الحلم الكابوسي
في رواية “قطعة من أوروبا” تطرح رضوى عاشور رؤية عميقة عن اليهود، ليس فحسب على الصعيدين المحلى والإقليمي، مصر والمنطقة العربية، بل أيضا على المستوى العالمي، ذلك أن الحركة الصهيونية ذات نفوذ متشعب واسع الانتشار.
عنوان الرواية مستمد من الحلم الذي يداعب الخديو إسماعيل، ويتجسد في التطلع إلى أن تكون مصر “قطعة” من أوروبا التي يهيم بها، وتستمر تداعيات الحلم-الكابوس بأشكال شتى إلى مطلع القرن الحادي والعشرين.
عبر قرن ونصف القرن تقريبا، تكشف تحولات المكان؛ القاهرة الرومية، عن عمق التغيير الموضوعي الذي تشهده مصر ويتجاوز الحجر إلى البشر، وفي القلب من زلزال التغيير هذا تطل المسألة اليهودية من خلال ثلاثة مستويات متداخلة متشابكة.
المستوى الأول عالمي عابر للحدود، لا صلة مباشرة تجمعه بمعطيات الواقع المصري، لكن القطيعة ليست واردة، وهو ما يتمثل بأجلى صوره في الموقع الذي تحتله أسرة روتشيلد من ناحية ورواد الحركة الصهيونية من ناحية أخرى.
يقترن المستوى الثاني بعدد غير قليل من اليهود المصريين والمتمصّرين والوافدين، ممن ينتمون بدرجات متفاوتة إلى المنظومة الرأسمالية المتحكمة في إيقاع الحياة الاقتصادية المحلية، وهنا تظهر أسماء يهودية ذات شأن: قطاوي وشيكوريل وغيرهما.
يتجسد المستوى الثالث والأخير في اليهود العاديين الذين يندمجون على نحو ما في النسيج الوطني المصري، قبل أن تدفعهم الظروف السياسية المعاكسة، بعد تأسيس دولة إسرائيل وسلوكها العدواني، إلى الهجرة والمغادرة تباعا، وعندئذ يتحول الوطن الوحيد الذي يعرفونه إلى ذكرى.
لن يتأتى استيعاب المستويات السابقة بمعزل عن التوقف أمام شخصية الراوي، الذي يسمى نفسه “الناظر”: “ليس هذا الاسم هو ما اختاره لي والدي، ولا هو كنيتي التي يناديني الناس بها، أنا الناظر لأن مهمتي النظر، أنقل عبر حكايتي ما نظرت إليه من نظر العين والقلب، أي ما رأيته بالبصر والبصيرة”.
الراوي الناظر
يولد الراوي الناظر سنة 1937، وينتهي به المطاف وحيدا قعيدا معتكفا في داره. عند الوصول إلى عامه الخامس والعشرين، يتزوج “شهرزاد” وينجب ثلاث بنات، ومع مرور السنين الحافلة بالتوتر والقلق والأزمات، يصل إلى السنوات الأولى من القرن الجديد، ليكتب أوراقه وشهادته، في ظل حالة نفسية مضطربة تترك بالضرورة آثارها على أسلوب ومنهج الكتابة “هل يمكنك إسقاط حقيقة أنك مقعد مقيد إلى كرسيك، غير قادر على الصعود والنزول، والرواح والمجيء بقانون ساقين قويتين قادرتين على الحركة ببطء أو سرعة، متثاقلتين إن أرادتا، مهرولتين إن قصدتا، وإن عنّ لهما الركض تجد نفسك راكضا وتطير؟!”.
لا يزعم الراوي الناظر أنه روائي محترف ذو خبرة ودراية بآليات وتقنيات الإبداع، وللإطار الذي يلتزم به في الكتابة قوانين خاصة ستتعصى على التصنيف التقليدي الشائع “لست كاتبا، وما أكتبه ليس سوى شذرات لا يحكمها فكرة ولا بنيان. ما الذي لديّ؟ سؤال لم أحدد كل عناصره، كأنه حيرة عقلي لا سؤال! دفاتر قديمة وكتب مبعثرة على الأرض، أوراق تفتت أو تآكلت حفظتها قبل عشرات السنين مع ما لم أعد أذكره من نثريات في حقائب وصناديق أنزلتها لي أم عبدالله من الصندرة بناء على طلبي، ما الذي سأفعله بذلك كله؟ كيف أدرجه في الحكاية، كيف أحكيها؟”.
في إطار ما سبق، تبدو الكتابة في جانب منها ذات طابع وثائقي أرشيفي، وتسيطر النزعة الذاتية الانتقائية غير المقيدة بضوابط إبداعية أو بحثية. البطولة للحكايات دون نظر إلى أسلوب الحكي والمعايير الفنية التي تحكمها وتتحكم في البناء، ويمكن القول إن التجربة في مجملها محاولة للتنفيس عن كومة هائلة من الأزمات الذاتية والموضوعية المتراكمة المتشابكة، أما الجانب الذاتي الخالص فإنه يتمثل في الحالة المرضية التي تفرض عليه أن يكون قعيدا عاجزا عن الانطلاق “أنت مقعد على كرسي متحرك منذ عشر سنوات، إحدى عشرة سنة على وجه الدقة”.
لن يتحقق التواصل مع العالم الذي تقدمه رضوى عاشور بمعزل عن استيعاب دوافع الناظر للبحث وفلسفته في الكتابة، حيث بطولة المكان والطموح إلى الوعي المقنع المشبع بطبيعة المشهد المعقد وتحولاته التاريخية “كيف أمزج الحكاية بالمقال، لا مانع من مقال قصير تحتويه الحكاية، ولكن الموضوع يتطلب مقالا طويلا، حتما سيكون ناتئا، ثم إن الروايات على ما أعرف لا تفضح أفكارها بالتقرير المباشر، لا تقدم الأمور هكذا، بل تضمنها حياة شخصيات تروح وتغدو، تعيش وتموت، فيجسدها مسارها ومصيرها تفاصيل الفكرة والمنظور. ليست مهمتي الآن نقل تفاصيل الانتقال وأشكاله، وتحليل كيف ولماذا ورث من ورث القاهرة الرومية. أريد أن أحكى عن المكان الذي ولدت فيه. لا خبرة لي بكتابة الروايات، أنا لا أكتب رواية بل أنظر في وسط المدينة حيث حكايتي، أتأمل القديم والمستجد من ملامحها، هذا ما أقصد”.
