الخوف والتخويف

من دولة الخوف الخلاّق إلى دولة الخوف المصنَّع
الجمعة 2019/02/01
لوحة وليد نظمي

بات من البيّن أن التلازم هو قدر العلاقة بين الدولة والخوف. إنه الغطاء الشّرعي لوجودها. بل لا معنى للدولة بانتفاء الخوف. فكان العقد الاجتماعي كالتالي: عليكم أيّها البشر، أفرادا كنتم أو جمعا، أن تتنازلوا للدولة عن كل سلطة تملكونها، فردية كانت أو جمعية، مقابل أن توفر لكم هذه الدولة الأمن والأمان وتدرأ عنكم المخاطر التي عشتم آلاف القرون وأنتم تجابهونها. وبدل أن نقضي عليها، انقسمت، وتكاثرت، وتغلغلت أكثر في مستقبلنا. وازداد قربها من حاضرنا. فلماذا اختارت الدولة الخوف لتقايض به من أجل وجودها؟

قبل أن يحبّ الإنسان أو يكره، خاف. وقبل أن يملك، خاف. وقبل أن يفكرّ، خاف.. خاف مثله مثل الحيوان. لكنه “سرعان” ما فكّر في الخوف، في مصدره وأسبابه. وحين فكّر الإنسان في سبل مجابهة المخاطر التي تهدّد بقاءه، تساءل عن الطبيعة والموت والمستقبل، وتساءل عن ذاته. فكانت الإجابات هي كلّ ما أنتجه الإنسان عبر التاريخ من حروب وفنون وديانات وأساطير ومعمار وفلسفة وعلم.

غير أنّ هذه المخاطر الثلاثة ظلّت مصدرا للخوف بحكم طبيعتها الغامضة. فبعد كل هذه القرون، مازالت الطبيعة والموت والمستقبل والإنسان نفسه موضوعات مجهولة بالنسبة إلى الإنسان، فلا يمكن توقّع ما قد تفعله، وبالتالي لا يمكن مجابهتها. فجاءت الدولة واعدة بأنها ستردّ هذه المخاطر وفي أسوأ الحالات ستقلص من خطورتها أو تؤجّلها.

وقع إذن اتفاق يُلزم الفرد والجمع بالتنازل عن سلطاتهم لفائدة الدولة مقابل أن تضمن له/لهم هذه الدولةُ الأمن والأمان. علينا إذن أن نظلّ خائفين دوما حتى نكون في حاجة دائمة للدولة. كان لزاما عليها أن تحافظ على مبرّر وجودها هذا، بل بات من الضروري تجديده وإنماؤه بالتفريع والاشتقاق والتّدوير..

جنون البقر، إنفلوانزا الخنازير، الجهويات، العنصرية، ذبابة النيل، اختفاء البيض من الأسواق، انفجار لغم، هروب المستثمرين، نزول الدّينار، الانتحار، الاغتصاب، خطف الأطفال، الحرب.. ألا تؤدي جميعها الوظيفة نفسها؟ إن إشاعة هذه المخاطر بين الناس لا تؤدي إلاّ إلى الخوف بدرجات متفاوتة أوّلها التّململ والانزعاج وليس آخرها الرّعب والهلع..

في تونس مثلا، أليس في إجراء مباريات كرة القدم دون حضور جمهور الفريق المنافس إضمار بل ترسيخ لكون التّونسي، يمثل تهديدا للتونسي الآخر؟ ولا أحد يعلم من هو التونسي ومن هو التونسي الآخر؟

في الحقيقة، هذا أسلوب كل الدول حتّى المسرفة في الحداثة، سعيا منها إلى الحفاظ على وجودها. لكن ما يميّز الدول المسرفة في التخلف أن يقتصر دورها على ترويج الخوف ضمانا لبقائها دون إتمام الشرط الثاني لوجودها، وهو تحقيق الأمان من هذه المخاطر سواء أكانت حقيقية أم زائفة. وبما أنّ الدولة قد أخلّت بأحد بنود الاتفاق فإن العقد لاغ. وعليه فإنه لا وجود لدولة..

