الدُخان المُفزغ الذي لفً سماء المدينة
الدُخان المُفزغ الذي لفً سماء بيروت ولوًث صفاء البحر، أحال مباشرة إلى مشاهد عربية دخانية كئيبة تتكرر منذ سنوات في دمشق وبغداد وصنعاء وبقية الحواضر المحتلة من الطغاة ووكلائهم في الخارج.
بيروت التي خرجت من حرب أهلية مدمرة، كانت توأما للجزائر في الخراب والدم والجريمة والحزن وطوابير الموت وصراع لوردات الحرب، كل ذلك لم يمنع من تكوين صورة ناصعة عن بيروت بوصفها حاضرة متوسطية هاربة من حظائر الطغاة وكهوف العدمية.
كانت بيروت بالنسبة إلى شاب جزائري حالم خرج لتوّه من عشرية حمراء دامية، عنوانا للحريات والرقي والحداثة والكتب المتنوعة والصحافة الحُرة، فضلا عن قامات فكرية ونضالية بمثابة قناديل وعي حسين مروة، مهدي عامل، علي حرب، جورج حاوي، سمير قصير، جبران تويني، أنسي الحاج، إلياس خوري وغيرهم.
الانفجار الأخير في مرفأ بيروت، هو انفجار للمدينة العربية المستباحة والمختطفة، لا يمكن وصف ما حدث في بيروت المنكوبة، إلا بكونه خلاصة عقود من الخديعة والإجرام والسطو، وهو يحدث بالقدر نفسه أو يتجاوزه في أماكن أخرى من المنطقة. سحب الدخان والرعب في عيون الأطفال وتماهي مشاعر الخوف والاستسلام في ملامح النساء والأطفال، وركام الخراب والجريمة والفتك بسكينة الناس.
بيروت الآن تنهض من أنقاض الجريمة، تمسح التراب عن خدها وتقاسم البحر الحزن على الضحايا وتتطلع إلى غد متحرر من المافيات الحاكمة يعيد إليها وجهها الحداثي وروحها الحرة.
بدأ هذا مع حراك شعبي غاضب يطالب بالقطيعة مع الفساد والطُغم المافياوية ومُستمر منذ مهزلة المرفأ ولا بديل إلا بالغضب والتظاهر، تفاديا لكوارث أخرى تمر بلا عقاب وتؤبد حُكم القتلة واللصوص وزبائنهم.
نهضة بيروت وإن كانت بطيئة وصعبة بالنظر إلى حجم الفاجعة، هي نداء لأحلامنا وتطلعاتنا في تغيير مسار التاريخ الذي يحتكره الطاغية والوحش الأصولي، كلاهما يبيد الفضاء الإنساني العربي منذ عقود، ولا يغادران مسرح الجريمة والخراب إلا بعد تثبيت مظاهر العسكرة والشمولية والتدجين وقبر شعلة الحياة والحرية في قلوب الناس.
حين نتعاطف مع لبنان في محنته لا شك أنه انتصار لرغباتنا الواسعة في خلق فضاء إنساني متعدد صار له خصوم كثر، من العُصب الحاكمة المسنودة من الخارج، وصولا إلى تلك البنادق الإلهية المؤدجلة الغارقة في الشعارات المخادعة والمشاريع الظلامية المنافية لروح العصر.
الوجع اللبناني امتداد لوجع أبدي يحفر في أعماق من يطمحون لواقع غير الذي أراده الحاكم بأمره، هو وجع الذات الحالمة والكرامة المهدورة والنفس الطامحة دوما إلى مسايرة تطلعات العالم ودفن مشاهد العدمية والإبادة والتراجع نحو ماضٕ دامِ منغلق.
الروح ترحل دوما إلى شوارع بيروت ومقاهيها ومكتباتها، وترافق الشباب في عمليات الإغاثة والإنقاذ وردم غباء الأنظمة والإصرار على خلق غد أفضل.