الرجل والسلطة في روايتي “الشيخ عجيب” و”لا يهزمني سواي“
تقوم الحياة على ثنائيات كثيرة، وقد تتشكل العلاقة بين تلك الثنائيات فتكون إلغائية أو تحريضية أو طردية أو تكاملية، كلها معان تثير جدلًا عقيمًا تمثله تناقضات لا حصر لها ينزوي في مكامن النفس وهواجسها؛ ليشتعل في أي وقت يقف الإنسان فيه عاجزا عن فهم مضامين تتشكل منها مقادير ترسم خريطة حياته الوجدانية والنفسية والبشرية، فما أكثر ثنائيات الحياة بين مدٍّ وجزر! أليست الأنثى شريكة في ثنائية هذا الكون؟ فلماذا عندما ترتبط الكتابة بجنس صاحبتها ينعتونها بتاء الخجل؟ لما تحمله من تصورات أيديولوجية، وفوارق بيولوجية ارتهنت بواقع المرأة في هذا العالم المتصارع بما تمثله من هُوية أنثوية عانت حرمانًا وتهميشًا على مر العصور.
الكتابة النسوية نتاج لمرجعية ثقافية واقتصادية واجتماعية ونفسية كونت للكاتبات العربيات ذاكرة إبداعية أثْرت روايتهن، وكيف كانت كل بلاد ذات مرجعية ثقافية مختلفة، فتفتق عن ذلك خطاب أنثوي يحمل لغة مختلفة في معجمها، ومضامينها، ومعالجتها للقضايا، وكيف كان دخول المرأة إلى عالم الرواية دفاعاً عن الأنا الفردية الأنثوية، بكتابة هموم الإناث الجمعية، والدخول إلى عالم اللغة الذي كان مُحرّماً عليهنّ، فلم تكن المرأة العربية المبدعة وحدها المختلفة دون غيرها من نساء العالم، فليس للفوارق البيولوجية دور في تخلفها، وإنما للإرث الاجتماعي والثقافي. ولأنها بطبيعتها منصرفة إلى أدوارها الأولى؛ كأم وزوجة، لذا فالمرأة تتجه بوجدانها إلى هذه الأدوار عن غيرها، لكن متى ما منحت لها نفس الفرص والتجارب، التي تُمنح للرجل المبدع تميزت وأبدعت كتميزه وإبداعه؛ حيث أصبح بالإمكان الحديث عن وجود كتابة إبداعية نسوِية– منذ مطلع القرن العشرين إلى اليوم- وأيضاً التفاعل مع الخطاب النسوي من خلال الرؤية النِّسْوِية للعالم في سياقات حوارياتها المختلفة مع الآخر الرجل كشريك في الهموم الحياتية من جهة، وكسلطة ذكورية قامعة للمرأة الباحثة عن التحرر من جهة ثانية، فالنّسْوية التي ندفع بها إلى الأمام، ونحن مؤمنون بجدواها، وخاصةً في وطننا العربي، ليست دعوة لسفور المرأة أو لتجميل وضع شاذ تكون فيه المرأة راغبة في الحرية الجنسية أو على الأقل مبررة لها، أو تكون حارسة للتقاليد فقط، أو تُكرس مفهوم الضحية بالنسبة إلى المرأة، أو تؤسلب الرجال بصفاتهم أو تحجمهم بأوصافهم، فالنِّسْوِية المستهدفة هي القائمة على تأسيس وعي نسوي عربي يدفعن به بلادهن إلى التقدم والرقي. وقد تحمل روايات نسوية كثيرة صورا إيجابية للرجل ودوره الفعال في دعم المرأة ومساندتها، ولكن سنجد صورة مغايرة للرجل في روايتي “الشيخ عجيب” للكاتبة المصرية أماني فهمي، و”لا يهزمني سواي” للكاتبة الفلسطينية رولا غانم، تتمثل في القمع والسلطة الذكورية وآثارهما على المرأة.
الشيخ عجيب
تمثل الرواية رصدا لأدعياء الدين المتشددين الذين يتخذون من سلطتهم الدينية كرجال دين يقدرهم عامة الشعب وسيلة لمحاسبة الخلق وعقابهم على ما قصروا في حق الله تعالى، فهم أوصياء عليهم ووكلاء الله في الأرض على عقابهم في حبكة روائية متخيلة في ذهن الشخصية الرئيسة “فوزية” حيث تمسك بتلابيب الحكي؛ لتبوح بكل هواجسها تجاه هؤلاء يمثلهم في الرواية الشيخ عبدالعزيز أبوها والشيخ عجيب زوجها وكل من سار على نهجهم، رواية الشيخ عجيب معبرة بوصفها عن تهميش الأنثى وكيف عبرت الكاتبة عن نساء الرواية وهواجسهن وآلامهن، والتي تتيح مجالاً للعقل كي يبحث عن متنفس يتغلب على الألم والحسرة، ينطلق الخيال في فضاء لا نهائي باحثًا عن طريق للانتصار على الواقع حيث نجد الكاتبة اتخذت من الكتابة معبرا للبوح، فكانت أكثر إثارة ورصدًا لهذا الواقع.
