الراديكاليات السياسية الجديدة في فرنسا
لم تكن حركة “السترات الصفراء”، التي تواصل تظاهراتها الاحتجاجية كل سبت منذ 17 تشرين الثاني 2018 برغم القمع البوليسي الشرس، سوى جزءٍ من الغضب المجتمعي العارم الذي زادت في تأجيجه كتلٌ متطرفة من الراديكاليين، من اليسار واليمين على حدّ سواء، فضلا عن مجموعات نضالية أخرى ليس لها من غاية غير التصادم مع النظام القائم. فمن “البلاك بلوك” الكتل السوداء إلى الفاشيين الجدد، ومن الزاديست إلى طالبي النجاة دون أن توحّد بينهم أيديولوجيا معينة؛ فبعضهم يعادي الرأسمالية، وبعضهم يعادي اليهودية أو الإسلام، فيما يجاهر غيرهم بعدائه للاتحاد الأوروبي، ولكنهم يلتقون جميعا في رفض رهانات اللعبة الديمقراطية، والاحتجاج العلني، وحتى العنف كوسيلة تعبير.
هذا الموضوع يمثل هاجس المفكرين والباحثين في العلوم السياسية والاجتماعية في الوقت الراهن، من ذلك مثلا أن مجلة “العلوم الإنسانية” أفردت في عددها الأخير ملفا عن الراديكاليات السياسية الجديدة في فرنسا، لمعرفة مدى نموّها وانتشارها في أوساط الشبيبة، وتساءلت هل تعكس أزمة سياسية، وهل يشكل عنفها تهديدا للسلطة، فضلا عن أساليب تنظيمها.
يعرّف معجم لاروس الراديكالية بأنها “كل مذهب متصلّب في كل ما يتعلق بالمعتقد السياسي”، ولكن التعريف اتسع منذ القرن الماضي ليشمل التطرف ومشتقاته، كالأصولية والإرهاب، ويمثل في كل الحالات قطعا مع المجتمع الذي ينشأ فيه التزام راديكالي، ما يفتح المجال أمام أشكال غير معروفة للعمل السياسي. وهو ما يؤكده أوليفيي غالان إذ يعتقد أن “الراديكالية السياسية تتبدى من خلال شريحة واسعة من الأعمال والسلوكيات التي تعبّر عن إرادة القطع مع المنظومة السياسية والاجتماعية والثقافية، وحتى مع المعايير والأعراف القائمة”.
والقطيعة في حد ذاتها ليست مأخذا، ففرانسوا ميتران، كان حثّ رفاقه، خلال مؤتمر إيبيني الذي انعقد عام 1971، على قبول “القطيعة مع النظام القائم والمجتمع الرأسمالي، وإلا فلن يكون لهم مكان في الحزب الاشتراكي”. وإيمانويل ماكرون استعمل المصطلح نفسه عندما نشر عام 2016 كتابا بعنوان “ثورة”، ضمّنه أسس برنامجه الرئاسي. ورغم أن الرجلين شجعا صراحة على انتهاك الوضع القائم قبل الوصول إلى هرم السلطة، فلا يمكن بحال أن تنطبق عليهما صورة “المتطرف”، لأن المشروع السياسي الذي يمثلانه ينضوي تحت مسعى انتخابي يحترم المؤسسات. ومن ثَمّ، فإن الراديكالية، بمعناها الأشمل، تتسع لمختلف الممارسات والمعتقدات، الجماعية والفردية، اليمينية واليسارية، الدينية والسياسية، الإرهابية والسلمية، السرية والعلنية.
أما الراديكاليات مثار الجدل فتخصّ أولئك الذين يرفضون المنظومة بشكل أو بآخر. وإذا كانت المقاربة القانونية قد وضعت منذ ثلاثينات القرن الماضي الحدود التي يُعدّ انتهاكُها خرقا للقانون، يعاقَب عليه مرتكبوه، أفرادًا أو جماعاتٍ أو تنظيمات، فإنها تعجز عن الإلمام بشتى الراديكاليات، لا سيما تلك التي لا تملك تنظيما ولا دعاية أو برنامج نشاط، إذ غالبا ما تنتأ دون سابق إنذار. لذلك اختارت السوسيولوجيا السياسية مقاربة أخرى تقوم على وصف الأعمال والمشاريع السياسية، بيّنت وجود ممارسات مشتركة بين الراديكاليين يمكن إجمالها في المساس بالنظام العام، وإرادة إضعاف الإطار الديمقراطي، وتكوين تنظيم شبه عسكري، واستفزازات عنصرية أو حاقدة. ويتبدى من خلالها نزوع تلك التنظيمات إلى العنف. فهل أن ذلك مؤشر حاسم على الراديكالية السياسية؟
في الواقع ليس من السهل تحديد ما يمكن نسبته إلى العنف السياسي، فلئن كان عالم الفكر السياسي الأميركي هارولد نيورغ (1927-2001) يربطه بكل أعمال الشغب والفوضى، والحرق والتكسير، وإلحاق الأضرار الجسدية، التي يكون لغاياتها أو ضحاياها أو ظروفها وتنفيذها وأثرها معنى سياسيّ، أي تلك التي تنحو إلى تغيير سلوك الآخر في وضعية مساومة لها تأثير على المنظومة الاجتماعية، فإن عددا من علماء الاجتماع يتفقون اليوم على أن الراديكالية السياسية تفترض، ولو نظريا، مباركة اللجوء إلى هذا النوع من السلوكيات، لأن اعتناق أفكار راديكالية ليس بالضرورة دليلا على نية استعمال العنف، فقد “يكون الفرد راديكاليا دون أن يكون عنيفا، والعكس صحيح” كما تقول عالمة الاجتماع إيزابيل صوميي، التي تميز بين “الراديكالية المعرفية” و”الراديكالية السلوكية”، أو بين “راديكالية الرأي” و”راديكالية الأفعال” بعبارة أوليفيي غالان.
