الرسائل “المستودع المقدّس” للأسرار

"للأنا دائمًا ثمة شيء يبرز في الرسائل" (ثيودور أودرنو)
الخميس 2022/12/01

كانت الرسالة أوّل أشكال الكلام الموجه من الله إلى البشر، فالأديان التي وصلتنا هي على حدّ عبارة جولين غرين رسالة شخصية وجهها الرب إلى كلّ واحدٍ منا فردًا فردًا، نُقلت عبر الوحي بواسطة أنبيائه إلى البشر، ثم اتخذت الرسالة أشكالاً مختلفة لكنها لم تَحِدْ عن أصلها كوسيلة تبليغ، ومن ثمّ فلا خلاف على الأهمية التاريخيّة والأدبيّة للرسائل التي يكتبها المشاهير من السياسيين والأدباء والفنانين، فصندوق الرسائل – كما قال شيشرون – “مستودع مُقدّس، يضع فيه الناس أسرارهم وهم واثقون من أنهم قد أَلْقوا بها في مكان أمين، وأن ما حوته من الأسرار لن يطّلع عليه إلا المـُرسَلة إليهم” [1]، وهي – أيضًا في ذات الوقت- “مرآة القلب الصّادقة التي ينعكس عليها ما يدور بخلد الإنسان وما يخفِيه في قرارة نفسه” [2].

كما تبدو الرسائل - حسب تعبير نزار قباني - “الأرض المثالية التي يركض الكاتب عليها، كطفل حافي القدمين، ويمارس فيها طفولته بكل ما فيها من براءة وحرارة وصدق. إنها اللحظات الصافية التي يشعر فيها الكاتب أنه غير مراقَب وغير خاضع للإقامة الجبرية” [3].

وترى إليزابيث هاردويك - الروائيّة والناقدة الفنيّة في مقال نُشر عام 1953 عن المراسلات الأدبية – أهمية الرسائل في كونها “مفيدة كوسيلة للتعبير عن النفس العُليا المثالية، ولا توجد طريقة أخرى من طرق التواصل تضاهيها في تحقيق هذا الغرض. في المحادثات تمثّل تلك الأعين المثيرة للقلق التي تتطلع إليك، وتلك الشفاه المتأهّبة للتصحيح حتى قبل أن تبدأ الحديث، رادعًا قويًا لعدم الواقعية، بل للأمل”.  وعن أهمية الرّسائل يقول شوفلي دي جوكور “ما من كتابة تمنحنا قدرًا من اللّذة مثلما تمنحه رسائل العظماء. إنّها تدغدغ قلب القارئ ببسطها ما في قلب الكاتب. فرسائل العباقرة والراسخون في العلم ورجال الدولة، كلّها موضع تقدير في اختلاف أجناسها” [4].

والرسائل أو - بتعبير المؤرخ البريطاني سيمون سيباغ مونتيفيوري - “التاريخ المكتوب”، تُعتبر بمثابة “وثيقة حيّة تُسجّل الحياة العقليّة لكاتبها، وتُعين على تحليل غرائزه وعواطفه، والأُسس الحقيقيّة التي تقوم عليها أعماله” [5]. علاوة على أنها تبرز أدوارًا جديدة (ومتناقضة) لكاتبها، فالفارس الشجاع في ميدان المعركة، ضعيف جبان في ميدان الحب والعشق، والشخصية الجادّة في حياتها العمليّة، مرحة ومتحرّرة من القيود والرسميّات في رسائل الهيام والعشق [6].

وبالنسبة إلينا كقرّاء، فالرسائل تُرضي فضولنا في التلّصص على حيوات الآخرين، والاطلاع على مستودع أسرارهم، ورؤية الجوانب (المخفيّة) الإنسانيّة الأخرى لأبطالنا، كالنميمة عند (هنري جيمس) والخيانة في حياة (سيلفيا بلاث) والشَّبق في شخصية (جيمس جويس)، والخذلان والتخلّي كما في (علاقة  الشاعر روبرت لويل وزوجته الناقدة الأدبية إليزابيث هاردويك، بعد أن تركها هي وابنتهما، منجذبًا  للكاتبة الأنغلو - إيرلندية كارولين بلاكوود)، والعنف والضعف الإنساني على نحو ما رأينا في رسائل سيلفيا بلاث إلى طبيبتها، وبالمثل رسائل دوستويفسكي لزوجته آنّا جوريجوريفنا، أو حتى الصّراحة المؤلمة والموجعة كما فعل الشاعر “ت . س. إليوت” في رسائله إلى “إيميلي هيل”، فهو يصفها بأنها كانت مُحبطة، بل كادت تقتل الشاعر الذي بداخله، فعلى حد وصفه “لقد لاحظت بالفعل أنها ليست من محبي الشعر، وبالتأكيد لم تكن مهتمة كثيراً بأشعاري. لقد كنتُ أشعر بالقلق إزاء ما بدا لي دليلاً على تبلد مشاعرها، وذوقها السيء” [7].

وقد يرجع السبب في البوح والصراحة اللذيْن لا نجد لهما مثيلاً في فنون كتابة الذات (كالسيرة الذاتية، والمذكرات، واليوميات، ورواية السيرة الذاتية، وغيرها…..)، كما يقول معاوية محمد نور – في مقالة بعنوان “الخطاب فن أدبي ضائع” - إلى “أن الإنسان في الخطاب (أي الرسالة) يُرسل نفسه على سجيتها من غير إعمال ولا إرهاق ولا تنطُّع في التعبير أو تكلّف في التفكير، وحسبه أن يكتب ما يُمليه قلبه ويصل إليه تفكيره من غير خوف من نقد أو رجاء في حمد أو ثناء [8].

وهذه التعرية الصادقة أو - بتعبير كافكا - “التعري أمام أشباح” [9]، التي تتيحها الرسائل، كسرت النظرة العلوية للكُتّاب، فهم ليسوا آلهة، بل بشرًا علامات الضعف البشري تبدو عليهم بصورة أكثر مما نراهم عليها في كتاباتهم الإبداعية، وهو الأمر الذي جعل من أندريه جيد الأديب الفرنسي الشهير، يأسف بعد أن اضطلع على رسائل دوستويفسكي فهو كان يأمل “العثور على (إله) في رسائل دوستويفسكي، ولكنه اكتشف أنه أمام إنسان بائس، متعب، مريض، محروم من هذه الصفة التي يعيبها هو نفسه على الفرنسيين وهي البلاغة!” [10] وبالمثل وجد نقاد كافكا – أمثال تشارلز أوزبورن – في رسائله العاطفية إلى ميلينا “إنسانًا عذبًا، يتبدّى عاشقا قد استرخى، في غير انتباه، إلى حين، لإلهات النقمة اللائي يطاردنه” [11]. والسبب في البون الشائع بين شخصية الكاتب وتلك كاتب الرسالة، يعود – في المقام الأول – إلى أن كُتاب الرسائل يستخدمونها لغرض داخلي أي “كي يقولوا شيئًا ما لشخص ما” وبذلك يكون الآخر المرسَلة إليه الرسالة بمثابة الوسيط لحوار ذاتي لا متناهٍ على حد قول لويس غروس [12].

تطمح هذه الدراسة إلى دراسة رسائل (منتخبة) من الشرق والغرب؛ لكُتّاب وفلاسفة وقادة وغيرهم ممن تبادلوا الرسائل مع آخرين؛ لبيان أولاً قيمتها الجمالية، وثانيا لإظهار المسكوت عنه في حياة أصحابها؛ إذْ تكشف الرسائل عن الكثير من المضمرات في حياة أصحابها، والعلاقات وتطوّرها وأفولها، وفي بعضها تكشف عن سمات وخصائص العصور التي كُتبت فيها، وموقف المجتمع - وتحديدًا الأصولية أيًّا كان توجهها - من العشق والعشاق، فمحاكمة العشق وما ينتج عنه من كتابات غير مقتصرة على عصر بعينه، أو ثقافة بعينها، بل سادت في جميع العصور ومختلف الثقافات الغربية والعربية.

التاريخ المكتوب

رسائل ضمنية

عرف العرب فن الرسائل قديمًا، فقد استعملوها في جاهليتهم للتعبير عن بعض شؤونهم، وقد رأى البعض أن الرسالة كانت قريبة إلى حدّ ما بالخطابة [13]، وفي عصر النبوة شاعت الرسائل بصورة كبيرة؛ إذْ كانت هي وسيلة الاتصال بين الرسول الكريم والملوك والحكام لدعوتهم إلى الإسلام، فأرسل مع موفديه رسائل إلى “هرقل ملك الروم، وكسرى ملك الفرس، والمقوقس عظيم القبط، والنجاشي ملك الحبشة، ووائل بن حجر في حضرموت”، وقد اعتمد فيها وسائل الإقناع والتأثير لترغيبهم في الإسلام، كما اتسمت بطابع إسلامي حيث البدء بالبسملة والحمد والثناء، وتضمنت آيات من القرآن الكريم، وغيرها من وسائل بلاغيّة حجاجيّة.

وقد بلغ الاهتمام بالكتابة والمراسلات في عهد النبي، أن وصل عدد كُتّاب النبي صلى الله عليه وسلم، إلى ثلاثة وعشرين كاتبًا، وهناك مَن يقول إنهم ثلاثة وأربعون كاتبًا، ومَن جعلهم خمسة وأربعين كاتبًا” [14]، وقد شكّل منهم الرسول الكريم ما يمكن اعتباره أوّل ديوان للرسائل في الإسلام [15]، فجعل لكل كاتب مهمة معينة: فزيد بن ثابت (رضى الله عنه) كاتب الملوك، ومعاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) كاتب البوادي، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) كاتب المعاهدات، والزبير بن العوام (كاتب أموال الصدقات).

ازدهر فن كتابة الرسائل الأدبية عند العرب في القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر الميلاديين) وأنشئ ديوان يسمّى “ديوان الرسائل” وكان يعنى بشؤون المكاتبات التي تصدر عن الخليفة إلى ولاته وأمرائه وقادة جنده وملوك الدول الأخرى. وقد اشتهر عبدالحميد الكاتب الذي تولّى أمر “ديوان الرسائل” وعرف ببراعة الأسلوب وإتقان الكتابة في عهد مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية. وقد بلغ فن الترسل أوجه في هذا العصر. ويرى جرجي زيدان أن “لكل عصر إمام في إنشاء المراسلات كعبدالحميد وابن المقفع في العصر العباسي الأول، والجاحظ في العصر الثاني، وابن العميد في العصر الثالث” [16].

وكان لاتساع رقعة الدولة الإسلامية، الدور المهم في ازدياد الحاجة إلى الرسائل، فصارت مهنة الكتابة مرغوبة ومن أرفع المناصب، ومن ثمّ فمن يدخل إلى ديوان الرسائل “يمتحن، وكان لا بدّ له من إتقان صناعة الكتابة، مع ثقافة لغوية وأدبيّة وتاريخيّة وسياسيّة ودينيّة، وغير ذلك” [17]. وللعرب باع طويل في الرسائل من ذلك رسائل عبدالحميد الكاتب، ورسائل الجاحظ، وابن العميد، و«رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، ورسالة ابن حزم الأندلسي في الحب التي جاءت بعنوان «طوق الحمامة في الألفة والإيلاف» [18]، وعبرها فكّك الحب ووصف أشكاله بدقة. بالإضافة إلى رسائل إخوان الصفا السّرية المعروفة بـ”رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء”.

وطوّرت ثقافة التراسل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نموذجًا خطابيًّا جدّ مميز، كما يقول لويس غروس؛ إذ بدأ شيئًا فشيئًا يتخلّى عن الطقس الاجتماعي، وعن القواعد الخاصة بالدينامية الشفهية. وبدأ تبادل الرسائل، في فكر الكاتب المنعزل يعمل كنوع من التطهير الروحي للحالات النفسية والتخوفات والحماسات والنواقص والاحتياجات التي لم تكن تجد متسعًا لها (وما زالت) في الكلام المباشر [19]، ومن ثم صارت الرسائل الوسيلة الوحيدة للتعبير عن العالم الداخلي للأفراد، وكذلك وسيلة لمواجهة الاغتراب الروحي المتزايد الذي كانت تحدثه الصورة الصناعية، فكما يقول إدورنو “إن للتقنية الدور الأكبر في تجرد هذا الجنس من أدني شروط وجوده” [20].

وتنقسم الرسائل إلى ديوانيّة (رسميّة)، وإخوانية (شخصيّة)، والرسائل الأدبيّة، وهي رسائل يكتبها شخص ما في موضوع ما، لا تطول لتصبح كتابًا كبيرًا، بل هي أشبه بالمقالة أو البحث القصير، وما ورد عن الجاحظ كثير منه يدخل ضمن هذا النوع، حيث ترك لنا الجاحظ مجموعة من الرسائل، كانت بمثابة نقلة فنية في النثر الفني في القرن الثالث الهجري، لكن أهم سمة من سمات هذه الرسائل أن الجاحظ اقتحم على الشعر أبوابه، وشاركه ميادينه، وأخد ينافس عليها منافسة قوية رائعة، فاستطاع أن ينقل موضوعات الشعر: كالرثاء والهجاء وغيرهما إلى النثر، وكما يقول: طه الحاجري في تقديمه للرسائل “وأن يفتح – بذلك – لهذه الموضوعات أفقًا أرحب، وعبارة أسمح، وتجاوبًا مع النفس العربية الجديدة – التي صقلتها الحضارة، وأرهفها الترف، ومدت من جوانبها المعرفة – أدق وأصدق” [21].