تناقش الرواية عبر، فوزية زوجة الشيخ عجيب وابنة الشيخ عبدالعزيز، أفكارًا مختلفة عن التحرش وفنون الاغتصاب للآخر بالتراضي، وعن الفن والرسم وكثير من الأشياء بين رؤى مختلفة بين الحرام والحلال، فكرة الحرام والحلال التي بناء عليها يأخذ زوجها الذي أجبرت عليه قرار تقجير القاهرة بأكملها، و تجد فوزية نفسها في المواجهة فعليها إنقاذ مدينة عمرها بينما القيود تحاصرها أب و زوج وباب مغلق.
زوجها الشيخ عجيب، هذه الشخصية المملوءة نرجسيةً، ينظر لنفسه أنه جاء مخلصا تدعوه زوجته مستنكرة ما يقوم به. تقول “إذن أنت الملاك الذي لم يستطع الرب إرساله لعقاب الخلق، فقررت أنت أن يُرسلك الشيخ عزيز؟! كانت كلمات زوجته ابنة الشيخ عزيز تخرق أذنيه: – هل يعجز الله أن ينتقم فتقوم أنت وأبي له بهذه المهمة؟ من هذا الذي ترد على أسئلته ليل نهار ولا أراه، ولا أسمعه يا عجيب؟” (أماني فهمي، الشيخ عجيب، القاهرة، دار النسيم للنشر والتوزيع ط1، 2018، ص 4).
ألم تسمعي أبدا عن ملائكة العذاب يا فوزية؟ تضحك كثيرا وهي تشير نحوه: أنت ملاك يا عجيب؟! يجوز” (ص 5).
وفوزية زوجة الشيخ عجيب تعيش صراعا ليس نقما على حياتها فقط من زوج لا تحبه لكن ما أصعب أن تعيش المرأة كل أساليب القمع الذكوري في صورة رجل يرى نفسه كالملاك فوق البشر نجده التزم الصمت حيث “تصمت صمت العارفين، إن كلامه صحيح؛ فالتحريك للشر أسهل بمراحل، ولا يتطلب إلا نفحات الكره والبغضاء والبارود مع إيمان عميق، مثل إيمان والدها وزوجها، إنهما بمثل هذا الفعل يقدمان للعالم الخير كله، تتنهد وهي تعلن لنفسها أن التحريك للخير يستلزم صبرا وإيمانا لا يسهل لا على زوجها ولا على والدها امتلاكه، أسهل شيء على الإنسان أن ينتقم، وأصعب شيء أن تتملكه روح التسامح، أسهل شيء أن يقتلع الشجر، وأن يفنيه وهو يأكل ثمرته وحده، وأصعب شيء أن يصبر على النبات يسمده ويرعاه حتى ينمو لتصبح ثمرته من نصيب أجيال أخرى ستحيا في أزمنة مختلفة عنه وتالية لزمنه” (ص 5).
كان عجيب يغوص في أحلامه، وإيمانه أنه حين يموت، وهو يقتل كل هؤلاء الناس حوله، سيكون شهيدا، وبموته أو شهادته سيؤمن باقي البشر وتنصلح أحوال العامة، فلا يصرفهم عن الصلاة والعبادات شيء، فيرقيه الله في الجنات بثواب المصلّين، ودعوات المؤمنين الجدد، عندما يرى الناس بأعينهم الفناء الحقيقي، والموت الذي لن يترك خلفه حيا واحدا سيؤمنون، وسيتذكرون ما كانوا قد غفلوا عنه من أن الدنيا فانية، وأن الموت لا يترك أحدا، نقتل البعض ليتخذ الباقون من موت من ماتوا عظة!
كانت زوجته ابنة الشيخ عزيز لا تيأس من معاودة محاولات استعادته إلى العالم الطبيعي الذي تؤمن هي به:
– هل عجز الله عن إهلاكنا فأرسلك أنت؟ يا أخي لو إحنا بنغضبه سيبنا مننا له!” (ص 6).
ولكنه كان يجد مبررا ليس إلا في عقله هو ومن يشبع فكره الضال “كان عجيب شديد الاهتمام بالاستماع إلى التأويلات التي تقول إن عذابات سيدنا بلال وجلده وقوة احتماله هو وغيره من أوائل المسلمين كانت دافعا قويًا لإيمان وإسلام من لم يسلم بعد في مكة، فقد رأى المسلمون الأوائل في بلال وغيره، ممن سبقوهم إلى الإسلام رجالا يضحون بأنفسهم، ويتحملون مشاق التعذيب في سبيل دينهم الجديد، فاقتنعوا أن من يتحمّل هذا العناء لا يتحمله إلا من أجل حق، فساروا على نفس النهج وأسلموا لله، كان يرى الشبه بينه وبينهم كبيرا، كرّس حياته من أجل نيل الشهادة، يتمناها لتكون وسيلته الأقرب للوصول إلى معية الله ودخول جنته، أتعذب من أجل ديني كما تعذب أوائل المسلمين، أموت من أجله فقط، عندها سيؤمن من لم يؤمن بعد، وسيتأكد إيمان من آمن من قبل” (ص 8).
