الجمال في عين الرائي
يبدو أن ما تنبأ به الناقد البريطاني رونان ماكدونالد من “موت النقد” في كتاب حمل ذات الاسم، صار حقيقة ملموسة، وإن كان إعلانه جاء بناء على تخوفات، بعدما رأى تراجع النقد الأكاديمي وتضاؤل تأثيره، والأهم ضعف صلته بجمهرة القراء، فقد انصرف الأول إلى دراساته الأكاديمية وبحوثه التي تخاطب فئة معينة من المتخصصين، عالمة باللغة الاصطلاحية والمفاهيم والمنهجيات. في حين انزلق الثاني، النقد الصحافي، إلى نوع من المجاملات لأصدقاء الكاتب. واختفى بين الاثنين النقد الذي يقوم بالتمييز بين ما هو يستحق المتابعة وما لا يستحق، وتعريف القرّاء بالأعمال وبجمالياتها، ومقدار إضافتها إلى النوع الأدبي الذي تصنُّف فيه، في ظل حالة من “الإسهال الكتابي” بتعبير محمد مستجاب.
في ظل هذه الفجوة التي تتِّسع يوما بعد يوم؛ لما وفرته وسائل التواصل الحديثة من منصات التعبير الحرّ، وبلا قيود أو سلطات أو مرجعيات، مات الناقد بالمعنى المجازي كما يقول فخري صالح، وحلّ محله القارئ الذي استطاع بما منحته هذه الوسائل من فرصة لأن يضفي قيمة إلى الأعمال الإبداعية التي يقرأها دون الحاجة إلى ناقد متخصّص يرشده ويدلُّه على ما يجب قراءته. وقد أشار ماكدونالد إلى أهمية المدونات والمواقع التي تتيح للقارئ الكتابة عن الكتب والأفلام وغيرها من أعمال، حتى صار موقع أمازون لبيع الكتب على حدِّ قوله بديلا عن الكتابة النقدية المتخصّصة. ومع تأكيد فخري صالح على انتشار الظاهرة إلّا أنّه يتشكّك في إمكانية أنْ تحلّ هذه الكتابات النقدية غير المتخصِّصة محلّ النّقد المتخصّص. ومع تقديري إلى هذا الاحتراز من الناقد إلا أن الواقع يقول غير ذلك. فالمتأمّل إلى ما يقوم به الكُتَّاب والنَّقاد، وقبلهم القارئ العادي على صفحاتهم الشخصية، أي منصات التواصل الاجتماعي، يُدرك أن ثمّة فجوة حقيقية في ما يكتبُ للصحف والمجلات الرسميّة عن هذه الأعمال التي تصدر تباعا، عمّا يكتب على الصفحات الخاصّة هو أشبه بكتابة صادقة مُتحرّرة مِن كلّ زيف، فالكاتب يقف أمام العمل ويتوقف عند إيجابياته قبل سلبياته التي يعرضها بالأدلة، وهذا النوع من الكتابات لم نعد نشاهده في القراءات النقدية أو حتى العروض التي تمتلأ بها صفحات الكتب في الصّحف والدوريات. فهو بكلّ بساطة يقول ما الذي أعجبه في العمل وما الذي لم يعجبه؟ وهو جوهر النقد الحقيقي! على نحو ما أخبرنا ابن رشيد القيرواني بعبارته الموجزة والدّالة “تخليص الجيد من رديئه”.
السؤال الحقيقي: لماذا اختفى النقد الحقيقي القائم على تقييم العمل، بإظهار إيجابياته قبل سلبياته؟ هل ثمّة تخوّف من هذه الكتابات الصريحة؟ أم أنّ الشّلليّة والمصالح التي أفسدت كلّ شيء في الوسط الثَّقافي، هي الأخرى انتقلت أيضا إلى العملية النقدية، وصارت المجاملات هي المهيمنة. هناك بعض النقاد يغالون في التقاط الأعمال الضعيفة ويقومون بمهاجمتها. ففي هذه الكتابة إساءة للناقد قبل إساءة لكاتب العمل نفسه.
