الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية
قد تبدو الكتابة حول النظرية النسوية/أو الدراسات النسوية ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، من الأمور الشائعة والمتداولة بشكل متسارع في معظم الصحف اليومية والمجلات الثقافية والأكاديمية المحكمة. إلى جانب أن الموضوع يشغل الحيز نفسه في الاستكتابات الجماعية أو الرسائل الجامعية. زد على ذلك أن منصات التواصل الاجتماعي والميديائي كان لها دور كبير في ظاهرة تنامي وانتشار ثيمات التفلسف النسوي، أو تشكيل بوادر أولية في إبراز الفلسفة النسوية وإشكالاتها الثقافية والتاريخية.
ورغم هذا الانتشار الميديائي/الأكاديمي، لظاهرة الفلسفات النسوية في الثقافة العربية، فإن أهم ما يمكن ملاحظته على المنشور النسوي السائد والمتداول هو غياب الاستراتيجيات الثقافية والمنهجية التي تأخذ على عاتقها وضع الخطاب النسوي في سياقه الثقافي/الإشكالي التاريخي الصحيح. فالفلسفة النسوية ليست مجرد استعارات دوغمائية لآخر تقليعات فلسفات الحداثة أو ما بعد البنيوية كما هو سائد اليوم، بل على العكس من ذلك تماما، إن الفلسفة النسوية أصبحت تمثل “وسيطا منهجيا” يمر ويتداخل من خلاله معظم العلوم الإنسانية كالأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وفلسفات اللغة والسيمائيات ومناهج الشعرية والإستطيقا، إضافة إلى فلسفات العلوم والإبستمولوجيا ومباحث الوجود والأنطولوجيا منذ أرسطو إلى يومنا هذا.
من هنا، تأتي وقفتنا مع «مجلة الجديد» في عددها المخصص للفلسفة النسوية/أو الذات النسوية بوصفها مفكرة ومبدعة وساردة ومنتجة لنصها في ظل سيادة الأيديولوجيا الذكورية المسيطرة. فقد حفل هذا العدد بدراسات وشهادات وتجارب واستطلاعات ثقافية وأدبية، يمكن أن نقول عنها إنها نجحت في إحداث أكثر من منعطف على المستوى المنهجي والنظري والتحليلي والنقدي. وبهذا، يكون هذا العدد قد تجاوز «نمط الإنتاج الوصفي والسردي التقليدي للفلسفة النسوية». ونعني به هنا، ذلك النمط الذي يحدد الخطاب النسوي بإشكالات بيروقراطية مكررة ومعروفة سلفا، مثل سيادة الرجل على المرأة في كافة مناحي الحياة وحقول الفكر والثقافة والوعي والشعر والفن… الخ. فعلى الرغم من أن هذه الإشكالات هي التي تمثل «الأساس الأنطولوجي للفكر النسوي الراهن»، إلا أن التعامل مع هذه الإشكالات لطالما تم بشكل حرفي/تقليدي أرثوذكسي، قد يسطّح من قضية فلسفة الخطاب النسوي، وبالتالي، لا يضعها ضمن مكانها الفلسفي والمنهجي السليم.
وعليه، فإن التوقف مع هذا العدد المتميز الثري من «مجلة الجديد» المخصص لمناقشة وتحليل فينومينولوجيا المرأة المفكرة/المبدعة/الساردة، سوف يساعدنا على كشف سطوة القراءات التقليدية السائدة والمسيطرة دائما.