حتى السلطة الأبوية (البطريركية) المتمثلة في الشيخ عزيز لا يتعامل مع ابنته فوزية زوجة الشيخ عجيب معاملة الأب الحاني على ابنته يقول لها “إن لم تكوني في بيت عجيب زوجة، تعالي معنا في بيت زوجتي خادمة، وأهو تكوني تحت نظري، تصرفاتك وأفكارك مش عاجبيني” (ص 16).
في ظل هذا التعنت من الأب تتأمل فوزية “صور والديها وهما على الشاطئ، أو في الجامعة أو في هضبة الأهرام، ملابس أمها قصيرة، شعرها متحرر إلى أقصى حد!!! هذه حال نساء المدينة في تلك الفترة الزمنية من تاريخ مصر، حال القرويات اللواتي توجهن للدراسة في الجامعة في العاصمة أيضًا، هل كانت أمي عاصية؟ هل تصبح وقودًا للنار كما ينبهني أبي، كلما رآني بتنورتي الشانيل الأطول كثيرًا من جيبة أمي التي كانت ترتديها حين كانت تكبرني قليلًا؟ متى أسلم أبي؟ ولمَ لمْ يتح الله لأمي عمرا أطول لتتعرف على ملامح الدين الجديد الذي عاد به أبي؟!” (ص 15).
ترسم الكاتبة بعمق ووعي نفسي أكثر منه اجتماعيا كل الشخوص الذين تضعهم في مسارات السرد، وخاصة النساء بلغة بسيطة سهلة متوغلة ضمنه إلى الداخل النفسي لفهم بعض ما يعتمل في نفوس هذه الشخصيات من أفكار وأوهام تحركها كمنطلقات نفسية في اللاوعي لتصدر عن تلك التصرفات؛ نجد شخصية (فوزية) الفتاة التي ولدت في مجتمع ذكوري يمجد قيم الذكورة والأسرة والمجتمع ولا يحفل بالإنسان ودواخله فهنا يتآزر (الجندر) مع الهيمنة والسلطة الأبوية ويتكالبان على فوزية وكأنها في صراع مع القوى الحاكمة لها المتمثلة في كونها فتاة لوالدها ثم زوجها سطوه على حياتها و قراراتها، والشيخ عجيب المتدين الذي يحولها لشيء من ممتلكاته الخاصة، عبر احتجازها في ظل رغباته وتظل في محاولات هروب غير مجدية ، لكن عبر كل محاولة هروب بالوعي أو بالجسد تعود بذاكرتها لماضيها مع والدها ووالدتها حيث تخبرها صورهما الأبيض والأسود كيف كانت الحياة في مصر وهي طفلة وتسأل والدها لم يطلب منها ارتداء الملابس الطويلة جدا رغم أن والدتها معه كانت بملابس أقصر وهي عبر حياتها تطلعنا معها على التطورات الأخيرة في المجتمع المصري منذ السبعينيات حتى بداية ما أطلقوا عليه الربيع العربي.
الجسد يحضر بصورة مهيمنة على الحكي هنا ليس وسيلة متعة لها وإنما يحضر لإذلالها وخضوعها كونها امرأة “كانت فوزية لا تفهم رغيه وزبده، ولكنها تعرف أنها ملقاة أرضا عارية أمام رجل غريب، غاضب جدًا بعد أن نال منها، غضب منع عنها جرأة أن تمد يدها لسحب كوفرتة أو ملاية تغطي بها جسدها من أجل الستر. تساءلت: هل هذا هو الستر يا أبي؟
تساءلت: لماذا عجيب يرغي ويزبد عن الشرف؟ كانت كل معارفها عن الشرف كما يفهمه هذا الرجل هو وأبوها أن تبصق عورتها بصقة دموية أولى وأخيرة على فراش الزوجية…” (فريد الزاهي، النص الجسد التأويل، المغرب، دار أفريقيا الشرق، ط1 ، 2003، ص 25).
نجد أن النقد النسوي قد حاول من خلال احتفائه بالجسد الأنثوي أن يحوّله إلى قيمة أساسية في الكتابة النسوية يتجاوز البعد الفيزيقي في محاولة لجعل الجسد موضوع النص ،ومنبع معطياته، ومنتجه، ومتلقيه، في الوقت ذاته الذي يختزن معظم المعطيات المتخيلة التي تتغذى فيها الكتابة الحكائية بشكل شعوري أو لا شعوري” (الشيخ عجيب، ص 9).
إن معضلة الإلغاء التي تعانيها الأنثى تحت وطأة الذكر ما هي إلا نتاج صورة مزيفة يخلقها الرجل الذي يتصور المرأة مجرد متعة جنسية خاضعة لإرادته، وهيمنته، وهذا كان كفيلا على القضاء على كيان المرأة ووجودها ،وأسهم في تشكيل اغترابها الجسدي والفكري” (سلمى الحاج مبروك، التأسيس لهوية أنثوية خارج الباراديغم الذكوري، ضمن كتاب الفلسفة النسوية، مشورات دار الاختلاف، الجزائر، ط1، 2013، ص 354).
