الحركة النسوية اليهودية وفكرة الشعب المختار
كانت فكرة اختيار الرب يهوه لليهود من بين الشعوب وتميزهم عنهم قد ظهرت أول ما ظهرت في التوراة، حيث أكدت نصوص متعددة في أسفارها على أن الرب اختار بني إسرائيل دون غيرهم من الشعوب، كما في سفر الخروج 19/ 5-6 “والآن إن سمعتم سماعا لصوتي وحفظتم عهدي فإنكم تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب… وأنتم تكونون مملكة من الكهنة وأمة مقدسة” وكذلك في سفر “الأحبار20/26″ وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي” وغير هذين النصين كثير. وقد أكد على ذلك أنبياء بني إسرائيل أيضا. فقد وصفهم النبي إشعيا في سفره بأنهم نور للشعوب، وأن معاناتهم هي دليل اختيارهم. وفي التلمود والمدراش أن خلق بني إسرائيل هو مصدر استقرار العالم وأن ما يصيب العالم من شر أو خير يتوقف على ما يقوم به بنو إسرائيل ( M.M. Kaplan، The Greater Judaism in the Making،p.35 وفي كتاب الزهر ) أهم كتاب في القبلاه) أن اليهود يتميزون وحدهم بأن لهم نفسا حية مقدسة نزلت عليهم من الأعلى، وبقية البشر ليس لهم هذه النفس. (كتاب الزهر ج1 ص147). وأخذ الحاخامون أيضا يؤكدون هذه الفكرة بل ويبالغون فيها. فالحاخام الحسيدي برديشيف (ت 1810) كان يقول إن اليهود هم الشعب المختار والمتميز عند الله… وأن كل العوالم في الأعالي والأسافل، إنما خلقها فقط من أجل شعبه المفضل بني إسرائيل. بل تجاوز هذا الحاخام حدود المعقول فكان يقول إن الرب يحكم طبقا لرغبات اليهود. وهو له آراء كثيرة في مدح اليهود وعتاب شديد لربه، بل ونقده له على ما عاناه اليهود.وقد قيل عنه بأنه كان قد أحب الله وأحب اليهودية، ولكن حبه لليهود قد فاق الاثنين (H. Robinowicz، The World of Hasidism، p.54)
وبمرور الأزمن أخذت هذه الفكرة تترسخ في عقول اليهود، وأصبحت شيئا شبه طبيعي لهم، ودخلت في الصلاة وفي العبادة بصورة عامة. فاليهودي يقول يوميا إنه من الواجب علينا أن نمدح رب كل العوالم ونمجد خالق الكون، الذي لم يجعلنا مثل بقية شعوب الأرض، ولم يجعل قدرنا مثل قدرهم، ولا حظنا مثل حظهم. وبسبب هذه النصوص وتكرارها طيلة القرون الماضية، أصبح الكثير من اليهود يعتقدون أنهم متميزون عن الشعوب الأخرى، وأنهم يتمتعون بصفات فريدة دون غيرهم، ولهم تفرد روحي خاص بهم، يتوارثونه من بعضهم، وأنهم أفضل من الآخرين. وأصبح الاعتقاد بفكرة الاختيار بالنسبة إلى اليهود تطمينا مهما لهم في وجه الاضطهاد، الذي كانت الشعوب تلحقه بهم، ويظهر هذا بشكل واضح عندما تكون المعاناة أشد والظلم أوكد، أو عندما يرفض المسيحيون فكرة الشعب المختار لليهود، ويؤكدون على أنهم هم الشعب المختار وليس اليهود. والتأكيد من قبل اليهود على فكرة الاختيار كونها تخصصهم بالتفرد، وأنهم مختلفون عن بقية البشر جعل تحملهم للمآسي ممكنا لهم. (J.Plaskow، Standing Again at Sinai،p.102).
ولكن منذ أن شرعت قوانين “تحرير اليهود”، أخذت فكرة الشعب المختار تتسم بالإحراج لليهود، لأن التميز يصبح في تناقض مع حالة التساوي (طبقا لقوانين تحريرهم)، وإن الافتراض أن لليهود قدرهم الخاص (مميزين عن غيرهم) لا يتفق مع تحرير اليهودي كونه إنسانا عاديا كبقية الناس الآخرين ومساويا لهم. كما أن إزالة الحواجز بين اليهود وغيرهم جعل من الصعب تحديد معنى الاختيار.