مزيج مركب من الوثائقي والخيالي، الواقعي والتحليلي، الزماني والمكاني، التحليل الذي ينحاز والوقائع المجردة المحايدة بلا موقف حاسم؛ والذات حاضرة بقوة عبر هذه الثنائيات جميعا. إنها حكاية الوطن والذات معا.
آل روتشيلد
آل روتشيلد يهود ألمان فاحشو الثراء عظيمو النفوذ، يمثل وجودهم المؤثر عبر قرون متصلة فصلا بالغ الأهمية في التاريخ الحديث لليهود والحركة الصهيونية. ليس مستغربا أن تحظى الأسرة ذائعة الصيت باهتمام لافت في الرواية التي تنشغل برصد وتحليل الموقع الذي يحتله اليهود، في مصر وخارجها.
تقترن بداية تأثير الأسرة اليهودية في الحياة المصرية بالدور الذي يلعبه البارون “لايونيل ناثان مايردى روتشيلد” فى تقديم الدعم للسياسي البريطاني ذي الأصول اليهودية “بنجامين دذرائيلى”، وتمكينه من شراء الأسهم المصرية في شركة قناة السويس، وكأنما يحرص الراوي-الناظر على تنبيه القارئ إلى تشعب دور الأسرة عندما يضيف شارحا “سيخلط القارئ بين هذا الروتشيلد والروتشيلد الآخر الذي وجه له وزير خارجية بريطانيا بعد أربعة عقود من واقعة بيع الأسهم رسالة يعده فيها باسم حكومة جلالة الملكة بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد يختلط عليه الأمر أكثر لو أشرت إلى آخرين من أبناء وأحفاد تلك العائلة”.
عبر أجيالها المتعاقبة تلعب العائلة اليهودية صاحبة النفوذ الاقتصادي والسياسي دورا بالغ الأهمية في تشكل مسارات إيجابية للمسألة اليهودية والحركة الصهيونية، ومن أبناء الأسرة يبرز اسم “إرنست كاسل” الذي يتحول رسميا إلى المسيحية “وإن عبّر في كل كتاباته عن وعى حاد بأصوله اليهودية.
ارتبط الرجل ذو القبعة العالية بشبكة مصالح مالية وعلاقات عائلية عبر المصاهرة بالعديد من رجال المال الأوروبيين اليهود، لعل أبرزهم موريس دي هيرش المليونير اليهودي الذي أنشأ المنظمة اليهودية لاستعمار فلسطين قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول بست سنوات”.
التحول الديني الشكلي لا يعنى شيئا ذا بال، والوعي بالانتماء اليهودي العميق يفوق ما تشير إليه الأوراق الرسمية، ذلك أن الأفكار الراسخة المستقرة يهودية خالصة، واستعمار فلسطين هدف يتوحد الأغلب الأعم من أثرياء اليهود تحت رايته. علاقات هؤلاء عابرة للبلدان والقارات، وصداقة “كاسل” الشخصية مع الخديو عباس حلمي الثاني محطة مهمة جديرة بالانتباه والاهتمام “أقرضه كاسل نصف مليون جنيه فما كان من الخديو إلا أن رد الجميل بأحسن منه فسمح لصديقه باستغلال آلاف الأفدنة من أراضى الصعيد، إضافة لأملاك الدائرة السنية”.
فضلا عن امتلاك آلاف الأفدنة في الصعيد، يستحوذ “كاسل” على نصف رأسمال البنك الأهلي المصري، والنصف الثاني يملكه الأخوان اليهوديان “سوارس” مع اليونانى”كونستنتين سلفاجوس”. في هذا البنك يعمل الراوي الناظر، لكنه لا ينشغل بمعطيات ودلالات التاريخ القريب.
أجيال شتى من آل روتشيلد تسهم بفاعلية في تدعيم الحركة الصهيونية عبر إحكام السيطرة الرأسمالية اليهودية، وما يترتب عليها من نفوذ سياسي، أما المؤسس الذي يعود إليه الفضل في بناء العائلة الأسطورية فهو “أمشل ماير”، المولود في مدينة فرانكفورت عام 1743. يتزوج مبكرا، وينجب عشرة من البنات والبنين “يكبر أولاده العشرة ويدير متجره ويتوسع في نشاطه لينتقل تدريجيا من صرّاف وتاجر عاديات قديمة في حارة اليهود إلى مقرّب من رجال البلاط يورد لهم العملات النادرة، ويحظى بثقة الأمير الحاكم”.
تتوسع إمبراطورية “أمشل” بفضل أبنائه الذكور الخمسة الذين يتوزعون في البلدان الأوروبية الأكثر أهمية، ويحكمون السيطرة محتفظين بتماسكهم وتعاونهم في إطار سري يصعب اختراقه والتعرف على خباياه “الأكبر ويُدعى أمشل كأبيه، استقر في فرع برلين، والأصغر جاكوب والذي عُرف باسم جيمس ذهب إلى باريس، وسولومون الأصغر من أمشل إلى فيينا، وكالمان المعروف باسم كارل إلى نابولي، أما واسطة العقد، الولد الأذكى ناثان، فأوكل إليه أبوه إدارة المركز في المدينة الصاعدة لتحقيق نجمها الإمبريالي، أقصد لندن. لم يتفرق الإخوة رغم توزعهم على البلاد، ولم يرحل أيّ منهم منشقا على أبيه كما فعل روبنسون كروزو في الرواية المشهورة، بل كانوا كالأصابع الخمسة لليد الواحدة، وإن كان علينا لو قبلنا هذا التشبيه أن نتخيل يدا هائلة قابضة، تحمل على كفها عرشا، تمتد بقرض إلى دولة، أو تهز بحركة واحدة استقرار بلد. اخترع أمشل الذي ولد بعد جوته بست سنوات واختار طريقا غير طريقه، مصرفا عابرا للبلدان عززه أولاده باختراعاتهم المتنوعة”.
