الجولة‭ ‬اللندنية‭ ‬الأخيرة

الثلاثاء 2018/05/01
تصوير‭ :‬همبار‭ ‬نركيزيان

لهذه‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬نشر‭ ‬أكثرها‭ ‬حكاية‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬19‭ ‬أيار‭/‬مايو‭ ‬قبل‭ ‬20‭ ‬عاما،‭ ‬وكان‭ ‬يوما‭ ‬دافئاً‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬صيف،‭ ‬بعد‭ ‬رعونة‭ ‬شتاء‭ ‬قاس‭ ‬وربيع‭ ‬أقبل‭ ‬خجولا‭. ‬كنت‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬نزار‭ ‬بعد‭ ‬قطيعة‭ ‬من‭ ‬جانبه‭ ‬استمرت‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬مقال‭ ‬متهور‭ ‬لي‭ ‬حمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬شاعر‭ ‬يقلده‭ ‬المقلدون‭ ‬وهو‭ ‬لنفسه‭ ‬مقلد‮»‬‭. ‬التقينا‭ ‬في‭ ‬بيته،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬عائلته،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬سيدة‭ ‬لطيفة‭ ‬تخدمه،‭ ‬قدمت‭ ‬لنا‭ ‬قهوة‭ ‬وقدم‭ ‬هو‭ ‬قطعاً‭ ‬من‭ ‬البسكويت‭. ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬شقته‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الثاني‭ ‬أو‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬البناء‭ ‬في‭ ‬سلون‭ ‬ستريت،‭ ‬كان‭ ‬دمشقياً،‭ ‬فقد‭ ‬طبع‭ ‬الشاعر‭ ‬بيته‭ ‬اللندني‭ ‬بأشيائه‭ ‬الدمشقية،‭ ‬حتى‭ ‬لكأنه‭ ‬كان‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬اسمها‭ ‬دمشق‭. ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فلطالما‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬الأزلية‭ ‬مقيمة‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬كما‭ ‬تقيم‭ ‬الروح‭ ‬في‭ ‬الجسد،‭ ‬فكانت‭ ‬أشعاره‭ ‬تتنفس‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الرئة‭. ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬لفتني‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬غرفة‭ ‬الاستقبال‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬السفرطاس‮»‬‭ ‬النحاسي‭ ‬الذي‭ ‬اعتاد‭ ‬الدمشقيون‭ ‬وضع‭ ‬الطعام‭ ‬في‭ ‬طبقاته‭. ‬سألته‭. ‬وقال‭ ‬إنه‭ ‬يحتفظ‭ ‬به‭ ‬منذ‭ ‬طفولته،‭ ‬ويذكره‭ ‬بلمسة‭ ‬أمه‭.‬

