المعلم الجديد كتابة اصطناعية توليدية
الكتابة مهمة ليست باليسيرة. هذه حقيقة يعرفها كل كاتب. فالكتابة تجميع لمواهب وحرف واهتمامات مختلفة. الكاتب بالإنجليزية يجد أمامه تراثا كبيرا وكمّا هائلا من المقالات والتحليلات والكتب. لا أبالغ حين أقول إن متابعة صحيفة بريطانية رصينة بشكل يومي يمكن أن تضع الكتاب على طريق الكتابة ما إن تتوفر لديهم الموهبة والاهتمام. الحرفة التي تتجسد يوميا أمامهم بالصياغات وترتيب الأفكار وتقديمها هي مدرسة يمكن الاقتداء بها. لعل هذا ما يجعل بلدا عريقا صحفيا مثل بريطانيا لا يهتم بإقامة معهد محترف للصحافة أسوة بدول أخرى. تعلّم من الآخرين وليس من المعلّمين.
الكتابة بالعربية أصعب. اسأل محرري الصحف والمجلات لتعرف معاناتهم مع ما يصلهم من كتابات. ضع جانبا مستوى الأفكار التي تتم مناقشتها في ما يكتب. ثمة مشكلات في أساسيات الكتابة. فالكاتب في العالم العربي لا يجد الكثير من الصحف أو المجلات الرصينة التي يستطيع الاقتداء بها أو أن يتعلم منها. وتزيد المشكلة تعقيدا إذا كان الكاتب لا يتقن اللغة الإنجليزية. صحيح أن الصحيفة المنشورة بلغة غربية تعالج القضايا بمنطق مختلف عن طريقة معالجتنا لقضايانا وكيفية النظر إليها، إلا أن الحرفة الصحفية تفرض نفسها على القارئ وتجعله يقتدي بها بمرور الوقت.
هذه الحرفة متعثرة في عالم الكتابة بالعربية. كمّ الإنشاء والمعلومات الزائدة كبير. الكاتب، في محاولته التقديم لفكرته، يغرق بأفكار أخرى يستعيرها أو يكتبها. من الوارد أن تصلك مقالة تجد فيها الاستعادة التاريخية أطول كنص من الفكرة الأساسية. أو مقالة تغرق في التزويق الكلامي لدرجة منفّرة تجعلك لا تستطيع استكمالها لتصل إلى ما يريده الكاتب. موضوع التكرار في عرض فكرة معينة بفقرات مختلفة الكلمات لكنها متشابهة المعنى، واحد من مشكلات الكتابة، وبالتالي التحرير. يقف المحرر حائرا أمام مثل هذه الفقرات، لأنها نظريا صحيحة أو حتى مكتوبة بشكل محترف، لكنها تعيد تقديم ما تم التطرق إليه في مطلع النص.
ماذا عن طول الجمل وقصرها في كل فقرة من فقرات النص؟ هذه معضلة بحد ذاتها، لأن من الوارد أن تجد نفسك أمام مقالة لم يقرر كاتبها كم كلمة هو الحد الأقصى لكل جملة، أو متى يضع الفاصلة ويستطرد، أو يضع النقطة ويبدأ بعبارة أو جملة جديدة. من دون مبالغة، من الوارد أن تصلك مقالة هي عبارة عن فقرة واحدة: مئات الكلمات تتعاقب وراء بعضها البعض، وعليك أنت – المحرر أو القارئ – أن تعيد ترتيب الفكرة بمقاطع وفقرات وجمل لتصل إلى المعنى.
مهمة التحرير بالعربية لصحيفة أو مجلة مهمة صعبة. حتى لو وافق الكاتب على أنه يسمح بالمس “بنصه المقدس”، فإن الأمر قد يصل إلى الحاجة لإعادة كتابة الفقرات وربما المقالة ككل، كي تستطيع إيصال المعنى. البعض يسأل: لماذا تأخر نشر مقالتي؟ حسنا. الرد بسيط: أعدنا كتابتها.
مثل كثير من المشكلات التي بقيت تراوح مكانها إلى حين بروز حل تقني يعالجها، فإن الكتابة بالعربية لربما وجدت حلا “سحريا” لمعضلتها. هذا الحل اسمه الذكاء الاصطناعي.
جرّب أن تنشئ حسابا على واحد من برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي. لاحظ أن هذا الذكاء الاصطناعي باللغة العربية ليس بالذكاء الخارق الذي يتحدث عنه العالم باللغة الإنجليزية. السبب يرتبط بفارق حجم التدريب بين اللغتين. نفس البرنامج يتدرب على مئات الملايين من النصوص بالإنجليزية، فتتقدم “ملكته” التوليدية للنصوص بالمقارنة مع حجم أقل من النصوص المتاحة بالعربية. لكنه يبقى مفيدا وفاعلا ومتطورا يوما بعد يوم.
لنفترض أولا أن كاتبنا ليس لص نصوص. هذا افتراض ضروري كما يعرف من يفتحون البريد الإلكتروني لمراسلات المؤسسات الصحفية والثقافية. حجم السرقات كبير. بعض المقالات تصلك بأسماء غير أسماء كتابها الحقيقيين خلال دقائق من نشرها.
كاتبنا صاحب فكرته الخاصة، لكنه يتعثر بكتابتها وتقديمها. في السابق يكتب ويمرّر لصديق أو زميل ليدقق، أو أن يرسل مباشرة إلى الصحيفة أو المجلة ويترك الدموع لمحرري المؤسسات الصحفية والثقافية. الآن من الممكن أن يفعل الكثير قبل إرسال النص المتعثر.
خذ مثلا أن يقطّع النص إلى مجموعات من الفقرات، ثم يخاطب برنامج الذكاء الاصطناعي بالقول: هل بالإمكان تحسين صياغة هذه الفقرة أو الفقرات؟ لا أبالغ حين أصف النتيجة بأنها ستكون مبهرة للكتاب المتعثرين. ففيما عدا تضبيط التنقيط والنحو، فإن الصياغات تتغير بشكل ملموس نحو الأفضل. هنا لا أستطيع الحكم حول تنميط الصياغات على شاكلة واحدة، لأنني لم أجرِ الكثير من التجارب على نصوص، لكن النتيجة دائما أفضل.
بعد اكتمال تجميع الفقرات المحررة من الذكاء الاصطناعي، يمكن تقديمها مجمعة من جديد كنص كامل، وقد يجد البرنامج أن بوسعه إلغاء التكرار، في الأفكار أو في تنميط الجمل والصياغات. مرة أخرى لا أستطيع الجزم.
كتب فرانس كافكا في يومياته “إن كل الأشياء تقاوم عملية كتابتها”. هذا توصيف بليغ لصعوبة الكتابة. ربما من المفيد قبول الذكاء الاصطناعي كمساعد في مرحلة متقدمة وجديدة من الكتابة، مجرد أداة تضاف إلى أدواتنا وتقلل من تلك المقاومة التي تظهرها الأشياء عندما تتحول إلى كلمات.