القارئ العادي ناقدا
التعويل على القارئ العادي في العملية النقديّة أمر له خطورته، فمثلا مع نهاية عام 2017 نشر أحد المواقع الإلكترونية استطلاعا عن أفضل عمل روائي. وكان نظام التصويت يقوم على مرحلتيْن الأولى تمّ اختيار أكثر من 50 شخصيّة متنوِّعة، ما بين إعلاميين وصحافيين وكتاب ومثقفين، وبعد حصر الأصوات وجدوا أنّ المنافسة قوية ومتقاربة للغاية بين 10 عناوين حصلت على أعلى تصويت خلال الاستطلاع، فقرروا طرح الـ10 كتب دون ترتيب للتصويت النهائي من قبل الجمهور، وكانت المفاجأة أن رواية “وأنا أُحبك يا سليمة” للمخرج شريف سعيد الصادرة عن دار دوّن عام 2017، هي الفائزة بالمركز الأوَّل. كانت نتيجة هذا الاستطلاع مُحرِّضا للكاتب علاء فرغلي بأنْ يقرأَها للنهاية كما ذكر على صفحته الشخصية (فيسبوك)، قائلا “لأكتشف أين موضع الخلل. ذائقتي التي يبدو أنّها توطّنت في قالب مُعين، أم قصور تُعانيه الرواية بالفعل!”. لم يغفل الكتاب الإشادة بالكاتب، فيعترف أن الرواية ‘تنطق بموهبة وخبرة حياتية وثقافية واسعة، للكاتب الذي يجيد صناعة المشاهد السينمائية المتتالية (والاسكتشات) وملء الكادرات بالتفاصيل'” ثمّ يشرع في تحليل العمل الأدبي تحليلا كاملا واضعا كل عنصر من عناصره الرئيسية تحت المجهر، فيبدأ باللغة والتي يصفها بأنّها “جاءت بيضاء مستوية لا تماوجات فيها ولا إيحاءات، وحينما كان يحاول الكاتب أن يُغلِّفَها بالخيال أو الإيحاء كانت تستعصي عليه فتأخذ مِن نصّه ولا تعطيه، واستسلم الكاتب لتعبيرات ومصطلحات لغوية خالية من الجمال” ويشير إلى أن التراكيب لا تحمل أي دلالة فنية أو جمالية، ولا تأتي أقواله من باب التعميم، وإنما يُقدِّم الأدلة على كلِّ جزئية، فيضرب أمثلة على استخدامه العجيب للغة على نحو (الطعام الذي تناولته بنهم تاريخي) (أعقبتها بضحكة تاريخية… الخ) فيتساءل “يعني إيه ضحكة تاريخية؟” وكذلك (اعتقد حسام أنني أصبحت حبيبته رسميا).
ومن الملاحظات الفنية التي يلتقطها الكاتب أن لغة البطلة سليمة والتي تعيش كما يقول “في عمق قرية سودانية نائية في القرن التاسع عشر، لا تختلف بأي حال عن اللغة التي قد تستخدمها فتاة من العصر الحالي تعيش في إمبابة، حتى القيم الحياتية والرؤى وشكل الحياة قد تتطابق”، وعن الشخصيات يقول “كل شخصيات الرواية تتحدّث بنفس اللغة والثقافة وكلها حريصة على النطق بالحكمة والفلسفة في كل صفحة من صفحات الرواية، حتى أنك لن تجد مقطعا خاليا من علامتي التعجب (!!)”، وعن البناء الفني للرواية يشير إلى أنَّ فكرة الانتقال بين الفصول جاءت في غاية الافتعال، لا يترك جزئية أو عنصرا داخل العمل إلّا وَيُقدِّم رؤيته له وكيف تعامل معه المؤلف. لو قارنا هذه التحليل الذي هو أقرب إلى المنهجية، وإن كان مع الأسف لن نجد له أثرا في معظم الكتابات التي تنشرها الصفحات الثقافية على أنها مقالات نقدية، فلو قارنا هذا بما نشرته الصحف عن الرواية لأصابنا العجب، فأحد النقاد يبدأ قراءته هكذا “في مربع صغير حاصر المؤلف قارئه بالأزمة … اشتباك مع لغز يدور في سجنه البطل … يورطك معه حتى يتحرر من عبئه بالعبور إلى ضفة زمنية بعيدة متحررا فيها من حموله”. هكذا اختار الكاتب المصري شريف سعيد أن يُشكل انطلاقة روايته ‘وأنا أحبك يا سليمة’، في الحقيقة هذا المقطع يبدو مدخلا صالحا لأي عمل وليس حكرا على هذه الرواية. لا يكتفي بما سبق بل يبالغ في إسباغ المؤلف بصفات المهارة والحذق في الكتابة حيث يقول “ضمن اختيارات عِدَّة للسرد استعان بها لصياغة مسارات روائية تتقاطع بين نوستالجيا وواقع وتاريخ، يقود أحدهما للآخر”، ويستمرُّ الكاتب في إظهار جماليات الرواية حسبما رآها فيقول “اعتنى الكاتب بوصف بيئة سليمة وموروثها الثقافي قبل أن يلقي بها إلى أعماق شارع المعز القاهري كعاملة في بهو أحد الحمامات الأشبه بـ’الحرملك’ في هذه الأيام، ذلك المكان الخرب الذي خرجت منه بصك عبودية لإحدى الفرنسيات في دراما تنبش في نتوء ملف العبودية مع تسلم محمد علي باشا حكم مصر، وهي الدراما التي تصاعدت حتى التقت السيد أنطوان بريتملي كلوت الذي يستبدل بحبه سيرتها المظلمة بأخرى من نور”. المتأمل في هذه القراءة يكتشف أنها لم تقترب من عناصر العمل وإنما طافت وحوّمت حول العمل فقط، دون أن تختبر عناصره وهل وفِّق الكاتب في تحميلها رؤية الكاتب.
