الدّين من وجهة نظر براغماتية
البراغماتية كما عرّفها المعجم الفلسفي هي مذهب يرى أنّ معيار صدق الآراء والأفكار إنّما هو في قيمة عواقبها عملاً، وأنّ المعرفة أداة لخدمة مطالب الحياة، وأنّ صدق قضية ما هو كونها مفيدة، والبراغماتي بوجه عام وصف لكلّ من يهدف إلى النّجاح، أو إلى منفعة خاصّة. كما عرّفها قاموس ويبستر العالمي بأنّها تيّار فلسفي أنشأه تشارلز بيرس ووليام جيمس يدعو إلى حقيقة أنّ كلّ المفاهيم لا تثبت إلا بالتّجربة العلمية.
فالبراغماتية إذن تيّار فلسفي لم يكن تشارلز بيرس يتوقّع أن يحقّق كلّ هذا النّجاح الذي حقّقه، وللإشارة فقد ظلّ هذا المذهب زهاء عشرين عاماً “مهملاً”، حتّى بعثه الفيلسوف الأميركي وليام جيمس من مرقده، وأخرجه إلى حيّز الوجود، وأضاف عليه، ونشره على النّاس في مؤلفاته، حتّى أصبحت البراغماتية لفظة تتردّد في الأوساط الثّقافية في كلّ مكان في العالم وأصبح مذهب تشارلز بيرس، وما أدخله عليه وليام جيمس، وما أضافه عليه جون ديوي من أشهر الحركات الفلسفية في هذا العصر. فهؤلاء الأعلام الثلاثة الذين قاموا بحمل الفلسفة البراغماتية على كواهلهم، كان لكلّ واحد منهم لون يميّزه عن الآخر، وإن اتّفقوا في أصلها الذي يقوم على أنّ معيار صدق الفكرة إنّما يكون من خلال ما ينتج عنها من نتائج ملموسة، فلكي ننشئ فكرة معيّنة، فكلّ ما نحتاج إليه إنّما هو تحديد أيّ سلوك وأيّ فعل تصلح لإنتاجه، وأنّنا لكي نتأكّد من وضوح أيّ فكرة، علينا أن ننظر في الآثار والنّتائج العملية التي تحقّقها في الواقع، سواء كانت هذه النّتائج مباشرة أو غير مباشرة.
1- تشارلز بيرس: الدّين افتراض ينتظر الإثبات
يعتبر تشارلز بيرس (1839-1914) المؤسّس الأوّل للفلسفة البراغماتية، وأكثر مفكّر من مفكّريها عمقاً في مفهومها، إلا أنّه أقلّ واحد فيهم شهرة، حتّى أنّ مؤلفاته لم تنشر إلا بعد وفاته بأعوام طويلة؛ فهو إذن الذي أنشأ الفلسفة البراغماتية وذلك عندما نشر مقالة أولى بعنوان “تثبيت الاعتقاد” سنة 1877 ومقالة ثانية عام 1878 تحت عنوان “كيف نوضّح أفكارنا”، وفيهما أشار إلى أنّه عندما كان يدرس المدارس الفلسفية كلّها ويتتبّع طرائق الفكر عند أصحابها، لم يكن ينظر إليها من وجهة نظر الفيلسوف اللاهوتي، الذي يتناول مادّته وكأنّها معصومة من الخطأ، بل كان ينظر إليها من وجهة نظر الباحث العلمي في معمله، فيبحث عن الجديد الذي لم يُعْرَف بعد.
أمّا عن نظرته إلى الدّين فقد ذكر أنّه عبارة عن اعتقاد، وأساس هذا الاعتقاد هو إقامة أو تكوين عادة معيّنة، بحيث يشعر الإنسان بوجودها، وبحيث يستطيع أن يمارسها فعلا أو إمكانا، وأن يكون على استعداد للقيام بما تقتضيه من عمل.
ولكي نتمسّك ببعض المعتقدات حسب تشارلز بيرس فلا بدّ من اختبارها، بوضعها على محكّ التّجربة، فالامتناع عن إجراء مثل هذا الاختبار يؤدّي إلى نوع من الغموض الذي من شأنه أن يحجب عن الإنسان المعرفة الصّحيحة، ويعوقه عن تصحيح كثير ممّا يعتقد في صحّته من قبل، فكثير من النّاس كانوا يعتزّون بأفكار غامضة، ويجعلونها بمثابة هوايتهم الوحيدة، وهي في حقيقتها أفكار خالية من المعنى، لدرجة أنّها يستحيل حتى أن تكون كاذبة، ومع ذلك، فكلّ منهم كان يحبّها حبّا جمّا، ويجعلها رفيقته ليلا ونهارا، ويعطيها كلّ قوّته وحياته؛ فهو كان يعيش معها ومن أجلها حتى أصبحت جزءا من كيّانه، وإذا به يجدها ذات صباح مشرق قد ذهبت أو اختفت تماما، فتهوي حياته معها أو بذهابها. وهكذا قد يتعصّب النّاس لمعتقداتهم ويصعب عليهم أن يتخلّوا عنها حتى لو اكتشفوا أنّها لم تكن صحيحة أو حين تصبح موضع شكّهم. (حبيب الشاروني، محاضرات في الفلسفة المعاصرة، ص: 82).
