الديمقراطية في مواجهة الجائحة
كيف تواجه الديمقراطيات المعاصرة الأزمة الصحّية؟ ملفّ أعدّته مجلة “إسبري” (فكر) الفرنسية، وساهم فيه عدد من الباحثين والمفكرين، حاولوا تحليل المسألة، وإبداء الرأي في ما يميز نظاما ديمقراطيا عن الأنظمة الشمولية التي قيل إنها كانت أنجع في التصدي لجائحة كورونا.
أمام الصعوبات التي واجهتها ولا تزال تواجهها الأنظمة الديمقراطية للحدّ من استشراء كورونا في أرجائها والفتك بشعوبها، عزا بعض المفكرين مثل السلوفيني سلافوي جيجيك فشلها في التصدي للجائحة إلى طبيعة تلك الأنظمة نفسها، وقارنوها بالأنظمة التوتاليتارية التي استطاعت أن تعطّل انتشارها باستعمال القبضة الحديدية. وعندما شرعت الديمقراطيات الغربية في فرض قواعد حجر صارمة، وتقليص الأنشطة الاجتماعية، ومنع التحركات العمالية، تعالت أصوات أخرى لإدانة ما اعتبرته تعميقا لهُوى التفاوت بين الفئات الاجتماعية، وتنكرا للمبادئ التأسيسية التي قامت عليها تلك الأنظمة. فماذا فعلت الجائحة بالديمقراطيات؟ وماذا تكشف الجائحة حقيقةً عن الديمقراطيات؟
من السابق لأوانه، تقول البلجيكية جوستين لاكروا أستاذة الفلسفة السياسية في الجامعة الحرة ببروكسل، أن نقيس الأجوبة التي قدمتها الديمقراطيات والدكتاتوريات والجائحة لا تزال تفتك بالأرواح. ولكن الثابت أن غياب الشفافية في الصين وقمع مطلقي الإنذار الأوائل لم يساعدا على أخذ التدابير اللازمة بسرعة. في المقابل، رأينا مجتمعات توصف بكونها مسكونة بالأنانية تخضع للتضييقات التي حدّت من حرية تنقلهم واستهلاكهم، وتستجيب للطوارئ الصحية. هذه التجربة تبرز ملمحا من حقوق الإنسان يكاد لا يظهر. ولاحظت أن خلال الأعوام الأخيرة، وتحت ضغط التهديد الإرهابي، برزت أصوات تزعم أن الحقوق الفردية ضعفٌ قد يجعل الأنظمة الليبرالية عاجزة عن تأمين سلامة مواطنيها، وهي فكرة ملتبسة لأنها تخلط، باسم تَراخٍ ليبراليّ مزعوم، حرياتٍ ليست من نفس النوع، فلا يمكن في رأيها أن نضع في نفس السلة قانون الطرقات والقوانين الأساسية التي تمسّ حرمة الفرد الجسدية. حتى السياسيون الذين صرّحوا أنّ من أهم حقوق الإنسان حقه في الأمن، يتناسون أن البند الثاني من إعلان حقوق الإنسان يؤكد أولا على حماية الحريات الفردية من العسف والحكم الاعتباطي، فحق الأمن يعرّف بكونه حق أمن الحقوق، والنظام الذي يُعتقَل فيه الفرد عن شبهة، ويعذّب سرّا، ويحاكم دون دفاع هو نظام يحرم المواطنين من حقوقهم. ثم إن هذه الفكرة تنسى أن قواعد دولة القانون تقبل أن تُعلَّق بعض الحريات الفردية في حالة حرب أو خطر داهم يهدد حياة الأمة. فقد أجازت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان للدول الأعضاء هامشَ تقديرٍ واسعًا حول مسألة تضييق حقوق الأفراد باسم متطلبات الأمن القومي، وصادقت على الحدود التي تُفرض على حرية التعبير والحياة الخاصة وإنشاء جمعيات وتنظيم انتخابات حرة، ولو أنها جعلت ذلك رهين الغاية المرسومة، أي حماية الديمقراطية. هذه الغاية هي التي تسمح بالتمييز بين الحد من حريات في وضع استثنائي وبين الحريات التي لا تقبل التبديل كمنع التعذيب والمعاملات اللاإنسانية وعدم رجعية القوانين الجنائية.
