الدولة المنتصبة
يطرح عزيز العظمة في مقاله “العفّة للرجل والشبق للمرأة” العديد من المقاربات المرتبطة بـ”الأنوثة”، سواء تلك الميتافيزيقية منها أو الثقافية، إلى جانب المرجعيات المرتبطة بها على صعيد النصوص الدينيّة والممارسة اليوميّة والسياسيّة، فاتحاً المجال على العديد من التساؤلات المرتبطة بوضعية “الأنثى” والدور المرسوم لها، لتكون الأنوثة مفهوماً يتجاوز المميزات الطبيعية والبيولوجيّة والطبية، نحو مفهوم ثقافي ذو انعكاسات مرتبطة بالظواهر والمنتجات والممارسات الثقافيّة سواء كانت شعبية أو رسمية، إلى جانب دوره في تكوين بنية الدولة والمجتمع.
وفي هذه الورقة نحاول التأسيس لمقاربة مفاهيميّة ثقافيّة مرتبطة بالتقسيم الأنطولوجي (الطبيعي-الثقافي) لكل من “الذكورة” و”الأنوثة”، فالاختلافات بين الذكر والأنثى تستمدّ من رؤية قائمة على أساس الاختلاف البيولوجي الجوهري، وتفوق الذكر على الأنثى، هذا الاختلاف المؤسس عميقاً بوصفه عاملاً (agency) لا يمكن تجاوزه في فهم الظواهر الثقافيّة والنصوص التأسيسيّة التي تضبط النظام الاجتماعي إلى جانب اعتباره أساس تبرير علاقات القوّة سواء بين الأفراد أو بين الأفراد والدولة، من الاختلافات السابقة سنحاول بناء مفاهيم سياسيّة-حيويّة (bio-political figures)، وهي مفاهيم مجازية سيتم عبرها محاولة تحديد العوامل التي ترسخ الاختلاف الطبيعي والمظاهر الثقافية والسياسيّة المرتبطة به، وما هي تطبيقاته ضمن الدولة ككيان يحكم الأفراد فالمفاهيم السياسو-حيويّة تساعد على فهم التقنيات التي تعمل وفقها الدولة ككيان ثقافي-نصيّ-سياسيّ وآليات “تعريف” و”تقنين” الخاضعين لها وموقفها منهم.
يمكن النظر إلى الدولة بوصفها بنية ترتبط وتنتج عن نصوص تشرعن وجودها الذاتي وأمام الدول الأخرى وأمام الخاضعين لها سواء على الصعيد المادي أو المعنوي، كما أنها تلعب دوراً أساسياً برسم السياسات الحيويّة (Bio-politics) وسياسات السيادة على الموت والحياة (Necro-politics)، التي تقوم عبرها بتقنين وتنظيم الحق بالحياة والحق بالموت، وترتبط هذه السياسات بالتقسيم الأنطولوجي الذي تتبناه الدولة للحياة والموت والفئات الفرعيّة الناتجة عن ذلك، إذ تصنف الأفراد تبعاً لهذا التقسيم وتحدد علاقات القوّة التي تحافظ على ثباتها الداخلي من جهة وخضوع مواطنيها لها من جهة أخرى، لتحافظ على شكل ما من النظام الاجتماعي وتشرعنه، إلى جانب تمكين منظومة من القيم والأعراف التي تحافظ على استمرارها، إلى جانب التحكم السياسي بالجسد ووضعيات “لحم” الأفراد الخاضعين، هذه التقسيمات والآليات السابقة تعكس البنية العميقة “للشخوص الأنطولوجيّة” (ontological figures) التي تُنتج السياسات الحيويّة التي تتحكم بـ”الحياة” و”استمرارها” ضمن الدولة بوصفها ضامناً لها.