وفي مقاله عن “تثبيت الاعتقاد” يزيد بيرس هذا الأمر أكثر توضيحا؛ فهو يؤكّد على أنّ خير الوسائل لهذا التّثبيت هي المنهج العلمي الذي من شأنه أن يجعل صواب ما نعتقده أمرا يشاهده كلّ النّاس، فتخرج الفكرة من مجرّد كونها اعتقادا ذاتيا عند أحد الأفراد لنجعلها حقّا عامّا للنّاس جميعا، وبحيث يأتي تطبيقها في كلّ حالة على صورة واحدة، وبذا يكون لها معنى واحد عند النّاس جميعا، ولا يتغيّر معناها بتغيّر الأفراد أو الشعوب أو المكان أو الزّمان، وهذه هي الطريقة التي يتفاهم بها العلماء. (فؤاد كامل، أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ص: 101).
ولقد أوجز بيرس قوله في الدّين بقوله: إن فلسفتي في الدّين يمكن وصفها بأنّها محاولة فيزيائي يصوّر بنية الكون تصويراً لا يتعدّى ما تسمح به مناهج البحث العلمي، مستعيناً في ذلك بكلّ ما قد سبقني إليه السالفون، لكنّني لن أصطنع في هذا طرائق الميتافيزيقيين في الاستنباط الذي يقيمونه على فروض من عندهم، ويصلون به إلى براهين يصفونها بالصّواب القطعي الذي لا يتعرّض للتّعديل على ضوء ما قد تكشف عنه البحوث العلمية فيما بعد. كلا، بل طريقتي هي طريقة العلم نفسها، وهي أن أقدّم صورة للكون على سبيل الافتراض الذي ينتظر الإثبات على أساس ما قد يتكشّف لنا من حقائق، ولذلك فهو يتميّز أوّل ما يتميّز بقابليته للصّواب وللخطأ، وفق ما تقدّمه المشاهدة لنا بعدئذ من شواهد. (زكي نجيب محمود، من زاوية فلسفية، ص: 204).
هكذا إذن نخلص إلى أنّ خير الوسائل لإثبات الدّين أو الاعتقاد حسب تشارلز بيرس هي الوسيلة العلمية التي تجعل صواب ما نعتقد أمرا يشاهده كلّ من أراد أن يشاهد، فليس الأمر هنا حجاجا عقليا أو لفظيا بين جماعة من النّاس فيما بينهم، كما هي الحال حين يناقش الفلاسفة الميتافيزيقيون بعضهم بعضا، بل الأمر هنا مرجعه التّجارب العملية التي تجعل الفكر عملا كما ينبغي له أن يكون، الطريقة العلمية وحدها هي التي تخرج بالفكرة من مجرّد كونها اعتقادا ذاتيا عند أحد الأفراد، لتجعلها حقّا عامّا للنّاس أجمعين.
2- وليام جيمس: الدّين تعبير عن إرادة شخصية
إذا كان تأسيس البراغماتية أمرا يرجع فيه الفضل إلى تشارلز بيرس فإنّ الفضل في انتشارها وازدهارها يرجع إلى وليام جيمس (1842-1910)، ذلك الفيلسوف الأميركي الذي ربط بين هذا المذهب الجديد وبين الحياة الأميركية ربطا محكما، بحيث أصبح كلّ منهما علامة على الآخر، ودليلا إلى معرفته، بيد أنّ هذا القول لا يحول دون أن نلمس في حياة وليام جيمس وتربيته الأولى ونظرته إلى الفلسفة نزعة كونية واضحة.
وقد عرف هذا الفيلسوف بتديّنه، ممّا جعله مختلفًا عن بقية زملائه البراغماتيين، حتّى إنّه قال “عندما أقول لكم إنّني كتبت كتاباً عن خبرة النّاس الدّينية، اعتُبِر إجمالاً بمثابة توكيد لحقيقة وجود الله، فربّما تبرّئون براغماتيتي من تهمة كونها نظاماً إلحادياً”. (وليام جيمس، البراغماتية، ص : 348).