“سنعيد هيبة الدولة” شعار الانتخابات الأوّل في تونس، الشّعار المنتصر بالأرقام، كان يعني سنعيد لكم الخوف حتى تعيدوا السلطة للدولة/لنا. إنّ ما تسعى له لوبيات عالمية لتدمير مفهوم الدولة نهائيا وإلى الأبد واستبداله بكيانات أقرب إلى كونها عصابات سيتحقق لا بفعل مخططات وتدخلات خارجية بل بجهل من يديرون شؤون الدّول خاصة منها المتخلفة. إنهم يدمّرون مفهوم الدولة من الداخل وهم يظنون أنهم يعيدون إليها “هيبتها” أو لعلّهم يعمدون إلى ذلك.

لقد تراجعت الدولة أو وقع دفعها إلى الوراء لتأخذ الشركات الكبرى مهمة ترويج الخوف بتواطؤ من الدولة أو غصبا عنها، ساعدها في ذلك نظام العولمة. وسلاحها الأول في إنتاج المخاطر ونشر المخاوف هو الإعلام، المرئي خاصة، لسطوة الصورة على مجتمعاتنا الحديثة.

الخوف المصنّع: رهان الدولة للبقاء

هكذا تحول الخوف من شرط وجود للدولة إلى أداة تضمن بقاءها واستمرارها. فلم نعد نواجه الخوف البشري الطبيعي المتجذّر في الإنسان منذ القدم، ذلك “الخوف الأول” حسب زيجمونت باومان في كتابه “الخوف السائل” الذي يمكن إجماله في خوفنا من المجهول (الموت، الطبيعة، المستقبل، الإنسان).

إننا إزاء خوف مصنَّع، خوف تصنّعه هذه الشركات المتغولة قصد تخويف المستهلك ليُقبل على منتوجاتها دون تردّد: تخوّفنا، عبر ومضات إشهارية، من تقصّف الشعر وتساقطه كي نشتري الشامبو الذي تصنّعه، تخوّفنا من الجراثيم المحيطة بأطفالنا في كل مكان لنستعمل الصابون الذي تصنعه..

وأكثر من ذلك، فهذه الشركات المتوحّشة تصنّع اللقاح حتى تقينا من الأمراض وتصنع المضادات الحيوية ومختلف الأدوية حتى تشفينا، إنها تسهر على سلامة أجسادنا وأرواحنا من أمراض هي نفسها من يصنّعها، إمّا بتصنيع المرض بشكل مباشر (الفيروسات) ثم تقدّم لنا اللقاح الحامي منه أو بما تتركه الأدوية من آثار جانبية تستوجب دواء آخر تقدّمه لنا الشركة نفسها الساهرة على حياتنا.

وغالبا ما يكون سعر الدواء الذي يعالج الآثار الجانبيّة أعلى بكثير من سعر الدواء الذي نستعمله في علاج المرض الأصلي. ولا تقتصر هذه الشركات العابرة للدول على ترويع الأفراد والمجتمعات فحسب، بل لها أيضا، من صناعات الخوف ما يهمّ الدول أيضا. فتروّج الخوف من الحرب ومن الإرهاب لتبيع الأسلحة والمعدات الاستخباراتية وما إلى ذلك.

لقد انتقلنا من الخوف الأول، ذلك الخوف الخلاق، إلى خوف مصنَّع، خوف مفبرك جعلنا نعيش حياة اصطناعية، حياة مفبركة، إننا لا نحيا حياتنا.

لطالما كان الخوف هو المنتِج، فما الديانات والأساطير والفلسفة والمعمار وحتى العلم سوى نتاج لخوف الإنسان، لكنه ذاك الخوف الطاهر الخلاق، سواء كان عقليا أو وجدانيا. حين كان الخوف نابعا من الإنسان كان هنالك حضارة، كان ثمة إنسان. لكن، وبعد أن صار الخوف مسلّطا على الإنسان تسليطا، تداعى كل شيء.

تأصيل الخوف المصنّع

إن هذه الصناعة الحديثة، صناعة الخوف، قد أحدثت خللا عميقا في وجود الإنسان وكينونته. لقد كفّ الإنسان عن التفكير في ذلك المجهول الذي يخيفه، أي توقّف عن الخوف منه. فما معنى أن يسحب أحدهم من راتب الشهر المقبل مسبقا؟ أليس في هذا استخفاف بالمستقبل وتبجيل للحاضر أو ربما هو يأس من قدومه أصلا؟ “فلا شكّ أن المستقبل غير مضمون، ولكن بطاقة الائتمان تُحضر بسحرها ذلك المستقبل المحيّر للغاية في حجرك مباشرة”، حسب تعبير زيجمونت باومان في كتابه “الحياة السائلة”، ترجمة أبوجبر حجّاج، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، سنة 2017.