الخطاب النسوي ما بعد الكولونيالية
علينا أن نتساءل، قبل كل شيء، هل يمكن تأسيس منهج للفلسفة النسوية ضمن نظرية ما بعد الكولونيالية؟ وماذا يمكن أن تقدمه هذه النظرية لهذه الفلسفة؟ وهل يمكننا أن نعتبر أن مجمل المقالات التي نشرت في العدد المخصص حول الفلسفة النسوية لـ«مجلة الجديد» تعبر عن أفكار ومناهج ونظريات ما بعد الكولونيالية؟
في البدء، علينا أن نلقي نظرة بسيطة حول هذه النظرية، أي نظرية ما بعد الكولونيالية (Post-colonial theory). فهي تناقش مواضيع متنوعة حول تجارب مختلفة: كالهجرة، العبودية، القمع، المقاومة، التمثل، الاختلاف، العرق، الجندر، واستجابات التأثر بالخطابات المتسيّدة للإمبريالية الغربية، كما هو الحال عليه في التاريخ والفلسفة واللسانيات، وفي التجارب الأساسية في الكلام والكتابة. بالطبع، نحن هنا نعرض الإطار النظري العام لهذا المفهوم، وكما ذكرنا سابقا، فإننا لا نتوقف عند تخوم النظرية وحدودها فحسب، لئلا نقع في فخ القراءة الحرفية/الواحدية التي قد تتسلط علينا في أحايين كثيرة، دون أن نكون قد وقعنا بالفعل تحت سيطرة كولونيالية النظرية وإمبريالية المعنى في الخطاب الغربي؟
وعليه، فإن ثيمة المرأة المفكرة/المبدعة التي تم طرحها في «مجلة الجديد» يمكن أن نعيد هيكلتها ضمن منجزات ومناهج النظرية ما بعد الكولونيالية. خاصة إذا تذكرنا هنا أن معظم مقالات العدد طرحت إشكالية تهميش النص النسوي الإبداعي، جراء سيطرة الهيمنة الذكورية وسطوتها. بمعنى آخر، إن ولادة «نظرية أدبية نسوية» بدا مستحيلا حسب معظم خلاصات المقالات في العدد، لأن النص النسوي المكتوب لا يمثل المرأة، بقدر ما يعكس إمبريالية علاقات القوة الذكورية الكامنة فيه. فإذا كانت نظرية ما بعد الكولونيالية تعيد إنتاج المجتمعات الإنسانية/أو تعمل على تشكيلها وصياغتها حسب أنماط معرفية وثقافية من خلال القوة الإمبريالية فإن النصوص النظرية/السردية للمرأة، تبقى محكومة بتمثل علاقات القوة والهيمنة للسلطة الذكورية.
ثيمة المرأة المفكرة / المبدعة تم طرحها في "مجلة الجديد" يمكن أن نعيد هيكلتها ضمن منجزات ومناهج النظرية ما بعد الكولونيالية
بمعنى آخر، إن النص الذكوري صار يمثل في بنيته التاريخية ما يعرف بـ«المعرفة التجريبية» أو إمكانية المعرفة التي تتحول إلى شكل من أشكال السلطة تعمل على إعادة تركيب النظام الثقافي الهوياتي للمرأة. إذن، إن الرجل أصبح هو الآخر بالنسبة إلى المرأة، بالضبط كما يمثل الآخر الغربي بالنسبة إلى الثقافة العربية.
لهذا، فإن النص النسوي يبقى تحت هيمنة «إبستيم العنف الذكوري» حيث يعمل هذا الإبستيم على إنتاج حالة التجانس المستمرة لأشكال لامتناهية من الحتميات الذكورية، بدءا من حتمية إنتاج النص، إلى الحتميات البيولوجية والثقافية واللسانية واللغوية. وهذا يعني أننا أمام ثنائية إشكالية وهي تتمثل في وجود نخبة ذكورية/تبعية نسوية، نخبة تقود الفكر والوجود والإبداع، وكيانات نسوية -قبل الوجود- تتمثل الإبستيم الإمبريالي لهذه النخب، لتبقى محافظة على إنتاج/وإعادة إنتاج التركيب الأيديولوجي لاستمرار سيطرتها تحت هذا الإبستيم.
من هنا، يمكننا أن نوجز إشكالية إنتاج النص النسوي الإبداعي/إشكالية تشكيل المرأة مفكرة وناقدة، بمصطلحين اثنين وهما أساسيان في الدراسات ما بعد الكولونيالية، الأول هو سيطرة مفهوم الممارسة الخطابية (Discursive practice) على التخييل السردي النسوي، وقد استعمل الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو هذا المفهوم للإشارة إلى علاقات القوة في البنية الاجتماعية وكيفية تشكيلها بواسطة السلطة المؤكدة من خلال استعمال اللغة.
