الذرائعية وممانعة الوعي لدى المثقف السوري

الأربعاء 2015/07/01

في تتضح الصورة مستقبلاً أكثر مما تبدو عليه الآن خاصة في حمأة الصراع الدموي الذي أعمى البصر والبصيرة فباتت الرؤية صعبة للتقييم.

وهنا تحديداً، أي في الحالة السورية، تضيع الكثير من المفاهيم والثوابت التي انطلقت منها أسس عملية انطلاقة الوعي الذاتي كأرضية للاحتجاج. فالحالة السورية تحديداً فتحت صراعاً إقليميا ربما لم يكن في البال أو الحسبان، أو لنقل على الأقل فاقت التوقعات والتكهنات بضراوة وتضارب المصالح. واستماتت بعض الدول في الدفاع عن نظام ربما مفاعيل سقوطه يؤدي لتشققات في بنية منظومة أمنية دولية احترفت الإرهاب والقتل والتدجين. وهذه الأخيرة هي التي تهمنا في موضوعنا.

ولأن الموضوع قد يتشعب إلى جداول وأنهر، وحرصا على دلالات السياقات الآنية لمفاهيم مثل الوعي الذاتي وعلاقته بالمثقف، واستخلاص مواقفها مما يجري من أحداث كان لا بد من العودة إلى الوراء قليلاً، تماماً إلى بدايات عام 2003 عشية سقوط نظام الطاغية صدام حسين تحت ضربات قوات التحالف التي قادتها الولايات المتحدة. كالعادة طبعا، وبعيداً عن شرعية تلك الحرب ومسوغات الدول التي ساهمت فيها ونتائجها، بدءاً من سقوط أول ديكتاتور عربي بلبوس مدني وانتهاء بتصاعد موجة التطرف الإسلامي الحديث وانتقاله من أفغانستان مهد القاعدة وطالبان واستفحالها في الأرض العربية.

آنذاك أي عشية سقوط بغداد كطاغية، وليست كمدينة عصية على السقوط والزوال، تدافع المئات من مثقفي سوريا والدول العربية من المشتغلين بالحقل الفني والأدبي والإعلامي وبعض القوى السياسية المحسوبة على التيارات اليسارية والتحررية وحثوا الخطى نحوها. أي نحو بغداد، وارتفع صخب المزاد.

شعارات ومقالات وقصائد كلها تندد بالتحرك الدولي بين قوسين. الامبريالي، كما سماه البعض للنيل من الديكتاتور، وتماهت بين ليلة وضحاها بغداد كعاصمة موغلة في التاريخ والحضارة مع نظام فاشي ومستبد في نظر الكثيرين من هذه النخب المثقفة، وبدا من بعيد كأنه أي النظام البعثي العراقي هو من بنى حدائق بابل المعلقة، ونحت كنوزاً من التحف والتماثيل وهو نفسه من أوجد الكتابة السومرية، وسن شرائع حمورابي. أصلا ً كتبت بإيحاء من فكر القائد المفدى، لا بل هو ذاته من قارب بين دجلة والفرات ليلتقيا في شط العرب وأسس أول إمبراطورية في التاريخ بعد حادثة الطوفان الأكبر.

تلك هي الصورة الأولى، ربما للخيانة الصريحة التي قام بها المثقف العربي (السوري تحديداً) إزاء شعب كان ينتظر رحمة صواريخ التوماهوك لتنقذه من براثن نظام غاشم، وهي الصورة الأوضح لمدى التشوه الذي طال النخب المثقفة عربية كانت أم سورية.

تلك النخب التي من المفروض أن تكون قد وعت قبل غيرها ذاتها وكينونتها، لتكون قادرة على لعب الدور المنوط بها في عملية التحرير الحقيقية ومن ثمّة البناء.

