الذات والحقيقة التواصلية

السبت 2021/05/01
لوحة: علا الأيوبي

إن أسوأ الحوارات والنقاشات والاختلافات تلك المتعلقة بالحقيقة وتعريفها، والأسوأ من هذا انشغال بعض الفلاسفة أو العلماء – الذين اقتحموا حقل الفلسفة وظلوا علماء – بالحقيقة العلمية. وسأبدأ بالأسوأ من هذا الانشغال لأبرز سوءه لا للدخول في نقاش حول الحقيقة العلمية. وعندي إنه من العبث الذي لا معنى له السؤال فيما إذا كانت هناك حقيقة علمية أو لا، فحقائق العلوم الطبيعة قابلة للشك لأنها حقائق. فلولا التصديق بالحقيقة العلمية بأنها حقيقة الموضوع لما كان هناك تقنية قادت الإنسان للوصول إلى القمر. إن صناعة سفينة فضاء ومعرفة الفضاء والإقرار بالحقائق المحيطة بالأرض والقمر هو الذي أدى إلى الاحتفال وإلى أن ارمسترونغ على ظهر القمر .

الحقيقة العلمية اكتشاف، والاكتشاف إمّا أن يكون اكتشافاً صحيحاً أو خاطئاً، والواقع العملي هو الذي يؤكد الصحة أو الخطأ. واحتفال بعض الفلاسفة أو أساتذة الفلسفة بقول كارل بوبر بأن تاريخ العلم تاريخ من الأخطاء احتفال لا مبرر له. لأن من يعرف الأخطاء أو يتعرف على الأخطاء قد تعرف على النقيض أو الصح وإلا لما عرف الخطأ.

الذات – العالم الطبيعي تكشف والمخترع – العالم يستخدم الاكتشاف لاختراع ما ليس طبيعياً، الطبيعة تزود الذات بحقائقها، الذات التي امتهنت استقبال الحقائق من الطبيعة، والذات بهذا المعنى علمت ونظمت وأعطيت الأدوات ومنحت المال والمؤسسة كي تقوم باكتشاف الطبيعة. بهذا المعنى الحقيقة العلمية – الفيزيائية الكيمائية موضوعية بامتياز، صحيح أنها غير ممكنة بلا الذات لكنها ليست ذاتية. عند هذا الحد يجب أن نقف، عند هذا الحد من القول الفصل في الحقيقة العلمية الموضوعية.

ما علاقة الذات بهذه الحقيقة، أقصد الذات التي لم تشترك باكتشافها، إن هذا السؤال أهم بكثير من السؤال ما إذا كانت هناك حقيقة علمية أو لا، فالسؤال الأخير هذا إنما هو مظهر من مظاهر التسلية الفلسفية ليس إلا، فصعودي إلى الطائرة مسافراً مسافاتٍ طويلة إنما هو ثمرة جملة من الحقائق المكتشفة والاختراع الناتج عن هذه الحقائق ولست أحتاج إلى دليل يؤكد وجود الطائرة بكل حقائقها.

الذات – كل ذات – تبني علاقة مع الحقائق العلمية بوصفها حقائق تعلمتها، “لا أتحدث هنا عن الذات التي اكتشفت الحقيقة” – لقد جاءتني هذه الحقائق من الخارج وفي ضوء الحقائق العلمية إذا كنت معتقدا بصحة العلم – المتعلقة بوجودي – أسلك أو إني أفضل أن لا أسلك رغبة في متعة تقول الحقيقة أن تلبيتها قد يؤدي إلى المرض، هذا النمط من الحقائق العلمية التي تشكل رؤياي أو تحدد سلوكي، وقد صارت في حقل وعيي بالعالم – صارت في الوقت نفسه جزءًا من ذاتي حتى ولو أنها جاءتني من الخارج. وفي الوقت نفسه فإن كثيراً من حقائقه الفيزيائية والفلكية لا أعرفها من جهة وإن كنت أعرفها فلا علاقة لها برؤيتي وسلوكي.