وحماية المساواة الديمقراطية تتضمّن نواة مزدوجة من الحقوق التي لا تقبل التبديل: الحقوق التي تضمن سلامة الإنسان الجسدية وشروط مواطَنته؛ والحقوق التي تضمن ما يسميه الفيلسوف كلود لوفور “الفضاء الاجتماعي الديمقراطي” الذي يعتبر الفضاء العام والتداول المشترك قلبَه النابض. أضف إلى ذلك أن كل تعليق للحريات يخضع للمراقبة، ليس من طرف التشريعات القانونية التي تسمح به فقط، وإنما أيضا من طرف المجتمع المدني الذي لا يكف عن مراجعة مشروعيتها. ما يعني أن قرارات التضييق على الحريات الفردية التي تمّ اتخاذها خلال الحجز الصحّي يمكن بل ينبغي أن تخضع للنقاش وحتى الاحتجاج، وهو ما جرى ويجري، خاصة في المواقع الاجتماعية. وذلك ما تحول إلى الشارع إثر رفع الحجر مباشرة، فقد كانت أول الأحداث السياسية العالمية مظاهرات ضد عنف الشرطة والجرائم العنصرية، ولم يكن ذلك ممكنا إلا لأن الحياة البيوغرافية والحياة السياسية لم تُعلَّق لفائدة “الحياة العارية”. أن نخلط بين منع وقتي ولو صارم، وبين وضع طوارئ دائم، كما فعل المفكر الإيطالي جورجو أغامبين، أي بين الديمقراطية والتوتاليتارية، هو أمر خطير.
ولا يعني ذلك أن تلك الإجراءات الطارئة كانت كلّها مبرّرة، وصائبة، فقد سلّط غياب الاحتياطات الضرورية لفئات من المجتمع (كالمزوّدين والمساجين والمهاجرين) الضوءَ على ما أسماه ديديي فاسان، أستاذ العلوم الاجتماعية بمعهد برنستون، “سياسة الحياة” القائمة على عدم تساوي قيم الحيوات.
فقد أوضح أن مسألة التفاوت ليست نقطة قوة الديمقراطيات الليبرالية، والعشريات الأخيرة كانت دليلا على ذلك في أغلب البلدان التي تتبنّى هذا النوع من الحكم، إذ سجلت تناميا محسوسا في التفاوت الاقتصادي وظهور تمييز يومي ضد الأقليات الإثنية والعرقية، وخاصة من طرف قوات الأمن والمنظومة القضائية. ما ولّد شعورا بالظلم ما انفك يتبدى في المظاهرات الحاشدة “للسترات الصفراء” في فرنسا، و”حياة السود مهمّة” في الولايات المتحدة، في خلاف واضح مع الاحتجاجات في الأنظمة الاستبدادية التي ينادي أصحابها بحرية التعبير والحقوق المدنية. ألا يمكن والحالة تلك أن نتخذ من انتشار التفاوت مقياسا للصحة الديمقراطية للأمم؟ ألا يستحق مجتمع ما أن يحاسب وفق الطريقة التي يعامل بها أكثر فئاته هشاشة؟
وفي رأيه أن أهمّ ما في الإجابة على الجائحة توقُّف جانبٍ كبير من النشاط الاقتصادي والاجتماعي، خلّف كسادا وبطالة لا مثيل لهما منذ نحو قرن، وتعليق عدد من الحريات العامة والقوانين الأساسية، بدءا بحرية التنقل والتجمّع. ما مثّل صدمة غير مسبوقة للديمقراطيات الغربية، زعزعت ركيزتين أساسيتين هما الرأسمالية والليبرالية. هذه الصّدمة لم تكن الغاية من ورائها سوى صيانة الأرواح، وفي هذا تأكيد على أنّ القيمة العليا للحياة البشرية تفوق كل الاعتبارات، كالنموّ الاقتصادي والتداين العام والحريات والحقوق. و”مهما كان الثمن” هي صيغة لا تفسَّر من حيث التكاليف المالية، بل من حيث التضحيات الجماعية الواجب تقديمها.
هذا الخيار أطلق عليها ديديي فاسّان مصطلح البيوشرعية أو شرعية الحياة، نسجًا على منوال ميشيل فوكو في صياغة مفهوم البيوسلطة أي السلطة على الحياة. وقد بلغت هذه البيوشرعية أوجَها عند انتشار كورونا، عبر خيارات راديكالية لأغلب الحكومات من أجل إنقاذ الأرواح، في إطار تشريع يعلن حالة الطوارئ الصحية. أما البلدان الشمولية، كالصين وتركيا، فالخيارات كانت بيوسياسية، أي أنها تعلن حالة الطوارئ الصحية لحماية الشعب وهي تقمعه وتصادر أبسط حقوقه في الوقت نفسه.