يحضر مفهوم السياسات الحيوية بصورة كبيرة في الثقافة الغربيّة وخصوصاً في المقاربات ما بعد الإنسانويّة، كما أن له حضورا واضحا في كتابات حنا أردنت وميشيل فوكو وإيميلي بونيفلي ودونا هارواي وغيرهم من الكتاب والمفكرين المعاصرين، إذ اقتُرح عدد من المقاربات المفاهيميّة للموضوع المرتبطة بـ” الشخوص السياسو-حيويّة” (Bio political figures) والمجازات المتعلقة بها ومفاهيمها، ففوكو يقسم هذه الشخوص في الحضارة الغربيّة علاقاتها بتاريخ الجنسانيّة إلى أربعة وهي “المرأة الهيستيريّة، الطفل المستمني، الزوجان المالتوسيان -نسبة إلى عالم الاجتماع مالتوس- والبالغ المنحرف”، هذه الشخوص يقدمها فوكو بوصفها تعكس السياسات الجنسانيّة وتقنيات السيادة والعقاب ودور الدولة في تقنين الجسد والرغبة وتحدد بنية الصراعات القائمة، في حين أن إيميلي بونيفيلي مثلاً تقدم تقسيمات أخرى وهي “الفايروس، الصحراء، والأنيمسيم” وعلى أساسها تختلف الصراعات و تقسيمات الحياة والموت وأساليب التحكم بهما.
الثقافة العربيّة وبالرغم من غناها بالمحتوى “الجنسي” إلا أنها ما زالت على أبواب الدراسات الجنسانيّة المتماسكة القادرة على التفسير، إذ تحضر التوصيفات والأراشيف دون الغوص العميق من المفاهيم الجنسانيّة وخصوصاً تطبيقاتها السياسية، فيما يتعلّق بوضعيّة المرأة والخطاب الذكوري المهيمن عليها والذي يعكس بنى موجودة ضمن الدين والدولة اللذين يمارسان تقنيات التحكم بـ”لحم”، أو “جسد” المرأة ناهيك عن الدور الاجتماعي ووضعياتها ضمن النظام الاجتماعي، سواء من الناحية الجنسيّة أو الثقافيّة أو السياسيّة، كما نفتقر لدراسات في البنى المايكرويّة التي تتحكم على أساسها الدولة بجسد الأفراد سواء كانواً ذكوراً أم إناثاً، وخصوصاً في المراحل الكولونياليّة وما بعدها التي أعادت إنتاج الاختلافات التاريخيّة وتبنّتها مرسخة علاقات الدونية والتفوق التي سبقت أشكال الدولة والتنظيم “المعاصر” المرتبط بها.
سنحاول بالاستناد إلى ما سبق أن نقارب -أو نبني- مفهومين حيويين ثقافيين-سياسيين من الممكن أن يعكسا البنية الأنطولوجية العميقة التي تبرز على أساسها الدولة القمعية كظاهرة ثقافية تتحكم بـ”بجسد” المواطنين، وسنستخدم سوريا كنموذج لهذه المقاربة، إذ سنحاول شرح هذه المجازات ومكوّناتها النصية التي تشكّل “وضعية التأنيث” والعوامل التاريخية والدينية والقانونية التي تتعاون مع بعضها لتشكيل ما سنطلق عليه مصطلح “الدولة المنتصبة” من منطق المفاهيم الحيويّة، كما سنشير إلى بعض تطبيقات السياسة الحيوية على صعيد التعذيب والهيمنة.
تطبيقات العنف التي تمارسها الدولة لا تعني فقط العقاب، بل هي ممارسات منظمة ومؤسساتية تطبّق على كافة جوانب الحياة للتحكم بالأنشطة الجسديّة بصورة تطبّع الهيمنة التي تتحكم بالعلاقات بين الأفراد وبين الأفراد والدولة
المفهومان الحيويان التاليان يدخلان في منظومة مجازات يمكن استخدامها للتفسير وتطوير المفاهيم، وهما “الدولة كذكورة منتصبة” والـ”الجسد المؤنثّ”، هذان المفهومان ناتجان عن اعتبار الدولة كبنية ثقافية قضيبية تهيمن على مواطنيها، إذ سنحاول رصد مرجعيات الاختلاف الطبيعي الذي تحدده، أي الاختلاف بين “الذكورة” و”الأنوثة”، إلى جانب محاولة رسم معالم السياسات الحيوية التي تتبعها والمراجع النصيّة والقانونية والأدائيّة التي تنظم عملها كذلك محاولة تحديد الانعكاسات المرتبطة بهذه السياسات.