بيد أن آخرين يعتقدون أن الحركات الحالية، سواء أكانت منظمة أو عارضة، أقل عنفا مما شهدته فرنسا في القرن الماضي، وأن أغلب الراديكاليات السياسية اليوم تعتمد أعمالا، عنيفة أحيانا وغير شرعية لا محالة، ولكنها لا ترقى إلى الأعمال المسلحة التي كانت ترتكبها منظمة “العمل المباشر” في السبعينات. وفي رأيهم أن الأعمال الحالية تتراوح بين العصيان المدني، واحتلال المقرّات أو الأراضي، والتخريب، وركوب الأحداث، واقتحام مواقع حساسة، وإضراب الجوع، وتحويل المعلومات أو قرصنتها. وكلها تهدف إلى عدم الانصياع إلى القواعد التقليدية للعبة الديمقراطية، أو إدانة قيم ومنظومات مخصوصة، تتغير بتغير الانتماء إلى اليسار أو اليمين. تقول إيزابيل صوميي “الممارسات العنيفة لا تزال قائمة لدى متطرفي الفريقين، ولكن دون استحضار الأيديولوجيا لتبريرها.”
من جهة اليسار، كانت الراديكالية حتى نهاية السبعينات حكرا تقريبا على تنظيمات صغرى، تروتسكية وماوية، تتموقع يسارَ الحزب الشيوعي الفرنسي، وتقدم نفسها كبديل للشيوعية الأرثوذكسية يروم إحياء الروح الثورية، بالعنف إن لزم الأمر. ثم ما لبثت تلك التنظيمات أن توارت تماما، أو تخلت عن العنف ولم تعد تظهر إلا من خلال المساهمة السياسية المشروعة، بدءا بالانتخابات، وصولا إلى الاحتجاجات الروتينية.
أما اليسار المتطرف في صيغته الحالية، فيستمدّ جذوره هو أيضا من تيار نقد اللينينية المتفرع عن اليسار الشيوعي في عشرينات القرن الماضي، وكان من رموزه روزا لوكسمبورغ (1871-1919) في ألمانيا، وأمادو بورديغا (1889-1970) في إيطاليا وأنطون بانكويك (1873-1960). وقد ابتعد هو أيضا تدريجيا عن الشيوعية ليأخذ طابع الفوضويين إذ ينكرون المنظمات، ويدعون إلى تخفيضات يتولّون أمرها بأنفسهم (كأن يدفعوا قسطا بسيطا من فواتير الماء والغاز والكهرباء، أو يرفضوا دفع أثمان تذاكر السينما والنقل العمومي)، ويستولون على شتى الفضاءات ليتخذوها سكنا. هذه الحركة اختفت تدريجيا في بداية التسعينات، ثم عادت إلى الظهور لتلتحق بالمحتجين ضد كل أشكال العولمة الليبرالية في فرنسا وخارجها.
ولما كانت هذه التنظيمات متنافذة، لا نستغرب أن نجد بعض ناشطيها في التيار الراديكالي لمناهضة الفاشية الذي عاد إلى الظهور عقب اعتداءات جماعات من اليمين المتطرف، وتفكك شبكات مقاومة حزب الجبهة الوطنية وأيديولوجيته العنصرية. من هذه التنظيمات أيضا “الزاديست” الذين يدينون “فرض المشاريع الكبرى عديمة الجدوى” إشارة إلى عمليات إنشاء بنى تحتية ضخمة، محدودة الجدوى ومكلفة اقتصاديا أو بيئيا في أواسط الثمانينات، مثل مشروع مطار “نوتر دام دي لاند” في مقاطعة لوار، تحت شعار “ZAD” أي “مناطق التهيئة المؤجلة” Zones) (d’Aménagement Différé ، فحولها المدافعون عن البيئة إلى “مناطق ينبغي الدفاع عنها” (Zones A Défendre)، ومنها اسمهم الذي صاروا يعرفون به “Zadistes”، ورابطوا فيها سنوات إلى أن تراجعت الحكومة عن مشروعها، كما تراجعت عن مشروع سنتر بارك في غابة رويبون بمقاطعة إيزير، وأوروبا سيتي في مقاطعة فال دواز.