ولا يفوّت المفكر الفرنسي أن يلاحظ أن مبدأ هذه البيوشرعية ليس مضمونا بعد، فلئن كانت الحياة قيمة عليا، فإن كل الحيوات ليست متساوية، وقد جاءت الجائحة لتذكر بهذه البدهية، فالعمّال الذين يعتبر نشاطهم أساسيا لضمان سير الحياة الطبيعية داخل المجتمع دُفع بهم إلى الجبهة دون أخذ الاحتياطات اللازمة، حتى من جهة تزويدهم بالكمائم إذ قيل لهم إنها غير مجدية. كذلك أصحاب المؤسسات الصغرى التي تشغّل يدا عاملة ولا تملك إلا أن ترسل عمالها إلى حظائر البناء، والمهمّشون الذين يعيشون ليومهم، ويعاملون باستهانة أمام المخاطر وكأنهم لا يملكون أيّ قيمة اجتماعية.
ولكن أكثر الفئات التي ازدادت تعرضا لخطر الجائحة هي فئة المساجين، التي لا تستطيع أن تتمتع بالحجر في زنزانات مكتظة، ما يجعل التباعد الاجتماعي مستحيلا، والإصابة واردة بسهولة. فسجون فرنسا تعاني من الاكتظاظ، مثلما يعاني مساجينها من إهمال بلغ ذروته برفض تمكين المساجين من كمائم، حتى عندما توافرت للجميع خارج السجن. ولو أنّ الوضع تغير في الأشهر القليلة تحت ضغط الجمعيات والمحامين والمثقفين والمدافعين عن الحقوق، حيث تراجع عدد المساجين بنسبة الخمس، في انتظار أن تتاح إمكانية عزل السجناء في زنزانات فردية. أي أن ما لم تقدر عليه التشريعات منذ 1875 سيصير ممكنا بفضل الحجر الصحي. أما في الولايات المتحدة، حيث يرزح قرابة ربع مساجين العالم خلف القضبان، فقليلون هم الحكام الذين بادروا بتسريح المساجين المرضى أو الذين توشك مدة سجنهم على الانقضاء. ففي بلد لا يتوزع فيه العقاب بالتساوي، حيث غالبا ما تُسلَّط الأحكام القاسية على الطبقات الشعبية والأقليات الإثنية والعرقية، ظلت الشعبوية الجزائية مقدَّمة على قيمة الحيوات. إذ نجد في ولاية نيو جرزي مثلا أن عدد المساجين السود يفوق وزنهم الديمغرافي في عموم السكان بنسبة اثنتي عشر مرة، ما جعل الوفيات التي تسبب فيها فايروس كورونا أعلى نسبة في الولايات الأمريكية الخمسين.
إن تقليص الوجود الإنساني إلى ما يسميه المفكر الإيطالي جورجو أغامبين الحياة العارية، أي العيش لمجرد العيش، على حساب أشكال حياة مميزة، هو ما يعيشه المساجين، في حين أن الحياة البيولوجية هي شرط أساس لما يسميه المفكر الألماني أكسيل هونّيت تحقيق الذات، الذي يفترض الاعتراف بكرامة المساجين بنفس القدر الذي يحظى به أي فرد من المجموعة الإنسانية. وفي رأي فاسّان أن المسألة السجنية تظل شذوذا عميقا في المشروع الديمقراطي.
أما الحقوقي والمحامي المتخصص في القضايا الجنائية رفائيل كامف، فقد انتقد الطابع المتعسف الذي تتوخاه الدولة الفرنسية لفرض ديمقراطية استبدادية، وأوضح أن الحكومات المتعاقبة منذ أحداث 11 سبتمبر ما فتئت تسنّ قوانين استثنائية لا تستجيب للديمقراطية ولا لدولة القانون. فباسم مكافحة الإرهاب دعّمت الدولة نفوذ الشرطة ورجال الدرك ومكنتهم من مراقبة الهويات وتفتيش الناس، وبعد أن كان تلك الإجراءات خاصة بمن يشبه في انتمائهم إلى منظمات إرهابية ومحدودة في الزمن، صارت دائمة لتشمل الناس العاديين، ولا سيّما الذين ينتمون إلى الأقليات الإثنية والعرقية.