فإذا كان النور ذا طبيعة موجية أو طبيعية جيبية أو ذا طبيعتين معاً، فهذه الحقيقة من قبيل الحقائق غير المرتبطة بي شخصياً. فأنا أضيء الغرفة بالضغط على زر الكهرباء دون أن تكون هناك ضرورة في معرفة طبيعة النور بالنسبة إليّ. لكني إذا كنت فيلسوفاً أدرس مسألة الحتمية فعليّ أن أعرف طبيعة النور وحركته وسرعته.

وبالمقابل: إذا أكد لي العلم أن مياه هذا النهر ملوثة إلى الحد الذي قد أصاب بالبلهارسيا إذا ما شربت منه أو سبحت فيه، فإني لن أشرب من النهر ولن أسبح، ذلك أن هذه الحقيقة مرتبطة بذاتي ومصيرها، بصحتي الحريص عليها.

إذاً لكي تصبح الحقائق العلمية معيشة يجب أن تتحول إلى حقائق ذاتية. والتي قد يؤدي الجهل ببعضها إلى كارثة ذاتية.

والذات قد تكون معتقدة بحقيقة ولا تنكرها لكنها حقيقة تناقض متعتها، هنا نحصل في الذات على صراع داخلي بين الحقيقة والمتعة. فجميع المدخنين يعترفون بحقيقة مضار النيكوتين والقطران الموجود في التبغ والورق، وأن التدخين سبب من جهة أسباب مسؤولة عن أمراض الرئة والقلب والشرايين، ومع ذلك فإن متعة التدخين تجعلني أتصرف بشكل أجانب فيها الحقيقة، أو أن المتعة والرغبة في إشباعها تدعوني للتقليل من شأن آثار حقيقة التدخين على الجسد أو الشك في نتائج الأبحاث المتعلقة مضار التدخين .

وأمر هذا الشك أو هذا النمط من الإنكار المتعلق باستمرار سلوكي إشباعاً للمتعة لا يختلف كثيراً عن إنكار الحقائق العلمية بدافع أيديولوجي – ديني، فالذات المؤمنة ببعض الحقائق الدينية تنكر حقائق علمية تناقض إيمانها، لأنها إذ لم تنكر قضت على إيمانها وهذا من شأنه أن يغير من الذات ومن موقفها من العالم.

هذه التجربة – بدورها – هي شكل من أشكال الصراع الداخلي الذي يقوم داخل الذات بين حقيقة إيمانية وحقيقة علمية، ذلك أن الذات المؤمنة دينياً مؤمنة بحقيقة، فحقيقة الإله عند المؤمن تساوي حقيقة وجود جاذبية أرضية أو أكثر حقيقة منها.

وإن تناول الحقيقة على هذا النحو هو نقل الحقيقة من حقلها المعرفي إلى حقلٍ أنطولوجي، وآية ذلك أن الحقيقة ليست مجرد اعتقاد أو تعيين فحسب وإنما حالة وجود للذات، وصلة تواصل بين الذوات. فإذا كانت الذوات تتواصل بشكل رئيس عبر اللغة، فإن اللغة – لغة الخطاب المتبادلة بين الذوات يجب أن تنطوي على حقيقة ما، سواء أكانت هذه الحقيقة معترف بها من قبل القاتل أم لا أو من قبل المتلقي أم لا. فالصدق هنا لا قيمة معرفية له فقط بل قيمة وجودية. فها هو يتصل بك مهنئاً بنيلك الجائزة، إنه عملياً- ينقل لك حقيقة سعادته بنيلك الجائزة، إنك لا تدري ما إذا كان سعيداً بحق أم أنه نوع من المجاملة، وبالمقابل فإن المهنئ قد يكون حاسداً ومهنئاً معاً. لكن اللغة لا تصبح أداة تواصل إذا لم تنطو على نوع ما من أنواع الحقائق التي تقيم جسر التفاهم بين الناس. فكل جملة إخبار أو كما يقال في العربية جملة خبرية تعني أنها تخبر عن شيء أو أمر أو واقعة فهي واقعة إذاً تخبر عن واقعة بمعزل عن درجة التصديق بها. فالخبر يمكن أن يكون صادقاً ويمكن أن يكون كاذباً وقد تنقله الذات إلى لآخر على أنه صادق أو تنقله وتعرف أنه كاذب وتطلب من ذات أخرى تصديقه لغاية ما.

