الثقافة ووهم التفرد

الوعي النقدي وتمثلات المثقف لدى إدوارد سعيد
السبت 2020/08/01
تمثلات المثقف وصوره (لوحة للفنان سعد يكن)

ظلت الثقافة إلى وقت قريب توصف – وفق تعبير ماثيو أرنولد (1822 – 1888) في كتابه “الثقافة والفوضى”- بأنها أفضل ما فكر فيه المجتمع وأنتجه، ومن ثم ظلت مرتبطة بسياق نخبوي يتحكم في تشكيله مؤسسات الدولة وخطابها؛ فلكي يكون المرء مع الثقافة وفيها، يعني أن يكون في الدولة ومعها بطريقة ولاء قسري، وأن تتشابه الثقافة مع الإطار الخارجي للدولة. ومن هنا ارتبطت الثقافة بمفهوم الشمولية والأحادية، حيث التفرد في إنتاج بالمعرفة وصوغ الخطابات بما يتوافق مع متطلبات أطر الحكم وشروطه، مما يجعلها تتسم بالذاتية وأحادية الرؤية معتمدة على منظومة هرمية تستبعد من يتمرد عليها. وهي المفاهيم التي ارتكزت عليها المركزية الغربية لتجعل من الغرب مصدرا للتاريخ الإنساني الفكري والثقافي، وارتكزت عليها كذلك المركزيات الأبوية في المجتمعات الشرقية لتجعل من بعض الفئات متحدثا باسم بقية الفئات، ومتحكمة في تداول الخطابات أو في مصادرتها حسب محدداتها الخاصة.

تتجلى خطورة هذه المركزيات في تأسيسها لمقولات الهوية المتفردة واستعلاء النظم الثقافية، وهو ما أعده آمارتيا صن وهما يلغي حقيقة الطبيعة البشرية القائمة على الاختلاف والتعددية فـ”طبيعة الاختلاف الذي هو جوهر الذوات الإنسانية تفرض بالضرورة تعطيل مقولة التجانس الداخلي للحضارات وعزلتها؛ لأن تنوع الثقافات الإنسانية يحيل إلى تفاعلها أكثر مما يحيل إلى انعزالها”.

وفي كتابه “الخوف من البرابرة” يحدد تزيفيتان تودوروف أن الكائن البشري لا يولد في حضن الطبيعة، بل إنه يولد في حضن الثقافة، فالسمة الأولى للهوية الثقافية الأصلية تفرض في مرحلة التنشئة، ثم تتسع الدائرة لتتشكل ما يسميه بالثقافة الأساسية التي تعني امتلاك رموز مشتركة تتيح فهم العالم والتوجه إلى الآخر وينضاف إليها المعارف المتعلقة بمختلف ميادين الفكر، وتلك الرموز هي معطى مسبق لا يختارها الفرد بشكل حر.

فكل فرد وفق طرح تودوروف هذا هو شخص متعدّد الثقافات التي هي رواسب متداخلة، فالهوية الفردية تنجم عن التقاء هويات جماعية متعددة داخل الشخص الواحد بالذات. حيث لا توجد ثقافات خالصة وثقافات مختلطة؛ فكل الثقافات مركبة أو هجينة أو مهجنة. ويرجع ذلك إلى التغير الذي يصيب الثقافات بسبب التواصلات الإنسانية وممارسات الأنظمة السياسية والاجتماعية وكذلك العوامل الطبيعية؛ ومن ثم تخضع الهوية الثقافية لتلك التغييرات، وتكتسب صفة التبدل والتعدد.

ويقارب إدوارد سعيد سؤال الثقافة في كتابه “العالم والنص والناقد” من خلال علاقة النقاد بها من حيث القرابة أو التقرب؛ من خلال محاولة الإجابة على تساؤله الخاص بـ”ما معنى أن يمتلك المرء وعيا نقديا”؛ حيث يرى أن الوعي النقدي يقف في منطقة وسط بين قوتين، الأولى هي الثقافة التي ارتبط بها النقاد بالقرابة (بالولادة والانتماء القومي والمهنة)، والثانية هي الطريقة أو المنظومة التي يكتسها النقاد من خلال التقرب (بالقناعة الاجتماعية والسياسية وبالظروف الاقتصادية والتاريخية وبالجهد الشخصي).

