الحل‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬المشكلة.. تعليم‭ ‬التطرف‭ ‬والتعليم‭ ‬الحواري‮

الثلاثاء 2016/11/01
لوحة: ياسر صافي

لا أريد أن أبسط الأمور فأجعل الصراع بين فريقين لأنّني لا أريد أن أعيد إنتاج ثنائية الصراع الميتافيزيقي بين الملائكة والشياطين. فلكل فريق مبررات يدافع بها عن مواقفه ومصالحه، ومن ثم يلقي أصحاب كل فريق بالمسؤولية -إن كان ثمة اعتراف بمشكلة أصلا- على الطرف الآخر ليغدو البحث عن طرف الخيط أشبه بمهمّة حمل الأمانة التي تنوء بها الجبال وحملها الإنسان لعدم تقديره لقدراته ولا لحجم المسؤولية الملقاة عليه.

من اليسير أن ندين النظام السياسي في أيّ بلد عربي ونحمّله مسؤولية فشل منظومة التعليم استنادًا إلى مخرجات النظام التعليمي في أيّ بلد عربي والتي لا تخرج عن أميّة متفشية في المجتمع، ونسب عالية من المتسرّبين من التعليم، وعقم المناهج التعليمية وتخلفها المعرفي والإنساني، وتدهور مستوى كفاءة الخريجين، وانحدار شديد في كفاءة المعلمين والإداريين المسؤولين عن العملية التعليمية، وتكاليف باهظة تثقل كواهل الأسر في الكثير من بلدان العالم العربي الفقيرة نتيجة فشل المدرسة في أداء دورها وقيام نظام تعليمي مواز في البيوت ومراكز الدروس الخصوصية بتواطؤ من الأجهزة الرسمية في الدولة، ولا يقل أهمية عن كل مخرجات النظام التعليمي في العالم العربي السابقة أنه صار واضحًا أن ترسيخ التطرف في عقول الطلاب جيلاً وراء جيل قد صار مركز البنية الذهنية للمجتمعات العربية، فصرنا نتكيف مع التطرف باعتباره جزءا لا يتجزّأ من واقعنا، بل من مستلزمات العيش في عالمنا العربي، نتدرب عليه في البيوت والشوارع ونحصل على مشروعيته ومشروعية ممارساتنا اليومية له من المدارس في صورة شهادات تعليمية.

أقول إنه من اليسير أن ندين أيّ نظام سياسي عربي بسبب مخرجات النظام التعليمي السابقة، لكن المهمّ أن نسأل سؤالين: الأول هل يعترف هذا النظام السياسي بهذا التشخيص أم أنه يرى الأمور تسير على ما يرام؟ والثاني هل إدانتنا للنظام السياسي ناتجة عن اتهامنا له بالتقصير أو الفشل في تحقيق هدف مشترك وهو النهوض بالتعليم أم أداة ناتجة عن اتهامنا له بأنه لا يريد إصلاح حال التعليم وأنه يتعمد ترسيخ نمط من التعليم يتفق مع مصالحه السياسية وتحالفاته الدولية، وأن ما يشغله استمراره في السلطة حتى لو كان ذلك على جثة الوطن والمواطنين؟

إن حيثيات الإدانة للنظام السياسي تظهر أننا أمام طريقين:

1- إما أن نكون أمام نظام سياسي وطنيّ له مشروعية وله أنصار في الشارع يستمد منهم شعبيته، وله معارضون كذلك يخالفونه الرأي في كيفية الإصلاح لكنّهم لا ينزعون عنه الشرعية لوقوفهما معًا على أرضية واحدة وإن اختلفت رؤى كل منهما لكيفية النهوض بالتعليم ومن ثم بالوطن والمواطنين. ومن ثم تكون مسؤولية التعليم عن التطرف تحديدًا، مسؤولية مشتركة بل ومسؤولية مجتمعية؛ ذلك أن معوقات إصلاح التعليم قد تكون الفقر ونقص الموارد، وقد يزداد الأمر صعوبة في ظل وجود صراع سياسي بين الدولة وقوى سياسية تستمد قوّتها ومشروعيتها من توظيفها المشوه للدين والموروثات الثقافية لتتبنى التطرف على مستوى الخطاب وعلى مستوى الممارسة!

