الرجل ذو القبعة على طريق بلا نهاية
استقر الفنان أنطونيو سيجوي (1934-الآن) في باريس منذ عام 1963 بعد أن درس الفنون في الأرجنتين ثم في المدرسة العليا للفنون في باريس، ليتم اختياره لتمثيل بلاده في بينيالي الفن في فرنسا عام 1962 بوصفه واحداً من أشهر النحاتين والتشكيليين الأرجنتينيين، إذ تتنوع أعماله وتقنياتها وأحجامها بين منحوتات ضخمة في الشارع، ومنمنمات صغيرة لا تتجاوز العشرة سنتيمترات، وما يميز تجربته على مدى خمسين عاماً هي السخرية من المدنيّة ومساحات العمل، والاستخفاف بالأشكال والأزياء الرسميّة التي نتبناها حين نشغل المساحات العامّة.
تقيم المكتبة الوطنيّة في العاصمة الفرنسيّة باريس معرضاً استرجاعياً لأكثر من 500 لوحة لسيجوي يظهر فيها الرجل ذو القبعة، الشخصية الساخرة التي طوّرها ورافقت أغلب أعماله، بوصفه مفهوماً ساخراً وكاريكاتورياً يحاول سيجوي عبره تفكيك إنسان المدينة، ورصد الشروط التي حولت سلوك البشر إلى قناع يرتدونه في الأماكن العامة، وأثناء تنقلهم في ساحات المدينة وطرقاتها التي تختزلهم إلى وظائف مكتبيّة لكلّ منها شكل محدد لا تجوز مخالفته.
يحاول المعرض بداية أن يعرفنا على مصادر الإلهام التي أثّرت بسيجوي، تلك التي جعلت شخوصه ملونة، ونابضة بالسخرية، وذات ملامح تقتصر على ما يثير القهقهة، فهي بلا عيوب مضخّمة، كحالة الشخوص الكاريكاتورية المستوحاة من الرسام الفرنسي هونوري دومير (1808-1879) التي تتميز بالرؤوس الكبيرة والأجساد الصغيرة، المنفعلة دون سبب، والتي تركت أثراً في أعمال سيجوي الأولى في الستينات، إذ نرى رجلاً بلا ملامح، أشبه بأحجية تُركت مهمة إكمالها وإتمام قطعها لمخيلتنا، وفيها يحاول سيجوي أن يدمج مكونات البوب أرت مع الرسم الكاريكاتوريّ والكوميكس، محولاً “الفرد” إلى مجموعة من المكونات الجماليّة والسطحيّة التي تختزل حقيقته وتجعله أسير قشور اجتماعيّة شكليّة.
بدأت أعمال سيجوي تكتسب ملامح أوضح في السبعينات، وظهرت شخصية الرجل ذي القبعة الذي يستعيد عبره سيجوي طفولته في الأرجنتين، فهو التاجر وسط عمال البناء، الذي يحضر وحيداً أو مستنسخاً في ذات اللوحة، وفي كل مرة تظهر تفاصيل جديدة لهذا الشخص المجهول الضائع بين الجموع، ليكون أشبه بتمثيل بصري لذاك الشخص الذي نظن أنه يراقبنا أينما ذهبنا، مغذياً الإحساس الدفين فينا بأن هناك من يلتقط عيوب كل واحد منّا بدقة، ويحدق بها ساخراً وكأنه يعلم ما نحاول أن نخفيه.
نرى الرجل ذا القبعة بين الجموع وأحياناً يكون هو كل “الجموع”، هو المُسرع دوماً، يتأمل بطرف عينه مبتسماً بخفية، هو تعليق على ظهور طبقة جديدة، مسرعة نحو عملها، لا وقت لديها لتأمل المدينة التي تبتلع من فيها وتحولهم إلى “موظفين مسرعين”، يعبرون كل الطرقات، يركبون الطائرات وأحياناً يمشون على رمل الشاطئ، وكأن شخص “الموظف” تهديد للجميع الذين سيصابون بذات العدوى يوماً ما، عدوى الإسراع للعمل، والتأنق البسيط في سبيل راتب نهاية الشهر، الأهم، أن لا طريق واضحا للرجل ذي القبعة، فكل السبل لا بدّ أن تقوده إلى وجهته، وهنا يظهر التكرار في أعمال سيجوي، بوصفه عاملاً جمالياً أشبه بموتيفات زخرفيّة، وتعليقاً سياساً على تسارع إيقاع الحياة والنزعة نحو التشابه الذي تحكم سكان المدن، الذين يتحوّلون إلى خليّة لكل واحد منهم وظيفته المحددة.
المتأمل لأعمال سيجوي يرى المدينة أشبه بخشبة مسرح يبحث فيها كل فرد عن مكانه ووظيفته، وكأن هناك تناقضاً بين الرغبة الذاتية وبين الدور الاجتماعيّ، وكأن الرجل ذا القبعة مُهرج أخرق يتراكض في كل مكان يحاول أن يجد دوراً/وظيفة لنفسه ليتجنب سخريّة الآخرين، هو قلق، يأسره الرعب والخوف من الضياع، في ذات الوقت، هو مستخف بدوره ذاته ورغبته بالبحث، وهنا تظهر السياسة مرة أخرى وتأثير الدكتاتورية في أعمال سيجوي وكأن شخوصه مطاردون من قبل عسكر ورجال أمن يهددون استقرارهم وثباتهم إذ يقول “لا أحاول مهاجمة الدكتاتوريّة مباشرة، أنا لست ناشطاً، ولا أؤمن بالفن الملتزم، إلا أن بعض الأشخاص الذين لا يمتلكون الذكاء الكافي يظنون أنك ضدهم إن لم تكن معهم”.
يحوي المعرض بعضا من المنحوتات الخشبية الصغيرة التي أنجزها سيجوي مطلع الألفيّة، والتي نرى فيها شخوصه الكاريكاتوريّة أمامنا على وشك الرحيل أو الحركة، ليتضح ذاك الانفعال الكوميدي الذي تحويه، وكأنها دمى بانتظار أن تتزحلق أو أن تفقد توازنها، بصورة أدقّ تبدو المنحوتات كمحاولة لالتقاط الثواني القليلة ما قبل لحظة الإحراج العلنيّ، تلك التي يتجلى فيها سوء الأداء والمبالغة فيه، ما يجعل “الحركة” كوميديّة، ويولد قهقهة من نوع ما، تلك التي نخفيها حين نشاهد رجلاً يرتدي بذلة رسميّة ويركض مسرعاً نحو مكان ما، دون أن يدري أنه على وشك الوقوع.
ولد سيجوي في قرطبة الأرجنتينيّة، المدينة التي تركت أثراً في تجربته الفنيّة، وعاد إليها في التسعينات لإنجاز أربعة منحوتات ضخمة موزعة في أنحائها تحمل اسم “عائلة في المدينة”، وهي “رجل المدينة”، “امرأة المدينة”، “أطفال المدينة وكلب” و”مراهقو المدينة”. هذه التماثيل كسائر أعماله السابقة الموجودة في المعرض تحاول التقاط إيقاع وحركة المدينة بروح كاريكاتورية.