الجغرافيا ومولد القيم
خصص جيل دولوز فصلا بكامله في كتابه ”ما هي الفلسفة” ليبين إن انتشار الإبداع في مجال الفلسفة والإنتاج الفكري لم يولد بصورة متكافئة جغرافيا عبر كافة بلدان أوروبا. لقد كان الجزء الأوفر من نصيب الفرنسيين والألمان والإنكليز في مقابل جهود محتشمة للإسبان والبرتغاليين. فما علاقة ميلاد المعنى والقيم بجغرافيا المكان؟ لقد سبق للباحث الفرنسي أودون فالييه في كتابه ”ما هو الدين” أن بيّن وبشكل موجز علاقة جغرافيا المكان ببداية الديانات التوحيدية الثلاث، وكيف أن القيم والمعاني العظيمة لا يمكن أن تولد إلا في أماكن بعينها.
إن العامل المشترك بين الديانات التوحيدية الثلاث يتلخص في مكان نزول الوحي وبداية التكليف، إذ كان دائما على القمم والمرتفعات. ففي غار حراء بجبل النور كان بالنسبة إلى الإسلام، وعلى جبل الطور كان بالنسبة إلى اليهودية، وعلى هضبة بالجليل الأعلى كان بالنسبة إلى المسيحية. فالمعاني العظيمة لا تنتجها الغوغاء ولا تنبت في الَأسفل… إن الإنسان كان دائما مطالبا بالصعود والابتعاد عن السفح، ليرى بوضوح ما ينبغي تعلمه والإمساك به وما ينبغي فهمه ومن ثم تركه.
تقول بحوث الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا الاجتماعية أن العديد من الديانات الوثنية كانت تعتمد على الصخور في نحت تماثيل لزعماء وقادة عشائر وكذلك لآلهة، من شعوب الأنكا في البيرو إلى فراعنة مصر القديمة ومدن الإغريق والرومان… صحيح أن البداية مع شعوب ما قبل الكتابة، كانت بأدوات جد بسيطة مثل الريش أو الخشب أو الطين، لكن سرعان ما قامت تلك المجتمعات، باستبدالها في فترات لاحقة بأنواع معينة من الصخور.
في العصور القديمة والوسطى كانت الشعوب الأولى تختار من المواقع الجبلية حصونا ومساكن لها، ربما لأسباب أمنية، ولكن أيضا لأنها مناطق توفر لها إمكانية إنجاز البناء الصلب الذي يقاوم متغيرات المناخ ويبعدها عن أطماع الأعداء والصعاليك. كان الصخر ينحت بشكل مستوي ليستعمل كمادة في تشييد الأسوار والممرات والأبنية وحتى المسارح والحمامات، وهو ما وفّر للباحث الأركيولوجي، اليوم، مادة كافية لقراءة ودراسة تلك الحقبة من تاريخ البشر.
لقد اختارت الكثير من الشعوب من آشوريين/فرس/هنود/إغريق/قرطاجيين/ رومان/ بيزنطيين المناطق الصخرية الجبلية لتشييد حضارات. فكلما ابتعدنا في المسافة عن تلك المناطق الصخرية الباردة وتوغلنا في الصحارى والأقاليم الحارة، كلما كان الإنتاج الحضاري أقل وأضعف.
لقد انصب اختيار الشعوب الأولى على مناطق بعينها لبناء حضارات وتشييد حواضر، وغالبا ما نجد نفس الأقاليم الجغرافية هي التي شهدت قيام العديد من الحضارات على ترابها، في القارة الأوروبية وشمال أفريقيا وبلاد الشام دون غيرها من الأقاليم مثل أفريقيا الوسطى، الصحارى الكبرى أو حتى بعض المناطق في آسيا.