ولكي يمتلك الفرد وعيا نقديا يجب عليه مقاومة تلك القوتين وأن ينعزل عنهما فـ”الوعي الفردي المنعزل، المعارض للبيئة المحيطة والمتحالفة مع الطبقات والحركات والقيم المناوئة، هو صوت معزول وخارج المكان الصحيح لكنه حيز كبير جدا من المكان وواقف بمنتهى الوعي ضد العقيدة السائدة لمناصرة مجموعة من القيم المعروفة جهارا بأنها عمومية أو رحيمة، ومجموعة تذكي مقاومة محلية مهمة ضد هيمنة ثقافة واحدة، وواقع الحال يدل أيضاً على أن المثقفين، وبموافقة كل من بيندا وغرامشي، مفيدون غاية الفائدة في تفعيل الهيمنة”.

فمثلما يقف المثقف صاحب الوعي الفردي المنعزل أمام أشكال الهيمنة، هناك المثقف المفيد في تفعيل صور الهيمنة حيث يصبح امتدادا لأدوات السلطة ومرددا لخطابها، فإذا أردنا تمثل صور المثقف سنشير بالضرورة إلى عدد من المفكرين اهتموا بالعلاقة بين المثقف والسلطة وخصصوا لها الأدوار التي تؤطرها، ومنهم: أنطونيو جرامشي، جوليان بيندا، جان بول سارتر، ميشيل فوكو، وقد أشار إليهم إدوارد سعيد في معرض تناوله لتمثلات المثقف وصوره.

تكمن أهمية طرح أنطونيو غرامشي عن المثقف في اعتباره أول المدافعين عن جماهيرية الثقافة وفي ذهابه إلى أن “كل الناس مثقفون، لكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا وظيفة المثقفين في المجتمع”، فيهدم غرامشي نخبوية المثقف ويرى أن المحك الذي يطرحه للتفرقة بين الأفراد – الذين هم مثقفون بالضرورة – هو محك الدور الاجتماعي.

ويقسّم غرامشي المثقفين إلى نوعين: المثقف التقليدي والمثقف العضوي، ويمكن الفرق بينهما في الفرق بين الثبات والتحول؛ فالمثقف التقليدي سمته الثبات وعدم التحول وهذا الثبات في الأدوار يقابله ثبات في المواقف وحيادية في التعامل مع الصراعات المجتمعية والسياسية. وهو عكس المثقف العضوي الذي يتسم بتطور الأداء وتحول الأدوات بما يناسب تحولات الزمان والمكان وبالتالي هو الأكثر نشاطا وفاعلية وانغماسا في المجتمعات.

أما الفرنسي جوليان بيندا فيتبنى صياغة المثقف الحقيقي في كتابة “خيانة المثقفين” الذي يعرّف فيه المثقفين الحقيقيين بأنهم أقرب لمثالية الفلاسفة والحكماء، ويعرفّهم سعيد بقوله إنهم “عصبة صغيرة من الملوك الفلاسفة الذين يتحلون بالموهبة الاستثنائية، والحس الأخلاقي الفذ، ويشكلون ضمير البشرية”. فالمثقف الحقيقي لديه يتلخص دوره في الدفاع عن ثوابت الحق والعدل من خلال “فضح الفساد والدفاع عن المستضعفين وتحدي السلطة القائمة”، وما عدا ذلك أشباه مثقفين  تاريخهم ما هو إلا  سلسلة من تاريخ “الخيانات” المتتالية.

غرامشي يهدم نخبوية المثقف (لوحة للفنان سعد يكن)
غرامشي يهدم نخبوية المثقف (لوحة للفنان سعد يكن)

ومن خلال الموازنة بين النموذجين السابقين نجد أن تعريف غرامشي هو الأوقع من تحديد بيندا للمثقف الحقيقي بسبب استحالة وجوده إلا في عالم مثالي، كما أن تعريف غرامشي للمثقف العضوي أثبت تحققه؛ حيث ظهرت مجموعة من الوظائف الاجتماعية التي تؤيد نظرة غرامشي عمّا يعرف بالتخصص، وهو الطرح القريب من تأسيس ميشيل فوكو لمفهوم المثقف المتخصص، الذي يقوم بعدة أدوار من أهمها دور المحلل والناقد لأنظمة الفكر التي أصبحت تشكل بديهيات أو مسلمات وفق تخصصه، والذي تصبح مهمته التغيير أو التحويل من خلال ميدانه المعرفي وذلك بتشخيص الحاضر.

