الخروج من الجنة

الأربعاء 2020/04/01
مراجعة الذات

1

ستداهمك الطمأنينة وأنت تجد نفسك مستهدفاً، من قبل وسائل الإعلام والتلفزيونات ووسائل التواصل الاجتماعي، والأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، وكل تهمتك أنك تجاوزت السبعين من عمرك، لا أعرف ما الذي يجب عليّ أن أفعله، كل شيء موجه ضدنا نحن الحكماء في السن، يقولون بأن مناعتنا ضعيفة، ههه سأقهر كورونا كما قهرت كل خصومي.. فلقد اعتدت المعارك مع المجهول، بل وأنا معصوب العينين.

أنا في الأصل لم أكن أغادر المنزل إلا للمشي الذي أعشقه، هو هوايتي التي لم تفارقني منذ تعلمت المشي، حيث انطلقت أشعل طرقات الشام القديمة بحثاً عن نفسي، هارباً من شيء لا أعرف ما هو، ولاهثاً نحو أفق يبدو قريباً، ولا زلت أمشي يومياً باحثاً عنها حتى ظهر لنا الرفيق الصيني كورونا، الذي منعني عن هذا، ومع الحجر الذي أعيشه في جميع المنازل التي سكنتها منذ خروجي من الرحم الدمشقي، وأنا أمشي وأقرأ، وأقرأ وأكتب، وكل ما عدا ذلك لا أتذكره، هي تفاصيل..

2

في الحقيقة، أعدت تقييم العلاقة مع الأسرة التي هي مدماك حياتي، مجدداً بعد (الخروج العظيم) وأقصد بالخروج العظيم، هو تهجيرنا ونحن قدماء سكان العالم من بيوتنا، أعدت اكتشاف العلاقة معهم، هنالك تعاضد ما يظهر في التفاصيل، هنالك حنان وقوة ورغبة في الاستمرار تملكها نساء العائلة، والنساء عادة أقوى من الرجال في مثل هذا النوع من المحن، الرجال يحتاجون عشاً كي يعودوا إليه، بينما النساء هن من يبنين ذلك العش، تعلمت ذلك من عشقي لتربية الطيور، بالمناسبة أنا أرغب في الهجرة إلى أوروبا فقط كي أنتسب لجمعيات مراقبة الطيور، ولعلها تكون هوايتي الجديدة..

إذن نحن عالقون في مركب تتلاطم به الأمواج، نتشاجر ونتصالح ونضحك ونأكل وأسمعهم يهاتفون بعضهم البعض، ويضحكون ويبكون من مرارة البعد، زوجتي سميرة، تشتاق لعائلتها ولأختها وجيرانها، وللحيّ الذي كنا فيه، وهي تدمع في الأسبوع مرة على الأقل، بينما ذلك يغضبني، لا أحب الحنين، أفكر دائماً في المضي قدماً..

3

كيف أمضي الوقت؟

في الحقيقة أنا رجل روتين بامتياز، ربما لم يتغير روتيني منذ أكثر من نصف قرن، أنهض باكراً جداً تقريباً في الخامسة صباحاً، وأشرب نسكافيه مخففة بالحليب، ومن ثم كنت أنطلق نحو المشي الصباحي، (الآن أمارس القليل من الرياضة، حسب نصائح الأطباء) ومنه أعود للفطور، ومن ثم القليل من الأخبار، وأبدأ بالعمل، الساعات الصباحية هي ساعات جوهرية بالنسبة إلى عملي، فيها أنجز الكثير، أحياناً كتابة وأحايين في القراءة، أخرج بعدها إلى حديقة البيت الصغيرة، وأتابع شؤون ومشاكل وقضايا الزهور والدوالي والشجيرات التي غرستها، (لقد فقدت منذ الخروج العظيم، جنتي، جنينتي) وأراقب ما تبقّى من طيور بلاد الشام، وربما أحمّلها السلام، لو قدّر لي أن أقبلها لفعلت، فهي غير معنية بالكورونا، بعدها أعود للروتين المتعلق بالغداء والراحة والهاتف اليومي من فارس، نتناقش عن الكتب وعن الأدب وعمّا أكتب، هو في فرنسا، وأنا في الأردن، لقد أشعرني كورونا بالحجز، أرجعني للأيام السورية، حينما كنت أشعر أن هناك شيئا ما خفيا، يعيق حريتي.

بمعنى أوسع كورونا أعاد الإنسان إلى الحجر، كي يسمح لباقي المخلوقات بالتنفس، والحياة.