قبل‭ ‬هذه‭ ‬الزيارة‭ ‬بأيام‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬التقيت‭ ‬بنزار‭ ‬مصادفة‭ ‬عند‭ ‬شارة‭ ‬المرور‭ ‬في‭ ‬جوار‭ ‬بيته،‭ ‬وكان‭ ‬يوماً‭ ‬ممطراً‭ ‬بوغتت‭ ‬بوصفي‭ ‬مذنباً،‭ ‬وطالعني‭ ‬هو‭ ‬بابتسامة‭ ‬مرحبة،‭ ‬سألني‭ ‬عن‭ ‬أحوالي،‭ ‬بدا‭ ‬هادئاً‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬لذاك‭ ‬النزق‭ ‬الذي‭ ‬أحياناً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يبرق‭ ‬في‭ ‬شخصه‭ ‬الهادىء‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬كلمة‭ ‬لوم‭ ‬أو‭ ‬عتاب‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬المصادفة‭ ‬الجميلة‭ ‬دعاني‭ ‬لزيارته‭. ‬فنجان‭ ‬قهوة‭. ‬سعدت‭ ‬بالفكرة‭. ‬متى؟‭ ‬الأحد‭. ‬عظيم‭. ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الأحد‭ ‬كان‭ ‬لقاء‭ ‬تحدث‭ ‬فيه‭ ‬نزار‭ ‬عن‭ ‬أوقاته‭ ‬في‭ ‬المنفى‭ ‬اللندني،‭ ‬عن‭ ‬حنينه‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬أبيه،‭ ‬عن‭ ‬قراءاته،‭ ‬عن‭ ‬الخيبات‭ ‬والمرارات‭ ‬العربية،‭ ‬وعن‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬تطارده‭ ‬إلى‭ ‬سرير‭ ‬نومه،‭ ‬فلا‭ ‬نعود‭ ‬نعرف‭ ‬من‭ ‬منهما‭ ‬ينام‭ ‬ومن‭ ‬منهما‭ ‬يحرس‭ ‬الآخر‭. ‬سألته‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أجري‭ ‬حوارا‭ ‬مطولا‭ ‬معه،‭ ‬فوافق‭ ‬على‭ ‬الفور،‭ ‬‮«‬أحب‭ ‬أسئلتك‭ ‬المشاكسة‮»‬‭ ‬قال‭. ‬وكنت‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬أجريت‭ ‬حوارا‭ ‬معه‭ ‬نشر‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الحوادث‮»‬‭. ‬‮«‬لن‭ ‬أكون‭ ‬مشاكساً،‭ ‬هذه‭ ‬المرة‮»‬‭. ‬ابتسم‭ ‬بطفولية‭. ‬واتفقنا‭ ‬أن‭ ‬نقوم‭ ‬بجولة‭ ‬نهارية‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬نلتقط‭ ‬خلالها‭ ‬بعض‭ ‬الصور‭. ‬حددنا‭ ‬الموعد‭ ‬وكان‭ ‬يوم‭ ‬اثنين‭. ‬

الشمس‭ ‬خفيفة‭ ‬والهواء‭ ‬اللطيف‭ ‬يهب‭ ‬على‭ ‬الضحى،‭ ‬كان‭ ‬همبار‭ ‬نركزيان،‭ ‬مصور‭ ‬صحيفة‭ ‬‮«‬النهار‮»‬‭ ‬البيروتية‭ ‬في‭ ‬انتظارنا‭ ‬على‭ ‬الناصية‭. ‬

من‭ ‬العاشرة‭ ‬صباحا‭ ‬وحتى‭ ‬الثالثة‭ ‬بعد‭ ‬الظهر،‭ ‬خمس‭ ‬ساعات،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬حديقة‭ ‬الهايدبارك‭ ‬التي‭ ‬عبرناها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬بيته‭ ‬المطل‭ ‬عليها،‭ ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬تمشينا‭ ‬بين‭ ‬صفين‭ ‬من‭ ‬الأشجار،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬بوابتها‭ ‬المشرفة‭ ‬على‭ ‬شارع‭ ‬بارك‭ ‬لين،‭ ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬شارع‭ ‬البيكاديلي‭ ‬وساحته،‭ ‬من‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬الطرف‭ ‬الأغر،‭ ‬حيث‭ ‬تنهض‭ ‬بعض‭ ‬أبرز‭ ‬رموز‭ ‬الامبراطورية،‭ ‬وتطل‭ ‬على‭ ‬بوابة‭ ‬فارهة‭ ‬تنتهي‭ ‬إلى‭ ‬قصر‭ ‬باكنغهام‭. ‬السياح‭ ‬هم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬يرتاد‭ ‬هذه‭ ‬الأماكن‭. ‬ومن‭ ‬هناك،‭ ‬من‭ ‬ساحة‭ ‬الطرف‭ ‬الاغر‭ ‬بأسودها‭ ‬المهيبة‭ ‬يهبطون‭ ‬إلى‭ ‬التيمز‭. ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬كان‭ ‬نزار‭ ‬يسترجع‭ ‬بعض‭ ‬الذكريات،‭ ‬ويبدي‭ ‬رأيه‭ ‬في‭ ‬مسائل‭ ‬الشعر‭ ‬والحياة‭.‬