لو حللت الوشاية وهي حالة من علاقات التواصل بين الناس، الوشاية ليست مجرد معرفة أو حقيقة مجردة كأن تقول حجر الصوان صلب، إنها طريقة في الوجود. فالوشاية تحمل خبراً ما من ذات إلى أخرى. ودوافع الوشاية متعددة: الإيذاء، إنجاب الحذر، المصلحة، عادة، حسد.. الخ.

المتلقي يريد أن يتأكد من حقيقة الوشاية إذا لم يصدقها أو يصدقها دون أن يبذل جهداً للتأكد، أو يكذبها ويعتبر الصادر عنه كاذبا، الوشاية ليست حقيقة علمية صادرة عن ذات قامت بالبحث والتجريب حباً أو شهوة حضور أو وظيفة.. الخ، بل هي حقيقة بين قوسين وسبل التأكد من صحتها صعبة جداً، فماذا تفعل إذا أنكر الواشي أنه الفاعل؟ إن الحالة الوحيدة التي أتيقن فيها من حقيقة الوشاية إذ كنت قد أسررت لشخص واحد وحيد أمراً عن شخص ونقله إليه. فيما عدا ذلك تظل حقيقة الوشاية خارج اليقين.

الشخص الذي ينقل لك جزءًا من سيرته في بلاد الغربة ينقل لك حقائق واقعية عن سيرته – هكذا يقصد، أما أمر التصديق فهذا ليعود للثقة والمعرفة المسبقة بالشخص وإلى المعقولية ..الخ. دعوني أطلق على هذا النمط من الحقيقة المنتمية إلى الحقل الأنطولوجي “الحقيقة التواصلية”.

الحقيقة التواصلية لا علاقة لها بالحقيقة العلمية الطبيعية أو الإنسانية إنها الذات حين تتواصل مع ذوات أخرى، أو قل إنها أداة التواصل بين الذوات. إذ تقوم علاقات تواصل بين الناس على أساس تبادل المشاعر: حب، كره، استحسان، غضب، زعل، صداقة، زمالة.. الخ.

هذا التواصل المشاعري مستحيل دون الحقيقة التواصلية التي تعبر الذات عنها بواسطة اللغة – الكلام أو بواسطة الإشارات. إن أحداً لا يستطيع أن يتأكد من حقيقة المشاعر إلا الذات التي تشعر أما الأخرى التي تُبلغ الحقيقة فأمامها احتمالات كثيرة. وبالتالي إن الحقيقة التواصلية حقيقة بالنسبة إلى صاحبها ولا يرقى إليها الشك فيما هي عرضة للتكذيب والتصديق والشك والإهمال من قبل الآخر.

فلما كانت المشاعر تجاه الآخر تواصلاً مع الآخر فإن المشاعر هذه تطرح سؤال الحقيقة التواصلية، أن الجملة التي أصبحت مألوفة “أريد أن أتأكد من مشاعره أو من مشاعرها تجاهي “لا تعني سوى أريد أن أتأكد من حقيقة التواصل معي. ولهذا تعوّل الذوات على الخبرة لامتحان الحقيقة التواصلية، كما أنها تبذل جهوداً دائمة لإخفاء الحقيقة التواصلية بدواعي الخوف أو اللياقة.

والتفاهم بين البشر يتم عن طريق تبادل الحقائق التواصلية التي لا بد من وجود حظ لا بأس به من الثقة بصاحبها كي يستمر التواصل وتستمر الحياة، هب أنك فاقد الثقة بكل ما يصدر عن الذوات فإنك لن تعيش أبداً، ومع أن عدم الثقة هو موقف من الحقيقة التواصلية.