ويعرض إدوارد سعيد في مقدمته لكتاب “صور المثقف” لمهام المثقف بقوله “إن إحدى مهام المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية التي تحدّ كثيرا من الفكر الإنساني والاتصال الفكري”، وتتحدد نظرته عمّا يجب أن يكون عليه بأن “يمتلك قدرة على التصوير والتجسيد والتعبير عن رسالة أو نظرة أو موقف أو فلسفة أمام الجمهور ولصالح هذا الجمهور، إلا أن لهذا الدور قواعد: حيث لا يمكن لعبه إلا مِن طرف مَن يحسن الالتزام العلني بطرح الأسئلة المزعجة، ومواجهة الأرثوذكسية والمذهبيات الجامدة (دون أن ينتجهما)، ومن يستعصى تجنيده في حكومة ما أو مؤسسة كبرى، وكذلك من أصبحت علة وجوده هو أن يمثل كل الأشخاص وكل المشاكل التي تم نسيانها أو رفضها”.

وفي دعوة سعيد للمثقف لتبنّي مواقف ملتزمة، نجده يشير إلى ضرورة تجاوز فكرة الالتزام السياسي وتبنّي مفهوم الالتزام الإنساني؛ بأن يكون المثقف منشغلا بقضايا الإنسان ورافضا كل أشكال الهيمنة والسيطرة. وهنا نشير إلى النموذج الثالث من المثقفين الذين ذكرهم سعيد في معرض حديثه عن صور المثقف –ولو بشكل لمحي – هو مفهوم المثقف الملتزم الذي أسس له جان بول سارتر في كتابه “دفاع عن المثقفين”.

يرى سعيد أن الانتماء إلى ثقافة أو مؤسسة أو منظومة قد يؤثر سلبا على المنتج المعرفي وعلى دور المثقف في مساءلة التراث الثقافي، لأن الانتماء سلطة على الأفراد، ومن هنا يدافع عن المثقف اللامنتمي أو المثقف المستقل البعيد عن السلطة، وما يفرضه الانتماء من تبعات خاصة بضرورة الولاء.

لذلك يحذّر من حدود التخصص الذي يسلم إلى ما يعرف بالاحتراف المهني، ذلك لأن التخصص يقود صاحبه إلى الانحياز والابتعاد عن النزاهة الفكرية والنقدية، ووجد سعيد أن تلك الطبقة تتجسد في النخب الجامعية التي خلقت لنفسها إطارا مرجعيا يتمثل في المعرفة المتخصصة المترفعة عن خوض الشؤون السياسية، مما منح خدمة جليلة للسلطة في استغلال انعزالها، ووظفتها لتوطيد سياساتها وهيمنتها، وهو ما اعتبره سعيد من الأخطار التي تهدد دور المثقف.

إدوارد سعيد يدعو المثقف إلى تبنّي مواقف ملتزمة
إدوارد سعيد يدعو المثقف إلى تبنّي مواقف ملتزمة

ولا يحذّر سعيد من الاختصاص في حد ذاته، لكن من التبعات التي تنشأ من الانغلاق داخل التخصص، أو بعض المشاكل التي تنتج من تلك القيود الحصرية التي يفرضها التخصص، والتي قد تتحدد في مشكلتين رئيستين: المشكلة الأولى أخلاقية في جوهرها وتكمن في ميل المتخصص مع الوقت إلى القناعة التامة بأن المجال المعرفي الذي يبحثه محدد المعالم وأن يعمل بموجب منطق داخلي متماسك، وأن كل ما يمكن القيام به هو الانصياع لهذا المنطق الذهاب معه إلى نهايته. أما المشكلة الثانية فهي معرفية في جوهرها، وتكمن في “العقم” الذي قد ينشأ عن الاختصاص في مجال معين أو موضوع معين من دون الالتفات إلى غيره من الاختصاصات، ومن ثم وضع الحواجز بين اختصاص وآخر.

ولذلك يدافع سعيد عن “المثقف الهاوي” مقابل المثقف الاحترافي، وتتحدد دلالة الهواية في الاعتراف بالمثقف بوصفه فردا مفكرا منشغلا بقضايا العوام من الناس، ثم الانخراط في الحياة والوعي برهاناتها وصعوباتها وتحدياتها، من خلال المساهمة النقدية والقرائية التي تتصل بالقضايا الإنسانية بعيدا عن سلطة التخصص والحرفية المهنية؛ فإن “روح المثقف أو المفكر باعتباره من الهواة، قادرة أن تنفذ إلى شؤون المهنة المعتادة التي يعهدها معظمنا فتحولها إلى شيء أكثر حيوية وأكثر راديكالية، فالمفكر قد لا يكتفي بأن يفعل ما يفترض فيه أن يفعله، بل إنه يسأل عن سبب فعله له، وعمّن يستفد بذلك، وكيف يمكن لذلك العمل أن يرتبط من جديد بمشروع شخصي وبأفكار أصيلة”.