وتقول “خافت أن تسأل عجيب ما هو معنى الشرف عندك لأؤكد لك أنني عفيفة؟! أو على الأقل أن وعائي عفيف لأن روحي لها طعم لن يمكنك استساغته.
تمنت لو تمكنت من الحديث والتوسل إليه :لو فيَّ عيب استرني، أبي قال أنت الستر! ينظر لها نظرة تجمع بين الكره والاحتقار، ثم يمتزج الكره بالرغبة، يجامعها حيث هي ملقاة أرضا، هي تبكي وهو لا يطيب خاطرها ولا يخبرها لم كل هذه الثورة تجاهها، يتركها ويتجه للصالة، الوساوس تهاجمها، صوت عجيب يصل إليها، يتصل بوالدها عبر الهاتف الأرضي الموجود بالصالة، يُخبره أن بضاعته مضروبة” (الشيخ عجيب، ص 9).
هذا الحدث المؤلم وهي ملقاة عارية على الأرض جعلها تتذكر ما سمعته ذات مساء وتصدر جملتها بضمير المتكلم (أنتِ)؛ لتوقظ روحها الذابلة وتنتبه لما تتذكره الآن من بعض فتيات يخدعن المجتمع وهي لم تفعل مثلهن “أنت خايبة، كيف تتركينه يأخذ شرفك، كان يمكنك الاستمتاع بكل شيء وبوابات شرفك مغلقة من أجل أي عريس قادم؛ وحد قالك إني عاوزة أتجوزه؟ إنما شرفي محافظة عليه للي هاتجوزه، وده اللي عمري ما هسلم له نفسي إلا في بيت العدل (ص 18).
ونرى هنا أن في الوقت الذي تكون فيه الهيمنة والسّلطة بيد الذّكور والذّكور فقط، فإنّ من تقع على عاتقهم مهمّة حماية وصون شرف العائلة ومنعه من السّقوط هم الذّكور أيضا. لأن الهيمنة الذكورية وما ينتج عن ذلك من غياب للمرأة وحضور للرّجل في الفضاء العام.
وثمة حالة حزن تسكنها عندما يعرض الجسد في مخيلتها في صورة ابنة عمها نهلة التي حكت لها يوم زفافها لمن أرغموه على الزواج منها مع أنه كان يحبها ولكنه كان يجدها غير مناسبة له ولا لعائلته الغنية كزوجة تقول: زوج نهلة يضاجعها من أجل متعته، ويعلن لها بعد كل مرة أنها قد أخذت الثمن، شقته وسيارته وأنه لم يظن أبدًا أنها هي وعائلتها لا يهتمان إلا بماله فقط، يخبرها أنها فيما سبق وبدون عقد الزواج كانت حبيبته، أما اليوم وبعقد الزواج الذي أرغموه عليه؛ فهي، بالنسبة له، ليست إلا بغيًا عليها أن تفي بكل الخدمات التي تقاضت هي وعائلتها ثمنها منه، يتقلب بين حال وحال لكنه في كل الأحوال لم يعد ذات الرجل الذي أحبها أو توهمت محبته لها.
في الليلة الأولى في بيته صفعها وسألها: هو أنا اغتصبتك؟ هاوريكِ الفرق بين الاغتصاب، واللي كان بيحصل قبل كده” (ص 33).
ويحضر الجسد أيضا كأداة قهر لها على فراش الزوجية لفوزية التي تعيش حياة مسكونة بالوجع والمحو والاستلاب بعد أن كانت تتباهى بمفاتن جسدها “حين كانت صبية كانت تتباهى بمقاسات جسدها، خصرها وصدرها، تقيس وتجمع وتطرح ثم تخبر صديقاتها أنها تمتلك مقاسات تتطابق تماما مع القياسات العالمية لملكات الجمال، الآن ما إن ينهي علاقته معها في الفراش حتى يأمرها أن تستتر، استترت حتى برز كرشها ومؤخرتها وغاب الخصر في غياهب الدهون التي لا تجد وسيلة جيدة للتخلص منها، كل ما لديها من رياضة هي الأعمال المنزلية وهى بارعة فيها، تنهيها في وقت قياسي وبأقل مجهود مقارنة بالأخريات” (ص 10).
وما أقسى هذا الشعور! على امرأة لا يراها زوجها أصلا لأن لديه ما يشغله من هلاوس كثيرة تقول “كانت تأتيه الهلاوس فيظن أنه يرى الله والملائكة، ويأتمر بأمرهم، ينام عليها فجأة، ويقوم من عليها أيضًا فجأة لينهمك في شيء آخر، كما لو كان ينتظر دائماً إشارة النهوض من شخص ثالث غير موجود معهما في الحجرة، يومها قام كعادته من فوقها بنفس الطريقة الفجائية ليطلب منها صنع القهوة، وهل هذا وضع امرأة تستعد لصنع فنجان القهوة!! كان ككل مرة قد وصل إلى مبتغاه، وهوت هي من فوق جبل الشهوة قبل ارتقائها القمة، دفعها دفعا إلى الوادي لتموج ثانية بالرغبة في الارتقاء إلى تلك القمة، القمة التي لا تصلها أبدًا بينما تسمع أن كثيرين يبتهجون أعلاها!” (ص 11).
