الحداثة والفلسفة والتحديث المضاد
تؤكد الرؤية الحديثة على أن تعريف الأفراد بوصفهم من الذوات المستقلة لا يتحقق إلا عندما تدرك كل ذات أنها حرة في اتخاذ القرارات والأفعال. وتنظر إلى التحديث من خلال التصنيع والتوسع الحضري والعلاقات التعاقدية في السوق بوصفها الوسيلة التي يسمح بها المجتمع لكل مواطن أن يصبح ذاتاً مستقلة ًوقادرة على تعريف نفسها. استيقظت صحوة الذات، فعليًا في هذه المرحلة المعاصرة وتعمقت خلال الأزمات الاقتصادية والنمو الاقتصادي الديناميكي بدرجة ما. ومع ذلك، فإن السلطات السياسية الاستبدادية في بعض مناطق العالم متعاونة مع التكنوقراطية وتعيق ظهور الذاتية الناضجة. هو ذا ما يمكن أن يسمى ظاهرة التحديث المضاد. قد يجد التدرب على المواطنة من خلال الحوار الفلسفي طرقًا لحل هذا المأزق بإعادة تصور أهداف الحداثة ووسائلها من حيث تمكين الإمكانيات الكامنة في الذاتية.
تدور الحوارات الفلسفية التي تؤطر عالم اليوم متعدد الثقافات عادة حول مقارنات بين التقاليد المتنوعة لوجهات نظر عالمية. وتدرس مقاربات المقارنة التقاليد الفلسفية المختلفة من حيث قابليتها على الاتساق أو الانسجام أو عدم قابليتها على التأثر. هناك رأيان متعارضان في هذه المقاربات. يقول أحدهما إنه لا يمكن إجراء مقارنة ذات مغزى وقيمة بين الاختلافات لأنه لا يوجد أساس للمقارنة لتبدأ منه. بينما يقول الآخر بأن هناك جوهرا واحدا، وأنه يمكن تحديد هذا الجوهر في أي تقليد ثقافي، بغض النظر عن الثقافة.
تفترض هذه المقالة أنه على الرغم من الاختلافات الظاهرة بين الأفكار وتقاليدها المتنوعة إلا أنها تتعامل دائمًا مع طبيعة الواقع وأساليب المعرفة وكيف يجب أن يعيش الناس معًا ويمكن العثور على قدر كبير من القواسم المشتركة وكذلك التقارب الاختياري بينهم في كثير من النواحي. علاوة على ذلك، تبدو المجتمعات الصناعية والمتقدمة اليوم وكأنها تتخلى عن وجهات نظرها الثقافية التقليدية ورؤيتها للعالم (worldviews) أو وجهات نظرها عن العالمية، أو تغيًر جوانب معينة منها. والنتيجة هي تقارب وجهات نظر العالمية بين مختلف الشعوب، لا سيما فيما يتعلق بالكيفية التي يجب أن يعيش بها البشر الذين يتشاركون معًا في البيئة العالمية نفسها.
إن شرحًا اجتماعيًا تاريخيًا شاملاً، وقد أضيف، تفسيريًا، وهرمينوطيقياً لهذا التقارب قد تم التعبير عنه في وثيقة “تحالف الحضارات” التي أصدرتها الأمم المتحدة والتي تؤكد أن “الحضارات والثقافات تعبر عن ثروة للبشرية وتراثها الكبير؛ وطبيعتها أن تتداخل وتتفاعل وتتطور فيما بينها. تشترك جميع الحضارات في التاريخ في علاقة الاقتراض المتبادل وكذلك التكيًف واستيعاب أفكار وعادات بعضها البعض. تتطور الثقافات والحضارات من خلال التفاعل مع الآخرين، وتتحول وتتبدل العادات المحلية والمعارف والأفكار خلال عمليات الانتقال من ثقافة إلى أخرى في جميع أنحاء العالم. تتشكل الحكايات التي تلعبها الحياة الفردية والجماعية في كل ثقافة من خلال تفاعلات اجتماعية وتجريبية معقدة داخل ديناميات التاريخ والثقافات والهويات والعولمة والروح الجماعية. لا يمكن لأحد من هؤلاء وحده أن يدّعي أنه القوة المثالية الرئيسية لمصير البشرية. أو يمكن لأيّ منهم أن يعيش دون الآخرين؛ أو يرسم ويحدد تعقيد التفاعلات المرتبطة بالتطور الديناميكي والمستمر لأنفسنا وثقافاتها عبر الزمان والمكان بدقة”.