إشكالية النظرية الأدبية النسوية
من هنا، فإن السؤال عن المرأة ناقدة/المرأة مفكرة ومبدعة لا يمكن له أن ينفصل عن مفهوم الممارسة الخطابية من حيث صلة هذا الأخير بالعقل المدبر، أي الأيديولوجية الذكورية. فمن خلال النص السردي/المتخيل النسوي، تتحول الممارسة الخطابية إلى شكل من اشكال قبول «الهيمنة الذكورية» في بنية النص النسوي السردي. بمعنى آخر، إن سيطرة مفهوم الممارسة الخطابية هو الذي يشرّع لقبول سلوكيات ومعايير الهيمنة الذكورية ومختلف أنماط التفكير والتعبير اللساني واللغوي وصور التعقل وإنتاج الخطاب ضمن ما يعرف بسيطرة «إبستيم الفحولة» في بنية لاشعور متخيَّل النص السردي النسوي.
هكذا، تصبح الممارسة الخطابية هي المسؤولة عن إمكانية قبول قيم معايير الهيمنة الذكورية، لأنها -أي الممارسة الخطابية- تستدعي خطاب الهيمنة في الكتابة وطرق التفكير وإنتاج المعنى. لهذا، فإن السؤال عن «النظرية الأدبية النسوية» في الدراسات ما بعد الكولونيالية، هو سؤال لا يتعلق، بالضرورة، بالأشكال السردية التقليدية من رواية وشعر وقصة قصيرة وطويلة التي تنتجها «المخيَّلة السردية النسوية»، وإنما يتعلق بمدى تحول هذا النص إلى شكل من أشكال مقاومة/وتفكيك ثنائية المعرفة/القوة والسيطرة/والهيمنة الذكورية التي تحولت إلى «واقعية مسيطرة» على مختلف الممارسات النسوية، ليس في مجال الإبداع فقط، بل حتى في آليات تشكيل الجسد النسوي وطرق ظهوره في العالم.
وبطبيعة الحال، فإن سؤال «النظرية الأدبية» في نتاجات المخيَّلة النسوية، لا يمكن له أن يتأسس دون أن يسبق ذلك، تحول في طبيعة «الكتابة الأدبية»، أي تحول في مفاهيم الإستطيقا واللغة الأدبية، والقطع مع المفاهيم التقليدية للأدب، التي تنظر للأدب بوصفه قيمة جمالية مطلقة قائمة بذاتها، ربما كانت كلمة رئاسة تحرير المجلة بقلم الناقد نوري الجراح خير من عبر عن هذه الإشكالية، وشخصت مفهوم النظرية الأدبية النسوية الجديدة، عندما انعرجت بمفهوم «التعبير الأدبي» لتنتقل به من المعنى الجمالي الميتافيزيقي إلى المعنى الإشكالي/التاريخي، بالقول «إن التعبير الأدبي كان في جوهره تعبيرا فكريا ومساءلات فكرية قبل أن يكون جماليا صرفا».
يمكن القول إن هذا النص كان يمثل البيان الطليعي للعدد برمته، ذلك، لأنه أخذ على عاتقه إعادة طرح «جينالوجيا الحركة النسوية العربية» وعلاقتها الإشكالية بتحولات لغة النص الأدبي النسوي من جهة؛ ولغة التعبير الأدبي من جهة أخرى، ولأن محرر المجلة كان يدرك جيدا أنه لا يمكن لنهضة نسوية أن تتأسس على معايير وقيم إستطيقية تقليدية ومجردة تتعامل مع النص الذي تنتجه بمعزل عن الأطر التاريخية والثقافية والسوسيوسياسية التي تشكله وتنتجه وتعيد إنتاجه على حد سواء. لهذا، كان يدعو إلى تبني قيم إستطيقية جديدة وبديلة، تمثل مقدمة أولية لكل مشروع نسوي مقبل. وهذا لا يمكن له أن يتم ما لم يتم تشكيل قطيعة إبستمولوجية وتاريخية مع مفهوم التعبير الأدبي، ليتحول من التمركز على ثيمة «الجمالي الصرف» إلى التعبير الأدبي بوصفه تقويما/وإعادة تقويم للنص الأدبي ومساءلة تاريخيته المسكوت عنها.