سؤال الجسد كان دائمًا حاضراً خلال موجات الحركة النسوية المختلفة، سواء كان أداة للقمع أو التحرر وظهر جليّا -في هذه الرواية- حيث صار الجسد أقوى تأثيرا وتواجدا كأن الرجل العربي لا يهتم بها عقلا، وهو تعبير عن الحالة الذكورية التي تتعامل مع المرأة العربية”. وسواء كان السؤال مرتبط بتجارب متعلقة بقمع هذا الجسد سياسيا واجتماعيًاً أو بالمطالبة بحقوقه وطرحه كموضوع للنقاش؛ ستظل فوزية مستسلمة لكل ألون القمع الذكوري الذي يزداد اضطهادًا لها تقول “تتذمر فوزية: واليوم علينا قتل مواطنينا المسلمين أيضا؟! كانت زوجته تقول له هذا أحيانا جهرًا، وأحيانًا في صراع فكري لا يخرج خارج مخيلتها؛ فكثير من الأشياء والأفكار احتفظت به في صدرها حيث اعتادت أن تحتفظ بمشاعرها حبيسة أحدها إلى جوار الآخر” (ص 9).
فكأن تحليل مثل هذه الأحداث في الرواية يعرّي المستور ويكشفه مبينة طبيعة أدعياء الدين الذين ينتمي لهم زوجها الشيخ عجيب في تعاملها مع المرأة وما يؤدي ذلك إلى سلبيات في المجتمع الذي يقمع المرأة وتسيطر عليه الثقافة الذكورية.
لا يهزمني سواي
تحاول الكاتبة الفلسطينية رولا غانم في روايتها “لا يهزمني سواي” أن تسرد لنا واقعا موجعا من خلال الأجواء القاتمة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، فهي تحكي عن ابن عمّ وجدي وهو علاء، الذي طعن جندياً إسرائيلياً بعد إصابته بمرض نفسي فور خروجه من سجن الجلمة، فأصدرت إسرائيل المحتلّة قرارا يقضي بمنع عمل أيّ شخص من أقربائه في مصانع إسرائيلية، والدخول إلى المناطق التي احتلت عام 1948، ممّا أفجع العائلة التي كان يعمل معظم أفرادها في الدّاخل المحتلّ (رولا خالد غانم، لا يهزمني سواي، حيفا، مكتبة كل شىء، ط1، 2018، ص 55).
أما شخصية وجدي في الرواية فيحاول أن “يستعرض بطولاته خلال تواجده في فلسطين، ويتباهى بمن دخل السجن من أقاربه، ليوضّح لسارة أنه ابن عائلة مناضلة” (ص 49).
استطاعت سارة أن تُنسي وجدي موطنه الأصلي ووالدته وابنه وزوجته، فتنته بجمالها وسحرها، رغم مسحة الحزن التي كانت تعلو جبينها، بسبب الحرب التي تدور رحاها ولا تزال في بلدها سوريا، تلك الحرب الغامضة التي انطلقت من ثورة عفوية شعبية غايتها كما كان يبدو إجراء بعض الإصلاحات السياسية في بلد جميل معظم سكانه مدنيون مسالمون، ما كانوا يدركون خطورة ما أطلقوه من هتافات هزّت عروش الأنظمة، وخلفت وراءها حالة من الفزع على شكل الدولة المترهل القائم في بلادنا. مما جعل العالم يتحالف ضد هذا الشعب، ويحول بلده الى خراب أو يكاد يسويه بمجمله في الأرض (ص 67).
ثم تبدأ الرواية تحكي لأربع شقيقات “صابرين، علياء، جمانة، فلسطين” في إطار اجتماعي ينهض بوضع المرأة في فلسطين “كانت تتلاشى كلّ الصّعاب عندما ترى صابرين وشقيقاتها وجه القدس، ويَطَأْن أرضها الطّاهرة، وتبدأ جولاتهن قبل الوصول إلى بيت جدّتهن رفيقة، فتتراكض صابرين وشقيقاتها في شارع صلاح الدين الذي يقع في قلب مدينة القدس، ويلتقي مع شارع السّلطان سليمان المحاذي للأسوار الشّمالية للبلدة القديمة عند باب السّاهرة، ويتقاطع مع شارع الزهراء، وتشتري ما يحلو لها من محلاته التّجاريّة التي تعجّ بالسّيّاح والنّاس من مختلف أنحاء العالم (ص 15).
ثم تأتي على بطلة الرواية صابرين ومحاولة أمها في الإسراع بزواجها في وقت مبكر “الآن تيقنت صابرين من أنّ أمّها تريد أن تقصيها عن البيت حتى لا تظلّ تؤنّبها وتراقب تصرفاتها” (ص 16).
