الديمقراطية وثقافة الاختلاف
يُنسَب إلى ونستون تشرشل قوله “إنّ الديمقراطية هي أسوأ نظام حكم، باستثناء كل النظم الأخرى التي تمّ تجريبها عبر التاريخ”، وهي جملة استُلّت من خطاب كان ألقاه يوم 11 نوفمبر 1947 أمام مجلس العموم، بعد هزيمته المفاجئة في انتخابات يوليو 1945 وانتقاله إلى صفوف المعارضة، ولكن بطريقة مشوّهة، إذ قال حرفيًّا: “أنماط كثيرة من الحكم تمّ تجريبها، وسوف يتواصل تجريبها في هذا العالم، عالم الخطيئة والبلاء. لا أحد يزعم أن الديمقراطية ممتازة أو محيطة بكل شيء. لقد قيل إنّها أسوأ أشكال الحكم باستثناء كلّ ما تمّت تجربته على مرّ الأزمان، ولكن ثمّة شعور مشترك، على نطاق واسع في بلادنا، بأن الشّعب ينبغي أن يكون صاحب السّيادة، بكيفيّة دائمة، وبأن الرّأي العامّ، المعبّر عنه بكلّ الوسائل الدستورية، ينبغي أن يُشكّل ويوجّه ويراقب عمل الوزراء، الذين هم خدم الشعب لا أسياده”. وقال أيضًا في نفس الجلسة: ” الديمقراطية ليست مكانًا يحصل فيه النائب على تفويض محدّد بالوعود، ثم يفعل به ما يريد. نحن نؤمن بضرورة وجود علاقة ثابتة بين الحكّام والشعب. حكم الشعب، من الشعب، من أجل الشعب. ذلك هو التعريف السيادي للديمقراطية.”
أي أن الديمقراطية في نظره ليست سيئة ولا هي مكتملة لا يشوبها نقص، بل إنّها حادت عن مجراها الطّبيعي، أي حكم الشعب للشعب، لتتحول إلى حكم النخبة للشعب، يتصرفون في مصيره ومقدّراته حسب مصالحهم. وهو جدل رافق الديمقراطية منذ الإغريق الأوائل، وكانوا قد واجهوا هم أيضًا مشاكل ذات علاقة بطبيعة الديمقراطية، وما زال متواصلا حتّى اليوم، لاسيّما في البلدان الغربية الخاضعة لليبرالية خضوعًا كان من نتائجه مساءلة مفهوم الديمقراطية نفسه في ظل تطورات كثيرة. هل هي أفق لا يمكن تجاوزه؟ ألا تزال ضامنة للحرية والمساواة والعدالة، تلك الشعارات التي رفعتها الثورة الفرنسية، أم أنها أفرغت من محتواها، إلى الحد الذي صار يُخشى فيه زوالها؟ هل تضمن العيش بحرية وأمان في ظلّ قانون عامّ يحصّن المجتمع كلّه ضدّ التّعسفّ وامتيازات القلّة على رأي روسّو، أمّ أنها تهدف إلى صنع إنسان مجرّد، ليس له من هويّة إلا ما تضفيه عليه الحرية والمساواة كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الأيرلندي إدموند بيرك (1729 – 1797)؟ هل ينبغي صياغة الديمقراطية انطلاقا من مبادئ الحرية والحقوق والمساواة أم من الهوية التي صنعها التاريخ؟ فالديمقراطية لا يمكن أن تقبل الالتباس والنسبوية، ولا أن تنحصر في صراع كيانات منغلقة على خصوصياتها، أو الوهم بوحدة مزعومة. هذا “المُلك المشترك” الذي يجري الحديث حوله بصفة عامة دون تدقيق أو تحديد، لا يكمن في تهدئة الخواطر، وإنما في التعبير عن عدالة أشمل تسع المجتمع بشتى مكوناته.