فتنوّعت أغراض الرسائل عنده ما بين رسائل أدبيّة، ورسائل في الصداقة، وأخرى في الهجاء والرثاء، على نحو ما فعل في رسالته الشهيرة “التربيع والتدوير” [22] في هجاء غريمه محمد بن عبدالوهاب، وكذلك في هجاء “محمد بن الجهم”، فالرسالتان ضرب من ضروب الهجاء، ومما جاء في الأخيرة قوله “وسأخبرك عن هذا الرجل، من لؤم الطبع، وسخف الحلم، ودناءة النفس، وخبث المنشأ، بما يشفي الصدر ويثلجه، ويبين عن الغدر فيه ويكشفه، وأستشهد بالعدول، وأهل المخيلة والعقول، على أني لم أر له محتجًا، ولا عنه مكذبًا، ولا رأيت أحدًا يرحمه، أو يحفل به، أو يُمسك عنه، أو يشفع فيه” [23].

أما رسالته “رثاء وتأبين”، فهي صورة مفصّلة لشاب اخترم في عنفوان شبابه، يصوّر فيها الجاحظ (الموت) في جميع حالاته وملابساته، منذ أخذت بوادره تتدسس عليه، إلى أن غيّب في قبره. لم يترك شيئًا من موضوعات عامة أو خاصة إلا كتب عنها الجاحظ، فكتب رسالة في “فصل ما بين العداوة والحسد”، يتحدث فيها عن نفسه، وعن تعرّض الحساد له، ونيلهم منه وغضبهم من منزلته، وكأنه يكشف فيها عن صورة من صور حياته، وتعرضها للخوف بعد أمن، واضطراب بعد طمأنينة، وقد تبارى الجاحظ في إظهار طبقات الحُسّاد، فهناك الحاسد الجاهل، وهناك الحاسد العارف، إضافة إلى رسالة “كتمان السر وحفظ اللسان”، وهي رسالة غرضها النصح لوزير شاب لم يتمرّس بعد بأسباب الحياة، ليُجنِّبه ما تورطه فيه غرارة الشباب من مزالق، وأول شيء يجب أن يأخذ به هو “ضبط لسانه، وحياطة أسراره”.

ولئن كان الكثير من رسائل الجاحظ مجهولة الشخص المرسَل إليه، وإنما موجهة إلى القارئ بصفة عامة كما في رسالته الشهيرة “الجد والهزل”، فإنه في بعض رسائله المرسل إليه محدّد وواضح، كما في رسالة “المعاد والمعاش” أو الآداب، وهي موجهة إلى “أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد”، فغرض الرسالة هو توجيه الشخص وإرشاده، ومن ثمّ فمفهوم الرسالة عند الجاحظ لا يتوقّف عند المعنى الاصطلاحي للرسالة باعتبارها “فن قائم على خطاب يوجهه شخص إلى شخص آخر، أو يوجهه مقام رسمي إلى مقام رسمي آخر” [24]، وإنما إلى معنى أشمل، فهي بمثابة قطعة من الأدب، أو أشبه بالمقالة والبحث .

ونظرًا إلى هذه الأهمية – التاريخيّة والأدبيّة – وُصِفت الرسائل بأن لها “أَرْوَاحًا، وإنها لتتكلم، وإن فيها من القوة ما يُعبّر عن نشوة القلب، وليس ينقصها شيء من حرارة العواطف، وإنها لتبعثها في القلب كما يبعثها الكاتب نفسه، وفيها كل ما للكلام من رقةٍ وحنو، وقد يكون فيها أحيانًا من الجرأة على التعبير ما لا يستطيعه الكلام” [25]؛ فالرّسائل الشخصيّة – ببوحها وفضفضتها اللامحدوديْن – تكشف الأبعاد المُضمرة للشخصيات، وكذلك السياقات الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي ارتبطت بالزمن المستعاد (أو الزمن المفقود – الزمن الحُلم).

كما أنها تُقدّم المراحل الهامة التي ساهمت في نحت مسار التكوين النفسيّ للشخصيّة، وفي سبيل ذلك تسعى – دون قصد بالطبع – لأن تُقدّم صورة لتطورات الشخصيّة، وتحوّلاتها من الحبّ إلى الكراهية، والقوة إلى الضعف، والإقبال على الحياة إلى الانسحاب منها، والمرح إلى الاكتئاب.

الرسائل وإشكالية النوع

رسائل ضمنية

تنتمي الرسائل إلى كتابات الذات (الأدب الشخصي)، وفي ظني هي أصدق كتابات الذات جميعًا، فقد اعتبر مؤرخو السيرة الذاتيّة أنها أصدق الأنواع تعبيرًا عن الذات، لما أرجعوه إلى طبيعة الميثاق السّير ذاتي، الذي يتضمن اعترافًا صريحًا بأن المكتوب بالضمير الأنا يعود إلى المؤلف الخارجي، وهو ما صاغوه عبر هذه المعادلة التي تنص على تطابق الهويات الثلاث: المؤلف، الراوي، الشخصيّة، فإن كثيرًا من كُتّاب السير الذاتية – مع إقرارهم بالميثاق السيري – خرقوا الميثاق، وتغاضوا عن أشياء – اعتبروها غير مهمة – بالحذف تارة، وبالتعويل على عاملي الزمن والنسيان تارة ثانية، ولم يفصحوا عن ذواتهم الحقيقية، بما في ذلك السير التي اُعتبرت نموذجًا للسيرة الذاتيّة الخالصة، مثل اعترافات القديس أوغسطين، واعترافات جان جاك روسو.

فمعيار الصّدق هو الذي ينسب الكتابة إلى السّيرة الذاتيّة الخالصة، وهو معيار غير متوفّر في كثير من الكتابات التي تنتمي إلى السيرة الذاتيّة لاعتبارات خاصة بذات المؤلف نفسه، وأخرى خارجيّة تعود إلى السنّ، والذّاكرة التي تعمد إلى الاختيار والانتقاء في سرد الأحداث.

لكن على خلاف ذلك تعتبر الرسائل أكثر الأنواع صدقًا والتصاقًا بالذات، فعامل الذيوع الذي كان سببًا رئيسًا في تغاضي كتاب السيرة عن أمور شخصية في كتاباتهم، غير متحقّق في الرسائل، فطبيعة الرسائل التي هي – في أصلها  الظاهر – حديث مع غائب، منحصرة بين شخصين لا ثالث لهما، ولا تستهدف النشر والذيوع بعكس السيرة الذاتية والأنواع المحايثة بها كاليوميات والمذكرات وكتب الوقائع، وغيرها، فالأصل هو السّرية والكتمان، فهي في المقام الأول شخصيّة، لا تتجاوز المرسِل والمرسَل إليه، ومن ثمّ درجة الصدق والصّراحة والبوح تكون أعلى من مثيلاتها من سرديات الأدب الشّخصي الأخرى. وقد قيل إن “الحقيقة حول كاتب ما يجب أن يُبحث عنها في مراسلاته، وليس في أعماله. فالأعمال – في أحيان كثيرة – ما هي إلا قناع” فكما يقول إ. م. سيوران “يمثّل نيتشه في أعماله أدوارًا، فيتقمص دور القاضي والنبي، ويهاجم الأصدقاء والأعداء، ويتموقع بغرور في قلب المستقبل. في المقابل، يشتكي من أنه شخص بائس ومريض، وإنسان تعيس، على العكس من تشخيصاته القاسية وتنبؤاته، التي هي حقيقة مجموعة خطابات لاذعة” [26].

لا يخفي كاتب الرسائل هويته (اسمه العلم) أو حتى يستعير ضميرًا يعمد إلى إحداث مسافة بين الذات الساردة وذات المؤلف، فطبيعة شكل الرسائل قائمة على وجود طرفين دائمًا حاضرين في الرسالة، المرسِل الذي يزيّن خاتمة الرسالة باسمه أو بأحد حروفه، والمرسَل إليه الذي يتوجه إليه الخطاب مباشرة منذ بداية الرسالة، وهي في أغلبها ذوات حقيقية واقعية، تعود إلى شخصيات لها مرجعياتها، باستثناء رسائل قليلة من مجهولين. يحدث فيها تغييب الاسم العلم للراسل عن عمد، كما سنرى في رسالة المجهول الذي كان يوقع باسم “فاخرة هانم” إلى الأديب إبراهيم عبدالقادر المازني، مستغلاً حالة الحرمان العاطفي التي كان يشعر بها الأديب.

وبالنسبة إلى بنية الرسائل، فهي بنية مميزة، إذْ تعتمد شكلاً يحضر فيه المرسِل والمرسَل إليه، وبينهما موضوع الرسالة، كما عادة تستهل بصيغ تتفاوت بين عزيزي وصديقي وحبيبي وأمّي الغالية، وغيرها من صيغ تتغيّر وفقًا لطبيعة العلاقة بين المرسِل والمرسَل إليه، وما ينتابها من تغيرات، فمثلاً في رسائل نابليون إلى جوزفين هكذا تبدو صيغة الخطاب: (إلى المواطنة بونابرت، شارع شانترين، رقم 6، باريس. حرية – جيش إيطالي – مساواة، من مقر القيادة العامة، 5 فلوريال، السنة الرابعة من الجمهورية الفرنسية، واحدة ولا تتجزأ. القائد العام لجيش إيطاليا، إلى صديقتي العذبة). ثم بعد ذلك إلى جوزفين، وأحيانًا يشير إلى مكان تواجدها، هكذا: إلى جوزفين في ميلانو، إلى جوزفين في جنوا، إلى جوزفين في بولونيا، إلى جوزفين في باريس.. إلخ.

وقد انتهى هذا ببعض مُحلّلي الخطابات إلى الاهتمام بصيغة الخطاب، على نحو ما فعلوا مع خطابات شيشرون، فوضع بيس (pease) حجر الأساس في معرفة عبارات التحية في الخطابات بشكل عام، فيذكر أن الرومان قد اعتادوا أن يبدؤوا خطاباتهم بصيغة ثابتة تتمثل في ذكر اسم كاتب الخطاب في صيغة الفاعل nominativus ، يتبعه اسـم المرسـل إلیـه فـي حالـة القابـل dativus، ويلي اسـم المرسـل إلیـه عبـارة التحيةsalutem dicit  (يقول تحياتي/يرسل تحياتي) التـي كانـت في كثير من الأحوال يتم إغفالها أو كانت تُكتب مختصرة.، وفيما يتعلق باسم المرسِل والمرسَـل إلیـه فكـان يكتـب إما كامًلا بأجزائه الثلاثـة:praenomen  اســـــم الأب”، و: nomen “اسم الشخص”، و: cognome “اسم العائلة”، أو كان كاتب الخطاب يكتفي بجزء أو بجزأين من الاسم” [27].

كما يتكئ الخطاب السردي في الرسائل على الضمير الشخصي المتكلّم الأنا، فلا مجال لاستخدام ضمير الغائب، أو غيره من الضمائر التي يلجأ إليها الكاتب كحيلة للاختفاء، كما يحدث في السيرة الذاتية أو رواية السيرة الذاتية، وهذا الاتكاء يحيل إلى سرد ذاتي فضمير المتكلم كما يقول بنفينست “يحيل دائمًا إلى الشخص الذي يتكلم، والذي ندركه من فعل كلامه نفسه”[28]، فالتصاق الأنا المتكلم الراوية بالمؤلف لا مجال فيه للشك، على عكس أنواع أخرى قد لا يشترط أن تكون الأنا عائدة على المؤلف الخارجي، فالسارد يصبح “شخصية في محكيّه” [29].

فكرة التراسل قائمة على تبادّل الرسائل بين طرفين: المرسِل والمرسَل إليه، وفعل الاستجابة للرسالة من المرسَل إليه، عنصرٌ مهمٌّ، في ديمومة الرسائل وعدم انقطاعها، ومن ثمّ نجد إلحاحًا مِن المرسِل للمرسل إليه، على ضرورة الإسراع بالردّ على رسالته، ففرويد يُحذّر خطيبته “لا أريد أن تبقى رسائلي دائمًا دون ردّ، وسأتوقّف فورًا عن الكتابة إليك إذا لم تجيبيني”، والسبب عنده لأن “الحوارات الأحادية الأبدية التي لا يصحّحها أو يغذيها المحبوب تنتهي إلى أفكار خاطئة حول العلاقات المتبادلة، وتجعلنا غريبين عن بعضنا البعض، عندما نلتقي مجدّدا ونجد أشياء مختلفة عن تلك التي كنا قد تخيلناها، من دون أن ترقى لدينا إلى درجة اليقين”. إذا كان فرويد حذّر من أن تصبح الرسائل أحادية، أي من طرفه، فإن نابليون بونابرت استشاط غضبًا بسبب الإهمال من زوجتنه ومعشوقته جوزفين، التي كانت شحيحة الرد، منصرفة عنه إلى الصالونات والحفلات؛ لذا تتوالى صيحاته وثوراته - في رسائله - بسبب تأخّر الرسائل فيقول في إحدى رسائله “جوزفين: لم تصلني منك رسالة منذ الثامن والعشرين…”، ومرة ثانية “كل البُرُد تصلني دون أن تجلب لي رسالة منك… عندما تكتبين لي، بكلمات قليلة، لا يدل أسلوبك على مشاعر عميقة” [30]، تصر جوزفين على تجاهل الرد على رسائله، وفي المقابل يزداد غضبه، ويبدأ إحدى رسائله هكذا “منذ شهر لم أستلم من صديقتي الطيبة إلا رسالتين، كل واحدة منهما مكوّنة من ثلاثة أسطر فقط؟ هل هي منشغلة؟ ألا تحتاج للكتابة إلى صديقها؟ مذ ذاك ألا تفكر فيه، العيش من دون التفكير بجوزفين سيكون بالنسبة لي الموت والعدم” [31]. وعندما تتمادي في عدم الرد، يستعطفها برسالة رقيقة قائلاً “ألن تكتبي لي من الآن فصاعدًا، ألن تفكري بصديقك الطيب، أيتها المرأة القاسية! ألا تعلمين أنه دونك، دون قلبك، دون حبك، لا توجد سعادة أو حياة لدى حبيبك” [32].