كل ما يمكن قوله بدرجة معقولة من اليقين هو أن التغيير المجتمعي، سواء كان دقيقًا متقناً أو صارماً صارخًا، معترفًا به أو غير معترف به هو ثابت ومتعدد بطبيعته. حتى هيجل، الذي أعطانا مفهومنا الحالي عن التاريخية، أكد أن معاني التغيير لا يمكن فهمها أو بناؤها إلا في نهاية حقبة زمنية، وأصرّ على أن تعقيدات التغيير لا تتوقف أبداً.
يمكن أن يكون أفضل مثال على تعقيد عملية التغيير هي المجتمعات الصناعية الحديثة وهي منطقة أو دول شرق آسيا، التي نريد أن نأخذها مثلا هنا، التي طالما اعتبرت منطقة للتقاليد الخالدة، والتي لا تتغير، وتوصف الآن، بأنها منطقة “الأسواق الناشئة” في الاقتصاد العالمي. لقد أحرزت تقدمًا سريعًا في إنجاز التجديدات العلمية والتكنولوجية في الإنتاج، وبالتالي خلق وفرة مادية وتحسين نوعية الحياة لأعداد أكبر في مجتمعاتهم. لقد أصبحت عوالم الحياة اليومية مع تطور هياكلها الاقتصادية بشكل متزايد، في المناطق الحضرية كما بكين وسيول وبانكوك ومانيلا وكوالا لامبور وجاكارتا أكثر انغماسًا في الثقافة التكنولوجية العلمية بحيث من المستحيل الآن على مواطني هذه العواصم الكبرى ممارسة الحياة اليومية دون التكنولوجيا.
لقد أصبحت التنمية والنمو الاقتصادي والعلوم والتكنولوجيا، بالنسبة إلى الأسواق الناشئة، ملاحق حيوية لبعضها البعض. فأضحى الشرق والغرب والشمال والجنوب، ومع تقدم وانتشار العلم والتقنية ليشمل جميع أنحاء العالم، يعمل بشكل متزايد في نفس مجال العقلانية، وبالتالي لم يعد بالإمكان ادعاء مفاهيم الواقع والموضوعية والعقلانية كخاصية للحضارة الغربية فقط. لقد تم دمج كل من التجريبية والعقلانية، التي كانت تعتبر يومًا ما المرحلة الأساسية التنموية للتاريخ الفكري الأنجلو-أوروبي، بسلاسة في تاريخ الفلسفة العالمية.
لا يوجد أي شك على الإطلاق في أن تراث هاتين المدرستين للفلسفة الحديثة يتردد صداها عميقا في العصر الحديث للمجتمعات الصناعية الجديدة في شرق آسيا وكذلك في أميركا اللاتينية، تمامًا كما كان له صدى عميق في المجتمعات الأنجلو-أوربية. في الواقع، عندما أتحدث عن روح العصر، أو روح الفكرة الكبرى المهيمنة في سياق حداثة اليوم، أجد نفسي أفكر في المصطلح بقدر ما استعمله هيجل، كشيء دائم وقوي، خارق للطبيعة تقريباً، يوجّه الجنس البشري. فبالنسبة إلى هيجل، إن روح أو مزاج فترة معينة من التاريخ كما هو مبين في أفكار ومعتقدات العصر قد تم تصوره ثم تجلى في الحياة المادية للشعب. ولأن كل فكرة لها فكرة معارضة وينشأ الصراع بشكل أو بآخر حتى يتم حل الصراع، ويتم نقض هذا الحل أو الطعن فيه دائما وتستمر الدورة الجدلية. اعتبر هيجل أن كل تصميم هو توليفة للروح عمومًا، يوفر توسيعًا لمعناها، حتى يمكن إدراكه مرة أخرى بنقاء رائع وشامل. الفكرة نفسها، بكل تداعياتها، أطلقَ عليها أحيانًا العقل، وأحيانًا الحرية، وأحيانًا، بكل بساطة، الفكرة.