إننا اليوم ومن خلال القراءة التاريخية نجد أنفسنا في مواجهة أسئلة من نوع آخر. ما علاقة اختيار الإنسان للصخور بإنتاج القيم والمعاني؟ هل الجغرافيا هي الصانع للقيم؟
من المعروف أن الطين أو التراب أو حتى الخشب هي مواد سهلة التطويع ولا تتعب كثيرا إذا ما تم الاعتماد عليها، ولكن البشرية نزعت إلى الصخر وهو معروف بصعوبة نحته وتحويله من أحجام ضخمة وثقيلةإ مربعات أو مستطيلات أو تماثيل، حسب الحاجة، وفي غياب العديد من الإمكانات التي يوفرها عصرنا. لا نعتقد أن السبب وراء ذلك الانتقاء هو عامل المناخ أو تفادي خطر الأعداء، بقدر ما نرى في الاختيار رغبة لاشعورية دفينة عند تلك الشعوب لأجل تجسيد معاني عظيمة.
فالصخر يمثل بالنسبة إلى تلك المجتمعات رمزا للاستقامة والتوازن والثبات… عندما ينحت الصخر، فهو ينتج أشكالا هندسية متساوية تعبر عن النظام والترتيب والتماسك والاستمرارية. بينما لو اعتمدنا على غيره من المواد مثل الرمال أو الخشب ستبقى تلك المعاني ناقصة أو منعدمة. لقد حاول البشر تفادي الوقوع في الفوضى والتبعثر والتشتت واللااستقرار. إنها مجتمعات تنشد غايات كبرى رمزت لها بالصخر، الذي –هو أيضا- يحافظ على تاريخها ويحتفظ به للأجيال القادمة. بينما تتميز الشعوب التي لا تعتمد على الصخور، بل على الخيم والترحال أو على الطين والخشب، بتقلب المزاج وعدم الثبات والعجز على تحقيق التماسك الاجتماعي والانغلاق والخوف من الغريب والنكوص والاطمئنان إلى المعتاد.
كثيرة هي الأسئلة التي يصعب إيجاد أجوبة مقنعة لها، لماذا -مثلا- ظهر مفهوم المواطنة ملازما لبناء المدينة الإغريقية ثم الرومانية أو البيزنطية. وهي من بين المجتمعات التي اعتمدت الصخور في تشييد مدنها، ولم تستطع غيرها من الشعوب تبنيه ضمن قيمها الاجتماعية والسياسية مثل الهنود أو الفرس. ولماذا ظلت المجتمعات التي تعتمد الطين والخشب ذات بنية اجتماعية عشائرية ولم ترق إلى مستويات أخرى، بل حافظت على نفس القيم حتى بعد امتزاجها مع شعوب الإمبراطوريات الكبرى، وتغيّر نظامها المعماري والهندسي.
لقد تميزت المجتمعات التي تعتمد الصخور بالابتعاد التدريجي عن نظام القبيلة، من خلال تشييد القصور والمسارح، الحمامات والأسواق، حيث يلتقي الجميع على هضبة واحدة. وبقيت المجتمعات التي تعتمد الطين أو حتى الخشب متفرقة إلى أسر متباعدة المساكن لا تجمعها قيم المواطنة بل نظام القرابة والدم. تميزت الأولى بتأسيس المدينة وتوحيد القيم والعادات وتأسيس أنظمة للزّي والطبخ، مجتمعات متماسكة تعتمد النظام الهرمي، بينما بقيت الثانية منقسمة إلى أجزاء وفروع لأجزاء في كل شيء، همها الأول جمع الثروة وكيفية منع انتقالها إلى الآخر.
قد يعترض البعض ويقول إن المجتمعات العربية في عصرنا تعتمد على الصخر أو غيره من الأدوات الصلبة في بناء المدن، ولكنها وبالرغم من ذلك لا تزال قائمة على نظام العشيرة اجتماعيا وتعتمد قيم القبيلة فكريا. نعم، ليس من الضروري -دائما- أن يعكس الإنجاز الاجتماعي طبيعة الذهنية ويجسد التغييرات الاجتماعية المنتظرة، خصوصا إذا كان غير نابع من صميم تلك المجتمعات وقناعاتها الذاتية. نحن لا نعتمد نظام المنعكس الشرطي في مقاربة الموضوعات.