والمثقف الهاوي من هذا المنطلق هو المثقف الثوري والمنفي والمنتج للوعي النقدي؛ لأنه المتحرر من إملاءات السلطة والمتمرد على ثقافة التدجين والرافض للانصياع لإرادة القوى الاجتماعية والسياسية. فيعدّ سعيد التحرر من سلطة التراث القومي من إيجابيات المنفى، لذلك فالمثقف المنفي يستطيع أن يضع ثقافته القومية موضع المساءلة، فـ”هناك ميزة ثابتة لموقف المثقف من زاوية المنفى، وفي الواقع، وهي أنك أقرب إلى أن تبصر الأمور لا من وضعها الراهن فحسب، بل أيضا من حيث تحوّلها إلى ما آلت إليه. أي إنك تنظر إلى الأوضاع باعتبارها مشروطة لا محتومة، أي تنظر إليها باعتبارها نتيجة لسلسلة من الخيارات التاريخية التي اتخذها البشر، وباعتبارها حقائق اجتماعية صاغها أبناء البشر، لا باعتبارها طبيعة قدرها الله لذلك لا يمكن تغييرها أو الرجوع عنها”.

وقدم إدوارد سعيد في كتابه “العالم والنص والناقد” مثالا مهمّا عن إيجابيات المنفى المتمثلة في انبثاق الرؤية النقدية عند دارسي الأدب، وهو كتاب “المحاكاة” لإريخ أورباخ، الذي اعتبره من الكتب المهمة التي أرّخت للأدب الغربي منذ الإغريق وحتى العصر الحديث، وتكمن أهمية الكتاب في الشرط الذي صاحب تأليفه. فانفصال أورباخ عن موطنه وانعدام المكتبات والمصادر المعرفية البحثية مكّنه من النظر إلى الموروث الأدبي الأوروبي بمنظار مختلف، فيحرر المنفى الرؤية النقدية للكاتب ويوفر له مسافة للتأمل حين “ينفصل أولا عن الإرث ومن ثم يتخطاه” لذلك لو كان أورباخ قد حاول “القيام بعمل دراسي كامل وبالطريقة التقليدية، لما كان بمقدوره أن يكتب هذا الكتاب؛ إذ لكانت الثقافة نفسها بمؤسساتها الرسمية والمأذونة، قد منعت إقدام رجل واحد على إنجاز مهمة بهذه الجسارة”.

ولاهتمام سعيد بالقضايا الإنسانية، ولتحديد دور المثقف في قدرته على مواجهة أشكال الهيمنة والاستبداد، نجده يهتم بطرح التساؤلات عمّا يمكن أن يواجه المثقف ويشكل عقبة أمام أداء مهامه الخاصة بمراجعة السلطة ومقاومة هيمنتها وتنفيد مقولاتها وتفكيكها. ويجد سعيد الإجابة عند كل من فرانز فانون الذي طرح منظورا مهما للمثقف ما بعد الكولونيالي، الذي تكمن وظيفته في ابتكار النفوس الجديدة بدل الاستسلام لطرق المقاومة في طرد أشكال الهيمنة المختلفة ، إذ “لا يمكن أن ينحصر هدف المثقف ابن البلد، وفقا لما يقوله فانون، في طرد الشرطي الأبيض وإحلال نظيره له من أبناء البلد، بل يجب أن يتضمن ما يسميه بابتكار نفوس جديدة”.

إلا أنّ التحدي الأكبر الذي يمكن أن يحد من دور المثقف يتضح فيما أسماه سعيد بـ”التفادي” أو التخلي عن الثبات وعدم الالتزام تجاه القضايا الإنسانية المصيرية، وهو في ذلك يشير إلى القضية الفلسطينية التي تخلّى عنها الكثيرون خوفا من قول الحقيقة والإقرار بوجود أقسى حالة من حالات الظلم، ومن ثم تتحيد “العادات الفكرية” التي هي مصدر الفساد لدى المثقف بلا منازع، فلا هناك “ما هو أجدر بالاستهجان ممّا يكتسبه المثقف من عادات فكرية تنزع نحو ما يسمّى التفادي، أي النكوص أو التخلي (الذي يمارسه الكثيرون) عن الثبات في موقفه القائم على المبادئ، على صعوبة ذلك، وهو يعلم علم اليقين أنه الموقف الصائب ولكنه يختار ألا يلتزم به، فهو لا يريد أن يظهر في صورة من اكتسب لونا سياسيا أكثر مما ينبغي له، وهو يحاول ألا يظهر في صورة من يختلف الناس عليه”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.