2- إما أن نكون أمام نظام سياسي تابع لقوى إقليمية أو دولية ويعمل على تنفيذ وصاياها فيما يتعلق بالنظام التعليمي، بل ويستقبل القرارات التعليمية وينفّذها من أجل تأمين مصالح هذه القوى الدولية والإقليمية التي تتعارض بطبيعة الحال مع الهدف الأسمى للتعليم وهو تحسين جودة الحياة للمواطنين وتحقيق التقدم وحماية سيادة الأوطان.

الثورة لا تكون ثورة حين تستبدل مستبدًا بمستبد ولا نظامًا تعليميًا يخرّج متطرفين يساريين وقوميين بنظام تعليمي يخرّج متطرفين إسلاميين أو ليبراليين! ولا تكون ثورة حين تستبدل استبداد طائفة دينية أو عرقية بحكم مستبد جديد

ورغم الاختلاف الكبير بين نظام سياسي عربي وطني يريد إصلاح التعليم وبين نظام سياسي عربي تابع يريد الحفاظ على السلطة أولاً وأخيرًا استنادًا لقوته العسكرية أو تحالفاته الدولية، فإن المشترك بينهما لا يكمن فقط في اشتراكهما في أن مخرجات النظام التعليمي ترسخ ثقافة التطرف والمتطرفين، وإنما المشترك بينهما أنهما فيهما من التبعية للقوى الدولية بقدر ما فيهما من الحرص على تأمين نظام الحكم -أو بحسب تعبيرهم تحقيق الاستقرار للوطن- في مواجهة المناوئين لهم في الداخل والخارج؛ ومن ثم يكون التعليم أداة للصراع السياسي على المستوى المحلي وعلى المستوى الدولي في آن.

وأزعم أن الفقر ونقص الموارد ليس هو السبب في فشل المنظومة التعليمية في أيّ دولة عربية من الدول الفقيرة -كما في مصر والسودان دول المغرب العربي- لأن الثراء في دول الخليج العربي لم يكن سببًا لتقديم نظام تعليمي مضاد للتطرف، فقد رسّخ النظام التعليمي العربي في المشرق والمغرب لمركزية التطرف في البنية الذهنية العربية من المحيط إلى الخليج، وما دام الفقر بريئا من تعليم التطرف في مدارسنا العربية، فلا أقل من أن نعترف بأن نمط التعليم الذي تحرص الأنظمة السياسية العربية على اتّباعه لصناعة «المواطن الصالح» من وجهة نظرها هو نمط تعليمي يختلف عن التعليم الحواري الذي كان سبيل العديد من دول العالم في الشرق والغرب للحاق بركب الحضارة الإنسانية.

ومن المهم حتى لا نجلد الذات دون جدوى أن ندرك في الوقت نفسه أن اجتناب التعليم الحواري ليس نتيجة أمراض وراثية ولا سمات ثقافية مقصورة على جنس العرب ولا على شعوب الشرق دون الغرب، وإنما هو خيار سياسي يسعى لأن يمكّن لنفسه في كل ثقافة، حيث يمتلك فريق إمكانيات صناعة منتجات ثقافية ويمتلك أيضًا قنوات اتصال اجتماعية وأجهزة إعلامية تحقق مصالحه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن سوء الحظ أن هذا الفريق يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن مصالحه السياسية والاقتصادية لا يمكن الحفاظ عليها دون أن تتحقق له السيطرة على العقول والتلاعب بها لأطول فترة ممكنة، وهذا الفريق قد نجد له مسمّيات عديدة في كل خطاب مضاد له؛ ومنها الرأسماليون، السلطة السياسية المستبدة، الصهيونية العالمية، الإمبريالية، الاستعمار الجديد، العولمة، الغرب، الكفار.. إلخ.

وللأسف الشديد، أن الفريق المضاد لهذا الفريق ليس العقول التي تمّت السيطرة عليها وتم التلاعب بها، فصارت مثل دُمى في أيدي المستغلين لهم اقتصاديا والمسيطرين عليها سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، لأن العقول المتلاعب بها لا ترى إلا ما يريده المتلاعبون بها أن يروه!