الحرية هي فكرة قوية بشكل رائع. لكن منطق هيجل يدفعنا إلى إدراك أن العديد من الأفكار لها التوجيه نفسه والإرشاد لنا. تنتمي جميع الأفكار، في تناقضها أو أنسجامها، إلى الحياة المجتمعية؛ ويتم التعبيرعنها أحيانًا وتضطهد أحيانا أخرى؛ تتعدد بتنوع السياقات والعقلانيات واختلاف التقاليد والعادات. ونظرًا لأن مفاهيم مثل الحرية ذات ميزة عالمية، فهي تتخطى الحدود وتتشابك فيها ثقافتان أو أكثر، فيكون قبول المواقف أو العادات أو أنماط التفكير لدى كل منهما تجاه الآخر هو فتح طبيعي أو توسيع لعناصر مفاهيمية موجودة في كل منهما أساساً أو على الأقل توجد إرهاصاتها.
توسع عملية الاستلام في حالة الفرد أفق عالم حياته، وأيضا سواء كانت المشاركة في العملية جماعية أو فردية، فهي تحدث “إزاحة” لما هو مستقر في البيئة الثقافية التي استلمت المفاهيم الجديدة. وطبقاً لـلرؤية أو الأيديولوجية التي تقوم على تضامن وتنوع المواطنين العالميين وإنشاء قوانين تتجاوز الحدود الوطنية بهدف الرد على الجوانب اللاإنسانية للعولمة تتفاعل الأفكار والمعتقدات والقيم والعادات في عوالم مختلفة ويصيبها التحول من خلال التفاعل، وتتغير، وهي بهذا تتجدد مرة أخرى في عوالمها أو بيئاتها الأصلية، التي تتغير هي بدورها أيضًا. فما كان غريباً وغير مألوف يتحول إلى شيء مألوف وحميم. وهذا يعني أنه يتم تكييفها أو استيعابها من خلال وساطة عناصر عالمية مشتركة موجودة في عالمين أو أكثر، فتتغير الثقافات والأفراد وتصبح أكثر تركيباً وقدرة على التعبير عن إمكانات البشرية المتعددة الجوانب. تشترك المجتمعات التقليدية والحديثة في عناصر ومخططات توجيهية عديدة. فعلى سبيل المثال، يربط العمل في كل مجتمع زراعي أو صناعي البشر بالطبيعة. بالإضافة الى استعمال الأدوات سواء كان العمل منزلي أو في معامل التصنيع الحديثة.
التناقضات الثقافية
إن العمل تفاعلي في جوهره حتى وإن بدا أنه يتم تنفيذه بمعزل عن الآخر. إنه مشترك أساسا، واجتماعيته واضحة في تقسيم العمل، وفي تجارة مُنتج العمل تداوله. يخلق العمل مع الآخرين شعورا بالتضامن والغايات المجتمعية. ينبع من هذا التضامن الجماعي من شرائع الأخلاق للعيش معا في سلام. ليس من المستحيل، كما أشار هيجل في كتابه “ظاهريات العقل”، أن أفكاراً، مثل الاعتراف المتبادل، والعدالة الاجتماعية، والحقوق المدنية، مستمدة من إدراكنا للطابع التعاوني الجماعي للعمل الإنساني. ورغم أنه غالباً ما يشدد مسؤولو مشروع العولمة على قوة التعاون في العمل من أجل السلام والتنمية الناجحة إلا أنه تم في بعض الأوقات والظروف والمرة تلو الآخر إنكار الطبيعة الاجتماعية للعمل، فكان لهذا الإنكار تداعياته على التعايش السلمي في سياق هذه العولمة الاقتصادية، تمامًا كما كان ذلك في عهود بناء الإمبراطورية وتوسعها واستعمارها.
