\'الربيع العربي\' ودولة المواطنة
المواطنة مفهوم ذو دلالات إنسانية وأخلاقية وسياسية مستمد من كلمة وطن بكل ما تحمله الكلمة من معاني الارتباط بالأرض والدولة والمشاركة في السلطة. وبهذا المعنى تعني المواطنة منظومة من القيم ومشاعر الولاء والانتماء التي تكرس معنى المساواة بين المواطنين وتحترم التعددية والتنوع وتلغي الفوارق الإثنية والدينية والطبقية والجنسية بين البشر. وبهذا فالمواطنة ليست شعارا محليا أو داخليا أو خاصا بمجتمع ما، وإنما هي إطار فلسفي عام وشامل لكل الأمم والشعوب، ولا يرتبط بالمعنى القانوني للجنسية فحسب، وإنما يتجاوزه إلى معنى أوسع وأشمل هو الولاء الأقوى والانتماء الأشمل إلى الأرض-الوطن. وبهذا يكون الوطن الضمير الجمعي لأيّ مجتمع وحضارة والذي يخلق قانون المواطنة الرشيدة ويحرص على حماية المواطن وصيانة حقوقه وكذلك حماية الملكية العامة، لأن الوطن ملك جميع المواطنين.
وبالرغم من أن المفهوم في شكله الكلاسيكي يعود إلى العصور القديمة، وخاصة إلى المجتمع اليوناني، إلا أنه تطور خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، خصوصاً في المجتمعات الغربية وارتبط بحاجة المجتمع والدولة ومؤسساتها إلى تحديد الحقوق والواجبات. كما شهد تطورا في معانيه ودلالاته واستخداماته الفلسفية والسياسية.
اشتقت كلمة المواطنة citizenship من كلمة مدينة city كما ارتبطت بدولة-المدينة polis، وتعني حقوقيا المشاركة في شؤون المدينة. فاليونانيون الأثينيون استخدموا كلمةمواطن لوصف الرجل الحر المتميز عن سائر سكان المدينة-الدولة من عبيد وتجار وحرفيين وغرباء. في هذا السياق كتب أرسطو «إن المواطن الجيد يجب أن يعرف، وأن تكون لديه القدرة ليِحكُم ويُحكم، وهذا هو صلب فضيلة المواطن».
المواطنة والديمقراطية
تطور مفهوم المواطنة في العصر الحديث إلى عنصر رئيسي في النظام السياسي مع تطور الأفكار الاجتماعية والفلسفية في العصر الحديث في المجتمعات الغربية، حيث يمكن القول إن مفهوم المواطنة هو الابن الشرعي لفكر عصر الأنوار وللثقافة السياسية التي تولدت عنه في تلك المرحلة الغنية من تاريخ الصراعات السياسية والأيديولوجية والاقتصادية وتطور الفكر الاجتماعي.
ومنذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم استمر الفكر السياسي بالتطور بعد صراعات اجتماعية وسياسية مريرة وارتبط ارتباطا وثيقا بشعار الديمقراطية وثقافتها ونظامها السياسي منذ الثورة الأميركية في سبعينات القرن الثامن عشر، مرورا بمبادئ الثورة الفرنسية عام 1789 حتى وصل إلى إعلان حقوق الإنسان، حيث يتساوى الناس في الحقوق، وتستند السلطة إلى قرار الشعب، ويصبح القانون أساسا للإرادة العامة وما يرافقها من إعلان حرية الرأي واحترام الرأي والرأي الآخر باعتبارها في مقدمة حقوق الإنسان.
إن عصر التنوير وما أنتجه من فكر فلسفي واجتماعي وسياسي شكل اللبنة الأساسية لتطوير مفاهيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان وجسد في الأخير روح المواطنة في المجتمع والدولة والسلطة. ودون أدنى شك، فإن فلسفة الأنوار، التي دعت إلى مبادئ الحرية والعقلانية والتقدم الاجتماعي، كانت قد ولدت فكرا سياسيا ارتبط بمفهوم استقلاليته الفرد وتحرره من كل وساطة وشكّل البنية الأساسية لإنتاج مفهوم المواطنة الرشيدة وثقافة الحرية والديمقراطية.
في العصر الحديث أصبحت المواطنة صفة المواطن، الذي له حقوق وعليه واجبات باعتباره ينتمي إلى وطن، فهي تحدد إذن علاقة الفرد بالدولة، وهي علاقة يحددها الدستور والقوانين
ويرتبط مفهوم الوطنية مع مفهوم القومية ويتداخل معه من جوانب عديدة، وفي ذات الوقت يختلف معه. فمفهوم الوطنية هو أوسع وأشمل من مفهوم القومية وقد تتعايش عدة قوميات في وطن واحد. ومفهوم القومية جاء من مفهوم القوم الذي يقوم على رابطة الدم والقربى والولاء لها أساسا، أما مفهوم الوطن فجاء من الأرض، ومنه جاء مفهوم المواطنة المشروطة بالولاء والانتماء للوطن وامتلاك مشاعر الحب والإخلاص له والفخر به وإمكانية التضحية من أجله. والانتماء والولاء للوطن هو ولاء وانتماء للأرض أكثر من أيّ ولاءات وانتماءات أخرى كالولاء للقوم والقبيلة والطائفة وغيرها.
