الراديكالية المزعومة للمراهقين المسلمين
فبعد “عنصرية خيالية” لباسكال بروكنر، و”فرنسا خاضعة” لجورج بنسوسان، و”انتحار أوروبا الغريب: الهجرة والهوية والإسلام” لدوغلاس موراي، و”المسلمون ليسوا صِغار فُقمة” لأندري فرساي، و”تقسيم” لألكسندر مانديل، صدر الشهر الماضي كتاب بعنوان “الغواية الراديكالية” لعالمَي اجتماع فرنسيين هما أوليفي غالان، وآن موكسيل تحت إشراف المركز الوطني للبحوث العلمية، أثار جدلا كثيرا، ليس من جهة منهجيته فحسب، وإنما أيضا من جهة الشريحة التي أخضعها واضعاه للسبر والتحقيق، وتتألف من مراهقين من أصول عربية مسلمة تتراوح أعمارهم بين الرابعة عشرة والسادسة عشرة.
الكتاب عبارة عن تحقيق ميداني استغرق إنجازه سنتين، باستجواب سبعة آلاف تلميذ في الثانوية ينتمون إلى الأحياء الفقيرة بمدن ليل، وكريتاي، وآكس مرسيليا، وديجون. وقد سعى فيه المؤلفان كما جاء في المقدمة إلى “الوقوف على أثر الأفكار الراديكالية، الدينية في المقام الأول، ثم السياسية والثقافية، في الشباب عقب أحداث 2015″. وهو تحقيق “يندرج ضمن الصيانة من الإرهاب، كأعلى درجة للراديكالية، ويهدف إلى قياس العامل الديني، مع عوامل أخرى ممكنة كالميز العنصري، والتعليم، والظرف الاجتماعي والاقتصادي”، وقد اختار المؤلفان عمدا، كما بيّنا في المقدمة، التركيز على المؤسسات التعليمية التي يوجد فيها شبان من أصول إسلامية بكثافة، لأن الاعتداءات التي دفعت إلى هذا التحقيق تمت باسم الإسلام، حسب رأيهما.
تلقفت صحف اليمين -أمثال لوفيغارو، ولوبوان، وفالور أكتويل- الكتاب بحماس، وعدّته إضافة هامة إلى البحث السوسيولوجي، وهللت للنتائج التي انتهى إليها، وتكاد تتلخص في أن “تصاعد التدين لدى الشبان المسلمين ظاهرة تجري على نطاق واسع″، وأن “راديكالية المستجوبين مشفوعة بجملة من القيم المنفصلة تماما عن القيم التي تسود المجتمع الفرنسي”، وأن “خطابهم الراديكالي ينذر بالعنف” لأنهم “لا يرون غضاضة في استعماله دفاعا عن دينهم ورموزه، ما يفسر عدم إدانتهم لعملية شارلي هبدو بنسبة كبيرة”. وقد أكد غالان ذلك في حديث لجريدة لوموند قائلا “يوجد تأثير إسلامٍ متفوّق يدفع إلى الانخراط في الراديكالية الدينية، ويمكن أن يُشفَع بالجنوح للعنف”.
وجاء أول انتقاد على أعمدة جريدة لوموند من باتريك سيمون، الباحث في المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية، متهما المؤلفين صراحة بـ”بناء ملف إدانة للإسلام، عن طريق محاولة الفصل بين الدين والظروف الاجتماعية لاعتناقه وتجلياته”، وانتقد بشدة مؤشر الأحادية الدينية المطلقة التي لا تسلط إلا على المسلمين. أما سيبستيان روشي الباحث في العلوم الاجتماعية، فقد أيّد وجود نزاع هوية اجتماعية بين الشبان المسلمين والمجتمع الفرنسي، دون أن يمثّل ذلك النزاع جنوحا للعنف، ويضرب مثلا على موقف الشبان من أحداث 11 سبتمبر، ليبيّن أن من أيّدوا بن لادن لا يفكرون بالضرورة في تفجير قنابل، ولكنه اعترض على مصطلح “الأحادية الدينية المطلقة”، ورأى أن “الأصولية” (كعودة إلى الأصول، ويقين بألاّ وجود إلا لتأويل واحد للنص القرآني، وعلوية التشريع الديني على تشريع الدولة) أقرب إلى الدقة. أما عن قياس الراديكالية، بمعنى التنبؤ بما قد يحدث من عنف سياسي، فلا أحد يقدر عليه مهما توسل بالأدوات العلمية، لا علماء الاجتماع، ولا المخابرات.