انتبهت‭ ‬إلى‭ ‬العكاز‭ ‬الذي‭ ‬راح‭ ‬يتكىء‭ ‬عليه،‭ ‬شعر‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الحرج‭ ‬عندما‭ ‬طلبت‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يناولني‭ ‬إياه،‭ ‬لم‭ ‬أشأ‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬نزار‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬وفي‭ ‬يده‭ ‬هذه‭ ‬العصا،‭ ‬فلطالما‭ ‬كانت‭ ‬إطلالته‭ ‬الأنيقة‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالصحة‭ ‬والقوة‭ ‬والوسامة‭. ‬لكنه،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬صحيح‭ ‬الجسم،‭ ‬وقد‭ ‬بدأت‭ ‬مراجعاته‭ ‬للطبيب‭ ‬تتكرر،‭ ‬وخف‭ ‬سمعه‭. ‬إنها‭ ‬الشيخوخة،‭ ‬وما‭ ‬أظن‭ ‬نزاراً‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬الاعتراف‭ ‬بهذا‭ ‬الزائر‭ ‬ثقيل‭ ‬الوطأة‭.‬

عبرنا‭ ‬جسر‭ ‬ويستمنسر،‭ ‬إلى‭ ‬الساوث‭ ‬بانك،‭ ‬وفي‭ ‬قاعة‭ ‬حملت‭ ‬اسم‭ ‬اليزابيث‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬النهر،‭ ‬هناك‭ ‬تناولنا‭ ‬شراباً‭. ‬بدا‭ ‬نزار‭ ‬حيوياً،‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬المرح‭ ‬في‭ ‬نبرته،‭ ‬وقد‭ ‬انطلق‭ ‬في‭ ‬الحديث،‭ ‬لكن‭ ‬تعبيرات‭ ‬المرح‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتخفي‭ ‬خيط‭ ‬الحزن‭ ‬في‭ ‬صوته‭. ‬ثلاث‭ ‬ضربات‭ ‬قاسية‭ ‬تلقاها‭ ‬نزار‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬تكفي‭ ‬لتجعل‭ ‬الذاكرة‭ ‬نهباً‭ ‬للألم؛‭ ‬انتحار‭ ‬شقيقته‭ ‬وصال،‭ ‬رحيل‭ ‬ابنه‭ ‬توفيق‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬الشباب،‭ ‬مصرع‭ ‬زوجته‭ ‬بلقيس‭ ‬في‭ ‬تفجير‭ ‬إيراني‭ ‬للسفارة‭ ‬العراقية‭ ‬ببيروت‭. ‬بدت‭ ‬لي‭ ‬الجولة‭ ‬معه‭ ‬أثمن‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬اشغلها‭ ‬باسئلة‭ ‬أو‭ ‬تعليقات،‭ ‬أللهم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬تحريضه‭ ‬على‭ ‬الكلام‭.‬

انتهت‭ ‬الجولة،‭ ‬ولم‭ ‬ينته‭ ‬الكلام‭. ‬سوف‭ ‬يستكمل‭ ‬نزار،‭ ‬بخطه‭ ‬الجميل،‭ ‬ما‭ ‬بدأه‭ ‬بصوته،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬سيكون‭ ‬الحوار‭ ‬قد‭ ‬تم‭. ‬بعد‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الجولة‭ ‬اللندنية‭ ‬البديعة‭ ‬سأتلقى‭ ‬من‭ ‬الجزائر،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬يومها‭ ‬مسرحاً‭ ‬للقتل،‭ ‬خبراً‭ ‬بالراديو‭: ‬اليوم‭ ‬رحل‭ ‬عن‭ ‬عالمنا‭ ‬شاعر‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬نزار‭ ‬قباني.


في ساحة الطرف الأغر: ظهيرة يوم مشمس


في الهايدبارك جهة حي نايتس بريدج: يخاطب طفلة صينية


عند الضفة الجنوبية من نهر التيمز ومن ورائه مجلس العموم


في حديقة الهايدبارك: استراحة المتأمل

نزار في جوار أسد الامبراطورية البريطانية في ميدان الطرف الأغر

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.