ولأهمية الرسائل اعتنى بها مؤرخو الأدب ونقاده – قديمًا وحديثًا – على اختلاف كُتّابها؛ سياسيين، أدباء، فنانين، قادة عسكريين.. إلخ، فجمعوا ما وصلت إليهم أيديهم، في كتابات منفردة تارة، أو في كتابات مجمّعة تارة ثانية، ومن هذه الكُتب التي احتوت على العديد من الرسائل “رسائل البلغاء” [33] وهي الرسائل التي عني بجمعها محمد كرد علي (1876 – 1953)، والكتاب يحتوي ما عُرف من رسائل لـ”عبدالله بن المقفع من الأدب الصغير والأدب الكبير وغيرهما، وما لعبدالحميد بن يحيى الكاتب من الرسائل والنتف والحكم، وعلى الرسالة العذراء في موازين البلاغة، وأدوات الكتابة لأبي اليسر إبراهيم محمد بن المدبر ورسالة أبي حسن علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح، إلى أبي العلاء المعري، وملقي السبيل للمعري، ورسالة رشيدالدين الوطواط فيما جرى بينه وبين الزمخشري ومنتخب من عهد أزدشير في السياسة، وكتاب الأدب والمروءة لصالح بن جناح الربعي، وكان غرض تجميع هذه المنتخبات من الرسائل كما يقول محمد كرد علي في مقدمة الطبعة الأولى التي صدرت عام 1326هـ، هو إفادة الطلاب بكلام “أئمة البلاغة من أهل القرون الأولى”، ويستهل كتابه بعبدالله بن المقفع وعبدالحميد بن يحيى، لأنهما “كاتبان بليغان يصح أن يدعيا واضعي أساس الإنشاء العربي، وناهجي طريقة الكتابة المرسلة”.

يُقسّم الكتاب إلى قسمين؛ الأول يقصره على ابن المقفع وعبدالحميد الكاتب، ويبدأ منتخباته لابن المقفع بسيرة موجزة عن نشأته وحياته، وعلاقته بالحكّام، ثم يبرز أهم إسهاماته في التأليف والترجمة، وبعد ذلك يختار بعضًا من كتاباته، ويقوم في الهامش بتوضيح ما التبس من معانٍ، لتسهيل الفهم على القراء. ويولي اهتمامًا كبيرًا بابن المقفع، فيشغل حيزًا كبيرًا من الكتاب، كما إنه لا يكتفي بما أورده من نصوص اختارها من كتبه، وإنما يُذيّل هذا بحِكَم لابن المقفع، ثم رسالة ابن المقفع في الصحابة، وبعد أن ينتهي من ابن المقفع يورد رسالة لعبدالحميد الكاتب في نصح ولي العهد، وأورد الرسالة مباشرة على عكس ما فعل مع ابن المقفع الذي قدم لسيرته وحياته ودخوله الإسلام ثم زندقته وغيرها من أمور شخصية عنه. ويورد رسالة عبدالحميد إلى الكتاب التي جاء فيها “أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم فإن الله جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، ومن بعد الملائكة المكرمين أصنافًا، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات أسباب معاشهم، وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات، والعلم والرزانة. بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم ويعمر بلدانهم، لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون وألسنتهم التي بها ينطقون وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم… إلخ” [34].

أما القسم الثاني، فيعنونه بـ “الرسالة العذراء” في موازين البلاغة وأدوات الكتابة كتب بها أبواليسر إبراهيم بن محمد بن المدبر، ثم يعقبها برسالة ابن القارح إلى أبي العلاء المعري، ويذكر مصدر الرسالة، بقوله “ظفرنا بهذه الرسالة في خزانة كتب أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري كتبه أبوحسن على بن منصور الحلبي المعروف بالقارح إلى المعري، فأجاب عنها هذا في رسالة خاصة سماها ‘رسالة الغفران’ طبعت بمصر سنة 1321 هـ – 1903م، في مطبعة هندية. ثم يعرف بابن القارح. وفي هذا القسم يعرض لأوجه الشبه بين أبي العلاء وشوبنهاور، من خلال رسالة ‘ملقى السبيل’، وهي رسالة ألفها المعري في الطور الأخير من حياته ومن عزلته وانقطاعه (حوالي سنة 430هـ)، ويصف أسلوبها بأنه يشابه “الخطب البليغة ذات الفصول القصار التي كان يلقيها خطباء العرب كسحبان ووائل الباهلي وقس بن ساعدة وعامر بن الطفيل وأمثالهم بأسواق الجاهلية” [35].

وهناك كتاب “أشهر الرسائل العالمية من أقدم الأزمنة إلى الوقت الحاضر” [36]، والذي ترجمه محمد بدران في جزأين، وقد ضمّ 128 رسالة – مُنتخبة – لأشهر الرموز التاريخيّة منذ قبل الميلاد حتى القرن العشرين. ويقدّم المؤلف – فيه – لنا تمثيلات مختلفة لأشهر الرسائل، دون أنْ يقصرها على نوع محدّد، بل شملت ما يصف العواطف من حُبٍّ واستعطاف، وما يُعنى بالحادثات الهامّة التي غيّرت مجرى التاريخ، أو بالشخصيات البارزة التي كان لها أعظم الأثر في هذا العالم؛ ملوكًا كان أصحابها أو فلاسفة أو رجالَ دينٍ، رجالاً أو نساءً، شيبًا أو شبابًا.

جوهر هذه الرسائل يُلقي ضوءًا ساطعًا على أهم حوادث تاريخ الإنسانيّة: كبداية المسيحيّة والنهضة الأوروبيّة، والثورة الأميركيّة، والثورتيْن الفرنسيّة والروسيّة، والانقلابيْن؛ النازي والفاشي، وأيضًا على حياة العلماء الأعلام مثل دارون وهكسلي ومدام كوري.

وقد تأتي الرسائل كتهديدٍ صريحٍ واستخفافٍ بالخَصم، كما في رسالة دارا الثالث إلى الإسكندر، وهو يصفه فيها “باللّص الذي جمع حوله طائفة من اللصوص أمثاله، واتخذ طريقه إلى بلادنا” ويطالبه صراحة بأنْ “تُغادر من فورك المكان الذي تقدمتَ إليه”، وما إن وصلت رسالة دارا إلى الإسكندر، حتى أثارت غضبته وكاد يقطع رؤوس حامليها، لولا رجال حاشيته الذين هالهم الأمر، فرجوه أن يعفوا عنه، فأجابهم إلى طلبهم، وكتب إلى دارا قائلاً “ألا فاعلم أني عقدتُ النيّة على لقائك في ميدان القتال، وها أنذا سائر إلى بلادك، مُقِرٌّ بأني خادمُ الله، ضعيف ذليل، أتضرع إليه وأستغفره وأمجده” [37].

نفس الشيء نراه في رسائل أورلين إمبراطور الرومان وهو يأمر زنوبيا ملكة تدمر بأن تستسلم هكذا “عليكِ أن تُسلِّمي المدينة” بل يأمرها – هي وأبناؤها – بالرحيل حيث المكان الذي “أرتضيه لكم ويرتضيه مجلس روما الموقر” [38]، وهو ما قابلته الملكة بسخرية وتحدٍّ قائلة “ما من شك في أنك ستُبَدِّل يومئذ لهجتك” [39].

رسائل الاستعطاف

رسائل نسائية

ومن الرسائل ما يكون استعطافًا بطلب العفو والصفح، فأجريينا أم نيرون (وهي التي أعانته على اعتلاء عرش الإمبراطورية الرومانية في عام 54 ق. م، بدل برتنكس الوارث الشرعي) كتبتْ إليه تستعطفه، مُنكرة لتهمة الخيانة التي ألصقتها بها محظيته، وأن يعفو عنها، فراحت تُذكّره بأمومتها “لقد حملتُكَ في رحمي… وغذيتُكَ بدمي”، ومرة ثانية “ألستَ تعرف يا ولدي ما تنطوي عليه قلوب الأمهات كلهن من حب لأبنائهن؟ إنه حب لا تحده حدود” [40]. الغريب أن نيرون لم يتأثّر بدفاع أمه عن نفسها فأمر بإعدامها.

وهو ما حدث مع مدام دي ستال، عندما أرسلت إلى نابليون بونابرت، فبعد أن كتبت رواية بعنوان “دلفين” 1902، والتي أثارت صدمة عنيفة في الأوساط الأدبيّة في باريس لما حوته من آراء جريئة في الدين والزواج والسياسة، قرر نابليون – بعدها – نفيها بعيدًا عن باريس فأرادت أن تفوِّت الفرصة عليه، فسافرت إلى ألمانيا، ثم عادت – مرة ثانية إلى باريس – وحصلت على إذن من الحكومة الفرنسيّة بالإقامة على بعد ثمانية عشر ميلا من باريس، إلا أنها كانت تتسلِّل ليلاً إلى باريس تتجوُّل في شوارعها خلسة تحت ضوء القمر، ولما كتبتْ كتابها الثاني “كورن” 1807، أثار غضب نابليون وكتب ينتقدها، وأمر بنفيها من باريس، فأرسلت إليه رسالة ترجوه أن يلغي أمر نفيها، وقد وصفت الحياة التي تحياها في ظل المنفى بأنها “حياة لا تطاق”، ومن ثمّ راحت تتوسّل إليه وتصفه بأنّه “سيد العالم، ومولاي، وجلالتك”، فخاطبته قائلة  “إن الذين تغضب عليهم يا مولاي يلقون المهانة في أوروبا بسبب هذا الغضب” [41] ومع هذا فلم يأذن لها بالعودة، بل تمّ إتلاف كتابها عن ألمانيا.

ومن الرسائل ما يكشف عن عقيدة فلسفيّة ومبادئ لصاحبها، ففي رسالة الفيلسوف “سينكا” إلى “لوسليس” الفيلسوف الأبيقوري، مبادئ فلسفة سينكا الخُلقية التي تبحث في الأسفار والصحة والدين والعلوم والموت ومباريات المصارعين، والرّق وغيرها. ومما جاء في رسالته “يسرّني ما حدثني به بعض القادمين من عندك، وهو أنك تعيش مع عبيدك معيشة الصديق مع الصديق، قد يقول الناس ‘إنهم عبيد’ كلا أيها الرفاق عبيد! كلا: إنهم أصدقاء مُنزّهون عن الزهو والصّلف”.

كما أنه لا يجد غضاضة في جلوس الرجل مع عبيده على المائدة. بل يسخر ممن يظنون في الأمر ما يشينه ويحط من قدره. فعنده أن الذين يُسمُّون عبيدًا “خلق أمثالكم” متساوون في كل شيء “فتبسم لهم السماوات التي تبسم لكم، ويتنفسون الهواء كما تتنفسون، ويحيون كما تحيون، ويموتون كما تموتون”، وينتهي إلى قوله “عاملوا مَن هم دونكم كما تحبون أن يُعاملكم من هم فوقكم” ويوجه بأن يجب أن يُقدِّر الناس بأخلاقهم، لا بما يؤدونه من أعمال؛ ذلك أن الأخلاق يكسبها الرجل نفسه، أما الأعمال التي يؤديها، فإن الظروف هي التي تخلقها له”.

وقد تكون الرسائل بمثابة كاميرا توثّق ما حلّ بالبلدان من دمار وخراب، فسان جيروم في رسالة بعثها إلى صديق يشهد اضمحلال روما وسقوطها واصفًا الأحوال هكذا “لقد نزلت بنا في هذه الأيام مصائب تقشعر من هولها الأبدان، فقد ظلت دماء الرومان عشرين عامًا كاملة تُراق كل يوم في طول البلاد وعرضها من القسطنطينية إلى جبال الألب، واجتاح البلاد القوط والألانيون والهون والوندال” ونراه يتحسر على ما آلت إليه المدينة وقد سادت العالم من قبل، فغدت “أسيرة في يد الأعداء، يجتاحها القحط، ويموت أهلها من الجوع”.

من الرسائل التراثية التي كانت بمثابة تقرير لحوادث التاريخ وتسجيل لأحوال البلاد والعباد في تلك الفترة، المراسلات الخاصة بابن سناء المُلك والقاضي الفاضل البيساني، وهي الرسائل التي جُمعت في كتاب “فصوص الفصول وعقود العقول”، وهي مراسلات بين القاضي السعيد إلى القاضي الفاضل، والكتاب يعد وثيقة تاريخيّة وأدبية لعلميْن من أعلام ديوان الإنشاء في القرن السادس الهجري. الرسائل بقدر ما تكشف عن جوانب خفيّة في شعر ابن سناء المُلك فإنها في الوقت ذاته تكشف عن معنى القوميّة العربيّة ممثلاً في وحدة الجهاد بين مصر والشام ضد الغزو الصليبي، ووحدة الفكر والانتماء للقومية العربية، وهو اتجاه يسبق ما شاع عن ساطع الحصري، كما أن الرسائل لم تقف عند الشأن السياسي وآرائهم فيما يحدث من نكبات للأمة العربية وكيفية مقاومتها، وإنما يتطرق لقضايا أدبية ونقدية مثل التراث والمعاصرة، والطبع والصنعة والسرقات الأدبية وكذلك آراؤهما في شعر أبي تمام وابن الرومي والبحتري وابن المعتز وابن رشيق وغير ذلك من مسائل عديدة طرحتها المراسلات.