وهكذا تناست هذه النخب أن العراق لم يكن سوى سجن كبير. وأن عشرات الآلاف اختفوا خلال عقدين ونيف من حكم البعث، وأن سجن السماوة لم يكن مصيفاً صحراوياً. ومجازر حلبجة والدجيل والأنفال ارتكبت بحق بشر من لحم ودم، وتناسوا بومضة نخوة عمياء أنه لم يسلم حتى رفاق البعث أنفسهم من بطش وتهور القائد المفدى صاحب السيف الذهبي.

واليوم بعد عقد أو أكثر تظهر ذرائعية المثقف السوري مجدداً مع أولى الصيحات المطالبة بالحرية والكرامة والخلاص من نير النظام الشمولي البعثي، توأم البعث العراقي. ولكن هذه المرة من يدك عرش الطاغي هم أبناء البلد نفسه، لا صواريخ عابرة للقارات ولا طائرات ولا جيوش جرارة. أي سقطت ذريعة الامبريالية وربيبتها إسرائيل التي حفظناها من قواميس وكراريس دعاة حماة الوطن.

فكانت الذريعة الأولى لهذه النخب أن النظام رغم سيئاته إلا أنه مازال في الخندق الأول أمام مواجهة إسرائيل ككيان سرطاني طموح نحو التوسع والسيطرة، وأنه يمثل محور الممانعة والمقاومة الوحيد وخلخلته من شأنه أن يخلق فرصة سانحة للعدو المتربص بنا من كل حدب وصوب.

وتعامت النخب المثقفة والسياسية عن كون النظام لم يحرك بيدقاً واحداً على حدوده مع إسرائيل طوال نصف قرن واكتفى بحق الرد كلما انتهكت أجواؤه، ذاك الرد الذي كان وما يزال مثارا لسخرية العوام من الناس.

ومع تصاعد حركة الاحتجاجات وارتفاع وتيرتها أوغل النظام في القتل والاعتقال والتشبيح. فتذرعت مجدداً تلك الفئات النخبوية أن المساجد والجوامع هي منبع الحراك وملفاه، وأن ثمة من يريد قلب نظام مدني علماني واستبداله بآخر رجعي محافظ.

وللحقيقة والتاريخ ربما كانت هناك بعض القوى الإسلامية الإخوانية تطمح للسيطرة على الحكم ولكن ما كان يجري على الأرض كان بعيداً كل البعد عن سيطرة تلك القوى، بدليل أنها أي هذه القوى، كانت تطمح لإبرام صفقة مشبوهة مع النظام لتقاسم بعض مراكز القوى بدعم من بعض القوى والدول الإقليمية قبيل انطلاقة الاحتجاجات السلمية.

وجاءت عسكرة الحراك كحبل خلاص لهؤلاء الذرائعيين قبل أن تكون ذريعة للنظام الذي كان يستميت للجنوح نحو العسكرة، ظناً منه أنه يسهل على نفسه مهمة القتل. خاصة وأنه يمتلك ترسانة قوية من السلاح والعتاد، عدا عن أنه يكرّس بذلك نظرية الجماعات المسلحة، وساعده في ذلك ازدياد أعداد المنشقين من العسكريين وردات الفعل الغريزية الدفاعية من بعض الأهالي تجاه ما لاقوه من قتل وتنكيل، وللتذكير فقط هنا تحديداً فبعض المثقفين طالبوا بالعودة إلى نقطة الصفر، أي إلى أيام المظاهرات السلمية، وكأن العملية تتم بكبسة زر من على حافة طاولة مقهى الروضة بدمشق أو من منتدى حلب السياحي.

لم يكلف المثقف السوري نفسه عناء مراجعة قراءاته لما يجري على أرض وطنه. حيث أثبتت الأيام أن من يحمي خاصرة إسرائيل هو النظام نفسه، ومن تخندق معه بحجة المقاومة والممانعة. وتغاضى عن تكوين طائفي احتل الدولة وادعى خلال نصف قرن تمدنه وعلمنته، واقتات لنصف قرن على أزمات المنطقة. لا بل ساهم في استعصائها وتمترس خلفها.