أسرة قوية متماسكة منسجمة بقدر ما هي مغلقة مغلفة بالطقوس السرية الغامضة مستحيلة الاختراق، وما النشاط الواسع في مصر وفلسطين إلا جزء من الدور الأخطبوطي العابر للقوميات والجنسيات “لا أدرى إن كان أيّ من أولاد أمشل زار بلادنا، ولكنى أعرف أن إدموند أصغر أولاد جيمس، وحفيد أمشل، زار فلسطين للمرة الأولى عام 1895 وأنه منذ تلك الزيارة إلى وفاته عام 1934 قدّم دعما هائلا لمشروع إقامة الدولة اليهودية، وموّل شراء الأراضي وإقامة عشرات المستوطنات، وتدريب المهاجرين على الزراعة، وترتيب استقرارهم في الأرض الموعودة. كان الرجل “محسنا كبيرا” هكذا تقول الأدبيات الأوروبية، استعمر فلسطين، وأسس معاهد ومراكز للبحوث العلمية في باريس ولندن، وجمع لوحات ثمينة لكبار مصوّري القرنين السابع عشر والثامن عشر”.
تدين الحركة الصهيونية، صانعة إسرائيل، بالكثير لأسرة روتشيلد، فهم صاحبو الدعم المادي والسياسي الأكثر أهمية عبر أنشطة مؤثرة متنوعة، تشمل شراء الأراضي وتأسيس المستوطنات وتدريب المهاجرين الأوائل. لا متسع للحديث عن الاتجاه العربي المضاد الغائب، فلا أحد يرى أو ينتبه ويهتم.
مصر والصهيونية
يحتفظ الراوي-الناظر بصفحة مصورة من كتاب قديم، تتضمن ما يرويه الجندي النيوزيلندى اليهودي “لويس إزياك سالك”، أحد طلائع القوات البريطانية التي تدخل القدس عام 1917 “كتب أنه حمل معه من مصر إلى فلسطين أول علم لليهود يرتفع على أسوار القدس. لم يكن مطابقا لعلم إسرائيل الحالي، كان نصفه الأعلى أزرق والنصف الأسفل أبيض، تتوسطه نجمة داود. رفع الجندي العلم ما إن دخل المدينة. يقول: رفرف العلم مدة عشرين دقيقة قبل دخول القوات البريطانية التي أنزلته.
العلم الذي حمله النيوزيلندي من مصر إلى فلسطين ورفعه على سور القدس في 11 ديسمبر عام 1917 كان من صنع مورينو شيكوريل وتارزي من الإسكندرية يُدعى إليعازر سلوتسكين”.
اليهوديان الوافدان إلى مصر، مورينو وإليعازر، يشاركان مبكرا في دعم النشاط الصهيوني والترويج لتأسيس دولة إسرائيل، بعد عدة أسابيع من صدور وعد بلفور. العلم المشار إليه ليس رمزا دينيا ذا دلالة عاطفية، بل إنه في المقام الأول علامة على الحلم الذي يعمل قطاع عريض من اليهود جاهدين بغية تحقيقه، عبر سلسلة طويلة من العمل الدؤوب المنظم الواعي.
هل يمثل هذان اليهوديان القاعدة أم الاستثناء في سلوك ومواقف اليهود المصريين خلال المرحلة التاريخية؟ يذهب الراوي الناظر إلى شيوع التوجه وانتشاره بشكل علني لا سرية فيه أو تستر، ذلك أن الفيلق العسكري اليهودي ليس تنظيما مجهولا، والهدف من تشكيله يتجلى بوضوح في مقولة قائد الفيلق لجنوده “إن العالم يتطلع إلى فيلق صهيون، ولا يكفي أن يقوم جنود هذا الفيلق بواجبهم كجنود بريطانيين، على كل جندي أن يبذل كل ما في وسعه ليُشهد العالم أن اليهودي جندي، وأنه قادر على الكفاح والانتصار ليحقق حلمه في إنشاء وطن يلوذ به في الأرض الموعودة”.
الخطاب الحماسي التحفيزي ليس إنشائيا فضفاضا، والهدف الأساس هو بناء الوطن القومي اليهودي في الأرض الموعودة. “مورينو” و”إليعازر” يترجمان الحلم ذا الجذور الأسطورية في صورة علم، ومن الوارد أن يكونا عضوين في إحدى الجمعيات الصهيونية النشيطة التي تنتشر في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد وطنطا والمنصورة، وقد يكونان أيضا من أعضاء الوفد الذي يزور المعتمد البريطاني في أغسطس 1917 “معربا عن استعداد اليهود لتقديم أية خدمات يطلبها منهم”.
التحركات اليهودية علنية لا تنمّ عن خوف أو حرص، والتجمعات الاحتفالية الحاشدة يتم تنظيمها بمعرفة ومشاركة رموز وقادة السلطة المحلية “فالإسكندرية شهدت احتفالا كبيرا حضره ثلاثة آلاف يهودي تأييدا لوعد بلفور قبل أربعة أيام من صدور هذا الوعد في صيغته النهائية”.
محافظ الإسكندرية، أحمد باشا زيور، واحد من حضور الاحتفال اليهودي، وربما يلقي كلمة بالفرنسية دعما للمحتفلين، لكن اليقين الذي لا يطوله الشك يتمثل في علنية التجمع من ناحية وغفلة المصريين الذين لا ينتبهون إلى خطورة الحدث من ناحية أخرى “المؤكد أن الحشد اختتم المؤتمر بإرسال برقية إلى وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية تقول: هذا الحشد الجماهيري من يهود مصر يؤيدون بالإجماع إعادة إنشاء فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي، وهم على ثقة أن حكومة جلالة الملك، يقصدون حكومة ملك إنجلترا التي تقدم الوعد، ستقوم بقصارى جهدها لتسهيل تحقيق ذلك”.
بعد أيام من المؤتمر يصدر وعد بلفور رسميا، وعندئذ تتكرر الاحتفالات اليهودية الصاخبة في شوارع الإسكندرية، والملمح الأبرز فيها هو العرض الذي يقدمه جنود الفيلق الصهيوني “يتقدمهم علم كبير نصفه أزرق ونصفه أبيض تتوسطه النجمة السداسية”.
العلم الذي يرتفع مبكرا في سماء القدس، والاحتفالات اليهودية العلنية بصدور وعد بلفور، لا يمثلان البداية الحقيقية للنشاط الصهيوني فى مصر. قرب نهاية القرن التاسع عشر يبدأ العمل، والبطولة في جانب كبير منه معقودة لـ”ماركو باروخ”، البلغاري المولود في إسطنبول سنة 1872.