تأويل المجاز
اخترنا مصطلح “القضيب المنتصب” بوصفه مجازاً عن “الوظيفيّة” التي تمارسها الدولة القمعية بوصفها تعنى بالتكاثر وتصون مبدأ زيادة عدد الأفراد الخاضعين لها كما تقنّن الرغبة المجانية اللامنتجة، فهي ترى في الخاضعين لها أدوات للتكاثر وتقننّ ذلك عبر مؤسساتها ونصوصها لضمان “فعاليّة” الإنجاب إلى جانب استخدام “الإيلاج” كوسيلة قمعيّة، يشير هذا المجاز أيضاً إلى غياب “النطاف” المجانيّة من وجهة نظر الدولة، فعملية إنتاج النطاف وإنزالها مقننة من قبل الدولة الدين في سبيل خدمة التكاثر، وهذا التقنين يعكس تقنيات “التوازن” (stabilization) التي تمارسها الدولة للحفاظ على تماسكها/ انتصابها.
المجاز الآخر هو “الجسد المؤنثّ”، ويشير إلى وضعية اجتماعية في أسفل هرم علاقات القوة ويعني الجسد بوصفه مكانا صالحاً لاستقبال الذكور، وهي وضعية وظيفتها الأولى التكاثر ثم المتعة والتعذيب، أما صفة التأنيث فهي نتيجة تبنّي الدولة لوضعية الأنثى الدونيّة التاريخيّة إلى جانب تطبيق تقنيات “التأنيث” سواء على الذكور أو الإناث بوصفها وسيلة للإهانة وخلق العار، والفعل الجنسي يتحول إلى تقنية لاهانة “الذكورة” أيضاً.
الدولة الدكتاتورية والنوع البشري
نالت العديد من الدول العربيّة استقلالها في مراحل مختلفة من القرن العشرين، وبعد انتهاء أشكال الاستعمار المباشر استوردت بعض الدول العربيّة مفهوم “الدولة الحديثة” وبدأت تصوغ معالم المؤسسات والأنظمة الوطنيّة، ودون الغوص في التاريخ، تحولت أغلب هذه الدول إلى دكتاتوريات تختزن داخلها العنف سواء من المرجعية الدينية أو الوطنيّة، كحالة سوريا التي تشكل مثالاً على الدكتاتوريّة بأفظع أشكالها، وفيما يتعلق بالسياسات الحيوية لهذه النماذج يمكن استعارة كلام حنا أرندت في وصفها للأنظمة الدكتاتورية بأنها تقوم على “الهيمنة الكاملة التي تسعى إلى السيطرة الجماعيّة، وجعل الكائنات البشرية كلها تبدو كفرد واحد، فهدفها جعل كل فرد من الأفراد يحمل هويّة واحدة ليكون الجميع ذوي ردّ فعل واحد، بالتالي يمكن استبدال أيّ ردّ فعل من هذه الردود بآخر ولو بصورة عشوائية، فالمشكلة تكمن أن هذه الأنظمة تسعى لصناعة شيء غير موجود، نوع من سلالة بشرية تشبه باقي السلالات الحيوانيّة التي تمتلك “حريّة” واحدة وهي حماية نوعها وسلالتها”، وتشير أرندت هنا إلى أن الدولة الدكتاتورية تسعى إلى توحيد البشر بشكل واحد وهوية واحدة متخيّلة، يتشابه فيه الجميع، وتضمن تكاثرهم لأن زيادتهم العددية تخدم اقتصادها وهيمنتها وذلك عبر تقنين الإيلاج في اللحم المؤنث.
تطبيقات العنف التي تمارسها الدولة لا تعني فقط العقاب، بل هي ممارسات منظمة ومؤسساتية تطبّق على كافة جوانب الحياة للتحكم بالأنشطة الجسديّة بصورة تطبّع الهيمنة التي تتحكم بالعلاقات بين الأفراد وبين الأفراد والدولة للحفاظ على استمرار الدولة، هذه القوة تتمثل في ثلاثة أشكال وهي السيادة والتأديب والقوة الحيوية، تقنيات الهيمنة هذه تنشأ من ثنائيّة ممنوع ومرغوب، حرام و حلال، جريمة وغير جريمة، هذه الثنائيات هي انعكاس للبنية العميقة التي تشكّل الدولة وتقنيات التصنيف التي تتبعها، والتي تبرز في المجازين الحيويين السابقين “الذكورة المنتصبة” و”اللحم المؤنث”، فالأول يمثل القوة والفعل، في حين أن اللحم المؤنث يمثل المستقل والكيان الخاضع المفعول فيه.