عدد جاء، في واقع الأمر، ليسلط الضوء على أهمية تشكيل "نظرية أدبية نسوية جديدة"، ربما هذه هي الخلاصة التي حاول أن يظهرها من خلال كل المقالات والاستطلاعات المطروحة فيه
في الواقع إن إعادة صياغة العلاقة الإشكالية والتاريخية بين قيم التعبير الأدبي وقيم الكتابة النسوية ربما تشكل المدخل الأساسي والرئيسي لولادة مفهوم «النظرية الأدبية النسوية». هذه النظرية إذا أرادت أن تمثل قاعدة لبناء المشروع النسوي على مستوى الإبداع والنقد والكتابة السردية والأكاديمية فعليها أن تتخطى وتتجاوز الأسس الإستطيقية التقليدية لعمليات إنتاج النص وبناء أنظمته النظرية والسردية. فمن غير المعقول مثلا أن يتم طرح مفاهيم نقد النسوية ونقد المركزية الذكورية، بأسلوب تقليدي وبإستطيقا لا تحاكي إلا نفسها ومركزيتها الجمالية المتعالية والمنفصلة تماما عن فضح علاقات القوة والسيطرة والهيمنة الذكورية والميتاذكورية الكامنة في بنية نصوصها. وهنا لا بد لنا أن ننتقل إلى المصطلح الآخر الذي أعتقد أنه يكمل مصطلح الممارسة الخطابية.
هذا المصطلح هو” BINARISM” ويشير هذا المصطلح إلى عملية تشكيل الثنائية بين شيئين كثنائية الرجل/المرأة. وهو مصطلح يستعمل على نطاق واسع وفي حقول متعددة في نظرية ما بعد الكولونيالية. وقد بدأ الاهتمام بهذا المصطلح منذ أن تمأسس للمرة الأولى مع اللسانيات البنيوية الفرنسية، فقد أشار سوسير إلى أن العلامات لها معان ليس لأنها تحيل ببساطة إلى الأشياء الخارجية أو الواقعية، لكن من خلال نظام تناقضها أو اختلافها مع العلامات الأخرى. (ينظر: Literary Theory and Criticismm,net، Binarism in post-Colonial Theory)
وعليه، إن بنية المتعارضات/أو الاختلافات أو التناقضات هي أهم ما يتأسس عليه هذا المفهوم، فنظام التعارض أو الاختلاف مع العلامات الأخرى هو الذي سوف يشكل المعنى والدلالة، ونفس المنطق هو الذي سوف يعيد تشكيل مقولات الذكورة/والأنوثة. وقد أظهرت ما بعد البنيوية المعاصرة والنظريات النسوية إلى أيّ مدى يمكن أن تنطوي عليه هذه الثنايات المتعارضة على عنف تراتبي حيث تكون دائماً السيطرة فيه لواحد من هذين النقيضين على الواحد الآخر، كما هو الحال عليه في سيطرة الرجل على المرأة… في الواقع إن مصطلح التعارض أصبح موجودا بذاته ولذاته ليعيد صلاحية السيطرة. (Bill Ashcroft, Gareth Griffiths and Helen Tiffin, Post-Colonial Studies, The Key Concepts,Routledge,2000,p,19).
ختاما، إن العدد المخصص للدراسات النسوية وما بعدها في «مجلة الجديد»، والذي جاء بعنوان «المرأة ناقدة ومفكرة… مغامرة المرأة العربية في حقل التفكير النقدي»، هو عدد جاء، في واقع الأمر، ليسلط الضوء على أهمية تشكيل «نظرية أدبية نسوية جديدة». ربما هذه هي الخلاصة التي حاول أن يظهرها من خلال كل المقالات والاستطلاعات المطروحة فيه. فلا يمكن أن تتم ولادة امرأة مفكرة أو ناقدة دون نص راديكالي تبتكره، من أجل أن يعيد النظر في تاريخ التراتبيات والهرميات المترسبة في قاع وجود الثقافة/وثقافة الوجود. وهذا، بطبيعة الحال، سيمهد لولادة نظرية نقدية نسوية ما بعد الكولونيالية.