جذور الانتشار
حفيدة الراوي الناظر، التي تحمل بدورها اسم “شهرزاد” مثل جدتها، تعين جدها وتنهمك في جمع معلومات مثيرة عن نشأة الحركة الصهيونية في مصر، وهي المعلومات التي تصفها الحفيدة بأنها “مفزعة”، قبل أن تعلق “ولا أعرف كيف أحكم على الأمر، هل كان الناس غافلين إلى هذا الحد أم لديك تفسيرات أخرى؟”.
“ماركو باروخ”، الذي يتحول فكريا من الفوضوية إلى الصهيونية، من دارسي الفلسفة في جامعتي باريس وفيينا، ويصل إلى مصر عام 1896 “أقام في حي درب البرابرة حيث يسكن اليهود الأشكيناز، المهاجرين من شرق ووسط أوروبا.
أسس ثلاث جمعيات صهيونية في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد.
غادر مصر إلى كورفو ثم منها إلى إيطاليا.
حضر المؤتمر الصهيوني الثاني والثالث كعضو في الوفد الإيطالي.
انتحر في فلورنسا في الرابع والعشرين من أغسطس عام 1899، وكان في السابعة والعشرين من عمره”.
ليست القضية هنا في تصنيف شخصية “ماركو باروخ”: مغامر أم مجنون؟ وليست أيضا في حياته القصيرة الحافلة بجملة من الأنشطة والتحولات المثيرة؛ لكن المسألة الجوهرية الجديرة بالاهتمام والتحليل هي الأعمال التنظيمية الخطيرة التي يقوم بها في مصر لخدمة التوسع الصهيوني. تقرير مفصل يكتبه عن أوضاع اليهود، واندماج سريع فعال في الحراك وثيق الصلة بالزعيم الصهيوني البارز “تيودور هرتزل”، فضلا عن إنجازات الجمعية الصهيونية في مصر. الأخطر في هذا كله هو ما يتضمنه التقرير المرسل إلى مكتب المنظمة الصهيونية في فيينا “إن الصهيونية عموما معروفة جيدا من قبل المستعمرة الأشكنازية في مصر أما الفكرة لدى اليهود المحليين، لا في القاهرة وحدها بل في مصر كلها، فما زالت مبهمة تحوم حولهم، ولن يكون صعبا كسبهم إلى قضيتنا ما إن يتوفر لدينا كم كبير من المطبوعات الصهيونية بالعربية والإيطالية والإسبانية والفرنسية”.
كراسات دعائية يتم توزيعها على نطاق واسع، ما يفضى إلى زيادة سريعة في أعضاء الجمعية والمتعاطفين معها، وانتقال إلى مرحلة جديدة مهمة قوامها المشروعات التعليمية المجانية التي تمثل تحولا خطيرا في الدعاية الإيجابية الفعالة للفكرة الصهيونية واستقطاب الأنصار والمؤيدين.
“ماركو باروخ”، مع الإقرار بأهميته وخطورة الدور الذي يقوم به، ليس إلا حلقة من سلسلة متصلة تعمل منذ تسعينات القرن التاسع عشر، وتستمر في أداء مهامها خلال العقود التالية بلا توقف أو تراجع. تكتب الحفيدة شهرزاد “يورد لانداو أسماء عشرات الجمعيات والمنظمات الصهيونية التي نشأت في المدن المصرية في الفترة بين عام 1897 واندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، أولها “باركوخيا” التي أسسها المنتحر ماركو باروخ، وآخرها “أبناء هرتزل” في سنة 1913، وفى نهاية هذه السنة، تحديدا في 2 نوفمبر عام 1913، عُقد اجتماع كبير ضم ممثلي كل الجمعيات الصهيونية في مصر لتوحيد هذه المنظمات وتكوين قيادة مشتركة لها. ويشير لانداو إلى أن الصهاينة في مصر كانوا يأملون أن يجعلوا من مصر مركزا لنشر وتوزيع الكتابات الداعية للصهيونية الموجهة ليهود الشرق من الجزائر إلى الشرق الأقصى”.
السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هنا: هل تقف مصر بعيدة عن مطامع الحركة الصهيونية في بحثها عن أرض ودولة؟ وهل تنجو من مخاطر أن تكون أجزاء من أراضيها بديلا محتملا مطروحا لتأسيس الدولة اليهودية المنشودة؟ ما أكثر الأسئلة التي لا تجد الإجابات النهائية الحاسمة، لكن المؤشرات تنبئ عن مفاتيح يمكن استنباطها لمراودة الإجابة “هل اقتصر عرض هرتزل أثناء زيارته لمصر في عام 1903 ومحادثاته مع الحكومة المصرية على إقامة كيان صهيوني فى سيناء، أم طرح فكرة الحصول على 30 ألف فدان في كوم أمبو لإقامة مستعمرة يهودية كبديل محتمل؟ هل جاء هرتزل بفكرة كوم أمبو من فيينا أم جاء بها شخص أجنبي آخر إنجليزي أو ألماني، أم اقترحها يوسف أصلان قطاوي مدير شركة وادي كوم أمبو (أصبح بعد ذلك ممثل كوم أمبو فى البرلمان) وفكتور هراري باشا وموصيري بيه ومغاييل سوارس وسير روبرت رولو المساهمين في الشركة؟”.
الشائع المعروف الأكثر انتشارا عن زيارة هرتزل لمصر أنها تتضمن اقتراحا بأن تكون سيناء وطنا لليهود، فهل كانت آلاف الأفدنة المملوكة ليهود مصر في الصعيد بديلا عند تعثر الفكرة الأساس؟
الأسماء اليهودية المحلية المشار إليها في المقتبس السابق، قطاوي وهراري وموصيري وسوارس ورولو، تقود إلى محطة جديدة تتعلق باليهود المصريين والمتمصرين من أصحاب النفوذ والدور المؤثر في تشكيل خريطة الحياة الاقتصادية والاجتماعية المصرية، ولا شك أن آل قطاوي هم الأبرز في هذه المنظومة.
أسرة قطاوي
تمثل أسرة قطاوي، نموذجا مثاليا دالا في التعبير الدقيق عن الموقع الذي يحتله أثرياء اليهود في مصر، حيث السيطرة على جانب كبير من الأنشطة الاقتصادية الحيوية، فضلا عن العلاقات الإيجابية مع قمة السلطة، ما يسهم في تحقيق المزيد من الثراء.