الأدوار المؤنثة التي تخلقها الدولة القمعية الدكتاتوريّة لا ترتبط بذكر أو أنثى وفق المنطق البيولوجيّ، فعمليّة التأنيث تمارسها الدولة في سبيل الهيمنة وتحويل اللحم إلى وضعية “صالح للإيلاج”، وهذه الأدوار تحدّد الدولة كيفية ممارستها ويمكن وصف ذلك بالأداء كونه يرتبط بنصوص يتم تناقلها، بما يشبه مقاربة الدور الاجتماعي حسب النسوية جوديث باتلر، فالدولة تنقل “السكريبت” (Script) من جيل إلى جيل، وتحافظ عليه ليتبناه الأفراد أو تفرضه عليهم، بحيث يمارسونه لينالوا الاعتراف، فالخضوع له يعني أنهم جزء من الدولة، وتصف باتلر ذلك بقولها “الدور الاجتماعي ليس هوية ثابتة إطلاقاً، ولا نقطة ثابتة أو مركز قوة تنشأ عنه أفعال مختلفة، بل هو هوية يتم بناؤها مع الزمن، تبنى عبر أسلوب من الممارسات والأفعال التي يتم تكرارها. بل أكثر من ذلك، الدور الاجتماعي يتم تأسيسه عبر تحويل الأفعال الجسدية إلى أسلوب تتم ممارسته، ويجب فهمه بوصفه الطريقة الدنيويّة للأفعال والإشارات الجسديّة والحركات المختلفة التي تخلق الوهم بأنها تؤسس لهوية جندرية ثابتة”.
الأدوار المؤنثة التي تخلقها الدولة القمعية الدكتاتوريّة لا ترتبط بذكر أو أنثى وفق المنطق البيولوجيّ، فعمليّة التأنيث تمارسها الدولة في سبيل الهيمنة وتحويل اللحم إلى وضعية “صالح للإيلاج”، وهذه الأدوار تحدّد الدولة كيفية ممارستها ويمكن وصف ذلك بالأداء كونه يرتبط بنصوص يتم تناقلها، بما يشبه مقاربة الدور الاجتماعي
إثارة الانتصاب: المرجعيات النصية للمفاهيم الحيوية السياسية
عوامل إثارة الانتصاب أو مرجعياته النصيّة تحضر في جوهر تكوين الدولة حيث تتم شرعنة عمليات الإيلاج وتحديد اللحم الخاضع لها وذلك عبر مجموعة من النصوص التي تتبناها الدولة ومؤسساتها، هذه النصوص ترسم معالم “كارتوغرافيا اللحم” الذي تمارس الدولة هيمنتها عليه وتوزّعه بما يخدم اقتصادياتها، فهذه النصوص تشكل الاختلافات الطبيعيّة بين “الرجل” و”المرأة”، فالرجل من وجهة نظر هذه النصوص يعتبر مكتمل التطور الطبيعي، في حين أن المرأة على العكس بوصفها “ناقصة” التطور، فهي كائن مشين وخطأ في الوجود، هي رحم مصمم لإنتاج “الذكور” ثم إمتاعهم، هي أشِبه بخطأ منهجي ولا بد أن يبقى تحت السيطرة، وعمليات التأنيث الممارسة من قبل الدولة والحفاظ على فعل الذكورية ووظائفها سنعتمد لشرحها على النصوص الدينيّة والنصوص التي تشكّل “الدولة” في سوريا وذلك حسب التقسيم التالي:
المرجعيات الدينية
تعتبر الأساس في المنطقة العربيّة، وهي ترى في المرأة كائناً أقل من الرجل، بالرغم من أنه بالإمكان اجتراح التأويلات التي ترى أن “الإسلام” لا يعامل المرأة بهذه الصورة، إلا أن النص الديني هنا يتم التعامل معه من وجهة نظر لا مقدّسة بل كونه مرجعية تتجلى بالممارسة، فمثلاً، آية “نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (سورة البقرة الآية 223)، تشير للمرأة بوصفها أرضا للتخصيب، للبذار، هي جاهزة لإنتاج المزيد، هي من تُختَرق ويولج بها، فالنساء متشابهات والرجال يمكن لهم التمايز، هن أراض لإنتاج الأجيال، أما الآية “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا” (سورة النساء الآية 3) هذه الآية تؤكد على المركزية الذكورية، فالمرأة لحم صالح للتكاثر ثم المتعة، وهي المسؤوليّة التي يجب على الرجل تحمّلها مادياً ومعنوياً دون أي إشارة لدور المرأة أو خيارها.