لم يلتزم المثقّف السوري الصمت إزاء الحراك الثّوري. ربما كان الصمت مغفرة للبعض منهم، خاصة وأنه تنحى منذ عقود عن لعب دوره الريادي المطلوب منه. ليس كمثقف عضوي حسب تعبير غرامشي إنّما كموقف أخلاقي وأدبي كونه ساهم طيلة العقود الماضية من نفوذ البعث بتمييع وتلميع الحالة الثقافية وفق مقاسات الاستبداد وهذا ما نلحظه جليّا في الإنتاج الأدبي والدرامي السوري.

ظلّت النخب تلعب وبإخلاص ضمن المربّع الذي رسمته له مؤسسات النظام والأمن. لا بل لعب البعض هذا الدور بمهارة وصار هو ذات نفسه رقيباً على نفسه وعلى غيره، وهنا بيت القصيد.

وهكذا تحول هذا المثقف بين ليلة وضحاها إلى وجه مقابحة لهذا النظام، وهذا ما نلاحظه من تغيير موقفه ممن كان يسميهم بالأمس القريب في العراق بالمقاومة، إلى إرهابيين في سوريا، وهم أنفسهم من كان يمدّهم النظام بالمال والسلاح لإفشال مخطط دمقرطة العراق. رغم التحفظات على بنية هذا المشروع وآليات تعويمه، تناسى هذا المثقف آلاف الإرهابيين والمجرمين ممن أطلق سراحهم ليعبثوا بالحراك الثوري وينخرطوا ضمن صفوفه بخطط استخباراتية مرسومة ويعملوا على تشويه صورته وتحريفه عن مساره، والتشويش على دفاعات الوعي الذاتي الشّعبي التي استنبطت الثورة من جوع وتعطش لمفاهيم مدنية وديمقراطية حقيقية تعتبر من أولى مسلّمات الحياة الكريمة ومن أولى مفاهيم حقوق الإنسان، تلك المفاهيم الوافدة عبر ثورة الاتصالات من خارج الحدود لا من صنيعة النخب المحلية.

ربما من يسبر تاريخ النخب المثقفة في سوريا والعالم العربي بالعموم خاصة تلك التي ترعرعت في ظل الاستبداد يدرك سريعاً أنها تحوّرت لتلائم نمطية الخنوع والاستكانة.

وصار همها الأول كيفية الاستمرار كحالة مادية ولو بالحدود الدنيا بعيداً عن المواجهة والاعتقال والعيش في ظروف قاسية، وهذا ما تؤكده دراسات المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي من أن هجرة المثقف العربي ليست لأسباب فكرية وإنما هي مادية بحتة. وهذا ما يقودنا إلى أن بناء الوعي لم يعد بيد تلك الفئات أو النخب إنما ثمة مقدمات تدل على أن عمليات التغيير التي تجري حالياً في عالمنا العربي تقوم بها فئات كانت خارج سياق الحسابات الأكاديمية تلك التي راهنت على النخب كمحركات للتغيير ولم تكن حتى ضمن حسابات الأنظمة القمعية تلك التي خمنت أن التغيير دائما يأتي من فوق أي من النخب والتي ترفض التغيير اليوم بحجة أن ذاك التغيير لم يأت من أوساط المثقفين والأكاديميين، وأن من يقوده بالنهاية هم أبناء الريف والمهمّشون حيث الأمية والتخلف والجهل.

هذا الرفض يشبه إلى حد بعيد أو يوازي رفض السلفية الجهادية وأنصار دولة الخلافة لكل ما هو جديد ضمن مشروع تصديهم للحضارة الغربية ومجونها على حد ظنهم.

كل المؤشرات ومآلات ثورات الربيع العربي تقودنا إلى مقدّمة مفادها أن عملية بناء الوعي كمقدمة نحو الديمقراطية والتحرر تمر اليوم بحالة من التخبط والفوضى تلك الفوضى الخلاقة التي سخرنا منها طويلا كمثقّفين.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.