ومن ثم، يمثل الفريق المضاد الذي يسعى لتحرير هذه العقول من السيطرة الحالية فريقا من الحالمين بحياة إنسانية أفضل لمواطنيهم لإيمانهم بقيم ومُثُل تفرض عليهم أن يكونوا في موقف المدافعين عن الفئات المهمّشة لكنهم لا يملكون سوى الكلمة ليعبّروا بها عن نصرتهم للإنسان ومساندتهم لقيم الاستنارة والتسامح.

كما يزاحم في الدخول تحت يافطة هذا الفريق المضاد للسيطرة على العقول أولئك الذين يزعمون أنّهم يعارضون المتلاعبين والمسيطرين والمستبدّين الحاليين وأنهم يمكنهم بمجرد الوصول إلى مواقع السيطرة والسلطة أن ينشروا العدل ويعلموا الناس التسامح ويدافعوا عن الحريات ويطلقوا سراح العقول المسجونة!

وأثبت التاريخ مرات ومرات أنهم كاذبون، بل لا يستطيعون إلا الكذب! فإطلاق سراح العقول لا يكون منحة من حاكم أو مستِغِل وإنما تطلق العقول سراح نفسها وتتحرر حين تكون عقولاً تعلمت وقادرة على الثورة!


لوحة: ياسر صافي

والثورة لا تكون ثورة حين تستبدل مستبدًا بمستبد ولا نظامًا تعليميًا يخرّج متطرفين يساريين وقوميين بنظام تعليمي يخرّج متطرفين إسلاميين أو ليبراليين! ولا تكون ثورة حين تستبدل استبداد طائفة دينية أو عرقية بحكم مستبد جديد باسم طائفة أخرى، لأن الثورة تكون ثورة حين تنجح في إزاحة التطرف عن موقع المركز في البنية الذهنية العربية، فيتمكن الإنسان العربي من أن يحاور الإنسانية في عصرها الحديث.

وهذا المعنى للثورة يهدد كل أشكال النظم السياسية المستبدة داخل الدولة الواحدة وعلى المستوى الدولي في آن، ومن ثم يتم وأدها بفرض نظم تعليمية تخدم التطرف وترسّخه في العقول لتعيقها عن هذا الحوار مع الإنسانية في عصرها الحديث، وهي بفعلها الواعي هذا تقاوم كل محاولة للتعليم الحواري؛ ذلك النمط من التعليم الذي قال عنه المُربّي البرازيلي المعروف باولو فرايري (1921-1997) في كتابه «تعليم المقهورين»، «إن الثورة لا يمكن لها أن تتحقق إلا عن طريق ‘التعليم الحواري’ وما نعنيه بالتعليم الحواري ليس هو ذلك الجدل العقيم الذي يمارسه قادتنا، إنّما هو ضرب من الوعي بالواقع الإنساني، فالإنسان عندما يتبين واقعه يدخل في علاقة حوارية مع نفسه وزملائه والعالم الذي يعيش فيه. هذه العلاقة الحوارية هي التي تخدم الوعي وهي التي تؤدي إلى الحريّة وبالتالي إلى تغيير العالم. لذلك فإن الثورة في أساسها عملية تعليمية بالضرورة وذلك ما يحتّم أن تكون الطريق إليها مفتوحة يسير فيها جميع الناس دون أن تضع العراقيل أمامهم وذلك ما يحتّم أن يكون العمل الثوري قائمًا على الثقة بالناس، وألا يترك مجالا لعدم الثقة بهم».

إن عدم اختيار التعليم الحواري نمطًا لتعليم أولادنا في مدارسنا العربية يتسق مع اختيار التسلط نمطًا في إدارة المجتمع والدولة، وهو اختيار يتفق عليه المتصارعون سياسيًا المتفقون ثقافيًا على تبني نمط التعليم الذي يرسخ التطرف وهو التعليم الذي أسماه باولو فرايري بـ»التعليم البنكي»؛ حيث يكون المعلم مصدر المعرفة الوحيد ويكون الطالب متلقيًا سلبيًا، وتكون العلاقة بينهما تراتبية قائمة على القهر لا الحوار وقائمة على إفقاد الطالب ثقته في قدرته على أن يكون في موقع المتلقي الإيجابي القادر على تحصيل المعرفة بالبحث عنها والقادر على نقدها! وهي العلاقة نفسها القائمة على المستوى السياسي حيث يحتكر الحاكم المستبد والمستبد البديل له في موقع المعارضة أيضًا موقع مصدر المعرفة والحكمة ويعمل على تقييد الجميع في موقع المتلقي السلبي بإفقاده الثقة في قدرته على الإبداع والتفكير النقدي أو ممارسة الديمقراطية!