الأمة والدولة
اشتقت كلمة المواطنة في اللغة العربية من كلمة وطن، وهو المنزل الذي يقيم فيه الفرد، وهو موطن الإنسان ومحل إقامته. وَوطن المكان أقام فيه واتخذه موطنا له. والمواطن هو من استوطن الأرض واتخذها وطنا له.
ولم تكن القبائل العربية المترحلة قبل الإسلام تعرف مفهوم الوطن والمواطنة وإنما عرفت شيئا معنويا آخرا هو مفهوم “الديرة” أو “الحمى”، وذلك لأن نمط الإنتاج الرعوي الذي ساد الصحراء يجبر القبائل على التنقل من مكان إلى آخر وراء العشب والمطر. ولذلك أصبح مفهوم الوطن-الحمى متحركا وليس ثابتا ينتقل مع القبيلة في ترحالها وبقي رمزا ميتافيزيقيا يشير إلى القبيلة وليس إلى الأرض-الوطن.
وعندما جاء الإسلام وجد أن العصبية القبلية هي محور القبيلة والقانون الأساس الذي يحميها ويدافع عنها فحاول تجاوزها. وعندما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة وضع الرسول الكريم مفهوم “الأمة الإسلامية” بدل العصبية القبلية. وبذلك أصبح الإسلام هو الوطن وهو أرفع المعاني التي تتعلق بالأرض-الوطن، وأصبحت التضحية من أجل الأمة بدل الوطن. وعلى طول التاريخ فإن الأمة الإسلامية أصبحت مركز الثقل في تشكيل الوعي الجمعي عند المسلم وليس الدولة. وما يوضح ذلك هو أن الدولة في المجتمع العربي والإسلامي لم تكن محور العلاقات الاجتماعية، وإنما هي مجرد وسيط خارجي لتحقيق المصالح. وفي حالة تحطيم هذا الوسيط تفقد الجماعة واسطة عقدها ومركز توازنها كجماعة سياسية. ولهذا بقي مفهوم الدولة بمعناه الحديث من أكثر المفاهيم غموضا والتباسا في الوعي الجمعي العربي ويعود ذلك إلى عوامل سوسيو-ثقافية ترتبط تاريخيا بالتكوينات الاجتماعية-السياسية وخاصة مؤسسة القبيلة والنظام الأبوي-البطريركي، حيث أن التاريخ العربي-الإسلامي هو تاريخ صراع مستمر بين الدولة المركزية من جهة، والقبيلة والطائفة والجماعات المحلية وعصبياتها من جهة أخرى.
دولة المواطنة
في العصر الحديث أصبحت المواطنة صفة المواطن، الذي له حقوق وعليه واجبات باعتباره ينتمي إلى وطن، فهي تحدد إذن علاقة الفرد بالدولة، وهي علاقة يحددها الدستور والقوانين. وتشترط أولا وجود دولة تقوم على اختيار إرادة العيش المشترك بين المواطنين. وثانيا نظاما ديمقراطيا يوازن بين الحقوق والواجبات دون أدني تمييز بين المواطنين. وفي جميع الأحوال هناك عناصر ومقومات مشتركة لمفهوم المواطنة تعبر عن قناعات فكرية تقوم على عقد اجتماعي يعتبر المواطن هو مصدر الحقوق دون تمييز وأن جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون. كما أن الوعي بالمواطنة يعني الوعي بالحقوق والواجبات والالتزام الخلقي بتطبيقها وفق القانون. وهذ ما يعطي للمواطنة معنى مقدسا في ضمائر المواطنين يرسّخ شعورهم بالولاء إلى الوطن الذي ينتمون إليه، وبالمقابل فعلى الوطن أن يوزع الحقوق والواجبات بين جميع أفراد المجتمع دون تمييز، وفي مقدمتها حق المواطنة، أي حق الإنسان بحياة حرة آمنة وكريمة، لأن جوهر المواطنة هو الحرية التي يتمتع بها كل فرد من أفراد المجتمع وكذلك المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات والعدالة في توزيع الثروة بين المواطنين.
وإذا كانت الحرية والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات جوهر المواطنة، فإن مشاركة المواطن في جميع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومساهمته في صنع القرار والمراجعة والمراقبة والمحاسبة عن طريق مؤسسات الدولة والمجتمع المدني هي جوهر المواطن الصالح وما يقدمه لوطنه من خدمات وما يؤديه من واجبات تجاه ما يحصل عليه من حقوق المواطنة. وكلما استطاعت دولة المواطنة توفير الفرص والإمكانات للعمل والإنتاج ووزعت الحقوق والواجبات بعدالة ومساواة ودون تمييز بين المواطنين، كلما وفرت للمواطن الأمن والاستقرار للقيام بما عليه من واجبات بحرص وكفاءة وروح وطنية نزيهة.
فالمواطنة تعني إذن: أن أعلن ولائي وانتمائي لوطني أولا، وأن أشارك المواطنين الآخرين في الحقوق والواجبات ثانيا، وأن أكون مسؤولا أمامه فيما أقوم به ثالثا.
إن تحقق دولة القانون والمواطنة الصالحة لا يمكن أن يتحقق إلا بقيام نظام ديمقراطي تعددي يحترم حقوق الإنسان. فهل توفر “الدول التي تمخضت عن سيرورات” الربيع العربي الدامي” المجال والإمكانيات لتحقيق دولة القانون والمجتمع المدني والمواطنة الرشيدة، خاصة وأن العقلية التي تقود هذه الدول مازالت نتاج سلطات استبدادية، ماضوية وأبوية-بطريركية.