ولو دققنا في العلاقة التي تقوم بين الذوات مهما كانت ذات مركز، ذات مركز – سلطة، ذات مركز – سلطة حاكمة سلطة أو إمبراطورية، أو سلطة رمزية، ذوات عادية وأساس السلوك كلها التي تقوم على شهوة الحضور، أقول لو دققنا بالعلاقة بين كل هذه الأنماط من الذوات في الماضي والحاضر فلن يخالجنا الشك أن التوافق والاختلاف والصراع والتناقض مؤسس على الحقيقة التواصلية.

فالطاغية المستبد لا يمارس استبداده إلا تأسيساً على حقيقة ما هدفها إقناع الآخرين بشرعية استبداده ومبرّره، وبالمقابل فإن النقيض للمستبد يقدم حقيقته، كلا الحقيقتين تهدفان إلى التواصل، أو قل هما ثمرة التواصل فلا يقوم تواصل كما قلنا إلا عبر الحقيقة التواصلية.

لوحة: علا الأيوبي
لوحة: علا الأيوبي

من ذا الذي يستطيع أن يتصور الحوار دون الحقيقة التواصلية، سواء كان حواراً سياسياً أم أيديولوجياً أم دينياً أو فلسفياً أم عادياً حول قضايا يومية . فالحوار تعريفاً هو حقائق تواصلية تتبادل ادوار إنجاب القناعة، اليقين، التصديق . هل هناك حوار دون تقديم الحجة واستخدام المنطق استخداماً صحيحاً أو خاطئاً، إن الحجة أو الإثبات أو الدليل أو البرهان أو الإسناد دلالات على أن الحوار يجري في حقل الحقيقة، كل نقاش حول مشكلة لا يتم إلا في تبادل الحقائق التواصلية.

فضلاً عن ذلك فإن التعبير عن اختلاف المصالح يلبس دائماً إهاب الحقيقة والدفاع عن الحقيقة، ولست أجد تعريفاً أدق للأيديولوجيات من تعريفي لها أنها المصالح وقد تعينت في خطاب حول الحقيقة، ولكي نفهم تعريفاً كهذا يجب أن نخرج فكرة المصلحة من حقل المعنى المؤول، فالمصلحة ذات لسان ينطق بالأهداف بوصفها حقائق، فإما أن يكون هناك تطابق بين المصلحة وخطاب الحقيقة المعبّر عنها، أو لا، فخطاب الحقيقة الذي يتضمن الحقيقة التواصلية التي من شأنها أن تتحول إلى حقيقة لدى الآخر أو تخف لأن تصير، ينطوي على أهم عنصر من عناصر خطاب الحقيقة البرهان، الحجة المنطقية الصورية بمعزل عن صحة المقدمات. وذلك من أجل أن تحول الحقيقة التواصلية هذه إلى ملاط يجمع الأفراد إلى عصبية، فتتحول عصبية المصلحة إلى عصبية الحقيقة، وهذا هو الفرق – وهو فرق كبير – بين حقيقة خدّام الحقيقة من العلماء والفلاسفة، وحقيقة خدّام المصلحة من الأيديولوجيين والسياسيين والعامة وخدّام المصلحة قد يستعيرون من خدام الحقيقة حقائقهم ليدرجوها في خطاب المصلحة لزيادة تأثير حقيقتهم التواصلية.

والحق أن دور الحقيقة التواصلية في الحياة خطير إلى أبعد الحدود، ذلك أن الحياة المعيشة تدور في حقل الحقائق التواصلية تأمل العلاقة بين الذوات تأسيساً على الحقائق التواصلية، وحسب القارئ أن يرصد الخطاب المختصر للمصلحة المتوارية خلف الحقيقة التواصلية.