وبسبب قسوة هذه الأم “لم تجد سوى إبراهيم هذا الشاب النرجسي الذي سيستغل فضائح أمها” فهي في مجتمع لا يبيح للفتيات التحدّث مع الشّباب حتى لو كانوا من الأقرباء، تيقّن إبراهيم من أنّها ستتصل به حتى يخبرها بقصّة أمّها، عرف كيف يستدرجه (ص 23).
وشخصية إبراهيم شخصية مزاجية أنانية يتظاهر بشيء ويخفي شيئا آخر حيث “كان إبراهيم يبدي تعاطفه معها، ويتّصل بها باستمرار، وكانت هي تتمنى أن تجد شخصا يتابع تفاصيلها الصّغيرة، و يحسّن مزاجها المتعكّر، ويخلّصها من نفسها قبل أن تغرق في متاهات تهلكها، أصبح الحديث مع إبراهيم طقسا من طقوسها اليوميّة” (ص 31).
فقررت صابرين الزواج من إبراهيم ولم تظن أنها ستكون بطلة لبوح موجع عبر الرواية “لم تكتشف طباع إبراهيم إلّا بعد الزّواج، لم تتوقّع أن يكون بهذه القسوة، أدركت مع الأيّام أنّ نار أهلها أهون من جنّة زوجها. لكن الزّواج حسب عليها، ويجب أن تتكيّف معه، رغم كلّ الصعوبات التي كانت تواجهها” (ص 33).
وما أقسى حياة المرأة التي تخذل من رجل! حيث “لم تدرك صابرين حجم خسارتها بخروجها من الجامعة، وظّنت أنّ السّعادة رجل، تحتمي بحضنه كلّ فتاة، استمرّت خطبتها مدّة شهر فقط، وحدّد موعد الزّواج، كان إبراهيم يسابق الزّمن، فهو يريد أن يخلّصها من البيت الذي تتواجد به أمّها” (ص 31).
مع الأيّام أخذ إبراهيم يعيّرها بأمّها ويشدّد الخناق عليها، حتى لا تسير على نهجها، خلع قناعه تماما، اعتزل التمثيل، سيطر عليها بالكامل، وهي بسبب مماسكه على أمّها التي كانت سبب ضعفها التزمت الصّمت، لم تدافع عن نفسها، كان دوما يتهمّ أمها بأنّها على علاقة عميقة مع جارهم عبدالمجيد، ويهدّدها بإفشاء سرّها، ويصف أباها بالنّذل، وهي تتمالك نفسها، وتبتلع جوابها (ص 34).
والمرأة أيضا يقع عليها ذنب انجاب البنات وتعاير بهن “مرّت ساعات الليل متثاقلة حتى أوشك الفجر على البزوغ، وإبراهيم يتقلب في الفراش، وصابرين شريدة الذهن حزينة، أيام عصيبة مرت عليها، وهي تسمع كلمات قاسية وجارحة وتأنيب، وكأنها هي المسؤولة عن إنجاب البنات” (ص 45).
ذات يوم وبعد توسل من صابرين لإبراهيم، من أجل زيارة المسجد الأقصى والدعاء هناك، بعد أن أعلنت إسرائيل المحتلة عن تسهيلات، استطاعت زيارة أمّها بالخفاء فوجدتها كسيرة محطمة، فاقدة شهيتها للحياة، جسدا بلا روح، تبكي وتلعن نفسها وغباءها، وتشتم قلبها الذي جرّها نحو الهاوية، وكان سبب تعاستها، هدّأت صابرين من روعها، ولم تهن عليها وهي بهذه الحالة، رغم أنها كانت سببا في انهيار أسرة بكاملها، سألتها عن خلود زوجة أبيها، فأخبرتها بأنها تحكم وتأمر، وأبوها يخضع لجميع أوامرها، فتمنت أن تنشق الأرض وتبتلعها (ص 46).
صابرين كانت تتعرّض إلى شتّى أنواع الإهانات من قبل إبراهيم، الذي كان يضربها على أتفه الأسباب، مع أنّها لم تترك وسيلة من أجل تغييره إلا واتّبعتها، حتى أنّها حاولت مرارا إغراءه بأنوثتها النضرة من خلال ارتدائها لتلك الملابس التي تثير الرّجال عادة، دون جدوى، لم يعد ينادي لها باسمها بل يا ابنة سهاد، وينهال عليها بالضرب دون رحمة، فيشوّه جسدها ويلونه باللون الأزرق من شدّة الكدمات، وكان لا يتوانى عن فعل ذلك حتى بعد معاشرته لها (ص 50).
والسلطة الذكورية في الرواية سلطة مستبدة كما العدو الصهيوني فنجد إبراهيم “يحاول جاهدا أن يفقد صابرين ثقتها بنفسها، وفعلا نجح بذلك، فأصبحت ترى وجهها قبيحا، وفقدت رغبتها في كل شيء حتى الطعام” (ص 50).