هناك نصوص أخرى ترتبط بتحريم المثلية الجنسيّة بوصفها فعلاً مؤنثاً لا ينتج ذريّة، فالتحريم يرتبط لا بالعلاقة بين الذكور، بل من كون الممارسة الجنسيّة المرتبطة بها لا تخدم التكاثر، كونها قائمة على أساس الإيلاج المحرّم كما في النص السابق كما في بعض تفسيرات”حَرث لكم”، فالممارسة الشرجيّة تجعل “الرجل” لا ذكرا، إذ يتم تأنيثه، وهذا الانحدار نحو وضعية الأنثى يجعله عرضة للقتل بوصفه يخلخل نظام التكاثر المقدّس.
فالرجال يجب ألاّ يخضعوا لعمليات التأنيث المرتبطة بالجنس المثلي إذ يشير جوزيف مسعد في كتابه “اشتهاء العرب” إلى العرف قديماً “كان الاعتقاد الشائع يقول إن الانجذاب الجنسي والاتصال الجنسي الناشئ عنه، يجب أن يحدث فقط بين الرجل والمرأة، وأن الانجذاب الجنسي والفعل الناتج عنه بين الرجال أو بين النساء، يعتبر انتهاكاً للقوانين الإلهية والنظام الطبيعي للأشياء، وحتى التقاليد القانونيّة ترى أن الرجل والشرج ليسا مخلوقين ليتم الإيلاج الجنسي فيهما”، إلى جانب ذلك تحضر النصوص والتأويلات المرتبطة بتحريم الاستمناء لأن المني مصيره الرحم دوماً حال بدأ جسد الذكر بيولوجياً بإنتاجه ولا يجوز هدره.
أتاحت ثورات الربيع العربي فرصة للأصوات المهمّشة والثانوية لأن تعلو وتطالب بحقوقها، إلا أن الرؤية الطبيعية للمرأة مازلت لم تتغير، وخصوصا مع ظهور التنظيمات الأصولية والدكتاتوريات البديلة
المرجعيات القانونية
يمتلك الإسلام العديد من الصيغ يمكن أن تتجلى بالإسلام الشعبي المرتبط بالممارسة الفرديّة والآخر المؤسساتي الذي تتبناه الدولة سواء عبر قوانينها أو المؤسسات التي ترعاها، ففي سوريا مثلا الدستور يتبنى الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، إلا أن الدولة أيضاً تمتلك منظومة لتنظيم الزواج وضبط التناسل لضمان التكاثر.
المادة الأولى من قانون الأحوال الشخصيّة تشير إلى أن الزواج “الزواج عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعاً غايته إنشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل” كما أن القانون يفرض على الزوجة أن تعيش مع زوجها في ذات المنزل كما تشير المادة 66، فالدولة تقنن فضاء التكاثر الخاص وتحميه وتفترض على الزوجة التواجد ضمن هذا الفضاء، وكأنها تحمي الرحم والجسد الذي يحويه، كما يسمح القانون للزوجة بالطلاق من زوجها لأسباب متعلقة بالتكاثر كما تشير المادة 105 “إذا كان فيه إحدى العلل المانعة من الدخول بشرط سلامتها هي منها”.
إذ يحق للمرأة الطلاق في حال كان الرجل طبياً غير قادر على الإنجاب، هذا القانون يجنسن جسد الرجل وبصورة أدقّ يحوّله إلى قضيب تكاثريّ فقط، وفي حال فقدانه القدرة على التكاثر يفقد أهليته للحفاظ على مؤسسة الزواج، وتنتقل القوة إلى المرأة، بوصفها تمتلك الحق بالطلاق، صحيح أن هناك الكثير من الشروط المرتبطة بهذه الحالات والتأويلات إلا أن حضور هذه النصوص واحتمالاتها يعكس تقليداً قديماً يرتبط بالتكاثر وأهميته.
تدين القوانين أيضاً المثليّة الجنسيّة وذلك ضمن نص غامض غير واضح المعالم، فالمادة 520 من قانون العقوبات السوري تنص “كل مجامعة على خلاف الطبيعة يعاقب عليها بالحبس حتى ثلاث سنوات” بالرغم من عدم وضوح النص فهو يفترض شكلاً “طبيعياً” للممارسة الجنسية، إلا أن استخدام هذا النص يندرج تحت تجريم المثلية الجنسيّة، كما أن القوانين في سوريا لا ترى في الإيلاج من الخلف اغتصاباً بل اعتداء فقط، فما هو شرجي يراه القانون على أنه لا جنسي، لا يمت للمتعة بصلة، بل هو جريمة ضد التكاثر.