يبدأ الفصل السادس من رواية رضوى عاشور بالإشارة إلى ما يكتبه شاهين مكاريوس، في كتابه الصادر عن مطبعة المقتطف عام 1904، مستعرضا تفاصيل حفل ختان جوستاف حفيد يعقوب قطاوي. الكتاب عن أثرياء اليهود في مصر، وأجواء الاحتفال تكشف عن الثراء الفاحش والبذخ غير المحدود وسمو المكانة الاجتماعية للأسرة اليهودية الشهيرة، وليس أدل على ذلك من مشاركة الخديو عباس حلمي الثاني في الحفل الصاخب الذي يمتد حتى مطلع الفجر!
بعد هزيمة الثورة العرابية، يصل اللورد دوفرين مندوبا عن دولة بريطانيا العظمى للإشراف على تعديل وإنشاء “نظامات وقوانين بلاد مصر”، ولا تجد الحكومة منزلا يليق بالزائر خطير الشأن غير بيت قطاوي “فطلبت من هذه العائلة الكريمة أن تعد منزلها فأقام فيه اللورد مدة مكوثه في مصر”.
يعقوب بن يوسف بن اسحق صمبري قطاوي، رب العائلة ومؤسسها، يصل إلى مصر من حلب في فترة ولاية محمد علي “وتولى أشغال الضربخانة (أي دار سك النقود)، وأمور المخابز وحلقات الأسماك والجمارك، ثم صار في عهد الخديو عباس الأول شيخ الصيارفة في مصر، واحتفظ بمركزه في حكم سعيد وإسماعيل. والأرجح أن قطاوي كغيره من أبناء حلب المؤهلين لتبوّؤ المراكز العليا في الدولة، كان يتحدث فضلا عن العربية وهى لغته الأم، اللغة التركية، لغة الدولة والإدارة في الإمبراطورية العثمانية”.
تكشف السيرة الموجزة عن حقيقتين مهمتين متداخلتين تتعلقان بمكانة أغنياء اليهود في خريطة الحياة المصرية: غياب الاضطهاد والتمييز الديني ما يسمح بالصعود الطبقي والوظيفي دون عوائق، العلاقات الإيجابية مع المتربعين على قمة السلطة في مختلف العهود.
يموت يعقوب مؤسس العائلة بعد عام واحد من الاحتلال الإنجليزي لمصر، ويتمثل الامتداد في أولاده الذكور الأربعة، فضلا عن البنات اللاتي تكشف زيجاتهن عن شبكة العائلات اليهودية المتميزة ذات الوجود المؤثر الفعال “تزوجن من أبناء أكبر العائلات اليهودية في مصر، وخلفن أحفادا يحملون أسماء منشة وموصيري وسوارس ورولو ومزراحي، ينتمون جميعا عبر فروع الأمهات إلى شجرة يعقوب قطاوي”.
في ظل المنظومة الجديدة من القيم التي تسود وتهيمن بعد الاحتلال الإنجليزي، ينتقل أبناء أسرة قطاوي سريعا من التشبث بالهوية الشرقية العثمانية إلى التعلق بجملة المعطيات الثقافية الغربية في اللغة والأسماء والملابس. الأب المؤسس يتكلم العربية والتركية، ولا يرتدى إلا الملابس التقليدية، الجبة والقفطان، أما الأبناء والأحفاد فإنهم يتخذون مسارا مختلفا قوامه الانسلاخ من الموروث القريب ومسايرة طوفان التحديث المترتب على الاحتلال “سمى موسى قطاوى، وكان أصغر أبناء يعقوب سنا وأكبرهم إنجازا، أولاده جوستاف وهكتور وإدجار وإديت (وهو نفسه كان يُشار إليه أو يشير إلى نفسه أحيانا باسم موينير، وأحيانا باسم موريس). وللدقة لا بد من الإشارة هنا أن التفرنج لم يقتصر على آل قطاوي القادمين من حلب، بل امتد إلى كل أبناء النخبة، أقصد الأثرياء المتنفذين والمتعلمين، بصرف النظر عن انتمائهم الديني”.
التحول الحضاري، وثيق الصلة بالرغبة في الحفاظ على المصالح المادية ومسايرة الإيقاع الاجتماعي المختلف، عابر بالضرورة للانتماء الديني، وخصوصية أسرة قطاوي تتمثل في الجمع بين الثراء والاقتراب الدائم من دائرة السلطة العليا في النصف الأول من القرن العشرين، فضلا عن بناء علاقات تضفى الحماية وتمنح القوة مع القوى الدولية العظمى خلال المرحلة التاريخية. يرتبط موسى قطاوي بالإمبراطورية النمساوية المجرية، ويرفعه الإمبراطور إلى مرتبة نبيل من نبلائها، وينطبق الأمر نفسه على زوج أخته الكبرى سمحا، أما الشقيقة الأصغر فتتزوج نسيم موصيري، وتقترن ابنتهما بالمحامى الكبير أهارون أليكسندر، المهاجر من مدينة الكاب في جنوب إفريقيا “وكان المحامي يدير أشغاله العابرة للبلدان من مكتبه الكائن في بناية السافوي في ميدان سليمان باشا، يباشر مصالح شركة قناة السويس، ويتولى قضايا الوالدة باشا، ونساء من عائلة روتشيلد. ولم تحل أشغاله دون الانهماك في التعبير عن مساندته للكبار والصغار من معارفه وأصدقائه واستضافتهم في بيته، ومنهم صديقه وايزمن، ومنهم أيضا ضابط الاستخبارات الإنجليزي الشاب أوبري إيبان.. سنعرفه باسم آبا إبان وهو يرفع علم إسرائيل في الأمم المتحدة بعد إعلان الدولة التي سيتولى وزارة خارجيتها لاحقا”.
تتشابك العائلات اليهودية، المصري منها والوافد، ويلعب عدد من أفرادها الأكثر نشاطا وتأثيرا دورا خطيرا في دعم الحركة الصهيونية والتواصل الحميم المباشر مع قادة ورموز دولة إسرائيل في مرحلة تالية. عبر هذا كله، لا شيء من الأذى والاضطهاد أو المضايقة والمطاردة، وحرية الحركة بلا قيود على الأصعدة جميعا، بل إن انتباه القوى الوطنية إلى خطورة التحركات ذات الظاهر الديني والإنساني ليس قائما.