يتناقض هذا الإنكار، بطبيعة الحال، مع أهداف التحول الديمقراطي، التي تدعي جميع الدول المشاركة في مشروع العولمة، أنها تتبناها. إن من أكثر الأمثلة الصارخة لهذا الإنكار ممارسة نقل الصناعات إلى مواقع تكون فيها الضمانات الخاصة بالعمال والبيئة ضعيفة أو غير موجودة، مما يجعل الوعد بالحرية من خلال التنمية يتلاشى. بدأت الدول المتقدمة في الترويج لهذه الممارسة داخل حدودها في سبعينات القرن العشرين، لكنها منذ بضع عقود قامت بنقل الصناعات إلى البلدان النامية التي غالبًا ما تكون في منافسة فيما يتعلق بأقل الأجور وتكاليف السلامة الأقل. ما تلا ذلك، بالطبع، هو تكاثر الجيوب من العمال الفقراء والعاطلين عن العمل في الدول المتقدمة وضمان استمرار الفقر والفقراء في الدول النامية وتركيز شديد للثروة في أعداد صغيرة من المواطنين في كلا النوعين من الدول.
لم تكن الدول الصناعية الجديدة في شرق آسيا، والتي سنأخذها مثالاً في هذا المقال، قد فُرض عليها التحديث بحركة مد التاريخ. بل اختارت التنمية الاقتصادية حتى تتمكن من التمتع بالكرامة الإنسانية والحرية الفردية والعدالة الاجتماعية نفسها التي تصورت أن مجتمعات الدولة المتقدمة تمتعت بها في سياق التحديث. تبنت معظم دول العالم اليوم، ومن بينها الدول العربية، خطة التحديث التي طرحتها الليبرالية الجديدة التي عززت نظام البلوتوقراطية على حساب النظام الديمقراطي. ولكن كيف حدث هذا؟ كيف يمكن للدول التي يُفترض أنها اختارت الحداثة أن تنتهي الى البلوتوقراطية وليس الديمقراطية؟
شدد كل من كانط و هيجل على الدور المحفز للمواطنين لإيقاظ أنفسهم كأفراد في جماعة من أجل تحقيق الحداثة في مجتمعاتهم. يعد وجود درجة عالية من الحراك الاجتماعي عاملاً حافزًا لتطوير الوعي الفردي في طبقة متوسطة من طبيعتها تكون آخذة في التوسع. يحمل التحديث من خلال التصنيع وعدًا من قِبل المجتمعات الصناعية الجديدة بالاعتراف بمبدأ العقلانية في العلاقات التعاقدية في اقتصاد السوق، وبالتالي السماح لكل شخص بالوقوف على مؤهلاته ومزاياه الخاصة، متخلياً من الروابط الطبقية التقليدية. عندما ينظر إلى التحديث في ضوء ذلك، يصبح من الضروري لنجاحه أن يصبح كل مواطن مدركًا لذاته باعتباره فردًا له حق العيش كما يرغب. بالنسبة إلى شعوب شرق آسيا، يمكن القول إن عملية الاستيقاظ الذاتي هذه بدأت بالفعل منذ عقود وتتعمق في نمو ديناميكي، والأمل أن تستيقظ إرادة المستقبل للشعوب العربية.
هناك الكثير من العوائق الكبيرة التي تنتظر على الطريق المؤدي إلى الفردية في مجتمعات الدول العربية. على الرغم من التقدم المطرد للعلم والتكنولوجيا وفاعليًة العقلانية الأداتية والترشيد للإنتاجية في العالم إلا أنه ما تزال التغييرات في طرق التفكير التقليدية والإدراك تسير بخطى بطيئة في المجتمعات العربية، وهناك فجوة واسعة ومقلقة بين الحداثة والتقاليد. فبينما تدور القوى الإنتاجية حول محور العقلانية الأداتية-الذرائعية ذات الفاعليًة في المجتمعات الأكثر تقدماً، لا يزال الوعي السياسي والاجتماعي متمسك بأنظمة وطرائق تفكير تقليدية. فلا يبدو أن عملية العقلنة والترشيد مصحوبة بتغييرات مقابلة في البنية الفوقية للمجتمع. نرى، بدلاً من ذلك، أن الوعي السياسي والاجتماعي الوراثي/السلطوي هو الذي يوجه اتجاه التنمية الاقتصادية. تؤثر هذه الأنماط الراسخة بقوة في توجهات وتصرفات أولئك الذين يتخذون القرارات ويديرون شؤون المؤسسات الرسمية.