رسائل العشاق

رسائل العشاق

لا تخلو كتب الرسائل من رسائل تُخلّد قصص الحب والعشق، فكما يقول الكاتب الكندي جان ماري بوبار «إن حُبًّا دون رسالة هو حب لا يمكن أن يكون»، ومن هذه الرسائل رسالة هلواز وبيتر أبلار، الذي هو سليل الأُسَر الشريفة الموسرة في فرنسا في العصور الوسطى، كان قد حصّل من العلم ما لم يُحصِّلْهُ غيره من أبناء الأشراف، فهو أستاذ للمنطق في جامعة باريس، وواحد من كبار رجال كنيسة نوتردام، أما هلواز فكانت فتاة في التاسعة عشرة من عمرها من إحدى مدارس الأديرة، جاءت إلى بيت عمها لتستمع إلى محاضراته الشيّقة في باريس، وأُعجب بها أبلار، وأشاد بجمالها وصفاتها في رسالة لأحد أصدقائه، حتى أنه يظهر مقاومته لسهم كيبوبيد قائلاً “لقد حاولتُ عبثًا أن أتجنَّبُه (الحب)، وأنا فيلسوف ولكن هذا الحب العارم استبَدّ بعقلي فغَلَبَ على حكمتي، وكانتْ سهامه أقوى من منطقي واستدلالي”.

ومن أثر هذا الحبّ لم يقدر على أن يعيش من غير أن يراها، وظلا يلتقيان، وطلب الزواج منها، إلا أنها رفضتْ خشية أن تقضي هذه الخطوة على منصبه في الكنيسة، وكانت تردّد أمامه – في محاولة لإثنائه عن فكرة الزواج بها – “أليس الحب أقوى على ربط قلبينا من الزواج؟” وأمام إصراره على الزواج رضخت، وتزوجا وسافرا إلى باريس، فعرف فلبرت (عمها) فثار ثورة عارمة، بل وحرّض جماعة من السّفلة والأشرار فهاجموه في بيته، وبتروا بعض أعضائه، وفرّ أبلار إلى باريس وطلب منها أن تذهب إلى الدير.

ولم يجدا خلاصًا لهذا العذاب إلا بالرسائل التي كانا يتبادلانها، فتكتب له بعدما قضى الوشاة بينهما بالفراق قائلةً “إلى أن تحين هذه الساعة فكّر فيّ ولا تَنْسَني، واُذْكُرْ حُبي ووفائي، وأحبني أنا حبيبتك، وأعزني أنا طفلتك وأختك وزوجتك، واُذْكُرْ أني ما زلتُ أحبك، وإن كنتُ أحاول أنْ أتجنّب حبك”، فرّد عليها أبلار في وحدته ومن كوخ الغاب الذي يعيش فيه معزيًّا ما سببه لها من آلام قائلاً “أريد الآن أن أجفّف هذه العبرات التي تحدّرت من عينيك… وسأمزج حزني بحزنك، وأسكب دم قلبي بين يديك” ويكشف لها عمّا يعانيه بسبب هذا الفراق “ولقد بعدت عن شخصك لكي أتجنّب لقائك كما أتجنب الأعداء، ولكني لا أنفك أبحث عنك في أعماق نفسي، وأستثير خيالك في ذاكرتي، وأستعين بمختلف الوسائل المقلقة المزعجة لكي أناقض نفسي وأفضح سري، فأنا أبغضك وأنا أُحبك فيا للعار الذي يجللني من كل صوب” [42].

ثمّ تتخذ الرسائل طابعًا آخر بعد هذه الرسالة، فيعتنيان بالأمور الفلسفيّة والدينيّة، وتارة تطلب منه أن “يضع بعض القواعد لهداية الراهبات، وإرشاد الناس إلى أسلوب في الحياة خاص بالنساء وحدهن….” وتارة أسئلة واستفسارات عن العقائد الدينيّة، حتى أن أبلار حرص على أن تكون آخر رسالة له خطابًا “في الرهبنة والعفة والزهد والسكون”، وعند وفاة أبلار طلب أن تُسلّم جثته لهلواز، وبعد اثنتين وعشرين سنة من موته دفنت هلواز إلى جواره في مقبرة (بير – لاشيز) وكتب على قاعدة رخامية “هنا تحت حجر واحد يرقد مؤسّس هذا الدير الأب أبلار، ورئيسته الأولى هلواز، وهما اللذان جمع بينهما الدرس والعبقرية والحب والزواج المشؤوم والتوبة، وما نرجوه لهما الآن من سعادة”.

وقد تكشف لنا الرسائل عن عشاق يتخفُّون في ثياب سَاسةٍ وقادةٍ عسكريين، وكُتّابٍ وفنانين، وطُغاةٍ، فمن نابليون بونابرت وبيرون وبيتهوفن واللورد نلسون، إلى جوزيف غاريبلدي. وهي تدل – في نسقها المضمر – على أن هؤلاء القادة لا تُسْليهم المعارك عن معشوقاتهم، ولا تصرفهم ويلات الحرب وأهوالها عن الاستجابة لخفقان القلوب، فالسُّلطان سليمان القانوني بعد أن وَقَعَ في هيام جاريته حُرّم سلطان (الفتاة الروسيّة روكسلانا) وهو على أعتاب معركة جديدة يُرسل لها متغزلاً قائلاً “يا عرش محرابي، وثروتي، وحبي، وضوء قمري. صديقتي الأعز، خليلتي، جوهر وجودي، وسلطاني. الأجمل بين كل الجميلات، ينبوع وقتي، … سأغني مدائحك دائمًا”.

وبالمثل نابليون بونابرت القائد العسكري لم تشغله فتوحاته ومعاركه عن أن يُظهر عشقه ودلاله لمحبوباته، مرة “جوزفين” ومرة الكونتيسة “ماري لوسكا” التي كان يتوسّل إليها. ويقرُّ المؤرخون أن نابليون كتبَ أو أملى ما بين 55 و75 ألف رسالة، ما طُبِعَ منها تقريبًا 41 ألف رسالة، وقد خصّ جوزفين برسائل متعدِّدة، منذ أن عرض عليها صداقته، وظل متمسّكًا بحبِّه لها مع ما كان يحُيط به من أخطار في المعارك، ومنذ أن رآها وكانت أرملة في الثانية والثلاثين من عمرها، تعلّق بها وظل حبُّه لها مسيطرًا علي حياته، ولم تنقطع رسائله إليها رغم أخطار الحرب وشؤون الحكم، فقد أوحت لنابليون – كما يقول – “بحُبّ سلبَ عقلي، فلا أستطيع الأكل ولا النوم ولا العناية بالأصدقاء ولا الاهتمام بالمجد، وحتى النصر نفسه لا أقدره إلّا لأنه يدخل السُّرور عليك، وملأت قلبي حبًّا لا حدَّ له…”، ومن شدة حبه لها، يرسل إليها وهو على الجبهة رسالة بتاريخ (3 شباط 1796)، قائلاً “ما شربت كوباً من الشاي دون أن ألعن العظمة والطموح اللذين اضطراني إلى أن أكون بعيداً منك ومن روحك الوثّابة التي أذاقتني عذوبة الحياة. إنّ اليوم الذي تقولين فيه إن حبك لي قد نقص هو اليوم الذي يكون خاتمة حياتي”.

مرة أخرى يرسل إليها رسالة مظهرًا ضعفه من جراء هذا الحب الذي عصف به، وشغل عقله حتى في مهامه الجسام “لم أمض يوماً واحداً دون أن أحبّك، ولا ليلةً واحدة دون أن أعانق طيفك”.

وقد تخلّى نابليون وهو القائد السكري صاحب الانتصارات في المعارك عن جِدّه وصرامته العسكرية في رسائله، فكان عاشقًا يغضب لأن المحبوبة لم تُرسل إليه رسائل ردًّا على ما أرسل، فيقول: “لستُ أُحبّكِ مطلقًا، بل إني أمقتُكِ، إنكِ فتاة خبيثة سمجة حمقاء”، ويبيّن سبب ثورته وغضبه قائلاً “إنكِ لا تكتبينَ إليّ، إنكِ لا تحبينَ زوجكِ، وأنتِ تعرفينَ ما تدخِلُه رسائُلكِ من السرور على قلبه”. ومع شدّة معاناته معها بسبب إهمال رسائله، ونزقها، حتى إنه كان يطالبها “هلّا نزلت من عليائك… وتجشمت بعض المشقة من أجل عبدكِ”، كان خاضعًا لها فلم تنقطع عادة مراسلتها وهو يتنقل من بلدٍ إلى بلدٍ، ففي كلِّ بلدٍ كانتْ هي حاضرة يبثُّهَا أشواقه، وفقده لها، ورغبته في اعتصارها بين يديه، ولثمها، ويقرِنُ حبّه للنساء الطيبات الوفيات الحسان “لأنهن يشبهنك كما يقول لها” [43].

كما تفضح الرسائل مكنون النفس، فبيتهوفن الذي كان متحفظًا في موسيقاه، يفرض على نفسه أشدّ القيود كان على العكس تمامًا في رسائله، إذْ كان يُطلق لنفسه العنان، ويتدفق شعوره كالسيل، فيقول لجيليتا حبيبته “إن حُبّكِ لي عظيم ولكنّ حبي لكِ أعظم، فما أشقى الحياة  من غير أن تكوني معي”. ومرة ثانية يبعث إليها قائلا “أنا الآن في فراشي، ولكن أفكاري تحوم حولك يا حبيبتي الخالدة، وهي  آنًا أفكار سارة، وآنًا حزينة” حتى إنه يختار “إما أن أعيش كُلّي معكِ، وإما ألا أعيش أبدًا”، ومرة أخرى “إنّ حُبّكِ ليجعلني أسعد الناس وأشقاهم معًا” ولا يخجل من أن يعترف بأن الحب أذله “فما أكثر ما ذرفت من الدمع اليوم وأمس شوقًا إليكِ أنتِ أنتِ حياتي كُلّي الوداع حافظي على حُبّكِ لي ولا تشكّي قطّ في قلب مُحبكِ الوفي المخلص لكِ. فأنا لك أبدًا وأنت لي أبدًا وكلانا للآخر أبدا”.

الرسائل مرآة صادقة لما يحدث في الدهاليز، فبقدر ما تفضح مكنون النفس وجموحها في الهوى، هي أيضًا تفضح تدخلات السياسة، وإملاءاتها على الكُتاب، فمثلاً اقترح بعض الأصدقاء على مدام دي ستال أن تكتب شيئًا عن مولد ملك روما ابن نابليون؛ كي تنال رضاه، إلا أنها أبت، وبالمثل فعلت الروائية البريطانية جين أوستن، عندما طُلِب منها أن تكتب رواية غرامية تشيد بأمجاد آل ساكس كوبرج، وتهديها إلى الأمير ليوبولد، على غرار روايتها الأولى “إيما” التي أهدتها للوصِيّ بناء على طلب أمين مكتبة الوصي بحجرات القصر، إلا أن هذه المرة جاء ردُّها مُفحِمًا ومؤدبًا “ولكني عاجزة عن كتابة القصص الغرامية التاريخيّة عجزي عن إنشاء الملاحم الشعرية”.

وهناك رسائل تميط اللثام عن حوادث تاريخيّة مهمّة كحادثة الضابط ألفريد دريفوس، والتي كانت تنكيلاً بالمثقفين، فجاء خطاب إيميل زولا – الذي وصفه أناتول فرانس بأنه أكبر قوة دافعة في ضمير الإنسانية – كتسجيل لواقعة غيّرت علاقة المثقف بالسلطة، كما كشفت – وهذا هو الأهم – عن وظيفة المثقف التي كرست لها أطروحات أنطونيو غرامشي وجوليان بندا وإدوارد سعيد، لتضع المثقف في مواجهة الأزمات وتُنْزله من برجه العاجي، ليمارس دوره الإصلاحي والتنويري. فأرسل إلى رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك رسالته الشهيرة التي عنونتها الصحيفة بـ”إني أتهم”، والتي حمّل فيها الكثيرين من المسؤولين الحكوميين وأعضاء المحكمة وآخرين عدّدهم بالأسماء في عريضته؛ مسؤولية إدانة دريفوس يطلب منه أن يرد على الناس إيمانهم بالعدالة الإنسانية [44]. وقد كان من نتائج هذه الرسالة أن سيق زولا إلى المحكمة بتهمة القذف الجنائي، كما تعرض زولا وأصدقاؤه المدافعون عنه لأشد أنواع الأذى من اعتداء الرعاع عليهم. وبعد سنوات وتحديدًا في عام 1899 استدعي دريفوس وهو معتل الصحة من جزيرة الشيطان، وصدر عنه “عفو عن جريمة الخيانة”، ثم بُرّئ كاملاً عام 1906، عندما عاد إلى الجيش وأعيدت إليه شارته العسكرية في نفس المكان الذي جرد فيه منها من قبل، والأهم أن زولا عاد بعد ذلك إلى فرنسا ظافرًا.

