الدين للناس والدولة بلا دين وتونس الفاتحة
كشفت أسابيع الربيع العربي حقيقة نظام الدولة الوطنية وأجبرته على مراجعة سياسته وتحالفاته. وبرهنت للجماهير الواسعة أن ذلك الشكل من الحكم لم يكن أبدا يمتلك مشروعا لمجتمع بأبعاده السياسية والاجتماعية أو رؤية استراتيجية بعيدة المدى، بل كان مجرّد مجموعات تمارس العنف الفكري والاجتماعي وتتغذى من صمت المواطنين. لم تكن الدولة الوطنية ولمدة عقود نظاما جمهوريا بالمعنى السياسي المعروف تاريخيا، بل عصابات تتقوى من الخطاب الشعبوي والريع النفطي ومن مساندة بعض القوى الدولية لها كما تبّين ذلك في تونس ومصر واليمن وليبيا.
نعم، نحن نعيش أخر أيام التراجيديا ومن المؤسف أن الذي يدفع الثمن في كل مرة هو المواطن البسيط والعامل الأجير الذي فقد آلة عمله، تدفعه المرأة التي صارت سلعة للمقايضة بعدما كانت سيدة بيت، ويدفعه التلميذ الذي هدمت مدرسته وأحيل معلمه على البطالة. يدفعه القروي الذي خربت داره وأحرق غرسه.
تلك الأحداث الدامية والمأساوية لم تكن فرصة لاكتشاف ضعف الدولة الوطنية فحسب، بل ساهمت وبشكل كبير في اكتشاف وهم الحلول التي يعد بها منظرو الإسلام السياسي وكل منظومته الأيديولوجية المبنية على الترقيع والولاء للخارج. لقد فهمت الجماهير العربية الواسعة وبشكل مباشر -عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، ومن خلال التجربة على الأرض- ماذا كان يُعدّ لهم خطباء الإسلام السياسي، وطبيعة المجتمع الذي كانوا يطالبونهم الوقوف إلى جنبهم لأجل تحقيقه. لقد صار الجاهل قبل المثقف والصبي قبل الكهل يتقن أبجديات من المفترض أنها انتهت منذ قرون من مثل مفردات: السبي والنحر والغنيمة والردة. هذا هو صميم ما ينتجه كل مشروع سياسي يوظف الدين، إنه لا يمكن أبدا أن يمتلك مشروعا لدولة أو مشروعا لوطن.
إن هذه التجربة واكبها الكثير من التحركات من قبل النخب المثقفة والكوادر السياسية في بعض بلدان المنطقة العربية، إذ لم يعد يُسمح بالاستمرار في تقليد الماضي السياسي وتكرار أخطائه، ولم يعد يوجد ما يمنع الجماهير الواسعة من المطالبة بالحرية والخروج للشارع للمطالبة بدولة للأحرار وليس بأنظمة قمعية ومنقوصة السيادة. البداية كانت وللمرة الثانية أيضا من تونس!
عظيم هذا الشعب الذي استطاع وبمفرده أن يقدّم تعريفا صحيحا للربيع العربي بمنأى عن كل خطاب ديماغوجي. لقد صارت تونس قبلة لكل التقدميين، وشعبها أعطى الدرس لقوى كانت تظن نفسها -منذ وقت قريب- وحدها الطلائعية والقيادية.
طالبت النخبة التونسية، من أساتذة وبرلمانيين ومحامين وصحفيين ونقابيين، بتعديل قانون الأحوال الشخصية من أجل صيغة توفر للمرأة حق اختيار الزوج بعيدا عن الوصاية بمختلف أشكالها وبالحق في المساواة في الميراث بين الجنسين. قاومت هذه النخبة -من دون سلاح- وبشراسة إرادة مناضلي الإسلام السياسي وداعميهم في المشرق العربي، والتي كانت ترمي إلى تأسيس دولة تونس ما بعد ثورة الياسمين وفق النموذج الباكستاني أو الصومالي.
من المؤسف أنّ بعض المنابر العربية لم يعجبها أن تنفرد تونس برؤيتها للمستقبل وبوعيها القومي المؤسس لدولة مدنية على الطراز الحديث.
الرد جاء سريعا من مؤسسة الأزهر بمعية بعض المرجعيات الدينية، مطالبين بإخراج تونس من دائرة ”البلدان الإسلامية”. وهكذا صارت مؤسسة الأزهر هي من يقرّر من تُقبل عضويته ضمن المسلمين ومن لا تُقبل عضويته، ثم يقولون إن المؤسسة الدينية في المنطقة الإسلامية تختلف عن مؤسسة الإكليروس التي عرفت في أوروبا إبان القرون الوسطى! لم تكترث النخبة التونسية بهذا الموقف الذي جاء من أكبر المرجعيات الدينية السنية، وقد لقيت التأييد من طرف النخب المتنورة والمثقفة في الجزائر والمغرب.
ولكن هل يكفي أن نطالب ببعض التعديلات على قانون الأحوال الشخصية أو بالتعددية السياسية والحرية الفكرية والنقابية لضمان عدم التواجد مجددا في فضاء مجتمع العشيرة والسياسة الشمولية التي كانت ولا تزال تميز الكثير من بلدان المنطقة العربية؟ هل تكفي مثل هذه الخطوات للحديث عن ربيع تونسي وبداية لمجتمع الأنوار؟
إن أولى الخطوات الواجبة -بالنسبة إلى الأنتلجنسيا التونسية والعربية- تتلخص في إعادة النظر في صلب المنظومة التشريعية لدى كل البلدان العربية. إننا نجد كل دساتير البلدان العربية (التي لديها دساتير) تتفق حول بند مقدس واحد لا يُسمح بمناقشته ولا بتعديله ويعتبر من الثوابت الوطنية لكل بلد. نص هذا البند هو ”الإسلام دين الدولة”. إنه الثغرة الدستورية الأساسية في سياسة الدولة الوطنية والتي يستغلها خطباء الإسلام السياسي للمطالبة بتنفيذ مشاريعهم على الأرض باسم تطبيق الشريعة في شتى مجالات النشاط، الاقتصادية والاجتماعية، لأجل إحكام السيطرة على الاختيارات والتوجهات، ولأجل المطالبة أيضا بحقهم في السلطة ورفضها لمن لا يؤيد اختياراتهم، ويرمون كل معارض بالخيانة والمسخ والخروج عن إرادة الشعب.