تكررت ظاهرة مقاومة الحداثة بشكل أو بآخر في الغرب على مدى قرنين أو ثلاثة قرون ، ونشهد ذلك في البلدان الناميًة المعاصرة مرارًا وتكرارًا اليوم أيضاً. إنها القوة الدافعة للعقيدة الانقسامية للنسبية الثقافية. فعندما يكون التحديث متعمدًا، كما هو الحال في معظم البلدان النامية، تعارض المشاعر التقليدية الإصلاحات وتسعى إلى استيعابها في إطار النظام القديم. غالبًا، في عصر العولمة هذا، ما يتم التغاضي عن حركات مكافحة التحديث بحجة التسامح مع الأنظمة والأطر التقليدية باسم حق التعددية الثقافية. فبينما يتم التحدث عن التسامح في العالم بأسره، يتبنى العديد من الزعماء السياسيين في الدولة الناميًة أيديولوجية التنمية التي تعتمد فقط على حكمهم التسلطي والقمعي. عندما تتحد السلطوية التقليدية مع التكنولوجيا الحديثة، تكون النتيجة قيام تكنوقراطية غير ديمقراطية. إن هذا الشكل من أشكال الحكم يضرّ بشدة بالمجتمعات التي لم تنضج فيها الظروف التاريخية لقيام وتعزيز الثقافة المدنية.
يزعم القادة السياسيون في الدول النامية بأنه يمكن تحقيق تنمية اقتصادية مستقرة من خلال الإدارة التكنوقراطية بزعم منهم بأن المواطنين سيتمكنون في نهاية المطاف من تبني حريات ومسؤوليات الديمقراطية. يبدو أن هذا يؤدي إلى نتائج ملموسة في البداية؛ ولكن مع مرور الوقت، يصبح من الواضح تمامًا أن عملية الاستيقاظ الذاتي للمواطنين كذوات فردية لا تظهر ببساطة لأن نمط حياتهم قد تعزز بالاتكالية والاستهلاك. تشجع القيادة السلطوية، في غياب مواطنين استيقظوا ذاتياً، أن يصبح الناس مستهلكين، ولا يهتمون إلا بالنمو الاقتصادي. وبالتالي سيكون بالنسبة إلى مثل هذه الدولة أنها ليست بحاجة للديمقراطية.
من المؤكد أن النزعة الاستهلاكية هي واحدة من أكبر العوائق التي تحول دون اليقظة الذاتية للمواطنين كأفراد. لكن رغم أنها ليست جديدة، ولا يلزم بالضرورة أنها تخنق الذاتية، إلا أنها عندما تكون تحت تأثير انتشار التكنولوجيا المتقدمة، فإنه يصعب تجنب أن تصبح شمولية. وكما أشار هربرت ماركيز في نقده للتكنولوجيا الحديثة والنزعة الاستهلاكية في الغرب، هناك ثلاث احتياجات وهمية، تغذيها الابتكارات التكنولوجية، يتم تلفيقها من قبل وسائل الإعلام والنتيجة هي أن العمال الذين من المفترض أن يحررهم التقدم التكنولوجي يُجبرون اجتماعيًا ونفسيًا على العمل بجهد أكبر من أجل تلبية حاجات دائمة التجدد ولا تشبع.
إن الخطاب الذي ينظر بإيجابية ومثالية للتكنولوجيا يرى فيها وسيلة لدعم نوعية حياة جيدة في كل جانب ولجميع المواطنين. ولكن في مستوى أقل من العالم المثالي هذا، أي في العالم الذي نعيش فيه، كانت التكنولوجيا دائمًا ولا تزال أداة هائلة للسيطرة السياسية والاجتماعية. ثم إن الاستهلاك، الذي تنشطه تكنولوجيا المعلومات المكررة إلى ما لا نهاية، يشل ذكاء المواطنين ويضعهم في حال وعي ضحل وفارغ. هذا الشعور الفظيع للفرد، الذي وصفه ماركيز جيدًا وعبّر عن مدى قوته، يتفشى في مجتمعات الأسواق الناشئة الآن. إن إشباع مواد الاستهلاك وحده لا يعزز الذاتية. تتغلب المادية في العالم الذي وصفه ماركيز، على الحساسية تجاه الآخرين مما يخلق جهلًا مخدرًا بالحياة نفسها.