وأيقنت مع الأيام أن إبراهيم يعاني من مرض نفسي وبحاجة لعلاج عاجل عند طبيب متخصص، كانت حركاته الغريبة، تشير إلى أنه إنسان غير عادي، أي نوع من الرجال هذا الذي يبصق في وجه زوجته بعد المعاشرة! خاطبت صابرين نفسها.
جاء إبراهيم بعد ولادة صابرين بساعة، وتحجج بأن هناك قضيّة أشغلته، وكان وجهه مسودّا أيضا، طلب رؤية البنتين، أذّن في أذنيهما، واقترح على أمّه تسميتهما، فسمتهما شذا وهدى دون أن تستشير زوجته (ص 53).
وكان حال صابرين وأخواتها من زوجة والدهم. أخذت زوجة أيمن الجديدة خلود تقسو على بناته أكثر فأكثر، مما أثّر سلبا على نفسياتهن وتحصيلهن العلمي، تراجعت فلسطين في جامعتها أيضا فهدّدتها زوجة أبيها بالخروج من الجامعة الأمريكيّة، وكان لها ما أرادت حين أقنعت أباها بذلك، فنقلها إلى جامعة القدس المفتوحة (ص 45).
طلبت صابرين الطلاق، فرفض زوجها فرفعت عليه قضيّة خلع، وتنازلت عن أولادها جميعا، بعد أن طفح الكيل معها. (ص127). واستعادت صابرين أنفاسها من جديد وحصلت على قسط من الحظّ هذه المرّة. لتتحرر من جديد وتبدأ في تحقيق طموحها وتردد أنا.. لا يهزمني سواي (ص 118).
ولم تجد إلا صديقتها داليا التي تختلف عن الأخريات حيث “كانت داليا الصديقة الأقرب إلى قلب صابرين تبوح لها بكلّ أسرارها، هي من مدينة جنين وعاداتها وأفكارها قريبة من أفكار صابرين، كانت دوما تمدّها بالعزيمة والإصرار، وتشجّعها على الدّراسة، وتقول تخصّص الصيدلة له مستقبل، أمّا ندى ابنة مدينة بيت لحم فكانت تغار منها، وتحسدها على جمالها، وأناقتها وتخبر زميلاتها بأنّها متكبّرة، وتطلق عليها الإشاعات (ص 18). أما صديقتها فادية متّزنة، عقلانيّة؟ لا تخشى أحدا عند قول كلمة الحقّ، وأكثر ما كان يعجب صابرين بها عدم استسلامها للمرض الخبيث، وإصرارها على الشفاء التّام منه، كانت تتحلّى بالأمل أكثر منها، وتشعر أنّ مصيبتها أكبر منها، وأنّ الله يوزّع الأقدار والأشياء بدقّة، فقد منحها الصحّة وسلب منها قوّة الإرادة، وابتلاها بالحساسية الزائدة، أمّا فادية فأصابها بالمرض، ومنحها الجبروت وقوّة الإرادة، والله إذا أحبّ عبدا ابتلاه” (ص 23).
أما علياء أخت صابرين تسرد لنا حياتها البائسة حيث عاشت علياء في قرية وفي بيت بسيط مع أهل زوجها ، وضع وجدي المادي لم يتح لها الفرصة لا بالعيش في بيت مستقل، ولا بإكمال تعليمها ، فقد كان يعمل في مصنع إسرائيلي يقع إلى الغرب من مدينة طولكرم بموازاة جدار التوسع الاحتلالي، هذا المصنع غير القانوني والمخالف للاتفاقات الدّولية الذي كان يستغل العمال الفلسطينيين، ويحرث عليهم مقابل مبلغ زهيد، فيضطر العامل للقبول تحت وطأة البطالة (ص 48).
وما زادت معاناة علياء التي لم تكفّ حماتها عن معايرتها بأمّها، فكانت تحمد الله أنّ علياء أنجبت صبيا، لأنّ البنت ستحمل العار مدى الحياة” (ص 50).
كانت علياء تعيش في ظلمة حالكة لا ينجلي سوادها، انحدرت كل أحلامها، هزمها الزمن وداس عليها بأقدامه، فكانت مثل ملايين المخنوقات بسبب روايات الحزن والأسى، كانت تجلس مع نفسها تتناول المهدئات، تحدث ربها، تشكو إليه همومها، وتطلب منه أن يعينها على مصائب الحياة (ص 59).
دخلت علياء لغرفتها وطرقت الباب خلفها بقوّة، رمت بجسدها على السرير وأخذت تخفق وتبكي بقوّة كما الأطفال، وتلعن الزمن الذي قسا عليها ولم يرحمها (ص 89).
علياء “غضبت جدّة وجدي بعد سماع الحوار وأخذت تدعو على كنتها وابنها لم ينتظر كي تنهي كلماتها وقبل أن تغلق الجملة صفعها صفعة ارتعدت لها أركان البيت، وسط ذهول أمّه التي وصلت خلفه ولم تأخذها تجاه البنت أيّ شفقه، فقط كانت تراقب ما يحدث، وتسجّل على لوح خيالها ما يصيب المرأة من عنف ابنها، بينما كان هو يمسك بها من شعرها ويسحبها بقوة باتجاه غرفة النوم، مشت معه بقوة جرّها من شعرها وهي تصرخ (ص 101).