تقرأ على اللوحة الدكتور” س” اختصاصي في أمراض.. خريج جامعات بريطانيا حاصل على شهادة البورد، عضو الجمعية الملكية لأمراض (..) في لندن، جهاز للكشف المبكر، أستاذ في كلية الطب.. إن هذه اللوحة مجموعة من الحقائق التي قد تكون صادقة أو قد لا تكون، لكنها جمل خبرية تخبر المرضى بحقائق تواصلية هدفها: أيها المرضى تعالوا إلى عيادتي كي أعالجكم وآخذ منكم مبلغاً من المال لقاء ذلك.

وكل خطابات الإعلان التي تفعل فعلها الآن في أذواق البشر هي جملة من الحقائق التواصلية، هدفها جمع الثروة، الخطاب السياسي للموالاة والخطاب السياسي للمعارضة هدفه تمكين عصبية، توسيعها، إفحام الخصوم، كل ذلك عبر حقائق تواصلية هدفها إنجاب التصديق بالموقف. خطاب المديح، خطاب الذم، حقائق تواصلية حول الممدوح والمذموم.

في حقل الحقائق التواصلية ليس بالضرورة أن تكون الغلبة لمن يقدم حقائق صحيحة وصادقة على من يقدم حقائق زائفة وكاذبة. ذلك أن الأمر في النهاية يعود إلى منطق القوة وليس إلى منطق الحقيقة. إن طفلاً فلسطينياً في المرحلة الابتدائية يمتلك من الحقائق وقوة المنطق أضعاف مضاعفة مما يمتلكه أي سياسي عنصري صهيوني لكن الغلبة للقوة وليس للحقيقة.

دعوني الآن أتوقف عند ما أراه شكلياً – تناقض في المصطلح: الحقيقة الزائفة. فكيف تكون الحقيقة زائفة؟ لقد شاع أن الحقيقة مفهوم يشير إلى ما هو صحيح من حيث تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان. لكن الحقيقة هي جملة خبرية ليس إلا تنطق بها ذات ما إذا سألت صديقي: هل أنت حزين؟ إنما أقصد أن أعرف حقيقة شعوره الآن الذي اعتقدت أنه يظهر على ملامح وجهه، وأنا أظن أنه حزين؟ أريد في النهاية معرفة حقيقة ما كي أحدد تواصلي معه في هذه اللحظة انطلاقاً من الحقيقة التي سيخبرني بها.

هب أنه أجاب “لا أنا لست حزيناً” ها هو قدم لي جملة خبرية، لقد أخبرني أنه ليس حزيناً، قد يكون حزيناً فعلاً ولكنه لم يشأ أن يخبرني كي لا يزعجني، أو أنه ليس حزيناً فعلاً، أنا لا أعرف لكني سأتواصل معه وفق الجملة الخبرية التي تضمنت حقيقة شعوره إذا قال بجملة خبرية أخرى “إنه حزين” فقد أخبرني بحقيقة كانت ظناً وعندها سيكون تواصلي معه وفق تصديقي لهذه الجملة الخبرية – الحقيقة. وقد أستزيد معرفة بسؤال آخر: لماذا أنت حزين.. وهكذا، ولأن كل الحقائق التواصلية وغير التواصلية هي جمل خبرية فقد تكون معبّرة عن الصدق والكذب، ولهذا فالحقيقة مفهوم متعلق بالتعبير عن الواقع وليس متعلقاً بالواقع كما هو.

فالحزن الذي سألت صديقي عنه واقعة من وقائع الذات ناتج عن فقد ما، عن مشهد ما، عن فشل ما.. الخ، فأنا لا أسأل عن الحزن إن كان موجوداً أو لا لأنه موجود بل عن شعور صديقي به والذي أخبرني عن شعوره بجملة خبرية، بهذه الجملة هي المتعلقة بالحقيقة ولهذا إما أن تكون صادقة أو كاذبة. ولأن الذات هي مصدر الجملة الخبرية – الحقيقة – فهي التي تحدد التواصل فإذا كان من مصلحتي أن أقدم حقيقة كاذبة فإني أقدم جملة خبرية كاذبة عن الواقع، أو العكس. إن الجملة الخبرية بوصفها هي الحقيقة بأنها تصدق أيضاً بالحقائق العلمية لكن الفرق أن لا مصلحة للعالم أن يكذب، أي أن يقدم حقائق زائفة وهو يعرف أنها زائفة عن الوقائع، إنه قد يخطئ، فيما الكاذب لم يقدم حكماً كاذباً لأنه أخطأ بل لأنه يريد أن يكذب فهو واع لكذبه. أما إذا تحدث العالم عن نفسه فقد يكذب وقد يصدق، ولهذا يجب أن نميز في خطاب الذات بين الخطأ والكذب في الحقيقة العلمية الجملة خاطئة أو صحيحة أما في الحقيقة التواصلية فهي صادقة أو كاذبة أو خاطئة أو صحيحة أو تواصلية ذات وظيفة.