كذلك “منتقدو التقنية” وهي حركة إيكولوجية راديكالية تقاوم المشاريع الصناعية، وتندد بالتقدم والمجتمع الصناعي، وتستمد جذورها من حركة “الأنارشية البدائية” للأميركي جون زرزان الداعي إلى العودة إلى مجتمع من الصيادين الملتقطين، يعيشون بمعزل عن الحضارة التي يعتبرها استلابا. وتنحصر أعمال هذه الحركة في فرنسا في عمليات تخريب ضد شركات بتهمة المسّ من الحريات العامة.
ولكن أخطرها جميعا هي الكتل السوداء “black blocs” أو “Schwarzer Block” حسب التعبير الذي ابتكرته الشرطة الألمانية لتسمية أفراد ملثمين يسترون أجسادهم بالأسود ويقومون بتكسير الممتلكات ومناوشة قوات الأمن وإثارة الشغب. وخطرها يكمن في عدم خضوعها لتنظيم أو جمعية أو حركة، فهي تتكون من أفراد تجمعهم صلات قربى أو صداقة، وحساسية “أنارشيست” يبررون بمقتضاها اللجوء إلى العنف ضدّ رموز السلطة كالشرطة والمحاكم والإدارات الحكومية، ورموز الرأسمالية كالبنوك ووكالات التشغيل المؤقت، ووكالات الإشهار، والشركات متعددة الجنسيات مثل “نايك” و”ليفيس″ و”ماكدونالد”، وكل ما له علاقة بالعولمة الليبرالية، مثلما يبررون نهب المحلات التجارية بكونه “استعادة ما نهبه لصوص الرأسمالية”. وقد تزايد عدد الكتل السوداء منذ 2016 وتزايدت أعمالهم العنيفة التي بلغت ذروتها خلال المظاهرة الثامنة عشرة للسترات الصفراء، يوم 16 آذار 2019، حيث حولوا قلب باريس إلى محرقة. ما دفع الحكومة إلى المسارعة بسن قانون “ضدّ المكسّرين” في 10 نيسان 2019.
على اليمين، يوجد أرخبيل من التكتلات السياسية الصغرى يتجاور فيه غلاة الكاثوليك والفاشيون والنازيون الجدد والقوميون ومعادو كلٍّ من الساميّة والإسلام وأوروبا، ولم يبرز منها سوى حزب الجبهة الوطنية، الذي شكل حجم منافس حقيقي على الحكم وصار يعرف الآن بالتجمع الوطني.
هذا التفتت هو سمة اليمين الراديكالي الفرنسي الذي لم يفلح منذ بدايات القرن الماضي في تشكيل كتلة موحّدة، حتى في عهد حكومة فيشي زمن الاحتلال النازي، حيث توزعت تلك الحركات بين الدعوة إلى قومية أوروبية يكون أفقها نهر الأورال، وبين التأكيد على تفوق الرجل الأبيض، ولم تستطع أن تعمّر طويلا، فقد اندثرت عقب الحرب العالمية الثانية، ولم يصمد منها سوى “النظام الجديد” الذي انبعث، بعد حلّه بسبب أفكاره النيوفاشية، في شكل حزب يتوق إلى المساهمة في الحياة السياسية وشروطها الديمقراطية هو حزب الجبهة الوطنية.
ومنذ مطلع الثمانينات، لم يبق من تلك الجماعات الراديكالية سوى عدد ضئيل كـ “البايكرز″ Bikers (سائقي الدراجات النارية) و”السكينهيدز″ Skinheads (ذوي الرؤوس الحليقة)، يبث أعضاؤه خطابهم المعادي للآخر عبر الإنترنت، بإيعاز من بعض الكتاب العنصريين أمثال ألان سورال، وهيرفي ريسّان، وجيروم بوربون.