ضارب الطبل تنعى مؤلفها
على نفس هذا المنوال في النقد المتفحص للعمل كبنية متكاملة، قام الكاتب محمد الجيزاوي بالكتابة عن رواية “ضارب الطبل” دار الشروق 2017، للكاتب أشرف الخمايسي، وإن جاء عنوان الجيزاوي لاذعا حيث نعى قلم الخمايسي هكذا “قلم الخمايسي في ذمة الله”، رواية الخمايسي صاحبتها دعاية كبيرة من الخمايسي نفسه، خاصَّة بعدما كان قد أعلن من قبل عن طرح رواية “صوفيا هارون” التي كان ينشر مقتطفات منها على صفحته على موقع فيسبوك، ثم تراجع وأصدر هذه الرواية.
رواية “ضارب الطبل” تقدِّمُ تصوّرا فلسفيا جديدا لصراع الإنسان مع القدر يقوم على طرح غير مألوف، ماذا لو عرف الإنسان موعد وفاته؟ وتبعات ذلك على تفكيره وسلوكه وتعامله مع الآخرين كما كتب الناشر. الجيزاوي بدأ في تحليله بالإيجابيات فأشار إلى أن غلاف الكتاب بديع، وكذلك العنوان جاذب مُحرِّك للخيال، كما يشير إلى إعجابه بالسَّرد الذي جاء في الصفحة 267 وتحديدا الخمسة عشر سطر الأخيرة التي وصف فيها الخمايسي كيف قتل العمراني أفراد أسرته. وبعد عرضه للإيجابيات، يبدأ في سرد مآخذه على الرواية بادئا بالفكرة، ومع قوله إنّ فكرة الرواية التي تدور حول فلسفة الموت، فكرة مُلهمة وجيدة بلا شك، لكن بكلّ بساطة يتهم الخمايسي بسرقتها فيقول “لكن الخمايسي لم تكن لديه الأمانة الكافية ليشير إلي أن الفكرة مقتبسة بشكل كامل من العظيم ساراماغو في روايته ‘انقطاعات الموت'”. الغريب أنه يُلمِّح إلى أن فكرة رواية “منافي الرب” وهي الرواية التي عاد بها الخمايسي إلى ساحة الإبداع من جديد بعد انقطاع دام كثيرا، هي الأخرى مأخوذة من إحدى شخصيات نجيب محفوظ في رواية “الحرافيش” التي كانت تحلم بالخلود، ثمَّ يأخذ بعدها في تحليل عناصر الرواية مبتدئا باللغة، التي يعيب فيها على الخمايسي في اختيارات ألفاظ غير مناسبة كأن يصف الأسمال بأنها غامضة في قوله “كان يرتدي أسمالا غامضة” فيتساءل ما علاقة الغموض بالملابس، وبالمثل قوله “مبرزا لسانه كسبابة وسطى” دون تفرقة واضحة بين أنّ السَّبَابة إصبع وأيضا الوسطى إصبع. وينتقل إلي الحوار، فيرى أن الحوارات جاءت سطحية ساذجة، ويلفت أيضا إلى أنه مع كون الرواية تتكوّن من 390 صفحة فهناك 30 صفحة عبارة عن أسماء حيث يذكر الخمايسي على حدّ قوله اسما ثلاثيا لأبطاله يتكرّر مِن ستِّ إلى سبعِ مرّات مما يعني أن عُشر الرواية أسماء! مدلِّلا على قوله بمقطع من الرواية جاء فيه “قالت زكية أحمد خليل لعائشة أحمد يونس أم شادية مرزوق جاب الله إن طه عبدالعليم سيد، أبوه سموت”.