وحين تصدر عن الذات الحقيقة التواصلية فإنها الحقيقة التواصلية منطوية على كل الاحتمالات الأربعة. ولقد احتوت اللغة على كثير من الكلمات والأدوات الدالة على هذه الاحتمالات، ربما، لعل، قد، لقد، فعلاً، وإن كل ما سبق وعرضنا لا يرتبط بمبحث المعرفة بل بمبحث الوجود الإنساني وكيف يتعرف في الحياة ويتبادل الجمل الخبرية على أنها حقائق تواصلية.

والوضعية المنطقية المعبرة عن انحطاط الفلسفة في لحظة من تاريخها والتي انشغلت ببنية الجملة والتحقق والمعنى ولا المعنى لم تنظر إلى الطبيعة الأنطولوجية للجملة الخبرية بوصفها حضوراً للذات وطريقة في التعبير عن الذات ووسيلة للتواصل بين الذوات.

من هو الكائن البشري العادي الذي يقول إن “الجبل جبن بقري” ويقصد فعلاً أن الجبل جبل بقري. إننا سننظر إلى قائله أنه شخص غير قادر على التفكير ويقول جملة خبرية كاذبة. إن هذا القائل ليس مجرد ذات لا تعرف أو ارتكبت خطأ ما، أنها ذات غير سوية مريضة.

خذ مثالاً آخر “المرأة عورة”. المرأة عورة جملة خبرية تقول حقيقة تواصلية مفادها أن المرأة بما هي قادرة على إغراء الرجل جنسياً ولأن الرجل قابل للإغراء من أيّ عضو من أعضاء جسد المرأة فيجب أن تخفي المرأة جسدها عن الرجل إخفاءً كاملاً. إن الشخص الذي يعتقد بهذه الحقيقة منتم إلى أيديولوجيا دينية تؤكد حقيقة أن المرأة عورة وهو يسلك وفق هذه الحقيقة، فيما النقيض له يقدم حقيقة أخرى، المرأة ليست عورة .

إن الصراع هنا موقف من الوجود من الذات النسوية، ومن السهولة أن ينظر كل طرف إلى الطرف الآخر على أنه يعتقد بحقيقة خاطئة في حقل ثقافي محدد. ها نحن مرة أخرى أمام أنطولوجيا الذات.

إذا نظرت إلى الحكم أن المرأة عورة من زاوية التحقق فهو غير قابل للتحقق فهو لا صادق ولا كاذب من وجهة نظر المناطقة الوضعيين لأنه حكم أخلاقي وبالتالي هو بلا معنى. لكنه حكم يؤكد حقيقة مليئة بالمعنى وتحدد نمط تواصل بين الناس. وعوضاً عن أن يقال مباشرة إن هذه الحقيقة صحيحة أو خاطئة يقال إن هذا الموقف صحيح أو خاطئ والموقف – موقف الذات في النهاية اعتقاد بجملة حقائق في نهاية الأمر الموقف من المرأة من الفقر، من الثراء، من السلطة، من الحياة. الموقف حقيقة تواصلية ويورغن هابرماس وهو يقدم لنا التواصل يقدم لنا كمشروع للإنسانية قائم على الأخلاق والقانون واللغة من أجل التفاهم المشترك ضد عنف المنازعات، ولم ينتبه إلى أن التواصل بين الذوات سواء كان تواصلاً أخلاقياً أم سياسياً أم مشاعرياً إنما يقوم عل الاعتقاد، الاعتقاد هذا الخزان المليء بالحقائق المتغيرة دائماً. بل إن الدفاع عن الحداثة مشروعاً لم يكتمل، هو دفاع عن حزمة من الأحكام الحداثوية، الحقائق الحداثوية التي يريد لها هابرماس أن تكون أساساً دائماً للتواصل .