غير أن القراءة الأعمق كانت لأوليفييي روا، أستاذ العلوم السياسية بالمعهد الأوروبي بفلورنسا، والمتخصّص في الشؤون الإسلامية. ففي مقالة نشرتها مجلة “نوفيل أوبس″، بيّن أن أول مأخذ على مسعى المؤلفين هو منطق تحصيل الحاصل إذ انطلقا من حكم مسبق عن وجود علاقة بين الراديكالية والإسلام ثم أكدا أنها فعلا موجودة. وثاني المآخذ أن التحقيقات الكمية عن طريق الاستجواب عادة ما تصطدم بحاجزين: أولهما عدم حياد الظرف الذي يتم فيه تسلم المعطيات، وثانيهما الفرضيات الضمنية، وحتى المكشوفة، التي توجه الأسئلة وتحدد تأويل الأجوبة. بالنسبة إلى النقطة الأولى، تم ملء الاستجوابات داخل قاعات الدرس بموافقة الأسرة التربوية، والأجوبة في هذه الحالة لا تكون إلا مرآة لأفكار الشاب المعنيّ، فقد تكون اعتراضا على الفرضيات الضمنية (فالإجابة الصحيحة عن السؤال “هل تشعر أنك فرنسي؟” ليس “نعم” أو “لا”، بل “وكيف تريد أن أشعر أني فرنسي أيها الأحمق؟”) وفي رأيه أننا إذا رمنا فهم ما يقول أولئك الشبان، فالواجب أن نناقشهم لا أن نطلب منهم وضع علامة في مربعات. أما النقطة الثانية، وهي الأهم، فهي الطريقة التي يقارب بها المؤلفان المعتقد، فهما يميزان بين الديانة التقليدية، المعتدلة وجوبا في تصورهما، وبين ما يسميانه “الأحادية الدينية المطلقة”، التي يعتبرانها أيديولوجيّا. ففي نظرهما أن تلك الأحادية تتحدد حين ندّعي أن الدين هو الحقيقة المطلقة وأنه لا يستطيع أن يرضى بالقيم الليبرالية للمجتمع، أي أن الحالة السوية في رأيهما هي المجتمع العلماني الليبرالي الفرنسي، وكل اعتراض راديكالي (بالمعنى الحصري لأصل الكلمة racine) يعتبر بداية مسعى يمكن أن يؤدي إلى العنف. والكاتبان يبيّنان أن أنصار “الأحادية الدينية المطلقة” أقلية لدى المسلمين المؤمنين وأن “العُنُفَ” أقلية لدى أنصار “الأحادية الدينية المطلقة”، ولكنهما يرسمان تواصلا، وكأن المرء لا يمكن أن يكون راديكاليا دون أن يمرّ بخانة “الأحادية الدينية المطلقة”، أي الأصولية الإسلامية.
وهذا يطرح في رأي روا مشكلين كبيرين:
أولا، لا أحد من المستجوَبين انتقل إلى طور الإرهاب، ولو فرضنا أن من بينهم اثنين أو ثلاثة من عدة آلاف، فذلك لا يكفي إحصائيا لإقامة التواصل المزعوم. فكيف يمكن أن نستخلص إذن أن أولئك الشبان يمكن أن يمروا إلى العنف دون أن نملك دليلا مبنيّا على الملاحظة والاختبار؟ وإذا كان المؤلفان يجعلان “تفهُّم أعمال العنف” معيارا للراديكالية، لمجرد أن الشبان يرفضون شعار “أنا شارلي”، فالبابا فرنسيسكو الأول نفسه قال إنه “ليس شارلي”.
ثانيا، المؤلفان لا يفقهان من الدين شيئا، فهما يحددان “الأحادية الدينية المطلقة” (في مقابل الدين المعتدل) بأولوية الحقيقة الدينية على الحقائق الأخرى، والحال أن الدين في جوهره، على الأقل ديانات التوحيد الكبرى، يقول بوجود حقيقة، وأن تلك الحقيقة لا يقبل التفاوض بشأنها. صحيح أن الفقهاء طوّروا لاحقا لائحة بيانات ليشرحوا أن العلم يمكن أن يكون على حق، وأن المرء يمكن أن يكون متسامحا، بيد أن التسامح في الدين يخص الآخر، ولا يخص الدين. فهل يعقل أن نطلب من مراهقين بين الرابعة عشرة والسادسة عشرة أن يطوّروا منظومة تفكير تجعلهم قادرين على قبول داروين والقرآن؟ ذلك ممكن، ولكن لا يمكن أن يجدوا الإجابة لدى الإمام أو الأولياء (الذين هم في معظمهم أميّون دينيا). فالتأكيد بأن الدين حق هو أول فعل يقوم به المؤمن.
