الحياة قصيرة لكن التعذيب أبدي
تقرير لجنة الكونغرس عن التعذيب الذي مارسته وكالة الاستخبارات الأميركية مرّ من دون استحضار مشاعر حارة. هذا التعذيب ليس مصورا أصلا، ولو أتيح لأيّ كان أن يشهد عمليات الإيهام بالغرق التي تعرض لها ناشطو القاعدة في مراكز الاستخبارات الأميركية لما أدرك حجم قساوة التعذيب وشدته، إلا حين يتسنى لأحد الذين تعرضوا للتعذيب وصف ما تعرض له.
والحال، فإن الخلاصة الأولى التي يمكننا أن نلامس ضفافها في هذا المجال تتعلق بمشهدية النار وقدرتها على محو الجسم وتحويله كومة من رماد، في حين أن المياه تلفظ الجسم كاملا وتبقيه متماسكا. هكذا في وسعنا أن ندرك معنى الهول الذي شعر به العالم أجمع حين بث تنظيم داعش فيديو “شفاء الصدور” الذي يظهر تحريق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيا. العمدة في قدرة داعش على إرهاب العالم تتمثل في نجاحه بتوثيق مشهد موت الكساسبة وذوبانه في النار أمام أعين العالم المتسعة دهشة وغضبا وخوفا، في حين أن عمليات التعذيب التي مارستها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جرت في السر والعتم ولم يتسن للعالم معاينة تفاصيلها، رغم أن بعض الذين تعرضوا للتعذيب ماتوا في الأثناء.
مشهدية التمويت ليست جديدة كل الجدّة. محاكم التفتيش الأوروبية كانت تحرق الساحرات والهراطقة في الساحات العامة. وفي تاريخ العالم الإسلامي، قام أبو بكر الخليفة الأول بعد النبي محمد بتحريق المرتدين، وعمد الخليفة الرابع علي إلى إصدار أحكام بتحريق اللوطيين.
نهاية السينما ومحنة التلفزيون
يحفل تاريخ السينما بمشاهد أكثر رعبا وقسوة من مشهد إحراق الكساسبة. وبعض الأفلام تناولت حوادث معاصرة، كمثل فيلم “رجم ثريا” (stoning of Surayia) الذي يظهر تمويت امرأة إيرانية اتهمت بالزنا رجما بالحجارة. فظاعة المشهد تتضاعف بسبب أن رجم ثريا حديث العهد، ولو لم يتم رجمها حتى الموت لكانت الآن ما تزال حيّة ترزق. وفي هذا التزمين ما يجعل المشهد أكثر فظاعة من مشهد تحريق الساحرة في فيلم اسم الوردة، لأن المحال إليه في اسم الوردة مات منذ زمن بعيد وقتلته ماتوا أيضا، ما يعفينا جميعا من الشعور بمسؤوليتنا عن إنقاذه أو التضامن معه.
لم تجرؤ شاشات التلفزيون على بث فيلم إحراق الكساسبة كاملا، اكتفت بمشاهد ما قبل التمويت وما بعده. لحظات التمويت هي الغائبة، وقنوات التلفزيون تريدنا أن نتخيلها، أو تريد لنا أن نشاهدها على مسؤوليتنا
مشهد إحراق الكساسبة يجعل مشهد رجم ثريا مجردا من كل تأثير، ويكاد يمحوه تماما، كما لو أن داعش استطاع أن يميت السينما برمتها ويجعلها محض تلفيق.
من جهة ثانية، لم تجرؤ شاشات التلفزيون على بث فيلم إحراق الكساسبة كاملا، اكتفت بمشاهد ما قبل التمويت وما بعده. لحظات التمويت هي الغائبة، وقنوات التلفزيون تريدنا أن نتخيلها، أو تريد لنا أن نشاهدها على مسؤوليتنا. قوة مشاهد التلفزيون التي بثت عن إحراق الكساسبة تكمن في المحذوف وليس في المبثوث. قنوات التلفزيون تفترض أن المشاهد رأى أو تخيل أو تسنى له مشاهدة ما بثه داعش، وهي لا تفعل سوى تذكيره بما شاهد. لكن البث التلفزيوني في حد ذاته يبدو والحال هذه مجانبا للحدث والواقعة ومتنحيا عن دوره الذي تنطح له منذ نشأته، أي بث الحدث مباشرة.
لقد بات كل قتل في السينما وكل خبر تلفزيوني محض ترفيه. ذلك أن مصدر الخبر الحقيقي أصبح خارج الأستوديوهات تماما، ولم يعد ثمة ما يفعله جمهور الصحافيين والمخرجين والممثلين غير الترفيه عن المشاهد المصاب بالذهول.