تلك التساؤلات، وأسئلة أخرى حافّة، كانت موضوع جدل ثريّ وضع وجها لوجه مفكّرتين فرنسيتين هما ميريام ريفو دالّون اليسارية الثائرة، وشنطال ديلصول اليمينية المحافظة، ثمّ صدر في كتاب يحمل عنوانا لافتا “هكذا تموت الدّيمقراطية”. ولئن التقت المفكرتان حول ضرورة الدفاع عن الديمقراطية ضدّ استعمالاتها المحرَّفة، فإنّهما اختلفتا في نقاط كثيرة. فالدّيمقراطيّة في نظر ديلصول هي شكل من أشكال السياسة، ومن ثَمّ فهي منذورة للتناهي. في حين أن ريفو دالّون تعتقد أن ما يعرّضها للزوال مردّه إلى كونها ليست شكلا من أشكال السياسة. وإذا كان سبينوزا يرى في النظام الديمقراطي أقرب الأنظمة إلى احترام الحرية الطبيعية للأفراد، فذلك لا يعني أننا ميّالون بطبيعتنا إلى الديمقراطية، فهي تمارَس عبر المساهمة في الوجود المشترك. ولكن ما هو هذا المشترك؟ ثمّ ما هي الفردانية التي تقع في صميم الحداثة؟
ديلصول تعطي الأولوية، في إطار الليبرالية الكلاسيكية، للفرد الذي يملك ذاته، ويريد مجتمعا مدنيّا محميًّا من تدخّلات الدولة، فيما تقدّم ريفو دالّون الفرد الذي يكرّس أهمية المداولة الديمقراطية، لأن تعدّد أوجه الصّراع ليس سوى نتاج “روح الابتكار الديمقراطي”، ولا يعقل أن نردّها إلى مجرد مظهر من مظاهر الفردانية المالكة، والحال أنها تعبير عن شرعية “الحقّ في حيازة حقوق” كما تقول حنّا أرندت. فالدّيمقراطية، تقول ريفو دالّون لا تعيش إلا لأنها “تُحرَّك” من قبل الذين يناضلون للحصول على حقوق جديدة، أو لتدعيم الحقوق السائدة. ومن ثمّ فهي تعرّف بكونها “النظام القائم على الجدل حول الشرعي وغير الشرعي”.
ولضمان استمرارها، هل ينبغي أن تلتحم الديمقراطية بمرتكز ثقافي كالثقافة الغربية ذات الجذور الهيلينية واليهودية المسيحية، كما تعتقد ديلصول. كلا، تجيبها ريفو دالّون، لأنّ الديمقراطية الحديثة أحدثت قطيعة مع كل ضمان متعال، وربمّا لذلك تجد نفسها أمام إغراءين دائمين، هما النسبوية المعمّمة، وإرادة اتّقاء أهوال الفرقة والريبة. رغم أنّ من أهمّ ما استخلصه المفكر الألماني يان فرنر مولر في كتابه الأخير “حرية، مساواة، ريبة” هو أن الريبة، بمعنى عدم اليقين، ينبغي أن يُضفَى عليها الطابع المؤسسي، فمن دونها لن يبقى ثمة مبرر للمواطنين كي ينخرطوا أو حتى يغيروا آراءهم. وفضل ذلك نلاحظه بسهولة إذا قارنّاه بالأنظمة الاستبدادية. غير أن ديلصول تبدو متسامحة مع الأنظمة اللاليبرالية، تلك التي تقبل، شكليًّا، المتطلبات الديمقراطية، واللجوء إلى انتخاب ممثلين نيابيين، والحال أن طبيعة التناقض في التعبير عن الآراء هي من تحصيل الحاصل، فالمجتمع لا يكون ديمقراطيًّا إلا إذا كان ذلك نتاج مساواة في الحقوق والحريات للجميع. وتلك هي الكونية الديمقراطية كما استخلصها فلوران غينار، الأستاذ المحاضر بدار المعلمين العليا في باريس.
تلك الكونية مهددة، والتهديد يأتيها من آفاق أيديولوجية هجينة لا يجمعها سوى الاستهانة بمتطلبات المساواة. ومن ثمّ، فإن الشعب، أيّا ما يكن تعريفه، لا يمكن أن يؤكد سلطته بمعارضته لحقوق أولئك الذين يؤلّفونه. والسير على ذلك الدرب الذي يلحّ على تجانس الشعب يؤدّي إلى تبني منطق هوويّ. وفي هذا الظرف الذي يشهد مآسي الملايين من المهاجرين، يصبح ذلك إغراء لا يقتصر على اليمين وحده. أي أن إرث الألماني كارل شميت، وكان يستعمل عبارات الديمقراطية لينحرف عن تقاليدها، لا يزال حيّا، يتبدّى في احتفاء عجيب بوضوح الرّؤية لدى الشعب، يذكّر بالتّصورّات الأساسية للأمة القائمة على شعور قويّ بانتماء يغذّيه مخيال إثنيّ عرقيّ. ولكن ينبغي رفض تحديد الديمقراطية بكونها تعبيرًا عن إرادة شعبية ناجمة عن هويّة مشتركة وهميّة. هذا الرّفض مركزيّ لدى ريفو دالّون في حين أنه ثانويّ لدى ديلصول.