وقد تكشف الرسائل عن معاناة المنفيين عن بلادهم وتوقهم إلى العودة إلى أرض المنشأ، فدانتي أليجيري حامل لواء الشعراء في العصور الوسطى أُبعد عن موطنه فلورنس عشرين عامًا، بسب حلمه بدولة عالمية تقتسم السيادة على العالم مع كنيسة عالمية، فيرسل لصديق مجهول رسالة ردًّا على رسالة يخبره فيها بأن عفوًا جرى، وعليه أن يستغله ليعود، إلا أنه رأى أن شروط العفو مجحفة تأنفها كرامته وعزته، فرد قائلاً “لن أعود إلى بلدي من هذا الطريق، فإذا كان ثمة طريق آخر، وجدته أنت نفسك، ثم وجده بعد ذلك غيرك، لا يثلم شرف دانتي ولا يشين سمعته، فإني لا أتردد في أن أسلكه ثابت الخطا (كذا) “[45].

يمكن أن تدرج رسالة الموسيقار العبقري بيتهوفن (1770 – 1827) لأخويه (كارل وجوهان) التي جاءت ضمن وصيته، ضمن الرسائل التي تكشف عن حوادث مهمة، فالموسيقار كشف في رسالته كيف تحدى الصمم، وتحايل عليه حتى يبدع أعماله الموسيقية التي شغف بها العالم، في الرسالة نراه يميط اللثام عن الكثير من جوانب شخصيته المبهمة لدى الآخرين، وهو ما كان له تأثير سلبي في تقييمه ومعاملته، وفيها يقول “يا من كنتما تحسبان أني إنسان عنيد أكره الناس، ما أظلمكما، إنكما تجهلان السبب الخفي، فإني منذ الطفولة كنت أحس أن نفسي وقلبي يتجهان نحو الخير، وكنت على استعداد دائم للقيام بأعمال عظيمة، لكن لا تنسيا أني منذ أعوام ستة أصبتُ بداء قاس زاده خطرًا عجز الأطباء، وقبلها ألفيتُ نفسي مرغما على العزلة قبل الأوان، بتجربتي المؤلمة في فقدان السمع، لم أتجرأ يومًا وأقول للناس تكلموا بصوت عالٍ، صيحوا إني أصم، كيف أعترف وأعلن ضعف حاسة كان ينبغي أن تكون أقوى مما عند جميع الناس، وأيتها القدرة الإلهية إنك لترين من عليائك ذلك القاع السحيق في أعماق قلبي وتعرفين إنه عامر بحب الإنسانية والرغبة في عمل الخير يا شقيقي (كارل وجوهان) إذا انتهت أيامي، وكان طبيبي الأستاذ شميث لم يزل حيًّا، فالتمسا منه باسمي، أن يصف دائي وأن يرفق ذلك بصفحاتي هذه، فلعل الناس بعد موتي يصفحون عني على الأقل. أما إساءتكما لي، فأنتما تعلمان أني قد صفحت عنها منذ أمد بعيد، وكل ما أتمنى الآن، أن تكون حياتكما أيسر من حياتي، وأن تعفيا مما رزئت أنا به من متاعب. وأوصيكما أن تعلما أطفالكما الفضيلة فهي وحدها – لا المال – السبيل الحقيقي للسعادة، وإني أتكلم عن تجربة فالفضيلة كانت كل سندي في محنتي، وإليها وإلى (فني) يرجع كل الفضل في إنقاذي من الانتحار… وداعًا وليحب أحدكما الآخر» [46].

رسائل الصداقة

رسائل الصداقة

موضوع الصداقة قديم قدم الإنسانية، وقد أولع به الأدباء والشعراء والفلاسفة والعلماء – كما يقول إبراهيم الكيلاني في تقديم رسالة الصدق والصديق لأبي حيان التوحيدي - محاولين استكناه حقيقة هذه الرابطة العجيبة وتعريفها وتحديدها وتحليل روابطها ودوافعها ونشوئها ودوامها وفسادها، ومن ثم كثرت الرسائل التي تتناول هذه الرابطة، فها هو الجاحظ في رسالته عن الصداقة يولي قدرًا كبيرًا للصديق، ويؤكد أنه “شقيق روحك وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك وتوأم عقلك”، بل هم سند في الغياب “فإنهم جند معدون [لك] ينشرون محاسنك، ويحاجون عنك”، ولذا يوصى “من كان معروفًا بالوفاء في أوقات الشدة وحالات الضرورة، فنافس فيه واستبق إليه؛ فإن اعتقاده أنفس العقد” (الجاحظ: الرسائل السياسية)، ولئن كانت رسالة الجاحظ جاءت ضمن رسائله المتعددة، فإن أبا حيان التوحيدي (310 هـ – 414 هـ)  أفرد لها كتابًا خاصًا، بعنوان “الصداقة والصديق”، وهو الشخص المكلوم بأصدقائه، ولم يذق من الناس إلا كل مرارة، فالناس عنده «سباع ضارية، وكلاب عاوية، وعقارب لسَّاعة، وأفاعٍ (جمع أفعي) نهاشة»، أما الصداقة فهي «للأسف مشوبة من الأزل بالحسد، مكدرة بالحقد مهددة دائما بالخيانة»، وهو الأمر الذي انعكس على رؤيته للصداقة، فتبدو رؤية تشاؤمية، فيبدأ كتابه بجملة تقريرية مفجعة ”وقبل كل شيء ينبغي أن تثق بأنه لا صديق ولا من يشبه الصديق“. كما أنه لا ينكر حالته النفسية وموقفه من الآخرين أثناء كتابته الرسالة فيقول “ومن العجيب والبديع أنّا كتبنا هذه الحروف على ما في النفس من الخرق والأسف، والحسرة، والغيظ، والكمد، والومد” ويكمل “فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسًا بالوحشة، قانعًا بالوحدة، معتادًا للصمت، مجتنفًا على الحيرة، محتملاً الأذى، يائسًا من جميع من ترى” [47].

الشيء المهم أنّ رسالة التوحيدي لم تأتِ مرة واحدة، وإنما هي كانت ممتدة طيلة فترة حياته “بدأها في سن الشباب، وانتهى من تأليفها في أواخر حياته”، ومن ثم فقد جاءت الرسالة انعكاسًا لظروف حياته، وكذلك تصويرًا لمجتمعه المضطرب، وإلى جانب هذا فهي متضمنه لبعض القضايا الفلسفية والأخلاقية التي كانت مثار جدل في هذا الوقت.

تدخل في هذا الإطار رسائل عبدالرحمن منيف، ومروان قصّاب باشي، التي حملت عنوان “في أدب الصداقة” [48]، وهي تحوي قصة صداقة سابقة على بدء الترسّل، كما يقول فواز طرابلسي في تمهيده، اشتملت المراسلات على ما يربو من 140 رسالة متبادلة بينهما، تبدأ من تاريخ 12/06/1990، مرسلة من عبدالرحمن منيف، من دمشق إلى مروان في برلين، انتهاء برسالة منيف أيضًا، وهي موقعة بتاريخ نهاية 2003. الرسائل بقدر ما كشفت عن كواليس الصداقة الخاصة بين الفنان والكاتب بكل تعرجاتها وأخطائها وعثراتها؛ حيث التقيا لأول مرة في باريس 1956، ثم بعد مرور 34 عامًا في باريس عام 1990، وطموحاتهما المشتركة، فإنه في الوقت ذاته تكشف عن هموم الفنان والكاتب، كما قدمت تقاطعات عن الحياة الشخصية لكليهما، لدرجة أن عبدالرحمن منيف يتخذ من هذه الأصداء التي يسترسل في ذكرها مروان، وهو يسرد عن نشأته وطفولته وعلاقته بوالده والفنون، وهجرته إلى دمشق، ثم حنينه الجارف إليها، مفاتيح “في تفسير بعض الأمور والرموز التي كثيرًا ما تظهر اللوحات”.

قصة صداقة سابقة

حافظت الرسائل على سمة الكتابة بخط اليد، على الرغم من ظهور تقنيات تواصل جديدة، كالفاكس والإيميل وقبلهما الهاتف، إلا أنهما أصرا على الاستمرار في كتابة الرسائل اليدوية وإرسالها بالطريقة التقليدية، أو مع بعض المسافرين من الأقارب والأصدقاء، وقد تبادلا في هذه الرسائل الأدوار، فأدى منيف دور الفنان، في حين أدّى مروان قصاب دور الكاتب، واشتغلت في جزء منها على مناقشات حول أعمالهما، حيث كانا يتبادلان الآراء فيما يفعلان؛ منيف فيما يكتب، ومروان فيما يرسم، أي كانت بمثابة محاورات فكرية بين الاثنين، فقد أثمرت هذه المراسلات على كتاب كتبه منيف عن مروان قصّاب باشي بعنوان “مروان قصاب باشي… رحلة الفن والحياة”. تشتمل الرسائل على وصف لحالات منيف النفسيّة وطقوسه في الكتابة، وآراء شخصية وسياسية وفكرية وأدبية لمنيف. لا تعتمد بنية الرسائل على البوح والفضفضة الذاتية، بل ثمة باعث أو حافز آخر على البوح يتمثل في الأسئلة التي يطرحها الطرفان، وتكون الإجابة عنها بمثابة رحلة داخليّة في الذات وكشف أغوارها، وهواجسها، وبعض الأسئلة متعلقة بالفن.

من الرسائل التي تجمع بين المرثية والرسالة الفكرية رسالة النسوية سارة أحمد علي إلى لورين برلنت (1957 – 2021) منظرة الدراسات الثقافية والنسوية. الرسالة جاءت عقب وفاة لورين، وتبدو فيها سارة في حالة من الأسى على هذا الفقد المباغت فتقول “عزيزتي لورين:… عندما نفقد شخصًا ما، نفقد الكلمات التي كان يمكن أن نتشاركها في ذلك المستقبل الذي لن يراه. لا كلمات كي أصف شعوري وأنا ألفظ هذه الكلمات: ماتت لورين برلنت. أنّكِ متِّ. لا كلمات، لكن بلى، فالكلمات الغائبة هي كلماتٌ تتطلّع لشيء ما، تصلنا بأحدٍ ما. ما زلتُ غير قادرةٍ على التصديق. لو أن التصديق يتمهّل قليلاً، خُذْ وقتَك لتصل، خُذْ وقتَك. كان حضوركِ مرشداً لي، كمَعلمٍ، كتلك الشجرة المميّزة في قوامها، أو ذاك البرج الذي ترينه وأنت قريبة منه أو بعيدة عنه، فيتيح لك أن تعرفي وجهتك، يدلّك على الطريق. أشعر بأنّي بلا وجهة، بلا بوصلة، من دون وجودك هنا. لستُ أعرف طريقي”.

تبدو الرسالة من مناسبتها رسالة رثاء، لكن مضمون الرسالة يكشف عن دلالات أخرى تضمرها معاني الرثاء، فهي تستعيد رسائل الصداقة التي كانت رائجة في الأدب العربي، وتأثير هذه الصديقة الغائبة كداعم معنوي (الحياة التي نفختها في كل أعمالي)، وأيضًا تأثيرها (علميًّا) في صديقتها، والأدوار التي لعباها معًا، فهي تعترف “أنا مدينة للورين برلنت وأسئلتها حول متى تصبح الأعراف أشكالاً، تلك الأسئلة التي كانت مصدر إلهام في أعمالي”، فتجمع الرسالة بين الذاتي والفكري؛ إذ تتقاطع الذاتان، وتقدم سارة أحمد وهي تستعرض لجوانب من علاقتها الشخصية بلورين تقاطعت لسيرتيهما الفكرية والذاتية؛ فاستعرضت لأبرز المحطات الفكرية في حياة برلنت، وتتحدث عن أسلوبها في الكتابة الذي أخذت منه الكثير، فلا تزال كلماتك ترشدني. أنا ممتنّة لها كلّها. يكفي أن أقرأ عدداً قليلاً منها حتى أعرف أنها كانت كلماتكِ. لديك أسلوب لا يشبه أسلوب أحد آخر، جمل حادّة ذات خليط عجيب، حادّة ومبهمة، تأتيكِ وتفلت منك في آنٍ معاً. بارعة أنت في التقاط التفاصيل، تدوزنين الجمل وسط الضوضاء والتشويش والفوضى كي تسمعي فرادة نوتة، حادّةٍ، واضحة حتى الموت. وجدتِ في مادة الحياة اليومية أدوات عدّة للتفكير، تقلبين الأشياء على رأسها، تنظرين إليها من نواحٍ مختلفة، كي تُضيء أو تلمع، أو تنظرين إلينا من نواحٍ مختلفة، كي نُضيء أو نلمع. لا أعرف أحداً ولم أقرأ لأحد بهذه القدرة على شرح صعوبة تَخلّينا عن الروابط العاطفية، حتى لو كنّا نحن من يمتلك الأدلّة على خلل تلك الروابط ونحن واعيات في الآن نفسه لإمكانية إعادة ترتيب الأشياء، لجعل الزلة بدايةً لقصة أخرى، في الوقت الذي نتخبّط فيه، ونواجه ما لا يرقى، بل لن يرقى إلى أن يصبح حدثاً”.

كما تعدد صفاتها الفكرية، فهي لديها القدرة على “الاهتمام بالآخرين”، وحدة الانتباه التي كانت تسبب لها قلقًا، وتصفها بأنها منظرة الحب، والفقدان والعلاقات التي تنتهي، ثم تشير إلى نقاط التلاقي بينهما، حيث كانت نقطة اللقاء فضاء الدراسات النسوية والكويرية، الذي كان جامعًا لعوالم تقاطعية، وأكثر اتساعاً لمفاهيم كالسعادة، والحبّ، والحميمية، والرغبة، والانفعال، والشعور. وتشير إلى دوريهما في تبديل هذه المفاهيم التي كانت فهمها محصوراً بالفرد والحيّز النفسي، فحررتاها إلى الحيّز العام، فكما تقول سارة أحمد في رسالتها، صرنا “نتحدّث عن الحياة الاجتماعية للمشاعر، عن قدرتها على تطبيع بنى سياسية واجتماعية، عن صعوبة التعرّف على عنفها المُضمَر، عن إمكانية اللجوء إلى القطيعة مع تمثّلاتها سبيلاً للتحرّر” [49].