فقد لاحظ أن قانون مارس 2010 الذي تمّ سنّه لتعزيز مكافحة الإرهاب أوجد جريمة المشاركة مع جماعة تشكلت من أجل القيام بأعمال عنف وتخريب، فهو قانون لا يرمي إلى معاقبة من ساهموا فعلا في ارتكاب جرائم وجنح، بل حتى من كانت لهم نية القيام بها، أي أن القانون لم يعد يعاقب الفعل، بل الخطر المحتمل. ولاحظ أيضا أن الحكومة أعادت بعد العمليات الإرهابية لنوفمبر 2015 تفعيل قانون الطوارئ الذي وُضع خلال حرب الجزائر. وهو قانون ساهم في توسيع دائرة الاتهام، ومكّن الشرطة من ممارسة التفتيش وإخضاع الأفراد للإقامة الجبرية، والتسبب في فقدانهم عملهم. وقد رأت الحكومة الحالية من الطبيعي، في إطار أزمة كورونا، أن تلجأ إلى نظام استثنائي جديد إذ سنّت في مارس 2020 قانون طوارئ صحية منح السلطة نفوذا لا مثيل له، وجعل من كل فرد مشكوكا فيه، سواء كان يحمل الفايروس أم لا، وألغى حقوق الدفاع عمن هم في حالة إيقاف مؤقت. والفكرة التي تربط كل هذه القوانين بعضها ببعض هي أن إسناد نفوذ غير محدود لرجال الأمن والقضاء سيحل المشاكل التي يواجهها المجتمع، في حين أن هذه القوانين تلغي الحريات الأساسية كاحترام الحياة الخاصة وحق التظاهر وحرية التنقل.
وأما جان كلود مونود المفكر والباحث في المركز الفرنسي للبحوث العلمية الذي اشتغل على دور القائد في النظام الديمقراطي، فقد أوضح أنّ عددا من الديمقراطيات الليبرالية أعطت صورة سيئة عن نفسها، من خلال ما يتبدّى في سلوكها من رغبة في احتكار السلطة، وإخضاع الحكومةِ السياسةَ إلى المصالح الاقتصادية المهيمنة، وحتى الإخلال ببعض القواعد الإيكولوجية والاجتماعية الراديكالية. قبل الجائحة، انفجرت ثورات عديدة في العالم وقدّم عدد من الدول الديمقراطية الليبرالية مشهدا يغلب عليه التردد والجدل والاضطراب، ما ولّد تراجعا في ثقة الشعوب في الإجراءات المتخذة والتي قُدّمت بكيفية غير متجانسة.
كان يمكن لهذا الاضطراب أن تنجم عنه مطالبة بديمقراطية صحية، وعلى الأقل مساهمة الشعب بقدر أكبر في مناقشة الخيارات الممكنة، ولكنه، على العكس، ولّد سلسلة من الشك والتحدي، أدت إلى دعوة جانب كبير من الشعب إلى نبذ الديمقراطية الليبرالية واعتبار الاقتراع مهزلة، وأن كل شيء يتمّ نسجه في الكواليس. وبيّن مونود أن الإيمان بنظرية المؤامرة يتأرجح بين الدعوة إلى سلطة قوية، وبين شكل من الأناركية يمكن أن ينزرع داخل هذا النبذ. ولئن كان من الصعب قياس هذه الظاهرة، فإننا نجد في أحشائها الفكرة القائلة بأن الديمقراطيات الليبرالية خاضعة بشكل كامل لقوى مالية وصيدلانية، مع استخلاصين يتناقضان بحسب الجماعات واللحظة: واحد يدعو صراحة إلى سلطة قوية ويتخذ الصين في صراعها ضد كورونا مثالا لذلك، والثاني يرفض علانية الامتثال لقواعد الحجر الصحي باسم حرية الأفراد في إتيان ما يريدون، حتى وإن مثّلوا خطرا على الآخرين.
وأيّا ما يكن الموقف من الديمقراطيات وارتباكها في مواجهة الجائحة، فإن، الديمقراطية تظل النظام الذي يمكن أن تحدث فيه عمليات التعلم الجماعي المفتوح، ويتغذى على النقد العقلاني للسلطات وأخطائها، ويمكن فيها عزل الحكام بأمان عبر انتخابات نزيهة. بينما يتناقض هذا الانفتاح وهذا الاحتمال في الحظر الحالي للأنظمة الاستبدادية التي أرادت، لبعض الوقت، أن تبدو جيدة وتوفر بعض ضمانات المشاركة الديمقراطية، لكنها تتجلى في الواقع بكل أبعادها القمعية بشكل متزايد. ورغم تهافت سياسة بعض القادة الشعبويين مثل ترامب أو بولسونارو، أو المبادرة باتخاذ إجراءات غير مسبوقة كالحبس وفرض تدابير تحدّ من الحريات، فالمهم، يقول مونود، ألاّ ينقطع خيط الديمقراطية، وأن يقع التأكيد على الحرية النقدية والمطالبة بالمشاركة العامة في صنع القرار والتداول، مرارًا وتكرارًا، دون الاستسلام لإغراءات الاستبداد التي تزوّر المعطيات البيانات وتكمم الأصوات الناقدة، لتضفي قيمة على النظام التي تريد فرضه، دون نقاش.