الحياة‭ ‬في‭ ‬الظل

الاثنين 2016/02/01
لوحة: فادي يازجي

أعتقد أن القصة القصيرة حاضرة في الأدب العربي اليوم وإن كانت مرغمة على البقاء في الظل‭.‬ وأرى أن نصوصا رائعة وتجارب جادة تسعى لاختراق جدران الصمت‭.‬ ولكن المشكلة الأساسية تكمن في آليات إخراجها إلى السطح‭.‬

وقد جددت القصة القصيرة من أساليبها كما حدث لكل الفنون فهي مسكونة بهاجس التطوير والتجديد فهي منخرطة طوعا أو كرها في الواقع المتغير، تتبادل معه التأثر والتأثير، وتسعى لتطوير ذاتها باستحداث آليات جديدة تتلاءم معه وتحقق نهمه المتزايد في التبدل والتجدد‭.‬ القصة ككل فن يقيم على أرض متحركة ترفض الركود‭.‬ وهذا ما نلاحظه عند تأمل المدونة القصصية العربية التي مرّت من تجربة التأسيس والبدايات لتدخل في سيرورة من التحولات، في مستوى اللغة والأساليب وتطوير البنية القصصية التقليدية، والاشتغال أكثر على أنماط الكتابة من سرد ووصف وحوار، وتجديد المضامين والقضايا التي تعالجها‭.‬

***

ولم يُفقد التجريب القصة القصيرة هويتها، فرغم انخراط كتاب كثيرين في التجريب ممارسةً فنية تنحو نحو التجديد والتطوير، فإن القصة القصيرة قد ظلت قصة قصيرة وإن تشظت البنى وتطورت اللغة وتهشّم السرد وتعددت مستوياته فصرنا نجد في القصة الواحدة راويين أو حتى أكثر، وصرنا نجد قصة بلا أحداث، رغم كل ذلك أعتقد أن القصة القصيرة لم تنحل إلى اليوم في أيّ فن سردي أو شعري آخر‭.‬ وأعتقد أن المقياس هنا هو مدى نجاح الكاتب في بناء القصة التجريبية‭.‬ وأن تفشل قصة تجريبية في شدنا، فليس معنى ذلك أن التجريب قد أضرّ بها، إنما يتعلق الأمر بالكاتب الذي لم يوفق في بنائها‭.‬

***

لم تنح لغة القصة دائماً منحى شعريا، وأرى أن اللغة هي الواجهة الأولى للقصة القصيرة، وهي عامل مهمّ من عوامل الشدّ إلى عالم القصة‭.‬ وأعتقد أن اللغة لا يمكن أن نتحدث عنها اليوم بصيغة المفرد بل في صيغة الجمع، ذلك أن اللغة لغات حتى داخل اللغة الواحدة ومنها العربية‭.‬ و”لغة الشعر” هي مستوى من هذه المستويات اللغوية التي لا نجدها في تقرير صحفي ولا نجدها في خطاب سياسي ولا نجدها في خطبة الجمعة‭..‬ إنما هي لغة خاصة تعتمد التكثيف والإيجاز وتستمدّ قوتها من الترميز والإيحاء والتصوير‭..‬ ولئن كانت اللغة الشعرية ضرورية في بعض سياقات القصة القصيرة، فإنها في رأيي ليست صالحة دائما لأنها قد تنقلب سلاحا معاكسا إذا لم توظف في السياق المناسب‭.‬

على أن القصة القصيرة أُفقدت (بصيغة المبني للمجهول) مكانتها من حيث الانتشار والمقروئية لأسباب عديدة منها ما هو عائد إلى القصة القصيرة نفسها التي يطرح عليها سؤال مسايرة الواقع وما يطرحه من قضايا، ومنها ما يعود إلى إقبال القارئ عموما على المطالعة وتشترك في ذلك مع بقية الآداب، ومنها ما هو متعلق ببعض الجوائز الضخمة التي أعلت مكانة جنس أدبي على حساب أجناس أخرى، كجائزة البوكر وجائزة كتارا وهما مكسب للأدب العربي وإضافة حقيقية إلى الساحة الثقافية، تبرز أهميتهما من الإقبال الكبير على الرواية اليوم‭.‬ ولكن أعتقد أنهما قد أعليا من شأن الرواية على حساب بقية الأجناس‭.‬ ولتصحيح الأمر وإعادة تسليط الضوء على القصة القصيرة، لا بد لنا من جائزة في حجمهما تختصان بالقصة القصيرة وسترى حجم الإقبال على النص القصصي‭.‬

وإن كانت للرواية هيمنت اليوم على الواقع فإنها ليست المسؤولة عن وضعية القصة القصيرة وحدها على الأقل فثمة عوامل أخرى كثيرة ساهمت في التعتيم عليها ومنها القصاصون أنفسهم‭.‬

***

ليس مطلوبا من القصة القصيرة أن تعبّر بالضرورة عن الراهن العربي والإنساني رغم أنها قادرة على ذلك، وأؤكد لك أنني قرأت قصصا قصيرة من صفحات اختزلت ما لا تستطيع عشرات الروايات التعبير عنه‭.‬ دعني أذكر لك “مكاريو” لخوان رولفو، و”عينا كلب أزرق” و”الإذعان الثالث” لغابرييل غارسيا ماركيز وغيرها من النصوص الأمهات التي لا تقدر الروايات في نظري على قول ما قالته‭.‬

***

عادة ما يتخذ الكتاب القصة القصيرة تمرينا على الرواية أو مرحلة عبور إليها، مع بعض الاستثناءات، ولكن أعتقد أن القصة القصيرة ليست قاصرة على حمل الهموم، وأعتقد أن هذا الانتقال إلى كتابة الرواية له أسباب أخرى‭.‬

***

أرى أن مستقبل القصة القصيرة رهين خياراتها الآنية والمستقبلية، فإما أن تنخرط في واقعها بكل أبعاده وأن تجدد أساليبها ومضامينها بما يتواءم وروح الفن ومقتضيات اللحظة، وإما أن تخفت شيئا فشيئا وتنتهي كما انتهت أجناس أخرى كالمقامة في الأدب العربي مثلا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.