المرجعيات اللانصية
هيمنة الدولة وسياساتها الحيويّة لا تقتصر مرجعياتها على النصوص، فالممارسة الأدائية لتقنيات الهيمنة هذه وضبط الذكورة والأنوثة تكتسب شرعيتها من الممارسة دون نصوص توثّقها، هذه الممارسات يمكن أن ترصد في الحكايات الشعبيّة كاختبار العذرية الذي يخضع له الرجال قبل الالتحاق بالمؤسسة العسكريّة، صحيح أنه لا توجد مرجعيات ووثائق لهذه الممارسات، لكن حضور هذه الحكايات يؤكد أن البنية القضيبية-الذكورية للمؤسسة العسكرية ترفض “المؤنث”، بوصفها أشد المؤسسات التي تمارس السلطة القمعية في الدولة الدكتاتورية، كما أنها المؤسسة الأكثر ممارسة لفعل التأنيث.
تطبيقات المفاهيم السياسو-حيوية
الممارسات التي تقوم بها الدولة ذات الشكل السابق تتجلى بالحفاظ على قنوات النطاف وضبط عمليات اللذة، إلى جانب الممارسات اللاتكاثرية والتي لا تخدم اللذة والتي تمارسها الدولة للإخضاع (التأنيث) عبر تحويل الوضع الطبيعي للذكر إلى أنثى ثقافياً، وهذا يتمثل بالاغتصاب المطبّق على الذكور، هذه الممارسات سواء كانت حاضرة ضمن النصوص أو ضمن التقليد فهي خاضعة للدولة ومقبولة من قبلها.
التعذيب بالتّأنيث
الكثير من أشكال اللذة لا تكاثريّة، كما أنها تحوي العديد من الوضعيات والمقاربات للّحم بصورة لا تضمن التكاثر، فهي لا أخلاقية وغير مقنّنة، إلا أن الدولة الديكتاتورية وضمن عملية الهيمنة نقلت بعض الوضعيات من صيغة اللذة وحولتها لصيغ قمعية، وتتمثل باغتصاب الذكور في السجون المرتبط بتجريم وتحريم المثليّة الجنسية، فالممارسة من الخلف وسيلة للتأنيث ونزع “الذكورة” ووسيلة للذل، لتجعل الذكر يحمل نفس خصائص الأنثى المعيبة بوصفه يتحول إلى لحم صالح للاختراق.
قد تبدو هذه المقاربة نظرية لكنها تحضر في العديد من التقارير المرتبطة بالانتهاكات التي تتمّ ممارستها في السجون سواء تلك التي تقوم بها الأنظمة الدكتاتورية كالحالات المذكورة في تقرير أيمنستي عن الممارسات في سجن صيدنايا في سوريا، أو ما تقوم به القوة الاستعمارية، إذ يذكر جوزيف مسعد في اشتهاء العرب أن الطيارين الأميركان أثناء حرب الخليج الأولى كانوا يجبرون على مشاهدة الأفلام الإباحية قبل قصف العراق، لتحويل العدو/الآخر إلى صيغة مؤنثة ليغدو القصف أشبه بـ”الإيلاج” وهذا ما تمت ممارسته لاحقاً في سجن أبو غريب.
الكثير من أشكال اللذة لا تكاثريّة، كما أنها تحوي العديد من الوضعيات والمقاربات للّحم بصورة لا تضمن التكاثر، فهي لا أخلاقية وغير مقنّنة، إلا أن الدولة الديكتاتورية وضمن عملية الهيمنة نقلت بعض الوضعيات من صيغة اللذة وحولتها لصيغ قمعية، وتتمثل باغتصاب الذكور في السجون المرتبط بتجريم وتحريم المثليّة الجنسية
هذه الصيغة من التعذيب تمتد إلى خارج فضاء السجن نحو الفضاء العام، فمن يخضع لها يتغير دوره الاجتماعي ويتحول إلى “مؤنث” ليُبتز بهذه الصيغة ويصبح كائن عار.