نفس رواية أشرف الخمايسي “ضارب الطبل“، تناولها الكاتب علاء فرغلي على صفحته، ولكن هذه المرة رابطا بينها وبين رواية أحمد عبدالمنعم “رسائل سبتمبر”، فالروايتان تتناولان موضوعا واحدا عن ماذا لو علم الإنسان بميعاد موته؟ يشير الكاتب بعبارة منمّقة إلى اقتباس رواية “رسائل سبتمبر” من ساراماغو قائلا “جاء منحوتا من رواية ‘انقطاعات الموت’ في قسمها الثاني من خلال رسائل يبعث بها الموت لضحاياه قبل موتهم بأسبوع″، لكن هذا الحذر ينتهي بقوله “حتى ليكاد يكون في أماكن عدة من الرواية مجرد ترجمة رشيقة للنص الأصلي، أو تمصيرا للفكرة الرئيسية وبعض تفريعات” في حين أن الخمايسي بوصفه كاتبا محترفا على حدّ وصفه استطاع أن يبتعد كثيرا عن فكرة ساراماغو، فجعل معرفة تاريخ وفاة الشخص مصاحبة لولادته، لتختلف عن النص الأصلي الذي يعرف فيه الشخص بموته قبل عدة أيّام! لكن هذا الاختلاف “فتح بابا واسعا على الكاتب لم يستطع إغلاقه”.
رواية “رسائل سبتمبر” كان لها حظٌّ أوفر، حيث توقَّف عندها الناقد الكبير الدكتور جابر عصفور، على مدار مقالة عصفور الطويلة في الأهرام لم نرَ صدى لفكرة ساراماغو، بل هو يشيد بالرواية وكأنه من اختراع المؤلف ويصفها بأنها رواية طليعية لن تجد هوى لدى القارئ العادي، وعلى حد قوله “فهي رواية طليعية تنتسب إلى فئة خاصّة من الروايات التى لا تعطي نائلها بسهولة إلى القارئ، وإنما تغرقه فى حيرة صعبة وتشغله بفكّ رموز ومجازات، وتنقله من عوالم كنائية إلى عوالم استعارية؛ على نحو تمتزج فيه الواقعية بالرمزية، والرمزية تتحوّل إلى فانتازيا مجازية لأشكال الحياة التى يرى المؤلف فيها الموت ساريا فى كل مكان كالعدم، وذلك لأسباب تصل بين الفيزيقي والميتافيزيقي أو بين الواقعي والرمزي أو بين التمرد الاجتماعي السياسي والتمرد الميتافيزيقي على سلطة عزرائيل التي تتعدد أشكالها، ابتداء من بعد الوجود إلى التسلط الذي يمارسه حكام هذا الوجود في الوقت نفسه”. لا أظن أنَّ ذائقة الدكتور جابر عصفور لم تستدعِ أحداث رواية ساراماغو، ولكن لماذا لم يشرْ إلى هذا التوحّد في الفكرة، ويثبت أصالتها لساراماغو، وإذا أراد فليشر إلى براعة التناول الجديد لدى أحمد عبدالمنعم، لكن هذا لم يحدث؟ وهو ما يعود بنا إلى السؤال الأول: هل منحت شبكات التواصل الاجتماعي الكاتب الشجاعة على قول رأيه في أيّ نصٍّ أدبيّ مهما كانت قامة كاتبه؟ وهو ما لا تقبل به المقالات النقدية في الصحافة! أمّ أنَّ شرائط الكتابة في الصحف لا تتحمّل مثل هذه الآراء الجريئة مِن الكُتَّاب في الأعمال، وفقا للعلاقات وشبكات الأصدقاء التي تتحكّم في عملية النشر؟ هل معنى هذا أننا فقدنا الثقة في ما يكتب على أنه نقد للأعمال وسنكتفي بما يمكن وصفه بـ”الجمال في عين الرائي“، الذي يصدرُ على منصات التواصل؟ أم أن القارئ صار طرفا أصيلا في العملية الإبداعية ولم يعد المتلقي خارج النص؟