الحداثة كذاتية
السمة الأساسية المميزة للحداثة هي وعي الذات بوجودها كفاعل يؤكد بعض المؤرخين الغربيين أن استيقاظ الذات هذا أصبح واضحًا في الشكل السياسي للثورة الفرنسية عام 1789 من ناحية وفي شكل المثالية الألمانية من ناحية أخرى. يشير هذا المنظور التاريخي إلى أنه لكي تحصل عملية الفردنة في المجتمع تتطلب تأملاً عميقاً في هذا العصر حتى يمكن مواكبة التغييرات المستمرة في العقلية التي تحدث نتيجة التحولات السريعة للبنية الاجتماعية في العالم الأكثر حداثة.
يسمح لنا ربطنا الفلسفة بالواقع من خلال الأنثروبولوجيا، التي فسرها كانط وهيغل في سياق ملاحظاتهما للظروف السياسية والاجتماعية في زمانهما، بإمساك أحد الآثار السياسية لنظرية المعرفة المتعالية عند كانط وهي مشكلة الذاتية، التي يصبح فيها أولئك الذين يحرزون الذاتية أفرادًا أحرارًا يقررون لأنفسهم، إذ أن الحرية الفردية محور أساسية في فلسفة كانط السياسية. وكذلك الذاتية علامة فريدة لا نظير لها للكرامة الإنسانية في فلسفته الأخلاقية.
عند قراءة كانط، من الصعب تصديق أنه عاش حياته كلها في المدينة نفسها ولم يغامر مطلقًا بأكثر من بضعة أميال خارجها. فقد كان ودون مساعدة من أيّ من وسائل الاتصال الحديثة التي نعرفها اليوم يعرف الكثير عن العالم خارج مدينته وبلده وأوروبا. لقد صرخ ضد العبودية وضد الحروب والوسائل القمعية المستخدمة لفتح الأسواق في الأراضي البعيدة. ويشمل اتحاد الدول الذي تصوره تلك الأراضي التي اعتبرها الأوربيون مأهولة بالمتوحشين. ورأى كانط، أن ممارسات الأوروبيين كانت أكثر وحشية من ممارسات “المتوحشين”. يحدد كانط المادة 3 من شروط السلام الدائم، والتي كانت تشير إلى حقوق الناس كمواطنين في نظام عالمي، بما يسميه “أوضاع الضيافة العالمية”. كان يعتقد أن جميع الدول تطمح إلى التجارة ولكن فقط في ظل ظروف وشروط عملية متفق عليها للضيافة العالمية، ولا يحق الدول الأنجلو-أوروبية من التعامل مع الأراضي الأجنبية كما لو أنها غير مملوكة لأيّ بشر ومتاحة لغزوها ونهب ثرواتها.
إن كانط نفسه الذي أصر على حسن الضيافة بين الأمم، فهم جيدًا الطبيعة التنافسية والصراعية للبشر. وقد اشتهر كانط باكتشاف لـ”اللااجتماعي في المجتمع” كصفة للطبيعة البشرية. لقد وصل البشر، كأفراد، إلى بناء النظام الاجتماعي بعد إدراكهم الحاجة إلى العيش في مجتمع، وأنه ضروري للبقاء على قيد الحياة. وتوصلت الأمم إلى فكرة الحفاظ على السلام الدائم للسبب نفسه. عندما تحدث كانط عن الانتهاكات التي ارتكبها التجار الأوروبيون لدول أضعف وأقل تطوراً من دولهم ، ربما كان يتنبأ بمشاكل اليوم. اعتقد كانط أنه سيكون هناك دستور عالمي، لكن ما ندعو إليه الآن بدلاً من ذلك هو نداءات من المجتمع المدني، من مختلف المنظمات غير الحكومية من أجل حكم ونظام عالمي يحقق العدالة الاجتماعية ويحافظ على البيئية من خلال دستور وقوانين عالمية وتدابير سياسية، لأن التحديث، كما يُمارس اليوم، خلق عدم مساواة لا مثيل لها بين المواطنين داخل الأمة الواحدة وفضلاً عن تلك التي بين الأمم.