من المعروف تاريخيا أن الجمهورية هي نظام الأحرار من الجماهير، والسلطة السياسية ليس لها الحق في تبني أيّ معتقد أو موقف فكري، وليس من مهامها التضييق على التعددية الدينية أو الفكرية أو نزع الشرعية عن بعضها بوسائل الرقابة المعروفة.
الدولة الوطنية في العالم العربي لم تبيّن أبدا ما هي المعايير المعتمدة في انتقائها للمذهب الرسمي الذي اختارته دينا لها، علما بأنه في كل البلدان العربية –عموما- تتواجد العديد من المذاهب والتجارب الدينية أو الفكرية. وهو ما جعل هذا التوجه يقرّبها من أطروحة الإسلام السياسي القائمة على الانتقاء الأيديولوجي للدين ليصبح ذلك الاختيار، فيما بعد، هو الوحيد الذي يحظى بالشرعية والمصداقية.
إن ولوج مجتمع الحداثة الذي تطالب به الكوادر العربية -والتونسية على وجه الخصوص- يبقى منقوصا في ظل بقاء ذلك البند مقدسا لا يقبل المراجعة والتعديل. ولهذا فمن من الضروري لإنجاح المسار أن يستبدل ذلك البند المقدس ببند آخر هذا نصه ”الإسلام دين الناس والدولة حيادية“. ففي غياب مثل هاته الخطوة لا يمكن أبدا المضي بعيدا في المطالبة بمزيد من التعديلات الرامية إلى بناء مجتمعات حديثة يتساوى فيها الأفراد أمام القانون، وتجريد السلطات السياسية من ذهنية الوصاية التي تؤسس لمجتمعات منغلقة لا تقبل الانفتاح.
النموذج التونسي، وبالرغم من كونه في بداية الطريق، هو محاولة عملياتية لتجسيد الحداثة على أرض الواقع. استطاع أن يقدم خطة عمل تخرج السؤال الحداثي من دائرة البحث الأكاديمي ليجعل منه مشروعا اجتماعيا. إنه مشروع لا يسأل ما هي الحداثة وكيف تكون، بل إننا نجده قد اتجه وبشكل مباشر إلى المطالبة بتطهير المنظومة التشريعية من رواسب العقل القبلي ومن قاموس المفردات الذي أنتجته القرون الوسطى. إنه مجتمع فهم بأن المستقبل لا يمكن أن يكون بالسقوط في حضن الفقيه بل هو في إعادة الثقة إلى سواعد شبابه من النساء والرجال.
الجديد في الحراك التونسي يتمثل في كونه استطاع أن يضفي معنى للربيع ليصبح ليس مجرد غضب شعبي عشوائي بل هو مسار تاريخي واع ومقصود غايته إعادة النظر في المنظومة التشريعية التي هي أساس كل مشروع حداثي.
البداية تدعو للتفاؤل، ونحن على ثقة بأن تغيير الواقع العربي إنما سيتحقق عاجلا أم آجلا، وقد لاحت ملامحه من تونس، هذا البلد الصغير والمسالم الذي استطاع أن يكون أول من يحرك الشارع العربي وبعدها أول من يدغدغ اليقين العربي. لقد فهم التونسي أن الطريق إلى بلوغ التقدم الاجتماعي والاقتصادي يبدأ بتعديل التشريع ليصبح في خدمة كل المواطنين من دون استثناءات جنسية أو دينية.
وفهم التونسي بأن التخلص من ذهنية التعصب والصراعات الدينية والتوتر الاجتماعي لن تأتي باستيراد المغنّين أو بإملاء توصيات إلى رجال الدين حول ما ينبغي فعله وقوله، أو بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، بل إنها تأتي من إعادة ترتيب المؤسسة الأولى في البلاد لتصبح مؤسسة تعمل لصالح الرجال والنساء، وليس مؤسسة يقودها الذكر الفحل المعصوم.
لا يمكن أن تذهب التجربة التونسية بعيدا في مجال الإصلاح التشريعي من دون تغيير البند العقدة والذي يجعل كل جهود هذا الجيل قابلة للتراجع في أيّ لحظة من التاريخ. الدستور ليس كتابا مقدسا والجماهير لن يغضبها أن يصبح الإسلام دينها وليس للسلطة حق التدخل في تقرير الصورة التي تنبغي ممارسته وفقها.
أمام المثقف النخبوي العربي العديد من التحديات، أتمنى أن تكون ظروف السنوات الأخيرة (2010-2018) قد ساهمت في تنوير عقله حول الطريق الواجب سلكه. وتعلّم من خلالها أن المستقبل لا يصنعه الفقيه، بل كان دائما من صنع المُشرّع. وهو اليوم يصنع في تونس على عجلة ثورة الياسمين ومن هناك إلى كل مجتمع عربي يريد أن يخرج من تحت الرماد، بعدما جعله مشروع الإسلام السياسي مجرما بالهوية. إن تجربة تونس جديرة بوصفها بالمسار الثوريّ وعلى الطريق الصحيح.