يوتيوب المصاب بالحمى القاتلة
المقاطع المصورة التي تلقى استحسانا ومتابعة على يوتيوب تبدو في جانب كبير منها هي تلك التي تستحضر العنف والتخويف. أكثر المقاطع مشاهدة في العام الماضي كان مقطعا يمثل كلبا يتحول إلى عنكبوت. معد المقطع يلبس كلبه الأليف ثوبا لعنكبوت عملاق ويطلقه في أماكن عامة بعد استكمال مسرحة تلك الأماكن، من خلال تعليق تماثيل أطراف وأعضاء بشرية في أماكن محددة ومشرفة ملفوفة بما يشبه سلة من خيوط العنكبوت. الذين يعبرون مصادفة في ذلك المكان المعد بعناية يفاجأون بهذه الأعضاء معلقة قبل أن يتم إطلاق الكلب الأليف مرتديا ثوب العنكبوت العملاق على المسرح ليبعث الرعب والخوف في نفس العابر.
لا شك أن هذا المقطع ومئات آلاف المقاطع الأخرى المنشورة في يوتيوب اضطلعت بوظيفة تفريغ السينما من قدرتها على صناعة المشاعر. الخلاصة التي تريد هذه المقاطع تثبيتها تتعلق بصناعة الضحك. الضحك على السينما والمؤثرات السينمائية والضحك على المتأثرين بهذه المؤثرات والقصص التي تحاك في الأفلام السينمائية.
يوتيوب يريد على ما يبدو تكرار تاريخ السينما التراجيدي، إنّما على شكل ملهاة. لكن هذا المسعى في حد ذاته فتح الباب واسعا لفيروس داعش. والأرجح أن هذا الفيروس بات متحكما في كل ما يبث عبر يوتيوب ولا سبيل إلى النجاة منه.
عمدت إدارة يوتيوب إلى حذف مقطع “شفاء الصدور” الذي بثه داعش عن إحراق الكساسبة مرات عدة. لكن داعش كان كل مرة يعيد تحميله على شبكة الإنترنت، إلى أن تيقن أنه وصل تماما إلى مقصده. ومقطع إعدام الكساسبة يختلف عن مقاطع القتل والتعذيب التي حملت على شبكة الإنترنت وتم حذفها مرارا اختلافا جليا وحاسما. في مقاطع القتل والتعذيب التي سبق بثها، كان ثمة فعل ورد فعل. ثمة مقاتل أو جلاد حانق حتى الثمالة ويعمد إلى تعذيب ضحيته حتى الموت.
بهذا التأله الذي ادعاه داعش وجدنا أنفسنا نحن المشاهدين الفانين في مواجهة نار الجحيم. الحياة قصيرة، لكن التعذيب أبديّ. لقد جعلنا داعش نخشاه كما يخشى المؤمن نار الجحيم
مشهد إعدام الكساسبة كان مختلفا هذه المرة. منذ اللحظة الأولى كان المشاهد يعرف أن الطيار الأردني سيموت في النهاية. أما صانع المشهد فكان قد أعد احتفالا لهذا التمويت، وتخيل مرارا دقائقه وتفاصيله. القتل هنا يشبه تعذيب الآلهة للخاطئين في جحيم دانتي، ولا يشبه أبدا حادثا عملت على تشكيله مصادفات متعددة. وتكرار تحميل الشريط مرة بعد مرة، يراد له أن يعيد إحياء الكساسبة كل مرة لإعادة تمويته مرة أخرى في عملية تكرار للقسوة لا تنتهي ولن تنتهي.
بهذا التأله الذي ادعاه داعش وجدنا أنفسنا نحن المشاهدين الفانين في مواجهة نار الجحيم. الحياة قصيرة، لكن التعذيب أبديّ. لقد جعلنا داعش نخشاه كما يخشى المؤمن نار الجحيم. وهذه خشية لا تحيل إلى الكره أو الحقد بل تؤدي مباشرة إلى التسليم بقدرة المخشو منه الكلية، كما لو أنه الله. الرد الوحيد عليه يكون إلحادا، لكننا هذه المرة أمام قوة مرئية ومعاينة، وليست مجردة كما هي الحال مع الآلهة وجحيمها.
شريط إحراق الكساسبة نجح في مد داعش بقوة غير بشرية، ووجدنا أنفسنا مدفوعين جميعا إلى مشاهدته بحماسة مروعة. ومع انتشار هذا الشريط بدا كل ما يبث على يوتيوب غير ذي مصداقية ولا مستقبل له، فيما بدا حذف مشهد التمويت على الشاشات كما لو أنه اعتراف ضمني بأن ما فعله داعش يفوق قدرة البشر على مشاهدته، ناهيك عن التنكب لمثله أو إتيانه.
لقد انتصر داعش على التقنية التي ولدته. لكنه انتصار باهظ سندفع ثمنه نحن البشر طويلا ومريرا، دما وألما وحرقة وشعورا بالعجز.