تحدث كانط عن تدمير الطبيعة بالحرب والاستعمار وأساليب التسويق القسرية، لكنه لم يصل به التخيًل الى أن الحداثة قد تعرّض موارد العالم للخطر. لقد اعتقد أن البشر سوف يوفّقون بين طبيعتهم التنافسية وميلهم للصراع من أجل الحفاظ على مجتمع يسوده السلام. يُخيًل إليّ أن رسالته ستكون هي نفسها فيما يتعلق بإعادة رؤية الحداثة بحيث لا يمكن إدامتها فحسب، بل تستحق أن تكون مستمرة في تطورها. ولن يجد صعوبة في ربط إعادة النظر هذه بالعدالة الاجتماعية والبيئية.
أما بالنسبة إلى هيجل، فتتحقق الذاتية في العمل لأن في العمل نتعامل مع الطبيعة والبشر. وفي العمل يصنف فرد ما الآخرين من خلال بيذاتية أو موضوع ما ، ويحقق البشر ذاتيتهم عندما يدركون قيمة عملهم. يربط العمل، من الناحية المثالية، المواضيع معًا من خلال اجتماعيته وموضوعيته. فالعمل هو الإمكانات البشرية المتحققة في الفعل الاجتماعي. يحرص هيجل على الإشارة إلى أن العمل، الذي في جوهره ليس فرديًا أبدًا، يسمح للبشر باكتساب الاعتراف من الآخرين بأنهم يتوقون ويحتاجون له بطبيعتهم. يتم تلبية الحاجة إلى الاعتراف في تقسيم العمل داخل المجتمع، بوصف العمل عنصر ملزم للفرد في المجتمع. يكتسب الأفراد من خلال نتاج العمل، الاعتراف المتبادل على قدم المساواة. إن الأفراد، بوصفهم عمالًا، هم أشخاص مستقلون يتحملون مسؤولية الآخرين، وبالتالي فهم جماعيون أيضًا.
كان كل من كانط وهيجل مدركين تمامًا لعواقب اقتصاد السوق، وتصويرهما للذاتية على أنها وعي بقدرة الفرد على التفكير والتصرف بشكل مستقل، وكان التأكيد على التعاون هو استجابة للمشاكل الناجمة عن تحديث المجتمع الألماني في فجر الثورة الصناعية الكبرى. وطالب الأخير على وجه الخصوص، بتجاوز الدولة التي تم فيها معاملة الأفراد كتروس في آليًات السوق. لقد تصور مجتمعًا يشجع الخصوصيات الذاتية والاعتراف العالمي بالفرد الحر. ثم تطور هذا التفكير وعلى أساس قوي مع النظرية النقدية للرأسمالية المتأخرة. فهناك، المزيد من الأدلة التي تشير إلى أن الذاتية موجودة في جميع مجالات الحياة، وأن سمتها المميزة، الإرادة الحرة، وليست حاضرة حتى في أكثر الدول استبدادية وقمعًا. فقد تتجاوز الدول أو لا تتجاوز أدوارها القمعية وقد يتم خنق الشخصية، لكنها تبقى موجودة ولا تتوقف أبدًا عن العثور للتعبير عن نفسها على مستوى ما.