سيطرة اقتصادية
في النصف الأول من القرن العشرين، تسيطر العائلات اليهودية الثرية على قطاعات متعددة في الاقتصاد المصري، وما أكثر هذه العائلات “الإخوة سوارس والإخوة شيكوريل والإخوة قطاوي، وغيرهم من العائلات اليهودية المتنفذة في مصر: موصيري ورولو وليفي ومزراحي”.
تقدم الرواية تفاصيل شتى عن الممتلكات اليهودية الضخمة، الموزعة بين البنوك والشركات والمتاجر العصرية والمؤسسات التي تتحكم في عصب الحياة اليومية، ومن ذلك “البنك الأهلي، وبنك الرهونات، والبنك العقاري المصري، والبنك التجاري المصري، والبنك الزراعي المصري، وخط سكة حديد حلوان، وخط سكة حديد الدلتا، وشركة قنا-أسوان للسكة الحديد، وشركة المعادي، وشركة الملح والصودا، وشركة مصر الزراعية، وشركة مياه طنطا، وشركة وادي كوم أمبو وما تملكه من آلاف الأفدنة المزروعة بقصب السكر ومعامل التكرير التابعة لها، فضلا عن أغلب المتاجر الكبيرة في البلد”.
السؤال هنا: أهم مواطنون أم يهود؟ حقوق المواطنة جديرة بالاحترام، وجوهرها استبعاد فكرة الانتماء الديني الذي هو شأن خاص في نهاية الأمر. الاستغلال وحده هو الجدير بالرفض والإدانة، والمفهوم يتجاوز الرأسمالية اليهودية بطبيعة الحال. ما تشير إليه الرواية من أنشطة اقتصادية متنوعة يقترن بآليات النظام الرأسمالي دون نظر إلى الهويات الدينية، وفكرة التحامل على اليهود وإدانتهم لأنهم يهود ليست مطروحة، ذلك أن التفاعل يتم على أرضية الموقع الطبقي اللاديني “ليس هؤلاء أبناء حارات اليهود، المحليين الذين لا يعرفون سوى العربية. هؤلاء جاؤوا مع موج البحر، حملهم الموج من شاطئ إلى شاطئ ليسكنوا قصورا، ويترددوا على قصور، ويحضروا الحفلات الراقصة في بيت اللورد، أو ليسكنوا دورا متواضعة فقيرة، لأنهم عمال، ولأنهم مهاجرون، وفى الحالتين يتحدثون الإيطالية والفرنسية واللادينو أو الروسية والألمانية واليدش فترفعهم اللغة وأصولهم فوق “المحليين” من أهل البلد (بما فيهم يهود الحارة) وتربطهم بأسيادها الأجانب”.
اليهود في مصر لا يمثلون كتلة واحدة متجانسة جراء المعتقد الديني الواحد الذي يجمعهم، وفكرة السيطرة اليهودية على الاقتصاد المصري لا ينبغي أن ترتبط بالمعنى الديني، ذلك أن البطولة المطلقة للمنظومة الرأسمالية التي تضم أبناء الطوائف الدينية جميعا. التمييز ضروري بين “يهود الحارة”، الذين لا يختلفون جوهريا عن العاديين من المصريين المسلمين والمسيحيين، ويهود النهب والتعالي المتغطرس والتحالف مع القوى الرأسمالية العابرة للأديان والقوميات معا.
البداية الحقيقية مع مراودة حلم أن تكون مصر “قطعة من أوروبا”، وهذا النمط من الأحلام يقود إلى فتح الأبواب للوافدين “صار الباب كبيرا يفوّت، لا جملا كما يقول المثل الشعبى، ولا قافلة من الجمال، بل جيوشا من العسكر والمستثمرين والمديرين والجوارح، معهم جاءت أعداد غفيرة من يهود أوروبا”.
اليهود الوافدون إلى مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر
جزء من قوافل القادمين تحت راية تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا، وهو الحلم الذي يفضي إلى تداعيات كابوسية ونتائج سلبية وخيمة، مردودة في جانب منها إلى التقليد الشكلي ومحاكاة النموذج الغربي دون النظر إلى خصوصية الواقع المحلي وسماته. يكتب الراوي الناظر ما يعبر عن فكرة الاختلاط والتداخل هذه، ويتوقف عند الدور الذي يلعبه رأس المال اليهودي من منطلقات اقتصادية خالصة “في فبراير عام 1911 رصد مصرفان فرنسيان يمثلهما دافيد عاده وروزنبرج والسيدات فينزى ومندلفو وأدولف وجوزيف قطاوي مبلغا كبيرا لإنشاء سوق مركزية كبيرة في باب اللوق: بناء واسع متعدد المنافع يتسع لمحلات الخضر والفواكه والأسماك واللحوم كما يتسع للمقاهي والمطاعم الأنيقة، وفي طابقه الأرضي ثلاجة هائلة لحفظ الأطعمة وتبريد اللحوم والأسماك. أرادوه نسخة طبق الأصل من أسواق “الهال” في باريس واختاروا له نفس الاسم. سقط الاسم ونسي العاملون فيه ورواده أصله وفصله، وبقى المبنى قائما رثا وبائسا وشاهدا.. توقف، شاهدا على ماذا؟ على فشل المشروع أم نجاحه في إقناعنا أنه لا خلاص ولا جمال ولا نظافة إلا ببنك فرنسي وأثرياء يهود وقطعة طبق الأصل من أوروبا؟”.
إعادة إنتاج مشروع أسواق “الهال” الفرنسية، صورة مصغرة مكثفة عن حلم “أوربة” مصر. الطموح يبدو مغريا على الصعيد الشكلي، ويمثل حال نجاحه الجزئي تطورا حضاريا لا بد له أن يتفوق بالضرورة على النمط التقليدي السائد في الحياة المصرية وإيقاعها الشرقي. الدور اليهودي هنا لا يمكن أن يكون سلبيا في عمومه، فالأمر استثماري لا يستدعى الرفض والإدانة، أما النهاية البائسة فإنها تفجر أسئلة وتساؤلات تتجاوز اليهود إلى الواقع المصري وخصوصيته.
يحقق اليهود نجاحا لافتا في تاريخ الاقتصاد المصري الحديث، وفى محلات “شيكوريل” ذائعة الصيت ما يقدم نموذجا يبرهن على ما تعنيه كلمة النجاح، ويكشف عن البدايات ومسار التطور السريع.