رسائل العائلة

رسائل العائلة

تعددت رسائل الأدباء فمنها الرسائل الشخصية العائلية، على نحو ما فعل أنطوان تشيخوف بعد رحلته إلى الشرق الأقصى عام 1890، بعنوان “رسائل إلى العائلة” [50]، فإلى جانب ما كشفته الرسائل عن علاقته بأفراد أسرته؛ أمه وإخوته وزوجته وأصدقاء كثيرين. فإنها أظهرت ولعًا شديدًا من تشيخوف بالأماكن والمناظر الطبيعية، وقدرة هائلة على وصف العادات والتقاليد والتنوّع السُّكّاني في البلاد التي كان يمرُّ بها، فكتبَ عن اليهود والبولنديين الفارين من الإقصاء، وكذلك التتار وسهول سيبيريا، وتضمنت الرسائل اعترافه لأخته بأنه يكتب من أجل المال. وهناك أيضًا رسائل الشاعرة سيلفيا بلاث إلى أمها، والتي تسرد فيها علاقتها بالشاعر تيد هيوز، منذ أن ارتبطت به، وتنامي علاقتهما، إلى الشكوى منه بتعدّد علاقاته، وقسوته بضربها وإيذائها البدني، وهو ما جعل جزءًا من رسائلها تذهب إلى طبيبتها النفسية التي تُتابع حالتها.

وما يندرج تحت رسائل العائلة رسائل دوستويفسكي [51]، فكثير من الرسائل موجهة إلى أمه “ماريا” التي كان يرتبط بها بعاطفة شديدة، وأبيه ميخائيل الذي كان يصف له فيها تقدّمه (هو وأخوته) في الدراسة، ومنها رسائله إلى أخيه ميخائيل؛ إذْ كانت تربطه به علاقة وثيقة، وعندما حُكم عليه بالأشغال الشّاقة في سجن سيبيريا، كتب إليه واصفًا شعوره المرعب بارتقاب لحظة المصير، ثمّ بعد خروجه من السجن ونجاته كتبَ إليه يصف شعوره بالحريّة، وكيف أنّه لم يفقد الأمل، فكما يقول له “الحياة موجودة في داخلنا وليس في العالم الخارجي”.

وأهم شيء نقله لأخيه هو أنه – في السجن – اكتشف روسيا؛ «وبالأخص الشعب الروسي. وأزعم أني أعرفهما الآن أكثر من أي شخص آخر»، بالإضافة إلى رسائله إلى زوجته الثانية “آنّا جريجوريفنا” التي كان يخاطبها بملاكي الحبيب! وكان يجتهد في إظهار مدى ولعه بها، ولا يخجل وهو يظهر أمامها ضعفه، وشقاءه بسبب المقامرة، بل وصل به الأمر إلى تعهده إليها بالإقلاع عن هذه العادة، وهو ما حدث بفضلها، لذا نراه يصفها في رسائله الحميمة بأنها “مساعدتي المخلصة وسلواي”، ويعتذر لها عمّا سببه لها من عذاب فيقول “هل تسامحيني على كل العذابات والانفعالات التي سببتها لك؟ آه، ما أشد احتياجي إليك” [52]، كما يعترف لها بمكانتها وحبه المتين لها فهو بعيدًا عنها يشعر “بالكآبة المؤلمة” قائلا “وها أنا مقتنع يا آنيّا أنني بعد اثني عشر عامًا لا أحبك فقط، وإنما مُتيّمٌ بك وأنك سيدتي الوحيدة” [53].

وهناك رسائل مقتضبة إلى أبنائه: لوبوف التي كان يناديها بـ”ليليا”، وابنه فيودورف وكان يناديه بفيديا. رسائل دوستويفسكي مرآة حقيقة لحياته الشخصية بكل آلامها وأفراحها، فتعد رسائله سجلاً اجتماعيًّا يكشف عن أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية، وأزماته الصحيّة البدنية، وأيضًا النفسية بسبب شغفه بلعب القمار، وكذلك مشروعاته الأدبية، فكانت رسائله إلى زوجته أشبه بتقرير يوميّة عما يفعله، وما سيفعله، فيطلعها على كل أحواله وظروفه ودخله ومصروفاته واتفاقاته على أعماله، وما تحصل منها.

وما يدخل في رسائل العائلة رسائل أنطوان غرامشي، والتي حملت عنوان «رسائل السجن: رسائل أنطوان غرامشي إلى أمه  1926 – 1934» وقد صدرت نسختها الأولى في عام 1947، في ستة مجلدات تحوي 32 دفترًا، وفي هذه الرسائل يأتي حضور الأم غير مباشر باستخدام الضمائر العائدة عليها، وفيها يُسلّط غرامشي الضوء على حالة الافتقاد التي كان يعيشها، على الرغم من مراوغته عبر اللغة في إظهار النقيض حيث رباطة الجأش، وقدرة التحمُّل، حمّل كثيرًا من الرسائل برسائل طمأنة لأمه عن أحواله داخل السجن، فهو بحالة جيدة، كما يسرد لها عن عاداته داخل السجن، من قراءة وكتابة. ومحاولته التكيف مع هذا الوضع الجديد عليه، فينقل لها وقائع المحاكمة والسجن اللذين يتردد عليهما، كما تتضمن الرسائل همًّا كبيرا منه لأفراد العائلة (الأم، الإخوة، الزوجة، والأولاد)، فهو دائم السؤال عنهم.

ومن رسائل العائلة رسائل نيتشه إلى أمه وأخته، وفي رسالته إلى أخته، لا نراه يتحدث أو يستفسر عن أمور عائلية وأسرية، وإنما يخاطبها كشخص يبثه أحزانه وآلامه من التغيرات التي طرأت على علاقته بأصدقائه، فنراه متبرمًا من خيانة الأصدقاء وتخليهم عنه، وهو ما يعكس حالة الوحدة التي صار عليها، وما انتابه من مشاعر تمزج بين الحنق على هؤلاء الأصدقاء، واللوم عليهم، والنفور من الصمت المجبر، في حين أن لديه الكثير مما يستحق قوله، ومما جاء في الرسالة “أين هؤلاء الأصدقاء القدامى الذين كُنت أشعُر معهم في السنوات الماضية أننا متقاربين كُلياً؟ والآن يبدو لي أنني كُنت أنتمي إلى عالم مُختلف، عما هو الآن. ويبدو لي أننا أصبحنا لا نتكلم نفس اللغة! أشعُر أنني أصبحت غريبًا ومنبوذًا، أتنقل بينهم هُنا وهُناك ولا أجد أيّ من كلماتهم أو اهتماماتهم يثير شغفي. أصبحتُ صامتًا لأن لا أحد منهم يستطيع فهم حديثي. إنه لأمر رهيب أن تلتزم الصمت بينما لديك الكثير لتقوله”.

ويستمر في تساؤلاته ورفضه الوضع الذي آل إليه فنراه يتساءل في استنكار “هل خُلقت لحياة العُزلة أو لحياة لا أستطيع فيها التحدث مع أحد؟ عدم المقدرة على تبادل أفكاري مع الآخرين، أسوأ وأفظع أنواع العزلة لي على الإطلاق. الاختلاف عن الاخرين هو أقسى وأفظع من أيّ قناع حديدي يُمكن للفرد أن يُعزل بداخله”.

تندرج رسالة فرانز كافكا إلى والده (رسالة إلى الوالد) [54] ضمن رسائل العائلة، لكنها تختلف نوعًا ما عن مضامين رسائل العائلة، فكافكا كتب الرسالة إثر خلاف مع أبيه بعد رفض زواجه من صديقته “يورلي فوريتسك”، والرسالة هي واحدة من أهم الرسائل التي تكشف – في أحد جوانبها المهمّة – عن توتر العلاقة بين الأب وابنه، وصعوبة المواجهة وجهًا لوجه؛ لذا اضّطر لكتابة الرسالة عوضًا عن المواجهة، فيستحضر فيها جميع عذابات الطفولة التي لا يمكن تخطيها، وإن كان روجيه جارودي في – واقعية بلا ضفاف (1961) – يخالف آراء أخصائي التحليل النفسي الذين رأوا في الخلاف بينه وبين أبيه “تجسيدًا مسبقًا لكل خلافاته التالية”، وإنما يرى أن النزاع مع الأب “يلخص ويضاعف من توتر علاقاته بالمجتمع” فالأب في نظره “صورة مصغرة للمجتمع (الرأسمالي) الضاغط الذي يدفع إلى الإحساس بالغربة ويخنق شخصية الإنسان” [55]، لذا كانت الرسالة – عنده – تعرية لنموذج الأب المستبدّ القاسي؛ الأب سارق الطفولة والأحلام، ومن هنا كان تأثيرها أشبه بمحاكمة تنتهي إلى قتل الأب على الورق، وفيها يُفنِّد أسباب الشّقاق بين الطرفين، ويبدأها هكذا “أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخرًا: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدرِ بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلِّقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئيًّا. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطيًّا، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي” [56].

ويعيب عليه افتقاده للتشجيع، والشعور بالأمان، وهما ما افتقدهما منه فكما يقول “لعل ما كان يعوزني هو القليل من التشجيع، القليل من الحنان، القليل من إيضاح معالم طريقي. لكنك بدلاً من ذلك رحت تصور لي، عن حسن نية طبعاً، أنه يتوجب عليّ سلوك طريق آخر. غير أني لم أكن صالحاً للقيام بذلك الأمر. كنت أتلقى منك تشجيعاً حين أقوم – على سبيل المثال – بتأدية التحية العسكرية ثم أسير ‘معتدل مارش’! إنما لم أكن جندياً واعداً، أو تشجعني وأنا آكل بشراهة، أو حتى وأنا أعب الجعة، أو وأنا أردد خلفك أغانيَ لا أفهمها، أو وأنا أردد أقوالك وعباراتك مثل ببغاء.. ” [57].

إلى آخر الرسالة التي كانت محاكمة من قبل الابن لأبيه، حيث انتهى به الحالة من جراء هذه المعاملة إلى كما يقول “أصحبت أتجنب كل ما يذكر بك من قريب أو بعيد” [58]، لذا ينهى الرسالة بتوقيع “فرانز” في إشارة إلى تجرده من أيّ عاطفة نحوه.

تخصص الدكتورة سامية محرز (حفيدة الشاعر إبراهيم ناجي) في كتابها “إبراهيم ناجي: زيارة حميمة تأخرت كثيرًا” فصلاً بعنوان “هومة وسومة” للرسائل المجهولة بين الشاعر إبراهيم ناجي وزوجته (سامية جدة المؤلفة)، وهي عبارة عن 28 خطابًا مؤرخة [59] بين عامي 1928 و1929، جاء بعضها بالفرنسية والبعض الآخر بالعربية، كشفت الرسائل – في أحد جوانبها – عن تطور وفتور العلاقة بين الشاعر وزوجته من حبيبة يصفها في الرسائل بـ: سومة الحبيبة، سومتي الصغيرة والحبيبة، سومتي العزيزة جدا، والعزيزة سومة الحبيبة، وقلبي، وغيرها من صفات كان يبدأ بها رسائله إليها، إضافة إلى غزلياته الرقيقة داخل الرسائل على نحو “أقبلك وأعانقك، وأقولك لك إني أحبك، أحبك، أحبك!، إلى حالة من الجفاء والملل بسبب برود العلاقة بينهما، فكما يقول لها “ولكني يا سومة متضايق وعندي سأم مريع، سأم كم أنك لا تعطيني من نهارك شيئًا من التفكير، وسأم من قلة الشغل وكثرة المصاريف في هذا الوقت الشنيع” [60]، وهو ما كان سببًا في بعض “جرائم ناجي الصغيرة Small crimes ” من علاقات حب وقع فيها الكاتب مع بعض الملهمات.

الرسائل تكشف عن مرحلة مهمة من مراحل حياة الشاعر، وصراعه بين الطبيب والأديب، ومواجهاته/أو صراعاته مع البيروقراطية التي دفعته إلى الاستقالة، بسبب سلب حقه، كما تكشف عن الحالة المادية المتعثرة التي كان عليها الكاتب، فيصف في رسائله مصادر دخله، وطرق توزيعه، ومعاناته الشديدة من أجل إحداث التوازن بين احتياجاته الشخصية (شراء الكتب) وتلبية حاجيات أسرته، في ظل إسراف زوجته، كما كان يتهمها. الرسائل كشفت الجانب الخفي من حياة شاعر الأطلال، وحالة العوز التي كان فيها؛ العوز المادي وكذلك العوز العاطفي، وهو ما فشلت في تحقيقه زوجته، على الرغم من مد يد العون إليها، كي تكون كما أرادها، ولكن أبت ألا تشاطره مشاريعه وأفكاره وقراءاته.

رسائل الوصل

رسائل الوصل

ومن الرسائل ما يكشف عن عاطفة للأبناء، على نحو رسائل “مدام دي سيفنيه” لابنتها، فالرسالة فيها من العاطفة الجيّاشة ما يجعل الدموع تقطر من العين عند القراءة، فتقول فيها “أي مكانٍ أذهب إليه ولا أراك، فإن صورتك أمامي أينما ذهبت، في البيت، وفي الكنيسة، وفي الحديقة سواء، تكلمني كل بقعة أذهب إليها عنك، إن قلبي ليناديك طيلة الوقت، ولكن عبثًا؛ فما إلى رؤيتك من سبيل، بيني وبينك ستمئة ميل، فلا أستطيع أن أناديك لجانبي. وإن أدمعي لتسح وما أستطيع لكفِّها سبيلًا، وإنني لأعرف أن البكاء ضعف، ولكن ما أحسب أن عطفي نحوك شيئًا طبيعيًّا وحقًّا، وبذلك لا أستطيع أن أكون قوية، إنني أرجو منك ألاّ تذكري ضعفي هذا ولتحترمي دموعي الوارفة، لأنها منبعثة من قلب بك وبحبك ممتلئ” [61].