فوليام جيمس أكّد من خلال قوله السّابق على أنّ فلسفته البراغماتية بعيدة كلّ البعد عن تهم الإلحاد التي طالما ألصقت بها، بل أكثر من ذلك أكّد على حقّ الإنسان في أن يؤمن بوجود الإله رغم انتفاء الأدلّة العقلية والبراهين المنطقية على ذلك، وحسبُه فقط رغبته ووجدانه وعاطفته، أي أنّ المؤمن يؤمن بالإرادة فقط، فتكون إرادة الاعتقاد في وجود الإله هي المبرّر الكافي، والدّليل على صحّة هذا الوجود. ونستنتج من ذلك أنّ وليام جيمس يرفض وجود حدّ وسط بين الاعتقاد واللااعتقاد، فهو ضدّ الحياد في الدّين، ويتّضح ذلك من قوله “إنّ أيّ شخص يتظاهر بأنّه محايد إنّما يدمغ نفسه هنا بالحمق والتّمويه الكاذب والتّدليس″. (وليام جيمس، البراغماتية، ص: 332).
وفي إطار حرّية الاعتقاد التي نادى بها وليام جيمس نجده يؤكّد على أنّه في حياتنا اليومية لكلّ منّا أن يعتبر عقيدته ومذهبه وفكرته عن الله صحيحة بالنسبة إليه إذا ما مكّنته من حلّ مشكلاته اليومية حلّا شريفا، وهو بذلك يربط الاعتقاد أو الدّين بالنفع، ويزيد هذا الأمر تأكيدا بقوله “افترض أنّنا سنجني من وراء اتّباعه -أي الدّين- خيراً كثيراً نحتاج إليه في حياتنا، وسنخسر بالإعراض عنه ذلك الخير الحيوي. فالدّين يقدّم لنا نفسه على أنّه تخيير ملزم ضروري، لأنّ ذلك الخير الحيوي مرتبط به ومتوقف عليه. فلا يمكننا أن نتخلّص من المشكلة ببقائنا في حالة شكّ وتردّد مرتقبين اليوم الذي تأتي فيه أدلّة أكثر وضوحاً وأقوى إلزاماً”. (وليام جيمس، العقل والدين، ص: 30).
وفي حديثه أيضا عن علاقة الدّين بالمنفعة أعطى وليام جيمس مثالا لذلك من خلال إثبات وجود الله، إذ ذكر أنّه يستحيل إثبات ذلك عن طريق الخبرة العملية، وإنّما يثبت هذا الأمر عن طريق النّتائج الحسّية الملموسة؛ فوجود الله حسبه يستحيل إثباته إذا احتكمنا إلى خبراتنا العملية لأنّنا لا نراه ولا نسمعه ولا نمسه، وإذن فلا يجوز أن يكون ذلك طريق إثباته، ومع ذلك فهناك طريق غير مباشر إلى أثبات ذلك إذا رجعنا في ذلك لا إلى النّتائج الحسّية المباشرة بل إلى النّتائج العامّة التي تحدث في وجهة نظر المؤمن بصدقها، فالذي يؤمن بأنّ الله موجود يختلف شعوره في حياته كمن لا يؤمن بذلك؛ فتراه مثلاً متفائلاً قوي الرّجاء، وبالتّالي هو مستبشر بحياته فرح مطمئن، على خلاف زميله المنكر إذ يغلب أن يكون هذا متشائماً مقبض النّفس معدوم الرّجاء والأمل، وهذا الاختلاف في وجهة النّظر كاف وحده أن يجعل الجملة معنى لما لها من نتائج.
فوليام جيمس في مقاربته للدّين يشدّد على الإرادة وحرّية الاعتقاد وهو الأمر الذي دفعه إلى إصدار مقالته الشهيرة المعنونة “بإرادة الاعتقاد”، وهو يقصد من العنوان نفسه أنّ الاعتقاد إنّما يتوقّف على إرادة الإنسان المعتقد، فاعتقد إن شئت وسيكون لعقيدتك أثرها في حياتك، وبالتّالي ستكون عقيدة ذات معنى ومغزى ودلالة، فالقضيّة إذن شخصية تهمّ الفرد وحده دون غيره، وبالتّالي فلا حاجة لإنسان أن يبرّر اعتقاده لغيره، فالمسألة ترتبط بالإرادة أكثر ممّا تتعلّق بصحّة المعتقدات.
