الذاكرة والتعب
أصبح والدي يعتمد عليّ كثيرا منذ أن تقدم في السن، فقدماه تئن من تعب الأيام، وظهره أصابه انحناء فتشكل على هيئة أحدب، وغدا الشيب يعتلي وجهه وشعر رأسه، ولم يستطع أن يصعد الدرج حيث أنام في غرفتي الصغيرة المكونة من دولاب خشبي متهرئ، وسرير يصدر صوتا مزعجا بمجرد الحركة فوقه، أتأمل في جدران غرفتي وصور المصارعين المعلقة عليها وأهتف: هوجان.. هوجان، ثم أواصل هتافي وأكرر جيمي سنوكا.. مقلدا حركة يده المشهورة، لا يقطع ذلك الصراخ إلا صوت والدي يناديني: يا صويلح انزل من غرفتك.
طلب والدي من والدتي تجهيز وجبة الإفطار في سلة، كانت والدتي امرأة حنونة، ودمعتها قريبة جدا من أي أمر يحدث معي، تهتم بي كطفل، وتواسيني حينما يركلني والدي برجله أو يوبخني من أجل أمر تافه. تلك السلة غالبا ما تحمل الخبز الأسمر، ولبنا وزبادي وشيئا من التمر، تجهزها والدتي على وجه السرعة ويطلب مني والدي حملها للتوجه إلى المزرعة.
الرطوبة في الخارج خانقة، ورائحة القمامات المتراكمة تزكم أنفي، وتصيبني بالغثيان، أمشي خلف والدي مثل ظل، أتأمل نوافذ بيوت الجيران في هذا الزقاق الضيق، وأقتنص فرصة مغازلة “سارة” التي تطل كل صباح مثل أرنبة بيضاء. أتعثر فتسقط السلة المحملة بالمؤونة من فوق رأسي، أنتشلها بسرعة مرة أخرى حتى لا يشعر والدي بذلك ويوبخني على هذا السقوط.
عند نهاية الزقاق يسلم والدي على جاره السيد علي، لكنه لا يرد عليه السلام ولا يعيره أدنى اهتمام، ثم يبصق أمام والدي الذي يكتفي بإصدار كلماته المعهودة: لا حول ولا قوة إلا بالله، أحتقن فتشتعل نار بداخلي، وأحاول الرد على هذا السيد لكن بإشارة من والدي أقف امتثالا له ومحتقنا في نفس الوقت.
يقول لي والدي: لا يا صويلح هذا جده رسول الله.
فأرد بغضب: المفروض يتعلم من جدّه.
يدخل والدي بقالة الحي ويتجول فيها كعادته، يتلصص على المواد الغذائية والمشروبات حتى تسقط عيناه على بغيته من الدخان “المالبورو الأحمر”، يحاسب البائع ويخرج من البقالة، يتلفت يمينا ويسارا ويلتقطني واقفا بالقرب من بيت مهجور أراقب الصبية الذين يلتقطون قطط الشارع من تحت السيارات وهم يرددون ألفاظا لا تليق إلا بهم.
ينادي علي والدي وأرتجف من صوته، ثم أسير معه نحو المزرعة منصتا لأهازيجه التي تساعدنا في قطع المسافة دونما ملل حتى نصل إلى قناة الري الكبيرة عابرين الطريق العام بحذر شديد من السيارات القادمة والتي لا تبالي بمن يقف أمامها.
ننزل في القناة ونشعر ببرودة الماء القادم من عين الخدود، وتعانق سيقاننا طحالب كثيفة تعيقنا أحيانا عن الخوض في الماء، ورائحة الزفر المنبعث من سمك البلطي تصل إلى داخل أنوفنا وتشعرنا بالتقيؤ، ثم ننتقل إلى الشارع الآخر بعد مشقة كبيرة ونسير مسافة قصيرة تفصل بيننا وبين مزرعتنا الواقعة بجانب بر يدعى بــ”ضويغط “.
لا يمكن أن أدخل إلى باب المزرعة دون الذهاب إلى البر المجاور، حيث ترمى كثير من القمامات والصحف وصنوف من الأكل المتعفن، وأظل أبحث في ذلك كله حتى ألتقط حاجتي التي جئت من أجلها وأنفض الأوساخ العالقة منها، هكذا تبدو لي صحيفة اليوم المليئة بأخبار الأحساء. أتصفحها جيدا رغم نداءات والدي المتكررة لي: يا صويلح.. يا صويلح حسبي الله عليك ما خلصت؟ وحينما أنتهي من قراءة الأخبار المحلية والرياضية أهرع إلى والدي مجيبا نداءاته، وأنا في طريقي للمزرعة تلتصق قدماي بمحارم بيضاء على حصير مفروش، ويبدو في القريب “كلسون فتاة” قد نسيته، أبتسم وأتساءل بصوت هادئ “يعني ما لقيتوا إلا هالمكان تسوون فيه خكارتكم؟!”.
أدخل إلى المزرعة أرى والدي متعبا هذا اليوم ينظر إلي بغضب “وينك يا ولدي كل هالمدة؟”. ثم يقترح علي قص الحشائش في اليوم التالي، أفرح كثيرا رغم تعب والدي ورغم ما ينتظرنا من مسافة طويلة. وددت لو أن لي جسم “هالك هوغن” كي أحمل والدي على ظهري. لكنني لا أمتلك قوة تساعدني على ذلك. وأكتفي بمسك يده عابرا به الطريق وقناة الري حتى وصولنا إلى الساحة الكبيرة التي أمام بيتنا.
عند وصولنا إلى تلك الساحة نرى اكتظاظ الناس ودوريات شرطة ينزل منها ضابطان، ونسمع السيد علي يشتم في الحكومة، ومقربون منه يحاولون تهدئته وتكميم فمه بأياديهم، قام شرطيان بإخراج السيد من فوهة تجمعهم وأركباه في سيارة الشرطة وهو يصرخ “والله ما تسكرونها لو على جثتي، هذي حسينية جدي رسول الله”.
تفرق الناس مهمهمين بكلامهم بين مؤيد له وناقم عليه بفعلته ومعاندته الحكومة. دخلت البيت مع والدي كانت والدتي كعادتها تنتظرنا، تقول لنا “ماعليكم من السيد تركوه وهو حر بحسينيته”.
صعدت إلى غرفتي كان “هوغن” يلمحني مرسلا نظراته عتابا علي. تمددت على السرير وكان تفكيري منصبا على تلك النظرة الصباحية التي رمقتني إياها سارة. أغمض عيني وأحلم بنداءات والدي وأنا أركن على ذلك الحصير المفروش في البر المجاور لمزرعتنا.