ولعلّ هذا من دواعي قلق ريفو دالّون من التجربة الجديدة للتفاوت والإقصاء والفقر، والحال أنّها أخطر على الديمقراطية من “الووكيزم”، لأن الديمقراطية تَضمر أو تموت حين تؤول الغلبة إلى المصالح الخاصة وحدها، وحين تزعم أنّها تعبير عن هوية روحانية متجانسة أو وحيدة الدلالة. بيد أن المساس بتلك الهوية الروحانية هو الذي يفسّر، حسب ديلصول، سخط المواطنين على الأنظمة الاستبدادية، علاوة على أن الأسئلة الحقيقية لم يعد يطرحها غير المهرّجين، أي المنتمين إلى اليمين المتطرف، فهم في رأيها يقدّمون أجوبة خاطئة ولكن لهم فضل الرؤية الصائبة. فمن الواضح، بالنسبة إليها طبعًا، أن التعامل مع “انعدام الأمن الثقافي” أي “الشعور بأن ملكيتهم الثقافية تنتزع منهم، وبأن عليهم أن يعيشوا في ثقافة أجنبية، والحال أنهم في بلدهم”، يشكل خلاصة الأسئلة التي “لا يُمكن التطرّق إليها”. والثقافة الأجنبية التي تعنيها هي الثقافة الإسلامية، إذ تعتبر أنها لا تتلاءم مع التقاليد الفرنسية، وتبرر ذلك بقولها: “في الغرب، نحن نربّي أطفالنا على الحرية كي نجعل منهم مواطنين يشعرون بالمسؤولية، وهو ما يسمح بأن تكون لنا حكومات ديمقراطية. أما الأطفال المسلمون فإنهم يقعون في شتى أنواع الانحراف لأنّ ثمّة عدم انسجام بين التربية التي يتلقونها وبين نمط الحكم الذي يعيشون تحته.”
وكان من السهل على ريفو دالّون أن تفنّد كلّ ذلك، وتذكّر بأن البيانات الكمية تتطلب تحليلًا أكثر دقة وتفصيلاً، للتمييز بين طبيعة الانتهاكات المرتكبة، والتأكيد على أنها أنماط جُنح تُرتَكب في أغلبها في الأوساط الشعبية، فضلا عن كونها أكثر ظهورا في وسائل الإعلام وأكثر عرضة بالتالي لردع الشرطة والقضاء. وبذلك يكثر الحديث عنها، ويزداد تضخيمها وتخويف النّاس من أصحابها ومن ثقافتهم.
ذلك الهوس الهوويّ لا يخص اليمين وحده، فبعض تيارات اليسار حوّلت الكونية إلى خصوصية ثقافية، أي أنها تضع تلك الكونية المسقطة تحت مسمّى المتماثل، في حين أن المتماثل ليس المشترك. ومن ثمّ، وبعيدًا عن التفكير في أن الديمقراطية تموت من العمى في مواجهة ما تعتبره شانطال ديلصول الأسئلة الأساسية، والهجرة وانعدام الأمن الثقافي، تجيب ميريام ريفو دالون بأن تلك الأسئلة تخنق النقاش، فالديمقراطية تموت من أثر الجنون الهووي، وتلوث الأفكار بترّهات إريك زيمور.
لقد أصبحت الديمقراطية، في وجهها الليبرالي، تعويذة مليئة بالمتناقضات، كما قال المفكر البولندي ريتشارد ليغوتكو في كتابه “الشّيطان في الدّيمقراطية”، حيث يزداد عجز المؤسسات القانونية والسياسية عن الاستجابة لحلّ المشاكل الحقيقية، وتتقلّص ثقة المواطنين بالممثلين النيابيين العاجزين عن القيام بالمهمة الموكَلة إليهم، وتتراجع الشرعية الفعلية عبر تزايد الامتناع عن التصويت، بل إن نسبة كبيرة من الفرنسيين لم تعد ترى مانعا من إيلاء الحكم للعسكر، وحتى لنظام استبدادي. أي أن الديمقراطية يتهددها خطر حقيقي، ولكنه قد يأتي من الدّاخل لا من الخارج.
نقاط خلاف كثيرة كانت تتطلب مزيدا من العمق، ولكن النقطة الأساسية التي تتفق عليها المفكرتان الفرنسيتان هي الديمقراطية بوصفها حرية المرء في طرح أفكاره على الملأ دون تحفظات حقيقية ولا كراهية أو عنف بل في نطاق الاحترام المتبادل.
مونتروي في 14. 11. 2022