الدراما وتعدد الأصوات

الاثنين 2021/11/01
لوحة: فؤاد حمدي

عدّ أغلب دارسي الشعر الحديث في العراق حسب الشيخ جعفر من الشعراء الذين التفتوا بوعي إلى توظيف عناصر الدراما في الشعر، وقد عده آخرون شاعرا موضوعيا أكثر من كونه غنائيا، فاجتمع في شعره صوتان: صوت الرواية وصوت الفعل – الحضور حيث المونولوج والدايلوج يعرضان موقف الشاعر وأفكاره وحسه، وهو ما جعله يقترب من الحركة والتجسيد من (القصيدة السومرية– البابلية القديمة في اقترابها من المسرح صيغةً، وتمثلها إياه أساليب وطرائق في المعالجة)، وعرض القضايا الإنسانية الكبيرة بموضوعية ظاهرة، (وليس من السهل أن يتحقق الطابع الدرامي في عمل شعري ما لم تتمثل وراءه أو فيه العناصر الأساسية التي لا تتحقق الدراما بدونها، وأعني بذلك الإنسان والصراع وتناقضات الحياة). وقد كان الشعر العراقي القديم يجنح إلى الخيال بعيدا، برغم أنه لم يبتعد كثيرا عن مشكلات الإنسان ومواقفه في الحياة، وإن ارتدى التعبير عنها لباسا أسطوريا، فقد كانت الأسطورة هي الوسيلة الأكثر تأثيرا في نقل التعبير وتجسيده في الصور والرموز والاستعارات التي ترمز إلى الآلهة، وقوى الطبيعة، والإنسان الذي كان يشهد الصراع وهو القطب الذي حوله يدور ذلك الصراع.

لم يكن المسرح، وهو الخشبة التي تتجسد فوقها عناصر الدراما، بعيدا عن ذهن حسب وشعره، فقد وردت لفظة “المسرح” مرات في شعره، ووردت ملازماتها من ممثلين ومخرجين وملابس مرات كثيرة، ومن ذلك قوله في قصيدة “السيدة السومرية في صالة الاستراحة”:

قهقهات البغايا

وثرثرة المخرجين، اتركيني أعد مثلما كنت

تـذكرةً فـي تـألق مـوسمك المـسرحي…

فقد نقل السيدة السومرية إلى صالة المسرح لتكون ممثلة من هذا الزمان.

وقصيدة “الطائر الخشبي” هي مشهد لامرأة ذابلة وصفها بأنها ذبابة لاهية، يقابلها الرجل الذي تظهر حقيقته بزوال أصباغ الزيف عن وجهه:

وقد كان للشخصية المسرحية، أو تقديمها مسرحيا، حضور مؤثر، ومن ذلك شخصية الكهل التي تظهر في قصيدة “الزرقة الهامسة”، إذ تبدو مهمته مرافقة الفتاة، لكنه شخصية غامضة لا تظهر منها سوى هيأتها الخارجية وأدوات تدل عليها. لكن شخصية الكهل تزداد وضوحا وثراءً دراميا في قصيدة أخرى، إذ يبدو حسب قد أحس فعلا بثراء هذه الشخصية، وقدرتها على تجسيد دلالة الغموض، فعاد إلى تجسيدها بطريقة أكثر إتقانا فنيا، تبدو مستجيبة تماما لطريقة العرض المسرحي الناجح في قصيدة “عبر الحائط في المرآة”، وذلك بالتصريح باسم الشخصية وهي الروائي الروسي “ديستويفسكي”. وتظل صورة الكهل الأشيب تعاود الظهور في كل مشهد، فهو شخصية مسرحية شبحية، يحتفظ بغموضه حتى النهاية، ويتقاسم الجهل به الشخصان المتحاوران في النص.

ويستفيد حسب من تقنيات الأداء المسرحي ومنها تقنية العرض، أو الإلقاء المسرحي الذي يمكن أن يتولاه ممثل أو “كورس” مهمته تقديم الشخصية الرئيسة أو بيان صفاتها، ومن ذلك ما يجري في بداية قصيدة “هبوط أبي نواس” إذ يستعمل ضمير الخطاب “الكاف” الموجه إلى أبي نواس، الذي يدخل في الصراع مع “الآخر” ممثلا بكل الموانع التي تحول دون اللقاء بالحبيبة، أو الظفر بنهاية سعيدة للحب، والصراع من العناصر الرئيسة في الدراما، وقد كان “الباب” رمز المنع والحجب، وكان العلج رمزا للقوة الغاشمة التي تنفّذ هذا المنع، ومن ورائه سلطة عنيفة تسنده هي سلطة الخليفة والقوانين والأعراف، وكلها موانع. وينتهي الصراع بهزيمة أبي نواس، الذي رمز به حسب إلى الحب النقي المغلوب، مقابل انتصار الملوك والحجّاب والثقفي الغليظ، وهي كلها رموز لسلطة غاشمة.

لوحة: فؤاد حمدي
لوحة: فؤاد حمدي

وقد عمّق رمزه هذا حتى صار له قناعا، بل اتحد معه في الضمير، إذ استعمل ضمير الجمع “نا” معبرا عن اتحاد الصوتين معا، ليعبّر بذلك عن صراع الشاعر الحديث، بل الإنسان عامةً، مع قوى الظلم السياسي والاجتماعي التي تقمع صوت الإنسان في كل زمان. ولا شك في أن الشاعر الحديث وجد نفسه في خضم صراع قاسٍ لا يرحم، وليس لديه من الأدوات إلا الصوت والكلمة، وهي أداة، برغم ما لها من قوة وأثر أحيانا، فإنها لا يمكن أن تواجه أدوات القمع التي تملكها قوى الظلم والطغيان، وبذلك عبّر الشاعر عن هزيمته، إذ لا توازن بين الطرفين، وهو ما يمكن أن يكون صفة عامة لشعر حسب، فهو يعرض أطراف الصراع، ويقر بقوة الطرف المعادي كما يقر بالهزيمة إزاءه، وهذا ما يتجسد أيضا في صفة “البحث” اللامجدي التي ميزت علاقته بالحب أو المرأة رمزا، فهو لا يمسك إلا الظل أو الرماد من بقايا حرائق العشق.