في كل الحالات نحن إزاء إنسان “يعيش اللحظة” فلا تعنيه سواها. ولا يخشى أن يخسر شيئا غير مرورها دون الاستمتاع بها أو دون أن يحياها أصلا. طبعا هذا التغيّر الجذري في سلوك الإنسان الفرد والإنسان المجتمعي لا يمكن اعتباره حادثا أو طارئا، فهو تغيّر عميق أصاب كنه الإنسان. إنه تغيير تاريخي ووجوديّ وما كان للإنسان في أي حقبة من حقبات حضارته أن يتخيل حياته بلا تفكير في الطبيعة، بلا تفكير في الموت، بلا تفكير في المستقبل، لقد كفّ الإنسان عن التفكير في ذاته.

ونظرا إلى سلطة الصورة وما يخلّفه التكرار من أثر يجعل ما كان في البداية غريبا عنا، أصيلا فينا بعد مدة قد تطول أو تقصر، فإنه من الطبيعي أن يتجذّر فينا الخوف المصنّع من خلال الصورة المتكررة التي تحمله إلينا في كل مكان وزمان، دون أن نُغفل مسار الدولة الحديثة الذي مهّد لكل هذا. وفي أحسن لحظات التفاؤل يمكن القول إنه لم يقع استبدال الخوف الخلاّق بالخوف المصنّع. ولكنهما صارا يسكناننا جنبا إلى جنب، بتوافق أو بتدافع، حسب وعينا الفردي بهما والجمعي. غير أن كل طاقات التفاؤل لا يمكن أن تنفي أن هذا الخوف المصنَّع، رغم حداثة سنّه، قد صار أصيلا فينا تماما مثل الخوف الخلاق الذي ورثناه عن الإنسان الأول. إنه يهدمنا من الداخل، ولن يكفّ عن ذلك حتى لو رفعنا في وجهه لافتة مكتوبا عليها: توقف باسم الإنسانية.

حتى اللحظات التي يسترجع فيها الإنسان خوفه الطبيعي الأصيل يتم تطويعه فقط للاستهلاك، فالمستقبل يتم تقديمه على أنه النهاية، بل هو النهاية الكارثية، وعليه فلا بدّ من سحب ما أمكن من رصيدنا المستقبلي لنعيش اللحظة. “بوسعك أن تستهلك المستقبل مقدّما. بوسعك أن تستهلكه الآن وهو طازج قبل أن يفسد وقبل أن تحل الكارثة..” كما عبر باومان.

للخوف المصنَّع قدرة على استثمار الخوف الخلاق وتوظيفه في خدمته، يُعلي منه متى يشاء ويخفّضه متى يشاء وفق ما سيحقّقه ذلك من منفعة لمصنّعيه. خوفنا الذي دفعنا للفن والإبداع، خوفنا الذي بنينا به ثقافات وحضارات، خوفنا الذي ميّزنا عن سائر الكائنات فجعلنا نفكّر من أجل البقاء ونفكّر في البقاء، قد صار مستعبدا من قبل شركات ما تنفكّ تبحث عن حلول لمزيد ترويج منتجاتها. “فلم يصبح الإنسان موضوعا علميا بالنسبة إلى الإنسان، إلا منذ أصبح بيع السيارات أصعب من صنعها”. كما كتب جان بودريار في “من أجل نظرية في الاستهلاك”.

هذا ما أدّت إليه الدولة الحديثة، انبنت على الخوف واعدة بمجابهة جميع مسبباته فانتهت إلى التخويف لتحافظ على بنيانها. وفي مسارها هذا ربّت رؤوس الأموال ليكونوا عونا لها في مجابهة المخاطر الكائنة بطبعها والمخاطر الممكنة، ولمّا عجزت عن القيام بوظيفتها كبّرت الدولة هذه الرؤوس أو سمحت لها بأن تكبر لافتعال مخاطر تستعرض من خلالها الدولة بطولاتها في مجابهتها حتى تلهي الناس عن عجزها وتنسيهم فشلها. لكنّ هذه الرؤوس تغوّلت وأصبحت المتحكمة في اللعبة. ولم ينقلب السحر على الساحر فحسب، بل لم يعد هناك سقف لهذا السحر ولا قانون يحكم اللعبة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.