تختلف رسائل ناظم حكمت الشاعر التركي عن رسائل غرامشي، فمع أن كليهما مصدره واحد هو السجن، وأيضًا غايتهما واحدة، فقد سعيا إلى النقب والاتصال بالخارج بواسطة حبل جيني مؤلّف من الكلمات، إلا أن رسائل ناظم كانت مرسلة لآخر يقطن نزيلاً في السجن، هو الأديب أورهان كمال. الرسائل تؤرخ للفترة التي قضاها في سجن بورصة، بتهمة الانتماء إلى الشيوعيّة، وكان قد ضاق ذرعًا بـ “احتباس الإرادة” كما أسماها. تناول في الرسائل اليوميّ داخل السّجن. تظهر الرسائل شكوى ناظم من السجن وشعوره بأنهم تركوه كي يتعفن، ومحاولاته لرفع الظلم عنه بكتابة الكثير من العرائض الموجهة لرئاسة الوزراء وغيرها، لكن دون جدوى.

وهناك رسائل الحب المتبادلة بين الكتاب ومعشوقاتهم كرسائل كافكا إلى ميلينا، ونابكوف لفيرا، وألبير كامى لماريا كزاريس، ودوستويفسكي لزوجته، وصباح الدين علي – الكاتب التركي – لزوجته عليّة. فكافكا يَظهر في “رسائل إلى ميلينا” عاشقًا ولهًا، “مجروح القلب” [62] أو الضعيف ببعدها، كما وصف نفسه لها في إحدى رسائله، فخلافًا للصورة المألوفة عنه، وقد برر في كتابه “ما لا يدرك كله: النساء” أن الفتيات في حياة كافكا كانت وسيلة شائقة للهرب من تأثير سلطوية الأب، ذاك القاسي والبغيض، هيرمان كافكا الذي كان يحتقر موهبة ابنه الأدبية، ومن ثم “فقد بحث الكاتب في العالم الأنثوي عن قوة موازنة للفحولة الأبوية المستبدة” [63]، وعلى أيّ حال فإننا نعثر في الرسائل على شخص آخر، متفائل يرى الجمال حوله في تجواله وينعكس كذلك على داخله، وتتسرب الأفكار بعد جولاته في الطبيعة في مخيلته بتدفق وسلاسة. وأيضًا صورة العاشق القلق على محبوبته، وإلى جانب هذه الصورة التي بدا عليها كافكا، ثمّة إيجابية تتمثل في إمكانية روحه للمعايشة في الواقع والافتتان به إلى هذا الحد.

الواقع والافتتان

لا تقف الرَّسائل عند تفاصيل الحياة الشخصية بينهما ومتابعة كتابات البعض، أو حتى ذكريات الطفولة كما سرد لها كافكا عن علاقته بالخادمة، أو تفاصيل رحلته إلى النمسا وما تعرض له من متاعب بسبب عدم وجود تأشيرة دخول، أو ما تعلّق بتطورات مرضه، وإنما تتطرق إلى مسألة غاية في الأهمية وهي ديانة كافكا، فكافكا كان يهوديًا إلا أنه لم يكن صهيونيًا، وعلى ما يبدو في إحدى رسائلها إليه أفضت له بشكوكها، فجاء رده في رسالة بتاريخ (30 مايو 1920 - ميران) عنيفًا، حيث يصف تساؤلها بأنه أشبه بالمزحة كنوع من التخفيف من صدمتها، ويطلب منها ألا تكون قلقة بشأن هذه المسألة، ويحكي لها قصة كنوع من تخفيف حدة القلق. إلا أنه في نهاية الرسالة يطلب منها أن تكتب له عنوانها بخط مقروء لأنه بحس قلق اليهودي يشعر بأنه فقد إحدى الرسائل. ومرة ثانية يعود إلى الحديث عن الصراع الدائم بين اليهود والمسحيين وكأنهم حيوانات ضارية تودّ أن تودي بحياة الآخر. كما يحكي لها ما يتعرض له اليهود من كراهية وعنصرية، ومناداة البعض لهم بمجموعة الجربان، وما اعتراه من حالة نفور من المكان.

ومن رسائل العشق رسائل الشاعر الروسي فلاديمير نابوكوف إلى فيرا شلونيم (زوجته) ابنة تاجر الأخشاب التي حملت عنوان “رسائل إلى فيرا”. وهي عبارة عن 287 رسالة، يحكي نابوكوف من خلالها عُمق العلاقات الأخطبوطيّة التي كوّنها في الأماكن التي رحل إليها، مرورًا بعلاقته بفيرا التي وصفها – في إحدى رسائله – بأنها “ملاكُه ذو الخُصل الشقراء”، وتارة يناديها “يا كل فرحتي، يا حبيبتي، يا حياتي… ما عدت أفهم شيئًا، كيف ألا تكوني معي؟ لقد اعتدت عليك بحث أشعر الآن أنا – دونك، دون روحك – إنسان ضائع وفارغ، لقد غيّرتِ حياتي إلى شيء مفعم بالنور والدهشة وألوان كألوان قوس قزح! لقد وضعتِ لمسة السعادة على كل شيءٍ، وباتَ معكِ كل شيء مختلفًا، لقد احترتُ: متى أحب عينيك أكثر؟ هل أحبُّ عينيكِ وهما مغمضتان أم وهما مفتوحتان؟” [64]، وما انتابها من عثرات عند اكتشافها علاقته بفتاة روسية صغيرة. فمثلما تقدّم الرسائل قصة عشقه لفيرا، فإنها على الجانب الآخر تُقدِّم صورة أخرى لنابكوف أو سيد السرد الروسي، ومواقفه الدينيّة، والسياسيّة وعلاقاته بالمنظمات السّريّة التي سعت إلى احتضانه كالماسونيّة أو المخابرات البريطانيّة.

في رسائل صباح الدين علي لزوجته عليّة، ثمة فلسفة عالية تعكس رؤيته للحياة، وتصوره لكيفية معايشتها رغم ما تصيب الإنسان من أزمات وإخفاقات، فهي المدد والطاقة التي يستمد منها القوة لمواصلة المسيرة، فكما يصفها في إحدى رسائله “صداقتكِ العذبة ستجعلني أخط كتابات أقل يأسًا وأكثر ابتهاجًا” الرسائل أشبه بمرايا يواجه بها الكاتب ذاته، فكما يقول “أنا أريد أن أكون إنسانًا صالحًا، لكنني في الوقت ذاته، لا أنظر إلى السيئين باستغراب، ولا حتى أغضب منهم، لكن أدافع عن نفسي لو تعلق الأذى بي”. فنظرته للحياة وما يجب أن تكون عليه مختلفة، فالإنسان – عنده – يرتقي بقدر مساعدته للآخرين وحبه لهم”. كما أن أكبر السعادة تكمن في “مساعدة جميع الناس؛ القريبين منا والبعيدين عنا، والعمل على الإحسان لكل البشر”.

رسائل ألبير كامي وماريا كزاريس

رسائل ألبير كامي

وهي الرسائل التي كشفت عنها ابنته كاثرين كامي، وقد تضمنت 865 رسالة متبادلة بين الكاتب الوجودي من أصل جزائري، والممثلة الفرنسيّة من أصل أسباني ماريا كزاريس (1922- 1997). الرسائل أشبه بيوميات تُظهر الكثير من أوجه التعاون الفني بينهما، منذ أن تعارفا مع أوّل تعاون فني بينهما، فقد اختار كامي الممثلة الشابة ماريا لتعلب دور “مارتا” في مسرحية “سوء تفاهم” (بدأ التدريبات معها في السادس من تموز 1944)، وبعد ذلك اختارها لدور “دورا” في مسرحية “العادلون”. تطورت العلاقة بينهما بعد لقائهما، ومع تعدّد اللقاءات، وهو ما كان يعتبره كامي “مصادفات قدرية”، إلا أن ماريا كانت ترى من خلال العراقيل بينهما أن” فُرض [عليهما] حب ممزق”.

تبادل الاثنان الأوصاف التي تشي بعمق العلاقة بينهما فهو يصفها بأنها “قديسته الصغيرة المتلهفة”، و”الراحلة الهائمة”، و”شاطئه”، في حين اعتبرت ماريا، كامي “رفيقها في المعركة”، و”أميرها الجميل المنفى”، و”حبيبها المجنون”، و”مصدر معرفتها”، ونتيجة توطُّد العلاقة بينها كشف لها ألبير من خلال مراسلاته عن اختناقه وكربه، وحكى لها عن حياته الزوجية، وعن زوجته فرنسيس المصابة بالانهيار العصبي، وشعوره هو باللاجدوى والوحدة، وملله من الحياة، أما هي فتناولت تفاصيل حياتها الفنية وتسجيلاتها الإذاعيّة وأفلامها السينمائيّة، وأخبار أصدقائها، وسردت له تفاصيل رحلاتها الفنية إلى روسيا وأميركا والجزائر، كما اشتملت الرسائل على اهتماماتها الثقافية وقراءتهما والكتب والشخصيات التي أثرت فيهما.

ومن الرسائل كتاب “فرناندو بيسوا – رسائل ونصوص”، وهو كتاب يكشف عن العوالم المتعدّدة للشاعر البرتغالي، وتوجهاته السياسيّة، ويحتوي على الرسائل التي كتبها باسمه أو بأنداده لأمه وبوحه لها مما يعانيه من اضطراب واغتراب بسبب الرحيل المتوالي لأصدقائه، وكذلك رسائله إلى حبيبته أوفيليا كويروز، فهو العاشق الحسيّ، وخوفه من استمرار العلاقة، والصراع الذي شملها وصولاً إلى النهاية التي انتهت إليها قصة الحب بعد حالة الملل التي تسربت إلى أوفيليا بعد مرور عام دون أن يتوّج الحب بالزواج.

وهناك رسائل الشاعر والكاتب الأميركي بول أوستر إلى الكاتب الجنوب إفريقي جون. إم. كوتزي بعنوان (هنا والآن)، وهي الرسائل التي شغلت الفترة ما بين 2008 و2011، ترصد تأملاتهما في عالم الصداقة والزواج والكتب والمكتبة في ضوء تطورات المستقبل، واستبدال صور الكتب بصورها الإلكترونية، وتسليع الرياضة والتقدّم إلى أرض الشيخوخة، وعن إسرائيل وموقفه (أي كوتزي) مِن الذين انتخبوا نتنياهو. وما يدخل في رسائل الأصدقاء رسائل يونج إلى فرويد، فالرسائل المتبادلة تكشف الاحترام المتبادل بينهما على الرغم من التفاوت العمري الظاهر (فرويد في الخمسين، ويونج في الثلاثين)، وصولاً إلى الخلافات الفكريّة التي عصفت بهذه الصداقة، وحولتها إلى عداوة.

الرسائل النقدية

الرسائل النقدية

لم تقف رسائل بعض الأدباء على تبادل الأخبار، ورصد لحوادث تاريخية أو أدبية، وفقط بل ثمة رسائل ضمت إلى جانب هذا، تقديم مطارحات أدبية ونقدية بين الكتاب، ونقاشات علمية صريحة في فنون مختلفة، ومن أشهر المراسلات التي تمثّلت لهذا، الرسائل المتبادلة بين الألوسي والكرملي (السيد شكري الالوسي والأب أنستاس ماري الكرملي) وهما علمان من أعلام العراق، وقد تناولت الرسائل المتبادلة بينهما مناقشات في شؤون ثقافية متنوعة: اللغة، التاريخ، التراجم، الخطط، البلدان، الأدب، العقائد، الكتب المخطوطة والمطبوعة، الحضارة، التراث الشعبي، وغير ذلك من موضوعات، وتبدأ الرسائل في سنة 1900، من بغداد، ويستهلها هكذا “بعد إهداء سلامي عليه، وتقديم ما يستحقه من احترامي بين يديه، أعرض إلى الحبر بل القاموس والبحر، أني قد راجعت ما عندي من كتب التفسير في قصة قوم هود النبي عليه السلام، فلم أرَ للأصنام المذكورة في الكتاب الفرنساوي ذكرًا ولا خبرًا، بل المذكور في قصصهم أنهم قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها، وكانت لهم أصنام يعبدونها، وهي: صداء وصمود وهباء، فعبث الله تعالي إليهم هودًا عليه السلام نبيًا، وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم حسبًا. فأمرهم بالتوحيد والكف عن الظلم، فكذبوه وازدادوا عتوًا وتجبرًا، ولم يؤمن به إلا القليل…” [65].