ولا شك أن هناك حاجات كثيرة لدى الناس تدفعهم للتواصل دون أيديولوجيا تواصلية، وعبر مصالح لا تأخذ طابع الحقيقة التواصلية. إن علاقتي بالصيدلي الذي لا أعرفه لا تعود إلا إلى كونها علاقة شخص ذي مصلحة بشراء دواء، وبالمقابل إن الصيدلي الذي لا يعرفني لا ينظر إليّ إلا على أني شخص سأدفع له ثمن الدواء، وأني أتواصل معه عبر لغة العادة، والتي قد تكون خالية من الجمل الخبرية أعطني هذا الدواء، هاك هذا الدواء، شكراً. ولكن إذا استغل جودي لشراء الدواء وقال لي: إن لديه عقاراً خاصاً جداً يقوي من الرغبة الجنسية ويضاعف مرات ممارستها دون أيّ آثار سلبية على الجسد أو القلب وبسعر زهيد، وأنه قد استخدمه وكانت نتائج استخدامه رائعة. فإن حاجته للمال جعلته يقدم لي خطاباً مليئاً بالحقائق لينجب لدي الاقتناع بشراء عقار “العقار يقوي الرغبة الجنسية”، “العقار يضاعف مرات الممارسة الجنسية”، “ليس للعقار آثار سلبية”، “سعر العقار زهيد” لقد استخدم العقار “نتائج استخدامه كانت جيدةً”، هذه الحقائق التي عرضها للتواصل معي رغبة منه في الربح تدفعني لأن أتخذ موقفاً، اتخاذ الموقف نمط من التواصل، اتخاذ الموقف مرتبط بوجود حاجة عندي أو لا. قناعتي بتصديق ما قال من حقائق أو التكذيب، إدراك مصلحته من عرض العقار، إذاً كل ذلك تطلب مني سلوكاً بناء على موقفي من حقائقه التواصلية. أي من الحقائق  أهي صادقة أم كاذبة، أنا لا أعرف واحتمالات تصديقه مرتبطة بوجود حاجة أو عدم وجودها.

والذات تتصرّف بناء على جملة من الحقائق المعترف بها وتسمح لها بالتوقع، وحقائق لا تخضع للبرهان العلمي بل جرى التحقق منها عن طريق استمرار فاعليتها. فالقيم هي مجموعة من الحقائق التواصلية وما خرقها إلا خرق بفاعلية الحقائق، ولأن القيم عالم من التبدل والتغير فإن تغيرها لا يعني سوى تغير الحقائق. فمن الحقائق التي تسمح لي أن أستقل القطار وحدي من دمشق إلى حلب أن أحداً لن يصعد إلى القطار ليقتلني، والصداقة جملة من الحقائق المعترف بها من قبل الصديقين، وقس على ذلك حقائق أخرى يجب أن أثق بها ليتم التواصل، حتى ليمكن القول أيضاً إن قواعد اللغة هي حقائق تواصلية لا يستطيع أحد أن يتحدث إلا ملتزماً بها، وإذا لم يلتزم بها فلن تحصل عملية التفاهم. وإني إذا ما التقيت بشخص روسي – مستعرب ويتحدث بلغة عربية دون التزام بقواعد العربية بسبب عدم معرفته بها فإني – علمياً – أعيدها إلى حقائق قواعدها متوقعاً ما يجب أن تكون عليه الجملة كي أتواصل معه.

أجل الحياة حزمة من الحقائق المشتركة التي تسمح للذات أن تظهر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.