول إميل دوركايم الذي اقتبسته ابتداء وأكرِّسه انتهاء[31] (L’homme est le reflet de son milieu).

آه كِدتُ أنسى أبيات شاعر “أَمْدِيَازْ أَمقْران” أحبّه بقوة، أو كما أنشد لونيس آيت منقلات (الذي يأبى زخرف الأمجاد وعرّف المثقّف الملتزِم بوصفه “مَن يكون ناجعا في موقِعه النضالي” [32]:

بلادي .. قلائد في أعناق الجبال

إلى السماء موثوقة بغير حبال

هوامش ومراجع

[1]  ينظر: Tahar Labib, Gramsci dans le discours des intellectuels arabes, in Gramsci dans le monde arabe (Dir. M. Brondino et T. Labib), Editions de la Méditerranée, Tunis, 1994, (p.13-39), p.14.

[2]  ينظر: Pascal Perrineau, Sur la notion de culture en anthropologie, Revue française de science politique, 25ᵉ année-n°5, Ed. SciencesPo, Paris, 1975, (p. 946-968), p.947.

[3]  ينظر: ل. م. دروبيشيفا، السوسيولوجيا والتاريخ، ترجمة علي نمر دياب، دار الحداثة (سلسلة العلوم الاجتماعية)، بيروت، 1981، ص.53.

[4]  ينظر: Pierre Teisserenc, Le développement par la culture, L’Homme et la société, n°125 (Assignations identitaires et différenciation sociale), Ed. L’Harmattan, Paris, 1997, (p.107-121), p.107.

[5]  ينظر: P. Teisserenc, Op. cit., p.108.

[6]  ينظر: Edgard Morin, L’ésprit du temps : essai sur la culture de masse, Ed. Grasset, Paris, 1962, p.223.

[7]  ينظر: Pierre Bourdieu, Ce que parler veut dire : l’économie des échanges linguistiques, Ed. Fayard, Paris, 1982, p.87.

[8]  ينظر: ميشال تومبسون وآخرون، ضدّ الازداوجية، ضمن نظرية الثقافة، ترجمة علي سيد الصاوي، سلسلة عالم المعرفة (223)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يوليو 1997، (ص55 ــ 60)، ص55.

[9]  نقلا عن: كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات: مقالات مختارة، ترجمة محمد بدوي ومراجعة بولس وهبة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009، ص136.

[10]  نقلا عن حوار مع الفيلسوف برتراند راسل: https://www.youtube.com/watch?v=Q0yD9SpPGiE

[11]  ينظر: Roger Chartier, Les origines culturelles de la révolution française, Ed. Le Seuil, Paris 1990, p.56.

[12]  ينظر: Patrick Charaudeau, Une théorie des sujets du langage, Langage et société, n°28- fascicule 1 (Sociosémiotique), Ed. La Maison des sciences de l’homme, Paris, 1984, (p.37-51), p.38.

[13]  ينظر: Émile Durkheim, Débat sur l’explication en histoire et en sociologie, in Éléments d’une théorie sociale, Éd. de Minuit (Coll. Le sens commun), Paris, 1975, (p.199-217), p.213.

[14]  ينظر: P. Charaudeau, Langue, discours et identité culturelle, Revue de didactologie des langues-cultures, n°123, Ed. Klincksieck, mars-avril 2001, (p.341-348), p.341.

[15]  ينظر: Alfred Willener & Paul Beaud, La culture-action, Communications, n°14 (La politique culturelle), Paris, 1969, (p.84-96), p.87.

[16]  ينظر: Bourdieu Pierre. La représentation politique [Éléments pour une théorie du champ politique]. In: Actes de la recherche en sciences sociales. Vol. 36-37, février/mars 1981. La représentation politique-1, (p.03-24), p.13.

[17]  ينظر: مالك بن نبي، المشكلة الثقافية، ترجمة عبدالصبور شهين، ط.04، دار الفكر المعاصر (بيروت) ــ دار الفكر (دمشق)، 1984.

[18]  ينظر: إدوارد سعيد، الثّقافة والمقاومة (حاوره ديفيد بارساميان)، ترجمة علاءالدين أبوزينة ومراجعة محمد شاهين، دار الآداب (بيروت) ــ المجلس الأعلى للثقافة (القاهرة)، 2006.

[19]  ينظر: Bronislaw Malinowski, Les dynamiques de l’évolution culturelle : recherche sur les relations raciales en Afrique, Trad. De l’anglais par Georgette Rintzler, Ed. Payot, Paris, 1970, p.164.

[20]  نقترح هذا المولَّد (الاستنجاح) ليحيل على المعنى السلبي الدال على ما يحدث في الجامعة الجزائرية من القرارات التي تأتي من أعلى هرم الجامعة تطالب ــ بل توصي ــ بإنجاح دفعات كاملة لاسترضاء هذه الشريحة الناجية الضائعة.

[21]  ينظر: Louis Dumont, L’individu et les cultures, Communications, n°43 (Le croisement des cultures), 1986, (p.129-140), p.138.

[22]  ينظر: Edgard Morin, L’ésprit du temps : essai sur la culture de masse.., p.20-45.

[23]  ينظر: ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة ــ باريس، 1987، ص102.

[24]  ينظر: Etienne Balibar, Identité culturelle, identité nationale, Quaderni, n°22 (Exclusion-Intégration : la communication interculturelle), Hiver 1994, (p.53-65), p.55.

[25]  ينظر: Aleksander Gella, Le conflit entre l’élite dirigeante et l’élite culturelle : l’exemple de l’Europe de l’Est, Revue d’études comparatives Est-Ouest, v.09- n°3, 1978, (p.155-168), p159.

[26]   Marc Debono & Cécile Goï, Introduction. Pour une approche herméneutique de l’interculturel, in Regards interdisciplinaires sur l’épistémologie du divers. Interculturel, herméneutique et interventions didactiques (Dir M. DEBONO, & al.), Ed. Modulaires Européennes (Coll. Proximités – Didactique), 2012, (p.07-22), p.07.

[27]  نقلا عن حوار مع مدير مسؤول لدى دار النشر (Seuil / Paris) التي نشرت لكلّ من مولود فرعون ومحمد ديب وغيرهما؛ وهو السيد لويس جاردل (Louis Gardel). الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=vl_knERdEGs

[28]  ينظر: بيار بورديو، العنف الرّمزي: بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، ترجمة نظير جاهل، المركز الثّقافي العربي، بيروت، 1994، ص50.

[29]  ينظر: Bronislaw Malinowski, Les dynamiques de l’évolution culturelle.., p.56.

[30]  ينظر: Edward Bernays, Propaganda : comment manipuler l’opinion en démocratie (Préface de Normand Baillargeon), Traduit de l’anglais (États-Unis) par Oristelle Bonis, Éd. La Découverte, Paris, 2007, p.22.

[31]  نقلا عن: E. Durkheim, Education et sociologie, Ed. El Borhane (Coll. Les Signes & le Sens), 1991 [1922], Alger, p.31.

[32]  نقلا عن: www.i.france.com /menguellet/interview%201.htm, « Lounis Aït Menguellet, “Je n’ai jamais voulu être un symbole de quoi que ce soit” », Alger-Républicain, entretien réalisé par Zahir Mahdaoui.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.