لا نريد تقديم بحث أنثروبولوجي بقدر ما نريد أن نعالج سؤالا نراه قد أغفل بالرغم من قيمته الاجتماعية والمعرفية. لقد تفطن الفاتحون العرب الأوائل إلى العلاقة بين البنية الاجتماعية وهندسة المدينة عند الإمبراطوريات التي دخلوها منتصرين، فلم يجدوا مانعا من تبني نفس القيم الاجتماعية والفكرية والهندسية. فكانت البداية من بلاد الشام مع المسجد الأموي الذي هو في الأصل كنيسة، ثم تشييد القصور وتنظيم الدولة بالاعتماد على نظام الوزارة والديوان، ثم مع العباسيين من خلال تبني جل أسس الدولة الفارسية، وهو ما جعل المؤرخ يرى في دولة العباسيين دولة فارسية بلسان عربي. لم يمل العرب الفاتحين قيما كثيرة على المجتمعات المغلوبة، بل العكس هو ما وقع، إذ نجدهم عملوا على المزاوجة بين نظام العشيرة الذي ورثوه عن موطنهم الأول بالحجاز وبين البنية الجديدة للمجتمعات التي دخلوها.
يحتكم بناء الدولة في عصرنا إلى معايير عديدة، للأسف هي غير متوفرة عند مجتمعاتنا العربية في بناء المدينة، يجب التفكير في الضروري وفي الترفيهي معا، يجب أن نبني مدنا يستطيع أن يقيم فيها كل الناس مهما اختلفت قناعاتهم ومواقفهم وانتماءاتهم. المدينة ليست ملجأ، ولكنها مكان لإنتاج القيم والمعاني. المدينة ليست مراقد للتفريخ بل هي تجمعات سكانية ليس من الضروري أن توحدهم القناعات الشخصية مثلما يوحدهم الانتماء إلى نفس الوطن والامتثال لنفس النصوص التشريعية.
نبني مساجد ولكن أيضا علينا السماح للأقليات المسيحية ببناء كنائس، نفتح مكتبات لكل القراء وبالتالي لا يعقل أن نمنع بعض العناوين من التداول، أن نبني مدارس يعني أن نفرض التمدرس للجنسين. أن نبني مسارح وقاعات للسينما ومكتبات يفترض منا أن ننهي أسلوب الوصاية على المنتوج المقدم للعرض. المدينة قائمة على التعدد وليست مجموعة خيم لعشيرة ما، فالمحافظة على ذهنية العشيرة ليست عودة إلى الأصول أو تمسكا بقيم السلف الصالح بل هي تخلف ومن أبشع أنواع التخلف.
بناء المدينة -في المنطقة العربية- يحتاج إلى فهم متطلبات العيش في هذا الوسط الجديد، المدينة ليست كانتونات ولا هي مراكز لفرض الرقابة على الحريات الفردية بكل أنواعها… قبل أن نفكر في إنجاز مدن علينا أن نفكر في تهيئة الذهنيات. إن المشكلة الكبرى –عربيا- تكمن في كوننا نفتقد إلى المواطن بالمعايير المعاصرة، وإلى العنصر الصانع للقيم الجديدة. نحن نعاني أزمة عقل لا يريد أن يفكر ولا يريد أن يتحرر من ذهنية القبيلة، لا يجد الراحة إلا في بقاء الحال على ما هي عليه. عقل كسول. عقل لا يسأل ولا يهمه أن يتبدّل. إن الغاية من بناء المدينة هو تأمين أكبر قدر ممكن من الحقوق للأفراد، ولكن، هل هذه الحقوق متوفرة عربيا؟ وفي كل المدن؟ إذن علينا أن لا ننتظر مستقبلا ناجحا ولا نأمل في غد يخرجنا مما نحن فيه من التخلف.
للجغرافيا أثر كبير على العقائد والقيم وإنتاج المفاهيم. هل بسبب جغرافيا المنطقة التي نعيش فيها نحن تعساء؟ هل مقدّر علينا أن نظل على هذه الحال، نرى بعين المعجب ما يصنعه غيرنا؟ من له تصورات بديلة نتمنى أن يفيدنا بها.