طيب أهم شي تكمّلي تعليمك، شهادتك سلاحك، من بكرة روحي سجّلي بالجامعة. وبالفعل عادت علياء لجامعتها وصارت امرأة سعيدة وعصرية راسخة القدمين في هذا العالم، بعد أن هزمت الخراب الذي حلّ عليها، رمّمت نفسها من الداخل، حرّمت البوح على نفسها، أتقنت فنّ التجاهل، فاستقلّت في شقة صغيرة (ص 112).
أمّا فلسطين الأخت الثالثة لصابرين فلم تكن أسعد حالا ووقعت كما وقعت أختها من قبل فكانت فريسة لرضوان، الذي استطاع مع الأيام أن يجلب أنظارها نحوه، ويقنعها بأنه يحبّها ويريد الزواج منها، وبسبب الوضع الصعب الذي تعيشه التفتت إليه، مع أنه يكبرها بكثير من السنوات (ص 59).
زواج فلسطين في وقته المحدّد بحضور صابرين، علياء والسيّدة منيرة وباقي العائلة والأقارب، وكان كلّ شيء كما أرادت وأكثر ، فبدت ملكة حقيقيّة وهي تدخل على موسيقا كلاسيكية رائعة، تشبك بيد فارس أحلامها (ص 95).
فلسطين، كلهم كم جملة كتبتهم لرضوان، هو اللي استدرجني. جمانة هي الأخت الرابعة لصابرين والتي كانت تردد دائما، أنا ضحية أمّ فاشلة، وأب هامل، ومجتمع بائس، ورجل مريض. هذه أنا (ص 64).
ولم تدم سعادتها بعد فترة من الزواج اكتشفت الدّولة زواجهما، فطلقتهما على الفور، فالقانون هناك يمنع زواج المريض النفسي، وتمّ تسجيل جمان في بيت للنساء، وهو بيت مخصص لمثل هذه الحالات تقوم الدولة على رعايته، وتعتني بنزيلاته وتصرف عليهنّ، تأقلمت جمان مع المكان، شعرت بطمأنينة بعد أن رأت شتى أنواع العذاب في بيت طليقها، لكنّها صدمت بحمل لم يكن بالحسبان (ص 53).
اقترب موعد ميلاد جمان في إسبانيا، وابتسمت لها الدنيا من جديد، فبقدوم جنينها كل شيء تغير، شكل الزمان، وجه الأرض، لون السّماء، حملت روحا جميلة بين يديها، جعلت فرحة الأمومة تتدفّق في داخلها كما الأنهار، تلبس طفلها الحبّ والحنان ويلبسها الأمل والأمان، طفل جميل كالبدر يفوح عذوبة وطهرا ونقاء، استطاع أن يحوّل بيتها لبستان ورود، وكذلك رأفت الذي أصبح بالنسبة إليها مرفأ أمان فنجد صورة الرجل هنا مؤثرة وداعمة للمرأة، حيث عوضها رأفت عن كل ما خسرت وفتح شهيتها للحياة، وكتم الجرح الذي فتحته الأيام بقلبها، وملأه بالفرح والجمال حين قرّر الارتباط بها رغم فارق السنّ الكبير “ولم تجد حلا إلا الابتعاد لخلق مناخ جديد تعيش فيه حيث شعرت جمان براحة متناهية في غربتها، بعد أن وجدت من يستمع لها، وينتشلها من حزنها، فالنفس الكئيبة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تقاسمها الشعور، وتشاركها الإحساس، يستأنس الغريب بمن مثله في البلاد البعيدة عن مسقط رأسه، أخذت تجهّز لطفلها الصّغير برفقة صديقها رأفت، وشعرت بالدفء في بلد يخلو من جميع أهلها” (ص 119).
أما قهر المجتمع فاستطاعت صابرين وأخواتها أن يغيرن حياتهن للأفضل بإرادة قوية اتسمت بها المرأة الفلسطينية.
مما سبق فقد سلطت الكاتبتان في الروايتين على الواقع الاجتماعي الذي تعيشه المرأة حيث أبانت عن صورة الرجل في ظل مجتمع أبوي متسلط بأنانيته ونرجسيته ولكن لم تكن الصورة كلها موحشة فعرضت الروايتان صورا للرجل المحب والمضحي والداعم للمرأة أيضا.
ونرى أن الكاتبات العربيات يتركن بصمة متفردة في السرد الروائي الذي تناول أوجاع المجتمع وأنَّات الأنثى كموضوع ثري مهم يعكس مأساته، كما يجعلن أبطال روايتهن نساء مما أتاح لهن تسليط الضوء على الواقع الراهن للمرأة العربية ،وما يعتريه من منغصات بما يشمله من عنف وكبت اجتماعي يذهب بالمرأة نحو الرضوخ والتسليم. فكان خطابهن السردي مرآة عاكسة لكل تلك الفواجع، منها تصدع الواقع، وخاصة العربي، وكثرة انتكاساته حتى اليوم.