الحاضر الرؤيوي
إن القصص القصيرة هي بمثابة الفكّة في خزنة كنوز فنّ السرد، ولذا فإنّها تتعرّض للتجاهل مقارنة بالروايات المتوافرة بكثرة، والتي هي عملة مبالغ في تقديرها وغالباً ما يتبيّن أنها زائفة. ففي أفضل الأحوال، مثلما نجد عند بورخيس وراي برادبوري وإدغار ألن بو، تُسكّ القصة القصيرة من معدن ثمين، ويكون لها ما للذهب من لمعان يظلّ متوهّجاً في محفظة مخيّلتنا العميقة.
لطالما احتلّت القصص القصيرة مكانة مهمّة في تجربتي. فأنا أحبّ صفة الاختزال فيها، وقدرتها على تكثيف الاهتمام بموضوع بعينه. كما أنها طريقة مفيدة لتجريب الأفكار التي تتطوّر لاحقاً إلى روايات. فجميع رواياتي تقريباً وجدت بذورها الأولى في القصص القصيرة، وقرّاء “العالم الكريستالي” و”اصطدام” و”إمبراطورية الشمس” سيجدون بذورها الأولى في مكان ما بين القصص التي يجمعها هذا الكتاب بين دفّتيه.
حين بدأت في الكتابة، قبل خمسين عاماً، كانت القصص القصيرة تتمتّع بشعبيّة كاسحة، حتى إنّ بعض الصحف دأب على نشر قصة قصيرة جديدة كلّ يوم. لكنني أعتقد أن الناس في أيامنا هذه، فقدوا للأسف الحماسة لقراءة القصص القصيرة، وهذا ربما يكون من نتائج المسلسلات الفضفاضة والمطوّلة التي تعرضها شاشات التلفزة. ولطالما اعتبر الكتاب الشباب، بمن فيهم أنا، أن رواياتهم الأولى هي نوع من اختبار الفحولة، إلا أنّ الكثير من الروايات الذي يُنشر هذه الأيّام، كان من الأفضل لو أعيدت كتابته كقصص قصيرة. فمن المثير للاهتمام، أن هناك الكثير من القصص التي تتمتّع بصفة الكمال، إلا أنه ليس من رواية تحوز هذه الصفة.
ما زالت القصص القصيرة حيّة، لاسيما في ميدان الخيال العلميّ، الذي هو الأقرب إلى القصص الفولكلورية والأمثولات. والكثير من القصص في هذا الكتاب، نشر للمرّة الأولى في مجلات الخيال العلمي، وإن تذمّر القرّاء علانية في ذلك الحين، من أنها لا تمتّ بأيّ صلة لأدب الخيال العلمي.
لكنني كنت منشغلاً بالمستقبل الحقيقي الذي أراه يدنو، وأقلّ اهتماماً بالمستقبل المبتدَع الذي يؤثره أدب الخيال العلمي. بيد أنه لا حاجة إلى القول إنّ المستقبل منطقة محفوفة بالمخاطر، فهي مليئة بالألغام وتنزع إلى أن تعضّك في عقبيك كلما مضيت قدماً فيها. وقد قال لي صحافي أخيراً إنّ الكمبيوترات التي تؤلف الشعر في “فرميليون ساندز” تعمل بالصمّامات، مبدياً استغرابه من أنّ أولئك الناس اللامعين الذين يعيشون في المستقبل ليست لديهم كمبيوترات أو أجهزة الاستدعاء الهاتفي؟
لا يسعني الجواب إلا بالقول إن أحداث القصص في “فرميليون ساندز” لا تقع في نطاق المستقبل، بل في نوع من الحاضر الرؤيوي، وهو وصف يناسب القصص المجموعة ههنا، مثلما يناسب كلّ شيء آخر كتبته تقريباً. لكنْ ما أجمل وجود كمبيوتر يعمل على البخار وتلفزيون يعمل بطاقة الرياح. إنها لفكرة جيدة لقصة قصيرة.
2001
عن المؤلف
ولد جايمس جراهام بالارد في 1930 في شانغهاي، الصين، حيث كان والده رجل أعمال هناك. بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربور، اعتقل بالارد وعائلته في معسكر اعتقال للمدنيين. عادت العائلة إلى إنكلترا في 1946. وبعد أن أمضى الكاتب عامين في جامعة كامبريدج، حيث درس الطب، عمل كاتب إعلانات وحمالاً في سوق كوفنت غاردن قبل أن يسافر إلى كندا مع القوات الجوية الملكية. بدأ بكتابة القصص القصيرة في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي خلال عمله في مجلة خيال علمي. روايته البارزة الأولى “العالم الغارق” نشرت في 1962، وتتضمن أعماله المعروفة “العالم الكريستالي” و”معرض الفظاعات”، و”اصطدام” و”الأبراج” و”شركة الأحلام اللامحدودة” و”لطف النساء” (وهي الجزء الثاني من “إمبراطورية الشمس”) و”ليالي الكوكايين” و”سوبر كان” و”أهل الألفية” و”وصول الرب”. مذكراته “معجزات الحياة”، نشرت في العام 2008. توفي بالارد في 2009.
عن المترجم
ولد سامر أبوهواش في صيدا، لبنان عام 1972. درس الإعلام في بيروت، وعمل في عدة صحف في العاصمة اللبنانية حتى العام 2004، حيث انتقل إلى أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة. له في الشعر 12 ديواناً من بينها “تحية الرجل المحترم” و”شجرة على السطح” و”سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر” و”تخيط ثوباً لتذكر” و”أطلال”. كما نشرت له روايتان هما “عيد العشاق” و”السعادة”. ترجم العديد من الدواوين الشعرية والروايات وقصص الأطفال، من بينها “على الطريق” لجاك كرواك، “الأعمال القصصية الكاملة” لوليم فوكنر، “شجرة الدخان” لدنيس جونسون، “البيت” لمارلين روبنسون، “بوذا الضواحي” لحنيف قريشي. دأب منذ العام 1997 على ترجمة الشعر الأميركي، ونشر حتى الآن عشرين ديواناً لبعض أبرز الشعراء الأميركيين المعاصرين.