وعلى الرغم من أن هذه القوانين ساوت بين اليهود وغيرهم إلا أن مفكريهم أو أغلبهم رفضوا التخلي عن فكرة الاختيار، إذ رأوا أن ذلك يجعل اليهودي في خطر، اعتقادا منهم أنه يؤثر على يهوديتهم أو جزءا كبيرا منها، وبسبب ذلك أخذ المفكرون اليهود خلال القرنين الماضيين، يحاولون إعطاء تفسيرات مختلفة لهذه الفكرة من أجل الجمع بين الحفاظ عليها، والتخلي عنها في الوقت نفسه (Ibid.،p.100م.ن) ومن هؤلاء من جعل الاختيار مسؤولية ثقيل حملها وكثيرة تبعاتها. ويبدو هذا واضحا في جملة قالها بطل الفيلم اليهودي المعروف “ Fiddler on the Roof” تعبر عن الفكرة، وهي “أنا عارف، أنا عارف، نحن شعبك المختار، ولكن أما كان بإمكانك أن تختار ولو لمرة واحدة غيرنا؟”. وعدا عن بعض الفرق اليهودية الصغيرة مثل “فرقة إعادة بناء اليهودية”، و”فرقة اليهودية البشرية (Huministic Judaism) اللتين ترفضان فكرة الاختيار صراحة، وكذلك بعض الشخصيات اليهودية المهمة مثل الفيلسوف بندكت سبينوزا، فإن الفكرة التي تعني التميز، وما يترتّب عليها بقيت كما هي في الأساس (عند بقية الفرق اليهودية).
وترى الحركة بأن فكرة إله يختار شعبا معينا، يدل على وجود ثنوية، وعلى فهم لوجود تراتبية على أرض الواقع، لذلك يكون من الضروري للحركة أن ترفضها (ن.مIbid.،p.104)، وهذا في الوقت نفسه يخل بعدالة الإله، حيث يختار مجموعة من البشر ويهمل الآخرين منهم، إذ يفترض فيه أن يكون إلاها عادلا.
وترى الحركة أيضا أن فكرة الاختيار تمثل النموذج للتمييز والتراتبية بين اليهود أنفسهم، وبين اليهود وغيرهم خاصة. وإذا أرادت النسوية أن تخلق مجتمعا مثاليا يعترف بالاختلاف بدون تراتبية وتفرقة، فمن الضروري لها أن ترفض فكرة الاختيار، دون أن ترفض خصوصية الجماعة اليهودية كجماعة دينية ( Ibid.، p.97ن.م).
كما أن رفض فكرة الاختيار من قبل اليهودي، والقبول بكونه إنسانا عاديا (دون مزايا)، له ارتباط شديد بأن ينظر إلى المرأة على أنها إنسانة يهودية عادية (مثله)، وبهذا تنعدم النظرة الدونية لها وكونها من الدرجة الثانية بين اليهود. وهذا التداخل له ارتباط بالتطبيق العام لإيجاد طريقة للاختلاف، ليست مبنية على نمط أو مستوى الفصل (بين الجنسين)، وإن رفض فكرة الاختيار، ورفض أن المرأة هي الآخر المميز ضدها، شيئان متداخلان ضمن مشروع أوسع، من أجل إيجاد طرق للعيش مع الاختلاف، الذي ليس مبنيا على عزل ممنهج.
ومع أن هناك مجموعات في اليهودية عانت من التمييز في فترات مختلفة من الزمن، إلا أنّ المرأة كانت دائما لها حصة الأسد في هذا التمييز، فهي قد همّشت في المجتمع بصورة عامة إضافة إلى تهميشها في الثقافة اليهودية، إذ أنها مثلت الآخر التي يرفضها الرجل، إضافة إلى رفض مؤهلاتها التي لا يعترف بها من قبل الشعب المختار، (J.Plaskow، Standing Again at Sinai،pp102-103)
وتقول أيضا قد ينظر لنقد النسوية لفكرة الشعب المختار على أنه مساهمة بسيطة تضاف إلى ما قيل من نقد في هذا الخصوص، ولكن نقد الحركة له جانب آخر مميز عن نقد الآخرين ومساهمة مختلفة، فرفضها لفكرة الاختيار يتركز ليس على علاقته بالاختلاف التراتبي، بل على التراتبية داخل الجماعة اليهودية. ولمّا كان على رأس ظاهرة التفرقة داخل الجماعة اليهودية، التفرقة بين الذكر والأنثى، فإن فكرة الاختيار تصبح مرتبطة بجعل المرأة من الدرجة الثانية وكذلك المجموعات الأخرى (مثل الممزريم”المولودين غير الشرعيين” وغيرهم) من بين اليهود. إن الهدف من نقد الحركة النسوية لفكرة الاختيار وإعادة النظر في تركيب المجتمع اليهودي،لا يقصد منه قضم الروحية اليهودية والتقليل منها، ولكن لتحريرها من علاقتها بالتراتبية الثنوية وصلتها بها. ومادام اليهود عندهم فكرة فهم أنفسهم على التمييز ضمن الجماعة، فإن المعنى الروحي سيحدّد من قبل مجموعة معينة منهم، لأن النساء والمولودين غير الشرعيين سيكونون خارج العلاقة مع الرب (لأنهم مرفوضون من قبل الجماعة ككل)، إذ العلاقة مقتصرة على من له المشاركة الكاملة من الجماعة، والمذكورون هم ممنوعون من المشاركة.