3- جون ديوي: الدّين مجرّد فكرة
ولد جون ديوي في العشرين من أكتوبر سنة 1859، وهي السّنة نفسها التي أصدر فيها داروين كتابه “أصل الأنواع″ والذي يمكن أن يعدّ فاصلاً بين عصرين ثقافيين، عصر قبله يتصوّر العالم سكونياً ثابتاً، وعصر ثقافي بعده يجعل حقيقة العالم متغيّرة ومتطوّرة ومتحرّكة، ولقد انفرد جون ديوي وحده دون سائر البراغماتيين بما يسمّيه “المذهب الوسائلي” أو “المذهب الذرائعي”؛ وهو أنه ليس هناك حقيقة قائمة بذاتها أبداً، بل إنّ كل حقيقة إنّما هي وسيلة في طريق متسلسل طويل، يؤدّي في النّهاية إلى حلّ لمشكلة معيّنة، وهذا الحلّ الأخير نفسه يستحيل أن يكون حقيقة قائمة بذاتها، بل إنّه سرعان ما يصبح حلقة في سلسلة فكرية جديدة، يراد بها حلّ إشكال جديد.
واللّون الذي يميّز جون ديوي أيضا عن باقي البراغماتيين هو محاولته استخدام منهج العلوم عند التّفكير في القيم، فينبغي أن تكون الصّورة المثلى التي نصوّر بها فضيلة من الفضائل –مثلاً- بمثابة فرض عملي يخضع للتّجربة العملية، فإن ثبت صدقه على الواقع كان بها، وإلا وجب أن نصوغه صياغة أخرى، بحيث يحقّق للإنسان حياة يبتغيها، وليست العبرة هنا بكلّ فرد على حدة، بل بمجموع الأمّة أو الإنسانية كلّها، تماماً كالفروض التي لا تتحقّق لفرد بعينه وكفى، بل لا بدّ لها أن تتحقّق لمجموعة العلماء المشتغلين بالفرع الذي جاءت تلك الفروض لتفسير ظواهر تقع في مجاله.
وقد عرفت الفترة التي عاش فيها جون ديوي بكثرة الأديان في المجتمع الأميركي وتصارعها من أجل الحقيقة، ووسط هذا الكمّ الهائل من المعتقدات الدّينية كان لا بدّ أن يتعرّض ديوي للدّين من خلال مذهبه الذي وصفه البعض بأنّه مذهب طبيعي، فلا غرابة أن يهاجمه غلاة المتديّنين الذين يرتبطون بالكنيسة أشدّ ارتباط، وخاصّة الكاثوليكيين الذين عرفوا بعدائهم للمذهب الطبيعي، فديوي فيلسوف طبيعي لم يتوان يوما عن نقد واحتقار الميتافيزيقيا، لأنّ التّفكير الميتافيزيقي عنده لا يبدى في واقع الأمر أدنى اهتمام بما يتّصل بسيطرة الإنسان العاقلة على الطبيعة، ولأنّ التّفكير الميتافيزيقي يبدي اهتماما كبيرا ببعض الأمور دون أمور أخرى، فهو بذلك في رأي جون ديوي يعوق البحث ويصبغ الفلسفة بصبغة جامدة تحول بين النّاس وبين ما في العلم الطبيعي من إمكانات كافية، لذلك هاجم ديوي الدّين، معتبرا مذهبه وحده الكفيل بأن يؤدّي إلى إطلاق طاقات الإنسان الدّينية. (مارتن أي مارتن، الديانة في أميركا، ص: 329).
هذا وقد اعتبر جون ديوي الدّين مجرّد فكرة ننجز بواسطتها بعض النّتائج المرغوب فيها، فهي تساعدنا على أن نعمل شيئاً، أقرب إلى النّجاح أفضل ممّا لو كنّا نعتمد على الغريزة أو الاندفاع العاطفي وحدهما، فالأفكار لا تكون أفكار حقيقية إلا إذا كانت أدوات نستعين بها في حلّ المشكلات. والفكرة ليست إدراكاً شاحباً لشيء ما، وليست مركّباً من عدد من الإحساسات، فالرّجل المتوحّش مثلا قد يكون قادراً على تكوين صورة عن الأعمدة والأسلاك، ولكن إذا لم يعرف شيئاً عن التّلغراف أو الكهرباء، فلن تكون لديه فكرة أو تصوّر أو على الأقل فكرة تصوّر بسيط، ذلك لأنّ الفكرة لا يمكن عقلياً أن تتّفق بتركيبها وإنّما تتّفق فقط بوظيفتها وفائدتها. في المواقف المحيّرة أو غير المحدّدة ما يساعدنا على تكوين الحكم هو الاستنتاج بواسطة إيجاد حلّ ممكن، إنّها فكرة بفضل ما تفعله من إيضاح مشْكل أو التّنسيق بين ما هو متناثر شذرات، لا بفضل تركيب طبيعي.