4 – 5

الفايروس اللعين، أقعدنا، لم يشعرني بالضعف، بقدر ما أشعرني بأن البشرية ضعيفة، حيث لم أشعر بأنني مهدد لأن هذا الشعور ليس جديداً عليّ، طوال عمري وأنا أشعر أنني مهدد، من قبل جهات خفية، تتربص بي، لم يعنني هذا الأمر ولن يعنيني، ولن يؤثّر بي، فالأمر واضح بالنسبة إليّ والطريق واضح، والقدر محتوم.. وأنا مستمر حتى إنجاز ما أرغب في إنجازه.. كورونا يعيق من يعتمد على العولمة ومن يتكئ على النظام العالمي الجديد، أنا أعيش في عالمي، في فقاعتي الأدبية، لا حدود في مملكتي الخاصة، من يرغب بالدخول عليه إبراز أوراق اعتماد أخلاقية، وفكرية..

6

العزلة مع نفسي
العزلة مع نفسي

العزلة التي أعيشها هي من تحدد مراجعتي لنفسي، لقد بدأت مرحلة جديدة من حياتي من لحظة خروجي من الشام – سوريا، ومنذ ذلك اليوم وأنا في مراجعة مستمرة مع نفسي، ومع الآخر ومع الحياة، مع كتابتي ومع القراء، مع سوريا ومع المجهول، الفايروس كورونا جعل الأمور أوضح، وربما أسرع، هو يسرّع قصص الخيال العلمي، لم أتوقع أن تكون هذه نهاية البشرية، ربما لن تكون مع الكوفيد، ولكنها ستكون مع أبناء عمومته بعد فترة، من سيفنينا كبشر هو طمعنا وجشعنا، الكوكب سيرد كل إساءاتنا، ونحن من سندفع ثمن الجشع العالمي، من الصين إلى روسيا إلى أميركا. نحن المتفرجون، ودافعوا الضرائب، ووقود الأوبئة.

7

ذكّرني الوباء، بقصة “1984” لجورج أورويل، ربما كان الأخ الأكبر هو هذا الفايروس، الذي يحدد لنا ساعات مشينا وخروجنا وتبضعنا، يحدد لنا هل نصافح أم لا، هل نقبل بعضنا أم لا، ربما هذا الأمر سيكون صعباً على العشاق، وعلى المتهورين، الأخ الأكبر يتحكم بنا، ونحن نطيع، بلا حول ولا قوة، أنجرف في تلك اللحظة القطيعية مع البشرية، سمعت قصة عن فاشيين جدد يكحون أمام العجائز في أميركا وإيطاليا، وهم يضحكون، ربما لن تكون نهاية العالم مع كورونا، بل ستكون مع هؤلاء إن سيطروا على العالم..

ذاكرة مثقوبة

في زمان ما ومضى، لم أكن أتخيل نهاية العالم، كما كان يصورها لنا رجال الدين المسلمين والمسيحيين في دمشق الشام، بأننا سنحترق في الجحيم، والجيدون منّا سيذهبون إلى الجنة، بل كنت أتخيلها بشكل أجمل وأبسط، نهاية الحياة في مدينة مثل دمشق لا تعني شيئاً، لأننا نعيش فعلياً في الجنة، ومن يعش في الجنة لا بد أنه إنسان جيد، أن تعيش في الجنة يعني أن تختار نهايتك، وأن تختفي بنفس البساطة التي أتيت بها، ربما مثل أيمن، وسأحثكم عن أيمن بسرعة..

كان أيمن يهرب من جده، القاسي الذي لم يكن يرحمه مطلقاً حينما يغلط، كان يجلده على قدميه أمام الناس، دكان جد أيمن كان في منطقة الحميدية، في أحد تفرّعاتها المخفية، فيما يسمونه “سوق اتفضّلي”، ولكن أيمن كان يأبى الضرب من جده، رغم أنه كان يتلقاه، ولكن حساسيته كانت من أن الضرب قائم في السوق وأمام الناس، حيث لا احترام له، وبالفعل بعد كل مرة يغلط بها أيمن، كان يركض، ويركض، هارباً من السوق إلى الأحياء، نحو الغوطة، حيث يبقى سويعات ليعود بعدها وتعاد الكرة.

في إحدى المرات، كسر أيمن إبريق اللبن، وأيمن هذا كان أحمق قليلاً ولكنه حساس، فاستشعر غضب جده، فركض مجدداً، وركض وركض، وكانت الدنيا صيفاً قائظاً، بدأ أهل السوق يضحكون من هروب أيمن، ومن وعيد جده بصوته العالي إن عاد..

ركض أيمن، وركض، ودمعه يسيل مع الريح، حتى توقف في الغوطة، قرب فرع من فروع بردى، تمشى جيئة وذهاباً، وشعر بعدم جدوى عودته، فجده ينتظر، شعر بالحر، فخلع ثيابه، وقرر أن يسبح، ولربما قرر أن يختفي، عائداً من المكان الذي أتى منه.. إلى الجنة حيث الزهر والغوطة والعصافير، وسمك النهر، سبح عائداً إلى هناك، فهو لا يريد أن يعود أبداً إلى الجحيم مجدداً.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.