من تلك الفئات الراديكالية القليلة أيضا “القلعة الاجتماعية” التي استلهمت تجربة كازاباوند الإيطالية، وحاولت بعث التيار الوطني الراديكالي، و”الدم والشرف”، و”قتال 18″ وكلاهما من النازيين الجدد، والحزب الوطني الفرنسي الذي يتماهى مع حركة الكتائب الإسبانية، ويطمح إلى جلب كل الغاضبين من الأحزاب الحاكمة، والتيار الهووي الذي يضم عدة جماعات من الألزاس ورابطة الجنوب، والهوويون الذين يجعلون الهجرة الإسلامية قبلة سهامهم، ويعتقدون أن استيطانهم يستوجب حركة “روكينكيستا” أي استرداد الأراضي المغتصبة وطرد الغاصبين تمثلا لأفكار مُنظِّرهم الكاتب غيوم غاي، الذي يحلم باتحاد عالمي للبلدان التي لا يعيش فيها إلا العرق الأبيض، وكذلك الكاتب رينو كامو الذي يحذر من “التعويض الأكبر”، أي احتلال المهاجرين، العرب والمسلمين بخاصة، للبلاد الفرنسية، وتعويض سكانها الأصليين تدريجيا.
ورغم الخلافات، تلتقي تلك الحركات في بعض النقاط كالخوف من الآخر (altérophobie) وتعظيم الـ”نحن” (autophilie)، وهوس الحرب التي سوف تأتي. وهو ما يدفع عددا منها، المتبقية على الأقل لأن أغلبها تمّ حلّه، إلى اتباع طالبي النجاة (survivalistes)، مثلما تلتقي في رفض المجتمع متعدد الإثنيات، والرغبة في إقامة جاليات قروية متجانسة عرقيا، ولكنها تميل في معظمها إلى العنف، كحل وحيد لطرد المهاجرين. سيرا على خطى جماعة “قوى التدخل” التي كانت تدعو إلى مواجهة الإرهاب الإسلامي بالإرهاب.
وقد بينت وثائق المخابرات العامة أن عنف اليمين المتطرف يفوق عنف اليسار المتطرف، منذ عام 1982، عندما مكنت ثيمة الهجرة حزب الجبهة الوطنية بالظهور في الانتخابات. ومنذ ذلك التاريخ، تحول العنف من صراع ضد المتطرف المقابل إلى صراع عنصري ضدّ الآخر المختلف عرقيا وثقافيا.
وليس الإسلام بمعزل عن تلك الحركات المتطرفة، ففي أعطافه هو أيضا تيارات راديكالية يعزوها أغلبهم إلى السلفية، والحال أن السلفية في فرنسا، كما يصنفها أوليفيي روا، ثلاث فئات، أولاها سلفية التقوى التي يرفض أتباعها كل صراع أو التزام سياسي، ويمارسون حياتهم على هدي تعاليم القرآن والسنّة.
والثانية هي السلفية السياسية كما تتجلى في خطاب الإخوان المسلمين الذين يسعون للوصول إلى السلطة لفرض الشريعة وإقامة دولة الخلافة. وثالثة تلك الفئات هي السلفية الجهادية، التي ترفض شعائرية سلفية التقوى وقبول الإخوان اللعبة الديمقراطية، وتدعو إلى إسلام محارب، يفرض نفسه على الجميع بحدّ السيف.
يتحرك أنصار هذه الفئة غالبا في سرية تامة، لارتباط أعمالهم بالعنف، لا سيما بعد العمليات الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا منذ 2015، وقد قدم المتورطون فيها أو المتعاطفون معهم تبريرات يمكن إيجازها في ثلاث نقاط: الأولى نابعة من التأويل الحرفي للرسالة الدينية، إذ أن عددا من الجهاديين يعتبرون أنفسهم أذرع الله في صراعهم ضد أعدائه.
والثانية ذات منحى سياسي يرى أصحابها أن عنفهم ما هو إلا ردّ فعل على الاعتداءات التي يتعرض لها الإسلام السنّي في الشرق الأوسط، وأن قتل المدنيين مبرر هو أيضا ما داموا قد صوتوا لحكومات مسؤولة عن قتل الأبرياء في ديار الإسلام. والثالثة قراءة سياسية دينية لبعض المفاهيم الخاصة بالإسلام كالجهاد، بوصفه في نظرهم فرض عين على كل مسلم ضد دار الكفر والحرب.
إن قياس قوة التزام راديكالي ما يمرّ إذن عبر علاقته بالعنف، ولكنه يمرّ أيضا عبر تحسس عدد من الممارسات التي تسبقها، سواء أكانت عدوانية أم مسالمة، لأن الراديكالي لا يدخل طور العنف الفعلي فجأة، وإنما يأتيه بعد إعداد ذهني وطقوسي، على انفراد أو وسط مجموعة.
وجملة القول إن الراديكاليين، سواء أكانوا معادين للسامية، أو عنصريين، أو معادين للإسلام، يعطون صورة عن وضع المجتمع الفرنسي، فما هم في النهاية سوى علامة على تحلل المجتمع الليبرالي والتوترات الإثنية الثقافية الراهنة، وإرهاصات تنذر بعودة الفاشية.