مورينيو، رأس العائلة الشهيرة، يصل إلى مصر قادما من أزمير عام 1910، وسرعان ما يتحول المتجر الصغير الذي يؤسسه إلى علامة بارزة من معالم العاصمة في قطاعها الأوروبي. يظهر اسم مورينيو فى قصة العلم الصهيوني الذى يرتفع مبكرا في سماء القدس، ما ينبئ عن دعمه للحركة الصهيونية وحلم الدولة اليهودية فى فلسطين، ويبقى مشروعه التجاري هو الأكبر في “وسط البلد” حتى نهاية الخمسينات “كأنك في باريس. أحدث الأزياء، وصوت الفتيات يقبلن عليك لخدمتك: وي مسيو، وي مدام، أورفوار مسيو، أورفوار مدام”.
في مسار مختلف عن أبيه، يُقتل الابن سلومون في قصره عام 1927 “طعنه شاب صغير يعمل في خدمته ثماني طعنات أودت بحياته، وشيع جثمانه في جنازة كبيرة قطعت به الطريق من الجيزة إلى البساتين. أُغلقت معظم المحلات الكبيرة في وسط البلد حدادا يوم الجنازة”.
القتيل والقاتل يهوديان، ودوافع الجريمة مادية خالصة، وحياة اليهود في مصر مزيج منطقي من المألوف والاستثنائي، الخطير والعادي من الممارسات التي تتراوح بين دعم النشاط الصهيوني والموت غدرا على يدي خادم ممرور متمرد.
لا وجود للغضب الشعبي المصري تجاه اليهود لأنهم يهود، ويتجسد ذلك بوضوح في أحداث حريق القاهرة، ذروة السخط والاحتجاج. يُضار أغنياء اليهود مثلهم في ذلك مثل غيرهم من أغنياء المسلمين والمسيحيين، والتدمير في جوهره تنفيس طبقي فوضوي لا شأن له بالدين “الغوغاء أحرقوا نادي التُرف ولم يمسوا المعبد اليهودي الملاصق له. لم يحرقوا المعبد اليهودي، وأحرقوا محلات شيكوريل وأوريكو وشملا وشالون وبن زيون التي يمتلكها يهود، أحرقوا جروبي سليمان ولم يحرقوا محل سمعان صيدناوي المقابل له في الميدان”.
ليس من قانون حاسم يحكم السلوك الفوضوي المدمر، لكن الدوافع الدينية غائبة، ولا أحد يقترب من المعبد اليهودي الذي يتوسط دائرة التخريب. الانتقام من الأغنياء الذين يملكون، دون نظر إلى الهوية الدينية. اليهود الفقراء البعيدون عن دائرة الثراء الاستفزازي، أولئك الذين يعيشون مثل العاديين من المصريين، يندمجون في نسيج الحياة اليومية، ويمثلون جزءا أصيلا من الإيقاع المحكوم بالتسامح والبساطة والتعايش الذي لا متسع فيه للتعصب وضيق الأفق.
الثلاثي المرح
“دنيز” و”آديل” امرأتان يهوديتان من جيران الراوي الناظر في طفولته وبواكير شبابه، وفي العمارة نفسها تقيم الإيطالية “فرنشيسكا”. إنهن “الثلاثي المرح” وفق تعبير الرواية، والعلاقة بينهن حافلة بالمشاجرات والمشاحنات التي تزول آثارها سريعا، لأنها تدور في إطار عفوي مرح يخلو من الكراهية والضغينة. تختلط اللغات في أحاديثهن التي تؤكد اندماج الأجانب والمتمصرين في منظومة الحياة المصرية، يهودا كانوا أم غير يهود.
للإيطالية التي تتسم بالعصبية والإسراف الانفعالي تحفظات شكلية شتى على جارتيها، لكن أم الراوي تتخذ موقفا مغايرا قوامه التعاطف الصادق “دنيز طيبة، وآديل غلبانة”، ولا تخفي استياءها وتذمرها من إقحام السياسة وخلافاتها، ما يفضي إلى إفساد الجيرة الطيبة.
تتعاطف الأم المصرية المسكونة بمشاعر التسامح مع آديل وتشفق عليها، وتحكي كثيرا عن مأساتها التي تقدم شهادة مهمة عن الانقسام الحاد بين يهود مصر لأسباب دينية وسياسية، ما يؤكد مجددا أنهم ليسوا كتلة متجانسة يمكن أن تُوضع في سلة واحدة “تعرفت آديل على شاب في نادي المكابي، طويل وعريض وجميل مثل القمر. هذا ما روته لنا أمي، بطل رياضي في النادي كل البنات معجبة به، آديل كان عندها 16 سنة ووقعت في غرامه، وهو أيضا أحبها، ولما طلب أن يتزوجها، رفضه أهلها، قالوا إنه من طائفة غير طائفتهم، وقالوا إنه من سكان الحارة، بلدي وفقير مثل “ولاد العرب”. أهله سفارديم، يقولون إن أصولهم إسبانية وهم ربانيون، يتحدثون الفرنسية ولغة اسمها “لادينو” وأهله قراؤون مصريون، أو ربما جاؤوا من العراق أو اليمن، لا يعرفون سوى العربية. تنسى أمي حكاية آديل وتستعرض معارفها عن الفرق بين الربانيين والقرائين وتدلل على كلامها باستحضار أسماء عائلات من زاملنها في المدرسة الفرنسية. ليلى صالح وسونيا مرزوق وجميلة حسني كن من القرائين، وفورتونيه وجويس وجابي وإستر من الطائفة الأخرى. نعيد أمي إلى حكاية آديل لعلها تفصّل أكثر في حكاية الحب ولكنها تجمل الحكاية لتنهيها، تزوجت آديل رغم ممانعة أهلها. سنة ونصف، ثم خطفه الموت. مسكينة رجعت إلى أهلها. لم يقبلوها. زوج أختها، مسيو موريس، شهم.. قال تأتى لتعيش معنا ونربي لها الولد”.
توشك قصة حب آديل أن تتحطم على صخرة الاختلاف الجذري العنيف بين الطائفتين اليهوديتين المتنافرتين. الربانيون متعالون متغطرسون في التعامل مع القرائين الشرقيين الموصوفين في نبرة ازدراء واحتقار بأنهم “مثل أولاد العرب”، ما يعني الانحطاط والسوقية والفقر. الانقسام ليس ثانويا عابرا، وذكريات الأم عن أيام دراستها تؤكد الفارق الشاسع بين العالمين: الأسماء واللغة والثقافة. الموت نفسه لا يزيل المرارة جراء تمرد آديل، والغفران عسير كأنها ترتكب إثما لا يسهل نسيانه.
