الحكمة الاصطناعية.. من يريد أن يزج نفسه في توليد حكمة اليوم

لا نريد أن نضيع الكثير من الوقت في رصّ المعلومات وتصنيفها. ضاع ما يكفي من الوقت لتحويل البيانات إلى معلومات. ضاع وقت كثير في ابتكار الطرق لتحويل المعلومات إلى معرفة. هكذا نكون قد قطعنا ثلاث مراحل من تراتبية الأفكار في عالم اليوم، وبقي الأهم فيها كلها: الحكمة.
التراتبية تبدو هكذا: بيانات، معلومات، معارف، حكمة. هذه مراحل ليست بالهينة. تخيل كمّ البيانات الذي يمكن أن تحمله صورة. كل نقطة فيها بلونها ومكانها تعني شيئا سيفسر لاحقا. من كل هذا تبدأ المعلومات بالتشكل. من كل هذا التراكم بالمعلومات نصير نعرف ما أمامنا. المعرفة هي أساس كل شيء. من دونها لا يوجد أيّ شيء ذي قيمة في عالمنا اليوم. لا أعرف كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى الحكمة. المسألة معقدة جدا، وأعتقد أن أغلبية البشرية اختارت عن وعي أن تترك عالم الحكمة الآن. الحكماء قلة. من الأفضل أن يبقوا قلة.
لكن هل ثمة “حكمة اصطناعية” تتشكل الآن، أو بصدد التشكل؟ من الوارد أن يحقق الذكاء الاصطناعي قفزات خلال السنوات القادمة وينجز فكرة الحكمة الاصطناعية. نحن نتردد في اختياراتنا البشرية، لكن لا يوجد ما يمنع الذكاء الاصطناعي من الانطلاق إلى رحاب أوسع. من الصعب الجزم.
أول رد فعل سيأتي من المتشككين السذج. ثمة أعداد كبيرة من المهتمين بالذكاء الاصطناعي ممن يدورون حول عالم يخلقه هذا الذكاء ينافس ذكاءنا الإنساني. هؤلاء يبقون متوجسين لاعتبارات مختلفة، أغلبها افتراضية. وللحق لا يمكن لومهم. هذا الذكاء “شيء” ولد فجأة بيننا، لا يمكن قبوله كما هو. من الحكمة أن نتفحصه مرارا وتكرارا قبل الدخول في عوالمه. ولكن التشكك ليس حكما مطلقا بالرفض. حتى لو رفضته، فإن هناك الآلاف ممن سيقبلون به ويفتحون له بابا أو أكمة. هل يمكن لأحد أن يوقف هذه الآلاف؟ لا أظن.
عملية الغربلة الاصطناعية التي تأخذنا من البيانات إلى الحكمة أخطر ما فيها هو سرعة إتمامها. هذا ما يجعل المعالجات الإلكترونية التي تقوم بالمهمة أثمن سلعة في العالم اليوم. هذا ما يجعل الخوارزميات التي تشغّله، بل وتشغّلها بذكاء كما حدث بين خوارزمية “تشات جي بي تي” و”ديب سيك”، تهز أسعارا لقيمة الشركات مئات المليارات في اليوم.
أما التراتبية فمعروفة (وإن لم تكن مفهومة تماما). هذا ما يجعلها في متناول كثيرين. وهذا مصدر خطورتها. ولكي لا يبدو الموضوع مطلسما حتى عليّ، خذوا المثال التالي.
ها هو “الحكيم الاصطناعي“ يقلب مثلا في كل إصدارات مجلة “الجديد” ليستنتج أشياء ترتبط بالثقافة العربية المعاصرة. من طلب منه ذلك؟ لا أعرف! لكن إذا لم تتم هذه العملية اليوم، ستتم في المستقبل القريب مثلما يحاول مثلا أن يقدم طالب دكتوراه بحثه واستنتاجاته عن بحث عن الثقافة العربية المعاصرة وتضمينه “الجديد” من ضمن الإسهامات الرائدة في عالم الثقافة العربية. سيدرج تذبذبات المزاج العام للكتاب فيستنتج بـ”حكمته الاصطناعية” أن المنطقة الجغرافية أو الثقافية التي تعكسها المجلة تعيش حالة اضطرابات سياسية واجتماعية تنعكس على ما يكتبه مثقفو المنطقة. المثقف المرتاح لا يمكن أن ينتج ثقافة مرهقة. الإسقاطات التي يمكن أن يخرج بها الحكيم الاصطناعي قد تشابه إلى حد كبير تلك التي يخرج بها الحكيم الإنساني. وهذا الاستنتاج ليس جزافا.
أحب أن أشير هنا إلى شيء بسيط قد يوقعنا في ارتباك ويقود إلى استنتاجات كثيرة خاطئة. فالعيّنة التي يتصفحها “حكيمنا” تبقى محدودة بحكم اللغة، وستبقى محدودة بما يشبه ما يمكن أن تقدمه رسالة دكتوراه في مجال العلوم الاجتماعية، لا يمكن الخروج باختراقات كبيرة كما هو الحال بالعلوم الطبيعية. من الصعب الجزم والبت بالنتائج. لا توجد “نظرية نسبية” اجتماعية جازمة كما نعرف جميعا. عالم المعارف باللغة العربية أصغر منه من اللغات الأخرى، ولا يقارن طبعا بعالم المعرفة باللغة الإنجليزية.
هذه الحكمة المتوسعة في جوانبها الكثيرة -ولا نزال نفترض أنها ستحدث أصلا- ستنشئ عالمها الموازي متى ما أتيحت لها الفرصة. لن يكون هذا عالما سهلا أو حتى مفهوما بالنسبة إلينا. إلى اليوم علاقتنا مع الذكاء الاصطناعي تقوم على أساس السؤال والرد: نسأله عن معلومة معرفية فيقوم باستدعائها بطريقة منطقية وتقديمها لنا، أي مرحلة في المنطقة الرمادية بين معلومة/معرفة. هذا استدعاء ذكي للبحث الآلي في غوغل مثلا. ما نفكّر فيه هو الانتقال خطوة أعمق، أي في المنطقة الرمادية بين معرفة/حكمة. لم نصل، والأمر كذلك، إلى مرحلة انتقالية كاملة من الاستقلال المعرفي أو الجلوس على كرسي الحكمة.
ماذا يعني الاستقلال المعرفي؟ هو وجه من أوجه التقدم الذي يمكن أن يقدمه -على سبيل المثال- قسم جامعي مستقل في وجه من أوجه المعرفة دون حاجة إلى الرجوع لأحد. أما كرسيّ الحكمة فهو كرسي محجوز لمجموعة منتقاة -كما نقدر أو ندرك- من البشر أو من الكمبيوترات الذي يمكن أن يأخذ مبادرته الخاصة وينطلق بها في الرحاب المستقلة.
تجاوزنا وضع الغربلة ووصلنا إلى عالم الانتقاء والإنجاز المبهر. هل هذه حكمة بشرية مدورة أم حكمة اصطناعية مولدة؟ لا نعرف بالضبط، لكن من الوارد أن يصبح عالما مستقلا بمواصفاته الخاصة قد يقودنا، من ضمن ما يقودنا، إلى مرحلة تتجاوز الحكمة إلى رحاب حقبة جديدة.