التأنيث الطوعي
أتاحت ثورات الربيع العربي فرصة للأصوات المهمّشة والثانوية لأن تعلو وتطالب بحقوقها، إلا أن الرؤية الطبيعية للمرأة مازلت لم تتغير، وخصوصا مع ظهور التنظيمات الأصولية والدكتاتوريات البديلة أو تلك التي لم تنهر بعد كحالة سوريا، ففي خضم ما يمارسه النظام السوري الذي ما زال محافظاً على شكل ما من السيطرة، نراه يقتاد الشبان بين عمر 18 و45 إلى الخدمة العسكريّة -سواء كجزء من التجنيد الإجباري والاحتياطي- ليصبحوا ضمن المؤسسة القضيبية الأشد تأثيراً وفاعلية مباشرة على أجساد الآخرين.
فتقنيات الانفكاك من هذه الهيمنة في ظل القمع الحاصل إلى جانب المأساة التي يعيشها الذين ما زالوا قاطنين تحت سيطرة النظام السوري لم تترك مجالات واسعة لإعادة النظر في البنية القائمة حالياً أو الصورة المستقبلة لما بعد النظام، إلا أن أشد الحالات إثارة للتساؤلات للتهرب من الخدمة العسكرية هي تلك التي قام بها شاب سوري في العشرينات إذ خرج للشارع عارياً بعد أن قام بإزالة عضوه التناسلي ويصرخ قائلاً “أنا فتاة الآن، لست رجلاً، أتفهمون” وذلك حين حاولت قوات الجيش سحبه للخدمة الاحتياطيّة.
بالإمكان مقاربة هذه الحادثة من عدة جوانب، الأول مرتبط بالتأنيث الذاتي، خسارة القضيب في سبيل المساواة مع “الأنثى” التي لا تفرض عليها الخدمة العسكريّة الإلزاميّة، ما أتاح للشاب التملص من الخدمة العسكريّة وماكينة الذكورة، وذلك عبر تغيير “طبيعته” بنظر الدولة، إلى جانب أنه قام بالاستعراض العلني لحالته في الفضاء العام، عبر تأنيث لحمه، وكأن هذه الحالة من الإذلال العمومي كانت تحوي خلاصه، أشبه بكونه أضحيّة، كائناً مسيخاً، لا رجل ولا امرأة، بل مؤنثاً.
هذا الكائن “المسيخ” ثقافياً وذو الإعاقة من وجهة النظر السابقة يمكن وصفه وتأثيره بكلمات رينيه جيرارد في كتابه “الأُضحيّة”، “في حالات الإعاقة الجسديّة، يتحول الجسد البشري إلى نظام من الاختلافات، فالإعاقة مربكة ومزعجة، وتعطي الانطباع بعدم الاتزان، بالتالي هي تهدد النظام نفسه، ومحاولات التخلص منها قد لا تنجح، فهي تخلخل الاختلافات المنتظمة من حولها، هذه الخلخلات والاختلافات تتجمع وتنصهر حتى الدمار، فالاختلاف الحاصل خارج النظام يثير الرعب لأنه يكشف حقيقة النظام، ونسبيّته وهشاشته وفناءه”.
ملاحظات للمستقبل
المقاربة المفاهيميّة السابقة هي محاولة لفهم بنى السياسات الحيويّة وتقنيات تطبيقها في الدول الدكتاتوريّة، إذ لا بد من تطوير المفاهيم أكثر وآليات عملها وتطبيقاتها في كل “دولة” وذلك في سبيل الفكاك منها وتجاوزها، في سبيل وضع آليات بناء الدولة ما بعد الاستبداديّة، لتجنب تكرار التقنيات القمعيّة، وتجاوز ثنائيات الاختلاف التي يهمن فيها “الذكر” الطبيعي والمجازي على “الأنثى” طبيعياً و مجازياً.
الجانب الآخر المرتبط بهذه المقاربة يتضمن إعادة النظر بمفاهيم الفضاء العام وتعريفاته الجديدة في ظل التطور التكنولوجي، بالإضافة إلى المقاربة المرتبطة بالجسد السايبري الذي يوفره الفضاء السايبري ودوره بإعادة تعريف مفاهيم الجندر والذكر والأنثى، كذلك لا بدّ من إعادة دراسة الجماعات الفرعية وتقنيات تعبيرها في ظل الدول القمعيّة، كل ما سبق في سبيل إعادة تعريف أنطولوجيا جديدة تنتصر للكائن الإنساني بعيداً عن مقومات قمعية واختلافات يهيمن فيها أحد على حساب آخر.