في مطلع الستينات، تصل رحلة الثلاثي المرح إلى نهايتها: تموت الإيطالية فرنشيسكا وتهاجر دينز وآديل. يتراجع الوجود الأجنبي واليهودي، ولا تبقى إلا الذكريات، لكن إدي ابن آديل يعود إلى القاهرة زائرا بعد أن تتغير الأجواء السياسي، المبادرة والمعاهدة والتطبيع، وبعودته وتداعياتها تصل شهادة رضوى عاشور إلى نهايتها.
اليهودى المختلف
بعد عشرين عاما من الغياب والقطيعة، يعود الطفل اليهودي القديم إدي صالح إلى القاهرة. في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر عام 1982، يزور جاره الراوي الناظر “لم أتعرف عليه. ذكرني فتذكرت. قال إنه جاء ليعزيني في أخي. سألني عن أمي وأبي وشقيقتي. قال إنه يقيم في باريس وإنها المرة الأولى التي يزور فيها القاهرة منذ رحيله عام 1962، لم أجد ما أقوله. لمس برودة الاستقبال وتحفظي فاختصر الزيارة والكلام وغادر”.
زمن إقامته في القاهرة، يرتبط إدي بصداقة قوية مع الشقيق الأصغر للناظر، وكما هو العهد بالأطفال في السنوات المبكرة من أعمارهم، يتشاجرون كثيرا لأسباب تافهة ثم يعودون إلى الصفاء واللعب. اليهودي الصغير اليتيم يغادر مع أسرته في ظل مناخ سياسي ضاغط لا يسمح بالبقاء، ولا يمثل حضوره وغيابه أهمية خاصة عند الناظر “أذكر طفلا يلعب مع أخي، ولا أذكر متى كبر هذا الطفل؟ وكيف كبر؟ وأين ذهب هو وأمه بعد رحيلهما من القاهرة؟ مجرد طفل من أطفال الجيران لا أنتبه سوى بشكل عابر لوجوده، ثم رحل ونسيته، ثم دق على الباب”.
برودة الاستقبال مبررة، والتحفظ المغلف بالجفاء مردود إلى أسباب موضوعية لا شأن لها بشخصية إدي نفسه. يترك اليهودي العائد مظروفا مع البواب، يضم قصاصات مصورة من مقالات له منشورة بالفرنسية، وتكشف الرسالة الشخصية المرفقة عن مشاعر الوجع والشجن التي تستوطنه بفعل الاستقبال الصادم، لكنه يؤكد في ثقة أنه ليس متهما ليدافع عن نفسه.
الموقف الذي يتخذه الناظر لا ينبع من عداء شخصي، فلا شيء يدفعه إلى التعامل مع الجار القديم كأنه عدو. إنه يضيق بوجود السفارة الإسرائيلية المفروضة بفعل معاهدة السلام، وتستوطنه جثث المذبوحين في أزقة شاتيلا، فكيف يرحب بواحد من المحسوبين على دولة الأعداء؟
لا تصل القصة إلى نهايتها بالزيارة القصيرة والخطاب المغلق، فبعد عشر سنوات تتجدد العلاقة بأسلوب مختلف “في مطلع التسعينيات أرسل لي إدي كتابا من تأليفه، يحكى فيه عن طفولته في القاهرة، توزعه بين عوالم لم يجد بينها رابطا لا ساعتها ولا لسنوات طويلة لاحقة”.
يتضمن كتاب إدي تفاصيل عن طفولته في مصر وطبيعة المناخ الذي يتشكل في إطاره، والمفارقة لافتة بين زوج الخالة الذي يزدرى اليهود القرائين، وجده لأبيه الأقرب إلى المصريين “لم يكن يعرف سوى العربية، يرتدي جلبابا ويسكن حارة اليهود، يلتقي بجده في زيارات متباعدة، تعلّم مع الوقت أن الحديث عنها غير مرحب به في بيت خالته، وبين أهل أمه عموما، كما تعلّم أن الحارة دنيا، وأهل أمه دنيا أخرى يحسن عدم الخلط بينهما، أو السماح لأيّ منهما بالمثول في حضور الأخرى”.
اليهود في مصر، قبل رحيلهم جميعا، منقسمون إلى حد العداء العنيف السافر، والذين يتشبثون بالبقاء يواجهون كراهية تتحمل إسرائيل مسؤوليتها، وعندئذ تبدو الهجرة حتمية لا بديل لها ولا مهرب منها “سافر إدي إلى فرنسا، لم يختر ذلك، ولكنه اختار بعد ذلك ببضع سنوات السفر إلى إسرائيل، وشجعه على ذلك أعمامه الذين كانوا هاجروا واستقروا فيها، ثم اختار مغادرتها”.
لا يبقى إدي طويلا في إسرائيل، ولا يتطرق كتابه إلى تفاصيل تجربة إقامته الطويلة فيها، لكنه يقدم رؤية مهمة عن وهم الأرض الموعودة وما تمثله في التاريخ اليهودي “إسرائيل نكبة على اليهود. هذا يقيني الآن، وإن كان يتعين عليّ أن أقنع الآخرين بذلك بالبحث الموثق، والحجة الدامغة”.
اليهودي المختلف إدي، المسلح بالوعي والموضوعية والمشاعر الإنسانية، يرى إسرائيل نكبة على اليهود، فهي عنده كيان يسيء إلى أطراف الصراع جميعا: تسرق الأرض من الشعب الفلسطيني، وتقتلع اليهود من أوطانهم.
وجود شخصية كهذه، بمثابة التأكيد على أن الصراع الحقيقي مع معتنقي الفكر الصهيوني دون اليهود، وبالعودة إلى التاريخ القريب يمكن القول إن الأعمال الإرهابية التي تطال اليهود المصريين وممتلكاتهم ليست بعيدة عن تدبير الموساد كما يرى إدي، والهدف هو إجبار اليهود على الهجرة؛ اليهود الراغبين في البقاء داخل الوطن الذي يمنحهم الكثير ولا يضن عليهم بشيء.