وهذه السمات التي يفتقدها المتعلم كلما علا في درجات السلم التعليمي تعني أنه علا في مراتب التطرف؛ لأن المتطرف لا يكون مبدعًا ولا يكون ذا تفكير نقدي ولا يمكنه أن يمارس الديمقراطية!

ومن هنا يمكن القول إنه إذا كان من اليسير إدانة النظم السياسية العربية دون استثناء لتورّطها بالتواطؤ والتشبث بنمط «التعليم البنكي» الذي يرسخ مركزية التطرف وإقصاء الآخر وتكفيره في البنية الذهنية العربية، فإن من الضروري في الوقت نفسه أن نرى أن النظم السياسية العربية ليست اللاعب الوحيد بل ربما في الكثير من الحالات ليست اللاعب الأساس في مباراة شرسة جارية على مستوى وطني ودولي بهدف تأبيد السيطرة من خلال التلاعب بأخطر أداة لحسم الصراعات السياسية وهي التعليم.

ويمكن أن ندلل على كلامنا باستدعاء تجربة محمد علي باشا الذي أسس مصر الحديثة وحكمها حوالي 43 سنة؛ (1805- 1848). فمحمد علي باشا كان موجودًا في سياق تاريخي وثقافي سمح له بأن يثبّت أركان حكمه بمذبحة قضى فيها على ما تبقى من خصومه السياسيين (المماليك)، وسمح له بأن يحلم بتكوين إمبراطورية حديثة على غرار الدول الكبرى (الخلافة التركية، الدول الأوروبية)؛ لذا أرسل المبعوثين إلى أوروبا في كل التخصصات التي تمكّنه من استغلال قوة عملهم (الذهنية والبدنية) لبناء الجيش؛ لكنه تجاهل وربما حرص على الإبقاء على نمط التعليم الديني كما هو في الأزهر فاستمر نمط التعليم البنكي واستمرت معه المعارف الدينية اللازمة لتسويغ الثقافة السياسية اللازمة لاستمرار سيطرته على الحكم طوال 43 سنة، واللازمة كذلك لتأسيس إمبراطورية تواجه قوى استعمارية؛ تلك القوى التي أنهت تجربته عندما رأت أن قوته العسكرية أصبحت تهدد مصالحهم في المنطقة!

اختار محمد علي ألا يدخل معركة خاسرة مع نمط التعليم البنكي المتوارث لنقل المعارف الدينية فاجتنب غضب السلطان الاجتماعي المتمثل في عامة الناس الذين تحركهم مشاعرهم الدينية التي تشكلت وفق نظام التعليم البنكي، بل اختار محمد علي باشا أن يتبنى نظام التعليم البنكي في نقل المعارف المدنية الحديثة عن أوروبا ؛ ومن ثم بقيت آثار التعليم البنكي الممنهج واضحة على رائد التنوير وإمام رحلة المبعوثين إلى فرنسا رفاعة الطهطاوي (1801-1873). ففي كتابها «النقد ومستقبل الثقافة العربية» الصادرة طبعته الثانية عن دار رؤية في العام 2013، تذهب فريال حسن خليفة إلى خطاب رفاعة الطهطاوي، الذي يتخذ منه التنويريون رمزًا ورائدًا لمشروع تنويري، متعثر إلى الآن لأسباب تكمن في أحشائه؛ لأنه خطاب تأسس على ثنائية التلفيق بين الدين والعقل/العلم حين رفض الطهطاوي أن يكون لكل منهما مجاله دون منازعة، فضلاً عن رفضه أن تكون العلاقة جدلية بينهما، فجعل من الدين شرطًا وأفقًا للعقل والعلم، إذ قال الطهطاوي في كتابه «تخليص الإبريز» في الصفحة 192:

من ادعى أن له حاجة

تخرجه عن منهج الشرع

فلا تكن له صاحبا فإنه ضر بلا نفع.