تأويل أخلاقيات عابرة للثقافات
يحول البشر بقوة الخيال والعمل الطبيعة إلى شيء جديد تمامًا، وبهذا الإبداع، يميـزون أنفسهم. ويكشف العمل كيف يغير البشر الأحرار العوالم الخيالية إلى العالم الفعلي، وهم بهذا يشكلون ذاتيتهم. وفي هذا السياق نطلب من الفلسفة أن تسـاهم في هذا التشكيل حتى نستعيد الذاتية قوتها لتطوير أخلاقيات عالمية. وجاءت فلسفة هوسرل الظاهراتية المتعالية للذات في مطلع القرن العشرين، في إطار المساعي الفلسفية لتأمين الذاتية البشرية من التهديد ضد إعادة توحيدها، وتبعتها وجودية هيدجر وسارتر، وصولاً إلى النظرية النقدية لهوركهايمر، أدورنو وماركيز وهابرماس حتى تشارلز تايلور وآخرين. لقد عالج كل واحد من هؤلاء الفلاسفة مشكلة اختفاء الذاتية عن طريق تناولها من وجهات نظر ومصادر مختلفة. لم تختف أزمة الذاتية أبداً باختلاف المنظورات. واجهت مجتمعات عديدة، منذ فجر الألفية الجديدة، أزمات أنثروبولوجية عميقة مما دعا الفلاسفة إلى إعادة النظر في قضية الذاتية في هذه اللحظة المعاصرة المحفوفة بالمخاطر حيث تخنق السيبرانية والنزعة الاستهلاكية ليس فقط ميل الأشخاص إلى التفكير والعمل المعارضين، ولكن إبداعهم وإرادتهم أيضًا.
إن المفاهيم الديمقراطية مثل “الفرد” و”المساواة أمام القانون” و”العدالة الاجتماعية” و”حقوق الإنسان” لا تُعطى لنا بداهة. إنها مفاهيم تنتمي إلى الإرث الذي بناه أولئك الفلاسفة والمفكرون الذين عكسوا نضال البشرية من أجل تحرير الذات من روابط الماضي. لقد تمكّنت هذه المفاهيم من الوصول إلى الكثير عبر قرون من خلال عمليات النشر المعقدة والمتنوعة وأصبحت تشمل كل البشرية الآن تقريبًا. يحفز اكتساب المعاني المركبة لهذه المفاهيم من خلال علاقاتنا الاجتماعية، من الحب والكراهية والعمل واللعب، وكافة الروابط العابرة للثقافات التي تقوم من أجل ضمان كرامة الإنسان والعدالة لجميع البشر.
نحن مدينون بالفهم لعمق وأهمية هذه المفاهيم للحث المتزايد باستمرار من قبل المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم على استعادة الرؤية الأساسية للحداثة، مع التركيز على المساواة. لقد أوضحت منظمات المجتمع المدني والفلاسفة والنقاد، الذين كرسوا عملهم من أجل مفاهيم الحداثة الأصيلة والاستطلاعية، لمختلف الحكومات أن الذاتية والمساواة والعدالة الاجتماعية ومراعاة حقوق الإنسان تختنق تحت ضغط الاقتصاد في عالم اليوم. إن المجتمع المدني هو الذي يحث الحكومات على الاهتمام بما يقوله لنا العلماء عن بيئتنا. وهو الذي يُبلغ المجتمعات بالمخاطر التي تطرحها عليهم أيديولوجية الليبرالية الجديدة ونظامها الاقتصادي، واستغلالها البيئة. وهو الذي لفت الانتباه إلى حدود التحديث.
يحثني هذا الفهم على الدعوة إلى تعليم التفكير النقدي لحل المشكلات والوعي بالقضايا التي تهدد العالم. ألاحظ أن العديد من الجامعات في أنحاء العالم لديها تخصص في الدراسات البيئية والعدالة الاجتماعية. يجب أن يكون مثل هذا التعليم من أولويات الدول الحديثة، ولا ينبغي أن تنتظر حتى يصل الطلاب إلى سنوات الجامعة، ويمكن أن يبدأ في وقت أقرب بكثير. هناك برامج رائعة تعرض للمجتمع نوعا من الاستقصاء الفلسفي (CPI) الذي يستكشف عدة أنواع من التفكير، بما في ذلك التفكير الأخلاقي. يجب أن يقدم التعليم المستمر بالتأكيد دورات مجتمعية في الدراسات البيئية للبالغين من جميع الأعمار. هناك العديد من الطرق الأخرى لتثقيف المواطنين حول الذاتية والعمل. يبدو لي أن تلك الدول التي اختارت التحديث لديها أفضل فرصة لاستكشاف ذلك مع مواطنيها من جميع الأعمار. يوجد الأمل في الحفاظ على مفاهيم الحرية والمساواة بين الثقافات على قيد الحياة وتنميتها من خلال التعليم والنقاش محليا وعالميا.