وفي ردّ غالان على منتقديه، وخاصة أوليفيي روا، أوضح أنه هو وفريقه حرصوا حرصا كبيرا على وضع أسئلة محايدة دينيا، أي قابلة لأن تطبّق على شبان من كل المعتقدات، ومتكاملة بشكل لا يسمح بإجابة تناسب ديانة واحدة، وأن مؤشر “الأحادية الدينية المطلقة”، الذي يستند إلى أهم البحوث العالمية في هذا المجال، بني على سؤالين: أحدهما عن مناهضة النسبية الدينية، وثانيهما عن هيمنة الدين على المجتمع العلماني والعلم. وفي رأيه أنه وزميلته لم يسعيا قط إلى إيجاد تواصل بين الأفكار الراديكالية والمرور إلى العنف الإرهابي، بل ركزا على خطاب الشبان عن الإسلام، الدين الوحيد الذي يملك الحقيقة بوصفه خاتم الأديان، وعن علوية القرآن على العلم، لكونه سبق العلم في ذكر الحقائق العلمية، ما يعني إعجازه. ويضيف غالان أن أديان التوحيد جميعا تدعي في البداية أنها لا تقبل التفاوض، بيد أن تقدم المجتمعات المسيحية أظهر تزايد اقتناع شبانها بالنسبية الدينية، بينما لم يعرف الشبان المسلمون هذا التطور.
وفي تعقيب روا على هذا الردّ بيّن أن المشكل يخصّ الفرضيات المسبقة منهجيا وقيميّا، التي شابت التحقيق.
من حيث المنهج: يصرّ علم الاجتماع اليوم على الانطلاق من “معطيات” يتم تحليلها بموضوعية، غير أن الاستجواب لا يمكن أبدا أن ينتج “معطيات” موضوعية فعلا، بسبب صياغة الأسئلة التي توجه الأجوبة، وكذلك المعنى الذي يختلف تأويله بين السائل والمجيب، وهو ما يعترف به المؤلفان دون أن يعملا على تداركه. أما عن الحياد الديني الذي يدعيه غالان فهو مفقود لأن الشريحة المختارة هي “المسلمون”، وهو ما لم ينكره المؤلفان، حيث ورد في الكتاب قولهما “كان علينا أن نبني شريحة محرفة عمدا على نحو يجعلنا نضمن الحصول على تشكيلة كافية من الشبان تمثل الخصائص التي تجعلنا نفترض أن لها علاقة بالراديكالية”. أي أنهما انطلقا من افتراض أن الراديكالية إسلامية ليستخلصا أن الراديكالية فعلا إسلامية. وكان عليهما إجراء تحقيق مماثل في معهد ديني مسيحي أو يهودي لتبين ما إذا كانت الحالة الإسلامية استثناء وإلى أي حدّ.
من حيث القيم: الحديث عن قبول المسيحيين النسبية الدينية هو مجرد لغو، وحسبنا أن نذكّر بما قاله بنديكت السادس عشر “نحن، المسيحيين، على يقين بأن الديانات الأخرى تنتظر لقاء المسيح، والنور الذي يأتي منه، هو وحده الذي يستطيع أن يقودهم تماما إلى حقيقتهم”. فالأرثودوكس في المسيحية واليهودية لا يقبلون التفاوض بشأن دينهم، ولا يزالون هم أيضا يعتقدون أن ديانتهم هي الحق، وأن خلق الإنسان والكون هو ما نصّت عليه كتبهم السماوية. ثم إن استعمال الآخرين لمصطلح “الأحادية الدينية المطلقة” أو لمصطلحات أخرى تحوم حول الفكرة نفسها ليس عذرا. والمشكل في رأي روا أن علم الاجتماع لا يستطيع أن يفهم الديني لأنه ينطلق من معيار “لائكي” كتحديد للحالة السوية. وهذا حكم قيمي، وليس مقاربة علمية. ويختم أوليفيي روا بقوله “من حق المواطن أن يناضل من أجل احترام العلمانية، ولكن من واجب عالم الاجتماع أن يحترم الحياد القيمي العزيز على ماكس فيبر. على الأقل عند إجراء تحقيق”.