إن رائد التنوير يحرِّم على العقل التأويل في الدين لأن إيمانه ليس إيمان العقل وإنما إيمان مستند لمنهج النقل والاتّباع، ومن ثم فهو يرفض أيّ تحسين وتقبيح في أمور الدين استنادًا للعقل سواء كان ذلك عند الفرنسيين أو عند المعتزلة، ويصف من يقوم بهذه الأفعال العقلية بأنهم من الفرق الضالة والإباحيين!

ومن ثم، يصعب على نمط إيمان الطهطاوي المعادي للتأويل والمؤسَّس على النقل أن يقبل التفسير السببي العلمي للظواهر الطبيعية والبشرية، بل يكفّر أولئك القائلين به معتبرًا أن القدر هو التفسير الوحيد المقبول عند أهل الملّة، إذ يقول:

ومن يقل بالطبع أو العلّة

فذاك كفر عند أهل الملّة.

ورفض رائد التنوير للعقل وعمله في أمور الدين يقترن به ويعضده رفضه لسيادة الأمة في أمور الدنيا؛ ذلك أن لدى الطهطاوي استعارة أساسية تقليدية تكشف عن علاقة الحاكم بالمحكوم، وهي أن الحاكم روح والرعية جسد «ولا قوام للجسد إلا بالروح»، وبالتالي تسمو مرتبة الحاكم في خطاب الطهطاوي كلما كان يؤسس دولته الإسلامية على التحليل والتحريم الشرعيين باعتبار الحاكم ظل الله في الأرض أو امتدادًا للنبي. حيث أن «الإمامة إنما تخلف النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، فتقف عند حدود الله تعالى المعضدة لقوله تعالى’اليوم أكملت لكم دينكم’ وكان أبو حنيفة النعمان يقول: إياكم والأخذ في دين الله بالرأي».

إن رائد التنوير بتبنّيه لمنهج النقل أسّس لدولة دينية لا تداول للسلطة فيها ولا سيادة لأمّة ولا مساواة اجتماعية فيها؛ ذلك أن منهج النقل الذي اتّبعه الطهطاوي ليحرّم به التصوير هو ذاته المنهج الذي جعله يميّز بين تربية أبناء الملوك وما يجب أن يتعلموه وتربية أبناء الشعب وتعليمهم، لتثبت وتزداد الفجوة بين الحاكم والمحكوم فلا يخطر في بال محكوم يومًا أن يكون حاكمًا ما دام ليس من أسرة الحكم! وهو ذاته المنهج النقلي الذي جعل رائد التنوير يميّز بين ما يجب أن تتعلمه المرأة وما يجب أن يتعلمه الرجل لتثبت الفجوة الاجتماعية التمييزية بينهما ليبقى رائد التنوير ذلك الذكر الذي ينصح أبناء جنسه من الذكور»والعبد يحمد لله تعالى .. أن خلقه ذكرًا ولم يخلقه أنثى».

إن عدم اختيار التعليم الحواري نمطًا لتعليم أولادنا في مدارسنا العربية يتسق مع اختيار التسلط نمطًا في إدارة المجتمع والدولة، وهو اختيار يتفق عليه المتصارعون سياسيًا المتفقون ثقافيًا على تبني نمط التعليم الذي يرسخ التطرف

إذن، يمكن القول إن إدانة نظام سياسي مستبد وتحميله وحده مسؤولية رعاية التطرف تمثل نصف الحقيقة؛ لأن ثمة أدورًا يلعبها لاعبون آخرون مثل النخبة الثقافية والقوى السياسية المعارضة التي تمثل المستبد البديل، والقوى الدولية الاستعمارية، وقوى الجماهير التي تعدّ دوما بمثابة برميل بارود يسهل إشعاله في وجه الحاكم إذا ما قارب حيز سلطانها الاجتماعي وحاول اللعب فيه، ويسهل التلاعب بعقولها بمجرد إشباع حاجتها الأولية، ولا أقصد فقط الحاجة للمأكل والملبس والمسكن وإنما الحاجة للشعور بأنهم أصحاب الحق ويملكون الحق وأن من حقهم وحدهم أن يتكلموا باسم الحق لأنهم وحدهم هم الحقيقة وغيرهم على ضلال بل هم أهل الضلال المتآمرين فتبدأ رحلة الصعود إلى هاوية التطرف!