وتقول أيضا نحن يجب أن نبدل فكرة الاختيار بشيء أقل دراماتيكية، بأن نستعمل كلمة “التميز”. فالجماعة اليهودية والمجموعات التي تعيش ضمنها، والتي تعتبر جماعات ثانوية أو هامشية، هي مثل بقية الجماعات الأخرى التي تتميز عن غيرها. فالتجربة اليهودية كانت قد تشكلت من مكان الشتات باللغة وبالتاريخ وبالعلاقة مع الآخرين. كما أن التجربة اليهودية كانت ضمن العالم الأوسع، ولذلك تكون تجربة المجموعات الثانوية قد أخذت مكانها ضمن الجماعة اليهودية الكبيرة، وهذه العلاقة اليهودية اليهودية واليهودية وغير اليهودية يجب، أن لا تفهم على أنها علاقة تراتبية وتمييز بل على أنها جزء وكلّ.
وإذا لم يدخل في التاريخ اليهودي والمجتمع اليهودي تاريخ النساء وتجاربهن واليهود في البلاد الأخرى مثل الهند واليهود في العالم العربي فليس هو تاريخ يهودي حقيقي، بل يكون تاريخ الرجال والمجتمع الذكوري. وإنّ عدم إدخال مثل هؤلاء يكون مدمرا ليس للجماعة المستثناة، بل لكلّ التلاوين اليهودية الغنية التي لها مميزاتها المختلفة. ولذلك من الضروري أن تخلق جماعات يهودية يكون فيها الاختلاف ذا قيمة وجزءا ضروريا وأساسيا لإرجاع التوراة بتمامها ( Ibid.104fم.ن).
وقد يكون من المفيد هنا أن نذكر شيئا عما يقوله الفيلسوف بندكت سبينوزا (ت 1677) الذي أشرنا إليه سابقا عن رفضه لفكرة الاختيار. فهو يرى بأن اليهود لا يتميزون عن الآخرين برجاحة العقل، ففكرتهم عن الرب مثلا وعن الطبيعة كانت عادية، ولذلك فلا يمكن أن يكونوا مختارين من قبله في هذا الأمر بشكل مطلق وأبدي.. ولا يمكن أن يكونوا مختارين كأصحاب فضائل ومعرفة بالحياة الحقيقية. واليهودي كشخص، ليس عنده ما يفضل به على الفرد غير اليهودي وفي هذا يكون اليهود متساوين مع الشعوب الأخرى، كما أن الرب لا يفرّق بين الشعوب، وأن هذه الشعوب كان عندها أنبياء أيضا إذ النبوة لم تكن مقتصرة على العبرانيين. ويقول أيضا إذا كان أيّ شعب يعتقد حقيقة أنه شعب مختار فليس لدي رفض لذلك، ولكن ليس هناك فرق على الإطلاق بين اليهود وشعوب العالم الأخرى من حيث ما حققوه روحيا وفكريا، ولذلك فليس هناك شيء في عصرنا الحاضر يمكن أن يدعيه اليهود لأنفسهم بأنهم أفضل من الآخرين.
وكان لسبينوزا آراء تخالف معتقدات اليهود عامة بخاصة المتشددون منهم (الحريديم) حول التوراة والشريعة اليهودية. وبسبب آرائه هذه صدر بحقه من قبل الحاخامين حِرم (طرد) من اليهودية. وقد جاء في بعضه “ونحن نحجر عليه كالحجر الذي فرضه يشوع بن نون على مدينة أريحا، ونلعنه كلعن النبي اليشع على إليشاب وبكل لعن مذكور في الكتاب المقدس، وليلعن سبينوزا في الليل وليلعن في النهار، وحين ينام وحين يصحو وسوف لن يغفر الله له، وإن غضب الله وسخطه سيكونان دائما على هذا الرجل. وسيأتي الله بكل اللعن المذكور في كتاب الشريعة عليه وسيمحى اسمه من تحت السماء، ولنيّته السيئة سيقضي الله عليه من بين أسباط بني إسرائيل (وسيلعن) بكل لعنات السماوات المذكورة في الكتاب المقدس… ولا يجوز لأحد أن يزامله أو يقضي حاجة له أو يتصل به بشكل مباشر أو بواسطة الكتابة، أو يريه أيّ نوع من الرحمة، أو يسكن معه تحت سقف واحد أو أن يقرب منه مسافة أربعة أذرع ولا يجوز لأحد أن يقرأ مؤلفاته مطبوعة أو مخطوطة”.
وعندما توفي رفض الحاخامون دفنه في مقابر اليهود فدفن في مقابر المسيحيين ومنع الحاخامون أهله من الحداد عليه، بل وأمروهم أن يلبسوا لباسا أبيض، ويقيموا حفلات فرح إلى غير ذلك من أمور أخرى كان الحاخام والفيلسوف موسى بن ميمون قد قننها في كتابه “شريعة الحداد”. وفي الفترة الأخيرة قررت إسرائيل إعادة الاعتبار لسبينوزا. (وهناك تفاصيل أخرى عن سبينورا ذكرتها في كتابي “قضايا وشخصيات يهودية).