الجديد والأجد
إن لمتغيرات الحياة وتطوّرها قوانينها الفاعلة والمؤثرة في كينونة الإبداع في هذا الشكل من فنون الأدب أو في ذاك. وكلما طرأت على الحياة ظروف جديدة؛ فإن الإبداع سيتعدد ويتنوع ومعه تتعدد وتتنوع النظريات والمدارس والتيارات.
ولقد ذم أفلاطون الشعر لأنه صادر عن إلهام وعن قوة لا عقلانية لكنه بعد تطور فلسفته لم يعد يذمّه نظراً لما وجده فيه من حدس ورؤيا تعبّر عن الجمال وتتوجه نحو الخير. وما كان للقصيدة العمودية ثم قصيدة التفعيلة والرواية والقصة القصيرة وغيرها أن تكون أجناساً لولا مهيئات توفّرت لها وساهمت فيها ظروف معينة فجعلتها سائدة في أزمان ماضية أو راهنة، متغلبة على حساب أجناس أخرى.
وإذا كان الشعر مرآة تحاكي الذات في ما هو محتمل وقوعه وممكن حدوثه؛ فإن الرواية مرآة تحاكي الواقع في ما هو حاصل وقوعه ومتحقق حدوثه. ولأن التلاقي بين الواقع والذات أمر طبيعي فكذلك التداخل بين الشعر والرواية أمر قائم، لكن ليس بصورة منفلتة بل محددة بإمكانية أن يكون أحد المتداخلين أرسخ قالبا وأقوى قدرة على صهر الجنس الآخر وإذابته في داخل قالبه.
وبذلك لا يعود صحيحا القول إن للقصيدة العمودية زمنها الغابر الذي كانت صالحة له ولم تعد الآن كذلك ممّا يتمسك به دعاة نظرية الأنواع الأدبية المؤمنون بتفسير الأدب تفسيرا فسيولوجيا هيراركيا كما لا يعود منطقيا القول بأن زمننا هو زمن الرواية الذي فيه تهيمن على سائر الأجناس وتتفرد جنسا لا يجاريه الشعر بأجناسه (قصيدة العمود وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر) أو لا تصل إلى منافسته القصة القصيرة بأنواعها كافة، مما يتمسك به دعاة نظرية الأجناس المؤمنون بتفسير الأدب تفسيرا تاريخيا.
ولا خلاف أنّ الذاكرة الجمعية تنقل لنا جينالوجيا تراكمات أسلافنا الثقافية فكيف يمكن نفي تلك التراكمات وادعاء الموت والذواء لما كان قد اُنجز في الماضي بينما هو ممتد حاضرا وسيظل منتقلا مستقبلا؟ ولا فرق في ذلك بين أن يكون جنس مثل الشعر قادرا على تغيير العالم أو بين جنس مثل الرواية قادرا على تعرية المجتمع وكشف غموضه وخطف أنظار متلقيه.
من هنا أجد بطلان دعوى ملاءمة الشعر لزمن دون زمن أو دعوى القول بموت الشعر وحلول الرواية محله، أو ما شاع طرحه منسوبا إلى جابر عصفور بأنه قال: إن الرواية ديوان العرب، وسبقه بعقود العلامة جواد علي الذي فسَّر كون الشعر ديوان العرب بأنه تسجيل من لا تسجيل له ولذلك لجأت إليه الشعوب القديمة حين لم تعرف الكتابة.
وما نراه هو أنّ لا فنّ يُبتدع فيموت؛ إنما هو يتجدد بالانصهار أو الذوبان في ما هو أجدّ منه وأكثر مرونة. ولولا أن الرواية تمتلك الجدة والمرونة لما كانت حاملة بعض تراكمات الملحمة ولما كان الشعر المسرحي حاملا تراكمات الشعر الغنائي والملحمي اللذين سبقاه ولما كانت الحكاية تمهيدا طبيعيا للقصة بمختلف أشكالها التي بدورها كانت تمهيدا طبيعيا للرواية وستكون الرواية بدورها مستقبلا قادرة على التبدل لتترك بعض تراكماتها على جنس سيعبر عليها ويحتويها وهو القصة القصيرة بسبب ما تمتلكه من المرونة التي بها ستغلب غيرها من الأجناس السردية والشعرية أو نوع آخر يرثهما مختزلا أو مطوّرا أفضل خصائصهما.