فالدّين إذن أو الفكرة كما يسمّيه جون ديوي “هو اقتراح قدّمه الإنسان لنفسه لحلّ مشكلة معينة من مشكلات حياته، حين يكون الاقتراح لا يزال معلّقا ينتظر التّنفيذ وبالتّالي ينتظر الاختيار، وبديهي أن مثل هذه “الفكرة” لا توصف بأنّها “حقّ” إلا إذا كانت دليلا هاديا يسدّد خطى صاحبها في مرحلة السّلوك، أي في مرحلة التّنفيذ، فصوابها هو في هدايتها لصاحبها، وليس صوابها صفة لاصقة بها بغضّ النّظر عن أثرها في مجرى السلوك والعمل، فالحقّ هو ما يهدينا هداية موفّقة على وجه الدّقة”.
فالإيمان الحقيقي إنّما هو كشف عن الحقيقة التي تحلّ ما يعترض الإنسان من صعاب، الإيمان الحقّ إيمان بمنهج يساير التّفكير ويساير الحياة العملية مسايرة تعمل على ازدهار تلك الحياة ورخائها، لا إيمان بحقيقة ثابتة كمل تكوينها وعرفانها بالوحي معرفة لا تقبل التّغيير ولا النّمو…، وعليه فإنّه ليس للدّين مثل عليا خاصّة به ولا منهج للتّفكير خاصّ به، إنّما هو روح تسري في مواقف الإنسان كلّها إزاء خبراته، هو الرّوح التي يصطنعها الإنسان إذ هو فرد متعاون مع إخوان له في مجتمع واحد، يريد أن يبلغ وإيّاهم هدفا واحدا، ليس الدّين في الكنيسة إنّما هو في مواجهة المشكلات وحلّها”.
وعن علاقة الدّين بالعلوم الطبيعية وتفوّق هذه الأخيرة عليه في تطوير المثل العليا يقول جون ديوي “إذا كنت قد قلت شيئا، أيّ شيء عن الأديان كلّ على حدة وعن الدّين بصفه عامّة ممّا قد يقع في النّفوس وقعا عنيفا، فقد قلت ما قلت لأنّني اعتقد اعتقادا راسخا أنّ ذلك الزعم الذي تدّعيه الأديان، وهو أنّ المثل العليا والوسائل الخارقة التي يمكن لها وحدها فيما يقال أن تتطوّر هي وقف عليها، أقول إنّ ذلك الزّعم يعوق تحقيق ما هو متضمّن في الخبرة الطبيعية من قيم دينية متميّزة بطابعها الدّيني، ولهذا السّبب أكون آسفا لو أنّ أحدا ضلّله كثرة استخدامي لصفة الدّيني بحيث يعتقد أنّ ما قلته ليس إلا دفاعا مقنّعا عمّا يعدّ أديانا. (John Dewey, A Common faith, P :60)
لقد عالجت البراغماتية الدّين باعتباره تجربة روحية شخصية ذات أصول سيكولوجية، كما أنّها عالجته عن طريق إخضاعه لمحكّ نفعي عملي يتأسّس على الوظيفة التي يؤدّيها، إذ بغض النّظر عن صحّته أو عدمها فالمهمّ هو المنفعة والفائدة التي يؤدّيها لصالح المؤمن، فالنّفع المادّي هو وحده المسيطر على الفلسفة البراغماتية، أي أنّ أيّ فكرة أو عمل عند البراغماتية إنّما يقاس صلاحه وفساده وخيره وشرّه بما يحقّقه من نفع. كما أنّ البراغماتية تقوم على التّجربة، وهي بذلك تنبذ الجمود والتّأمل، أو الحكم على الأشياء دون سابق تجربة لها، لأنّ التّجربة لأيّ فكرة هي المعيار الذي من خلاله يتمّ الحكم على تلك الفكرة بالصدق أو الكذب، وهي بهذا تتّفق مع الفلسفة الوضعية التي تنكر وجود الحقائق أو القيّم التي لم تستخدم التّجربة، فرفضت بذلك التّسليم بالحقائق المطلقة والقضايا الميتافيزيقية بينما نجد الفلسفة البراغماتية لا تتردّد في قبول الأفكار واعتبارها صادقة متى ما كانت مفضية لنفع يتحقّق في حياة النّاس.