ويبدو لنا هنا أن ثمة أهمية لاستدعاء ذاك الموقف الراسخ في ذاكرة جلِّ المثقفين باعتباره علامةً على دور المثقف التنويري في مواجهة مجتمعه، الغالبة عليه الثقافة التقليدية في لحظة من لحظات ازدهار الليبرالية السياسية في مصر في الثلث الأول من القرن العشرين؛ أعني موقف طه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي» وكيف أن أستاذ الأجيال أحمد لطفي السيد كان يدافع عن حرية البحث العلمي واستقلال الجامعة بل قدم استقالته تضامنًا مع أستاذ الجامعة طه حسين، وكيف أن محمد نور وكيل النيابة الذي قام بالتحقيق مع طه حسين حول أفكاره التي بثّها في الكتاب موضوع التحقيق كان نموذجًا لرجل القضاء المثقف المؤمن بالقيم الليبرالية، وفي مقدمتها حرية التعبير وحرية البحث العلمي، لكن ما لا يتم تأمله كثيرًا في هذا الموقف/المشهد الثقافي هو موقف سعد زغلول من طه حسين وحقه في التعبير عن رأيه في مواجهة الجماهير وإلى أيّ مدى يدحض هذا المشهد الثقافي ما قد يتخيله البعض من مركزيةٍ للمثقف في المجتمع حتى في ذروة ليبراليته السياسية؛ إذ يمتص سعد زغلول غضب الجماهير بقولته الشهيرة ««هَبَوا أن رجلا مجنونًا يهذي في الطريق، فهل يضير العقلاء شيء من ذلك؟ وماذا علينا إذا لم تفهم البقر..!» وما هي إلا سنوات ويستوعب طه حسين المثقف الدرس الذي علمه إياه السياسي الليبرالي سعد زغلول لينطق به بلسانه هو وإن كان بصياغة مختلفة تناسب محدِّثُه وهو الدكتور محمد حسين هيكل الذي أخبره طه حسين برفضه إعلان تأييده إلغاء الخلافة الإسلامية مبررًا ذلك بقوله «هذا موضوع حساس عند العامة وأخشى أن يستغل خصومنا ما سأقوله ضدنا». (صلاح عيسى، مثقفون وعسكر، 1986- ص-ص586-587)

ليس هذا حال طه حسين وحده، بل هناك الكثير من الوقائع الثقافية التي تثبت مدى هشاشة سلطة المثقف بشكل عام في المجتمع لوقوعه بين سندان السلطان الاجتماعي (الجماهير) ومطرقة السلطان السياسي (الحاكم)؛ فهل يمكن في ظل هذا السياق أن ينجح مشروع طه حسين الذي وضعه في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» لتلحق مصر بثقافة حوض البحر المتوسط ؟ وهل صار التعليم مثل الهواء والماء مثلما كان يريد؟

إن اجتناب مواجهة السلطان الاجتماعي للناس التواقين لإشباع حاجتهم لأن يكونوا تجسيدًا بشريًا وحيدًا للحقيقة والحق لم يتوقف عند لحظة تأسيس الدولة الحديثة في مصر على يد محمد علي، ولا عند لحظة سعد زغلول وهم يتّهم طه حسين بأنه من البقر إرضاء لعامة الناس الثائرين لمخالفته رأيهم، ولا عند لحظة تخاذل طه حسين عن إعلان تأييده لإلغاء الخلافة الإسلامية مراعاة لمشاعر العامة وخوفًا من المزايدة السياسية عليه من الخصوم، وإنما استمر هذا السياق المربك ولازال مستمرًا حتى الآن، وكأن الزمن قد وقف بالعالم العربي عند لحظة سقوط الخلافة العثمانية! فهل يمكن لهذا السياق الثقافي أن يبتعد قيد أنملة عن التعليم البنكي الذي في ظله يتم تعليم الصبية كيف يصبحون متطرفين يحملون شهادات عليا؟ هل يستطيع هذا السياق الثقافي أن يتوقف عن وأد كل محاولة للتعليم الحواري؟

إذا حدث ذلك ذات يوم، فسيكون ذلك اليوم يوم الثورة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.