وقد ينحصر الصراع بين المرء ونفسه، فيجريه الشاعر في ذهن الشخصية نفسها، حين يسيطر عليها القلق والترقب، ويصعب الاختيار من بين عدة أفعال، وهذا ما يمكن أن يكون مونولوجا داخليا تؤديه الشخصية المسرحية متجهة إلى نفسها، ويظهر من ذلك في قصيدة “التحول” إذ يتولى ضمير المتكلم الأداء.

إن هذا النمط من الصراع يكشف عن سمة مهمة أخرى من سمات الدراما وهي “التوتر”، فتتابع الأفعال، وجريانها بسرعة في ذهن الشخصية، أو مع شخصية خارجية، بوجود حركة متوترة، والتوتر (كلمة ينظر تكرر ورودها في كل مناقشة حول الدراما، ونحن نتكلم بشكل طبيعي عن “وضع متوتر” عندما نريد التعبير عن شعور بأن الأمور قد تنقلب في أية لحظة إلى شيء مختلف بشكل حاسم). وتنطوي سمة التوتر على زيادة حدة الترقب، وتصاعد الانفعال بالحدث وما يتبعه من سرعة في الحركة، ويمكن تلمّس بعض ذلك في قصيدة “زيارة السيدة السومرية” إذ يهيئ الشاعر البيئة بذكر “الظلمة” لإيجاد التوتر بالإصغاء إلى خطى مجهولة المصدر:

(أتخرج باحثة

فـي الظلمة عــن أحــد؟)

لا أعرف شيئا سيدتي، لكني أسـمع

وقع خطى، في البدء بطيئا مجهولا يتردد

في عمق الطرق المجهولة، مقتربا، وأصيخ السمع: فاسمع وقع خطى تعلو السلم، تدنو

تتوقف، تخفق في الممشى، تتوقف عند

الغـرفـــة، أسـمـــع نقرا فـوق الباب وأفـتحه.

لقد عمّق الشاعر فعل التوتر، باستعماله السمع دون البصر، والسمع يسمح للمخيلة بالعمل وزيادة الترقب والخوف أكثر من النظر، فالسمع خيال وتوهم، والنظر حقيقة.

قدم حسب مشهدا متوترا في قصيدة “عبر الحائط في المرآة”، وذلك حين تكتسحه زوبعة ثلجية في عمق الليل، واستعمل مرة أخرى الظلمة أو انعدام الرؤية، واعتمد أفعال السمع أو اللمس لمجهول. لكنه استعمل في قصيدة “رغبة تحت الشجر النحيل” أسلوبا آخر في صنع التوتر هو المفاجأة بدخول شخص ثالث يحول بين لقاء العاشقين، تمثل في شخصية “راعية الأغنام”.

يتكرر عنصر المفاجأة بفعل يصدر مرة أخرى من راعية الأغنام، يحمل معنى القصد، فقد كانت في المرة الأولى تعمل بفعل منفصل، إنها ترضع طفلا عن قرب، ولكنها في المرة الثانية تمضي إلى الفعل بنفسها. فالتوتر بأساليبه وأدواته المختلفة يمثل ركنا رئيسا في تكوين الدراما، وقد نجح حسب في إنجاز مراده منه.

الحوار وتعدد الأصوات

يعد الحوار من العناصر الرئيسة في الدراما فهو وسيلة الشخصيات إلى أداء الأفعال أو التعبير عن آثارها، وهو ينقسم على نمطين رئيسين: الدايلوج حين يكون الحوار بين شخصيتين أو أكثر، والمنولوج حين يكون الحوار في ذهن الشخصية أو يكون حوار الشخصية مع نفسها، وقد ورد كلا النمطين في شعر حسب بكثرة إذ كان يفرد للشخصية أقوالها المميزة بوضعها بين قوسين، وقد أخذت شخصياته الحصة الكافية من الحوار الذي ارتقى ببناء النص، وقد سبقت الإشارة إلى بعض ذلك.

أما النمط الدرامي الآخر الذي اعتمده حسب في شعره فهو تعدد الأصوات، إذ كان يبني قصيدته أحيانا على هيأة أصوات يسميها (صوت أول، صوت ثانٍ)، وقد يورد لفظة “الكورس” التي تدل على جوقة تعلو خشبة المسرح تعلق على الأحداث أو الشخصيات وغيرها، وقد درج حسب على هذه التقنيات منذ بداياته الشعرية، إذ يغلب هذا النمط على أول أعماله ويظهر بوضوح في عدة قصائد منها “الصخر والندى” التي تبدأ بصوت الكورس.

ويبدو المخاطب هنا الشاعر المتنبي، إذ يرد الكورس على صوت الريح، ثم يظهر صوت أول وصوت ثانٍ وصوت ثالث، ويعود الكورس ثم الصوت الأول والثاني والثالث، ويعود الكورس وصوت الريح، ويختم الكورس النص الذي يبدو من ازدحام هذه الأصوات أنه نص مسرحي، درامي تتبادل فيه الأصوات الأدوار، ويدور بينها الحوار ليس للشاعر بينها صوت أو ميزة سوى كونه مؤلفا دراميا، وهذا ما ينطبق على قصيدة أخرى هي “الغيمة العاشقة”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.