على هذا المنوال تسير الرسائل، جميعها تأتي كتلقّ لكتابات وقراءات، بها بعض الإشكاليات، فيعمد إلى البحث والتنقيب عله يزيل الشك والشبه ويصحح الخطأ، ففي رسالة محمود شكري الألوسي بتاريخ 5 شباط 1901، يقول “حضرة الفاضل ومجمع الفضائل دام مجده وعلا سعده: راجعت كثيرًا من سجّلات كتب إسلامبول، فرأيت فيها كتبًا في الألحان موفقة للمقصود والمأمول،…” ويأتي الرد عليها من أنستاس الكرملي” إلى من له دائم شكري بلساني وفكري محمود شكري أفندي: أما بعد: فإني لا أزال في انتظار الرسالة في الموسيقى التي قلتم عنها إنها موجودة في التكية الخالدية، أما الرسالة التركية فقد أخذتُ منها ما أخذتُ، وأنا لكم من الشاكرين. حفظكم الله من شر كل سامة، ومن كل عين لامة”. وفي إحدى الرسائل التي تظهر المناقشة العلمية لإحدى المسائل النحوية، يرسل الألوسي رسالة إلى الكرملي قائلا “أيها الفاضل عبارة عن كل من الأديبين صحيحة، وباب التنازع في العمل مشهور، وفي كتب العربية مذكور ومسطور، غير أنه مما لا يخافكم، لا بد أن يكون بين العاملين ارتباط بالعاطف مطلقًا….”. ثم يورد الدليل له من مغنى اللبيب. وهناك رسالة يفرّق له بين المذاهب الشيعية: المتاولة والاثني عشرية، وغيرها من مسائل طرحت في الرسائل. الاستشهاد بهذه الرسائل للتأكيد أنها كانت أشبه بمساجلات علمية وفكرية بين علمين شهيرين.

كذلك تندرج “رسائل مي زيادة” التي صدرت عام 1951، تحت الرسائل الفكرية والنقدية؛ حيث توجهت برسائلها إلى كوكبة من أدباء عصرها، فبدأت بباحثة البادية، ثم جبران، ولطفي السيد، ويعقوب صروف، وأنطوان الجميل وأسرة الريحاني، وجوليت طعمة دمشقية. كانت رسالتها إلى باحثة البادية قبل أن تتعرّف عليها، وإن كانت تعرفت عليها عبر مقالاتها التي تنشرها هنا وهناك، فتذكر لها سبب رسالتها بأنها عثرت “بالأمس على مجموعة من كتاباتك النفيسة، فانحنيت عليها ساعات طويلات فيها خيل إلى أنني أقلب صفحات نفسك المفكرة المتوجعة”، فعثرت على جراح عميقة ومن ثم كما ذكرت لها “وددت تقبيلها بشفتي روحي”، بالطبع تثني فيها على جهدها في إثارة قضايا المرأة التي غفل عنها الرجل التائه “في مهامه الاشتغال، فإذا كتب بحث في العموميات جال قلمه في الخصوصيات، فهو لا يستطيع البلوغ إلى نور الوجدان النسائي؛ لأنه يكتب بفكره، بأنانيته، بقساوته، والمرأة تحيا بقلبها، بعواطفها، بحبها” [66]، نراها في رسالتها تعرض في وقت مبكر جدًّا لحالة الإغفال التي يوليها الرجل لقضايا المرأة، وتكاد تحسم الأمر بأن الأولى بالكتابة عن المرأة هي المرأة نفسها، فكما تقول “علاتنا مستعصية، لا يشفيها إلا طبيب يعرفها. والمرأة بعلة جنسها أدرى فهي تستطيع معالجتها”.

وتأتي رسالتها إلى جبران بعد صدور كتابه “الأجنحة المتكسرة”، فاتخذت من هذه الرواية مفتاحًا لإثارة قضايا مهمة متعلقة بالمرأة ألا وهي الزواج. فهي تقر في بداية رسالتها بعدم اتفاقهما بموضوع الزواج مع أنها تحترم أفكاره، وتجل مبادئه. نقطة الاتفاق الوحيدة بينهما أنها تشاركه في “حرية المرأة”، ومن ثم ترى “فكالرجل يجب أن تكون المرأة مطلقة الحرية بانتخاب زوجها من بين الشبان، تابعة في ذلك أميالها وإلهاماتها الشخصية”، وبهذا ترفض أن تكون المرأة تابعة في اختياراتها “للجيران والمعارف”، بالأحرى هي تستعرض لآرائها في مسائل المرأة وما يتعلق بحريتها، وكأنها ترى أنها حرية كاملة، حرية في اختياراتها، بل تضع عقدًا خاصًّا بالزواج، أهم شروطه “الأمانة”، وعندها الأمانة المعنوية تضاهي الأمانة الجسدية أهمية وشأنًا، وعند الزواج تتكفل المرأة بإسعاد زوجها، وإذا اجتمعت برجل آخر سرًّا، تعد “مذنبة إزاء المجتمع، والعائلة، والواجب”، فهي تستنكر أن تتخذ بطلة روايته “سلمى كرامة” لها صديقًا شريف النفس عزيزها، فتوجه سؤالها “فهل يصح لكل امرأة لم تجد في الزواج السعادة التي حلمت بها وهي فتاة، أن تختار لها صديقًا غير زوجها، وإن تجتمع بذلك على غير معرفة من هذا، حتى وإن كان القصد من اجتماعها الصلاة عند فتى الأجيال المصلوبة” (رسائل مي: ص 17).

وفي رسالتها للطفي السيد، تدافع عن حق المرأة ومساواتها بالرجل، فهي تستنكر أن يُقام حفل التأبين لفتحي زغلول باشا، والذي ألقى خطابه فيه، دون أن يكون للمرأة نصيب، فمصر كما تقول تتألّف من رجالٍ ونساءٍ، يصيبها الاندهاش من حالة التناقض، كيف يسمحون للمرأة أن تذهب إلى الأوبرا لحضور الروايات التمثيلية، وتُستبعد من هذا الحفل. وإذا كان رأيهم أن المرأة “لا تفهم معاني التأبين كما يفهما الرجل” فالرد لديها جاهز “إننا اهتممنا بالخطب والقصائد اهتمامًا عظيمًا واستعملنا عند قراءتها ملكتي النقد والاستحسان”، تتخيّل الردود التي يمكن أن يرد بها على حجتها من قبل أن فتحي باشا “كان عالمًا مفكرًا وأن العلم والتفكير من خصائص الرجال” فتجيب بثبات “إن العالم الحقيقي والمفكر المخلِّص هو ذاك الذي يكتب للرجال والنساء بلا تفريق، ويودّ أن تكون كتاباته هدىً ووحيًّا لجميع أفراد الأمة”. ورسائلها إلى يعقوب صروف، تأتي تأثرًا بما يكتبه في المقتطف، فتثني على الرجل علمه وثقافته، وأسلوبه، وروعة خياله. ومن أعجب الرسائل رسالتها إلى ساعتها المفقودة، وكأنها مرثية عذبة لها في صورة غزل، فتقول “صورة مصغرة للكون، كذلك كانت ساعتي، مساحتها رمز للفضاء، دورتها مرسح (هكذا) اللانهاية، حدودها حدود الإمكان، علاماتها مقاطع الوقت الذي رتبه الإنسان، ساعتها مقياس الأعمال، دقائقها خوف من هجوم الرزايا لوفود الآمال، ثوانيها دقائق القلب.. من الثواني يتألف الزمان، ومن نبضات القاب تنسج الحياة نسجًا” (ص 27). كما توجه رسالة إلى الفتاة المصرية ناصحة وموجهة قائلة “الحياة أمامك، أيتها المصرية الصغيرة، ولك أن تكوني فيها ملكة أو عبدة: عبدة بالكسل، والتواكل، والغضب، والثرثرة، والاغتياب، والتطفل، والتبذل. وملكة بالاجتهاد، والترتيب، وحفظ اللسان، والصدق، وطهارة القلب والفكر، والعفاف، والعمل المتواصل”.

وهناك من الرسائل ما لا تكتفي بتسجيل ما هو شخصي فقط، بل تتناول وجهات النظر في أعمال بعضهما البعض، وبقدر ما تمثله هذه الرسائل من كشف عن الذائقة النقدية للكُتّاب، التي لم يجهروا بها كتابة على الملأ، فإنها في الوقت ذاته كانت بمثابة تقديم صورة لحالة الغيرة والمنافسة بين الأدباء، وهو الأمر الذي تطلب من بعضهم توجيه سهام النقد، والتقليل من شأن بعض الأعمال، لشعوره أن الصداقة تجاوزت هذا الإعجاب والتقدير إلى “الشعور بالتنافس والغيرة”.

وأشهر الرسائل التي تمثّل لمثل هذه الصورة، رسائل الأدبيين الألمانييْن توماس مان (1875 - 1955) وهِرمان هيسَّه (1877 - 1962)، فقد جمعت بينهما صداقة من طراز مختلف، على الرغم من التباين الكبير بينهما على مستوى التكوين الاجتماعي (توماس مان ابن التقاليد البرجوازية، أما هرمان هيسّه، فهو زاهد رومانسي متمرد)، وأيضًا على مستوى الأفكار والأسلوب (الأول محافظ على التقاليد الكلاسيكيّة في الكتابة، والثاني ثائر متمرد، مستهتر بالبناء الشكلي للرواية)، انتابها الكثير من التقلبُّات والصراعات، وصلت بسبب السياسة إلى منعطف خطير بين الطرفين.

أغلب مراسلاتهما تناولت نتاجاتهما الإبداعيّة، وآراء بعضهما البعض فيما يكتبون، وبدأت المراسلات ما بين الاثنين في مطلع نيسان من العام 1910، حيثما أرسل توماس مان إلى هيرمان هيسّه يشكره على نقده لرواية “السمو الملكي”، معتبرًا هذا النقد هو “الأفضل بالنسبة [له]”، وبالمثل يُبدي هيسّه إعجابه برواية توماس مان “آل بودنبرك”، ويصفها في رسالة مُؤرَّخة في 31 ديسمبر 1918 بأنها “رواية تنمّ عن تأمُّلاتٍ اجتماعيّة ثاقبة، فضلًا عن جزالتها اللغوية الواضحة وتحليلها النفسي الرصين، مما يؤهلها لأن تصير بحق أروع وأسمى ملحمة عائلية كُتبِتْ في الأدب الألماني الحديث”.

في المقابل يُبدي توماس مان رأيه في رواية “دميان” لهيسّه، فمع إعجابه بالرواية إلا أن هذا الإعجاب لم يمنع من ظهور الغيرة والتنافس فيقول له “قرأتُ هذه الرواية بمزيد من المشاركة الوجدانية والانتباه لكافة التفاصيل، وبمزيد من القلق أيضًا، فعنصر التحليل النفسي داخلها بدا لي أكثر عُمقًا وأرهف حسًّا مما قدَّمته في روايتي (الجبل السحري). وبعد هذه الديباجة ينفذ إلى نقده ومحاولة الانتقاص منها قائلاً «لكني لاحظتُ أنَّ التناقض الأسلوبي في روايتكَ مَرده إلى أن الحكاية تكشف عن حياة المؤلف أكثر مما تُظهِر حياة بطل الرواية، حتى إنها تتحول شيئًا فشيئًا إلى قطعةٍ نثرية عن روحك. وهنا يُجانبكَ الصواب. كان على البناء أن يكون أشد حِرفيّة وأكثر التصاقًا بالخيال” [67].

وعندما يصدر توماس مان روايته “يوسف وإخوته” يبعث له هيسّه برسالة معبرًا فيها عن رأيه في الرواية قائلاً «قرأتُ روايتكَ (يوسف وإخوته) بمتعةٍ بالغة تستوجب الثناء. وعلى نقيض التصوُّرات السائدة عن الكتابة التاريخيّة، راقَ لي كل سطرٍ في الرواية، وعلى الأخص روح السخرية المترعة بالحزن التي تفحَّصتَ عبرها إشكالية العلاقة بين التاريخ والكتابة السردية. بالنسبة إليَّ، مع اعترافي باختلافي معك في أوجه عديدة، بل وتباين مصدر الاختلاف بيننا، اتسمَ العمل بالاتساق والتناغم الداخلي العميق. ناهيك عن أن الكتاب يمثِّل هديةً من السماء في ظل الأحداث الحمقاء التي نشهدها حاليًا». وبذلك تكون الرسائل رصدت للكثير من المواقف بين الأديبين، وأظهرت اختلافاهما نتيجة مواقفهما السياسية، وأيضا أظهرت إعجاب هيسّه بكافكا.

ومما يدخل في الرسائل النقدية ما أورده طه حسين في الجزء الثالث من كتابه “حديث الأربعاء” (1925)، بينه وبين مصطفى صادق الرافعي على صدر جريدة السياسة حول ملاءمة الأسلوب للحياة، والتشدد في اللغة، وقد أسماها الرافعي “أسلوب في العتاب”، وكانت رسالته موجهة أولاً إلى أديب من أدباء الشام، فرد طه حسين هكذا فلئن راق هذا الأسلوب “أهل القرن الخامس والسادس” لكنه – حسب قوله – “لا يستطيع أن يروقنا في هذا العصر الحديث الذي تغير فيه الذوق الأدبي” [68]، ثم يورد طه حسين رسالة كاملة بعنوان “القديم والحديث”، شارحًا الفرق بين أسلوب القدماء والمحدثين، وقدرة كلّ منهما على التعبير عن حاجات العصر وما يعتريه من حس وشعور، وكيفية الملاءمة بين الحاجات المادية والأدوات التي نستخدمها لنرضي هذه الحاجات. وبعبارة طه حسين: مالنا لا نلائم بين اللغة والحياة؟، فيقول إننا لسنا نعيش عيشة الجاهلين، ومن ثم “فمن الحمق أن نصطنع لغة الجاهليين. ولسنا نعيش عيشة الأمويين ولا العباسيين ولا المماليك، بل لسنا نعيش عيشة المصريين أوائل القرن الماضي، فمن الإسراف أن نستعير لغات هذه الأجيال وأساليبها لنصف بها أشياء لم يعرفوها، وضروبًا من الحس والشعور لم يحسوها ولم يشعروا بها”. وينتهي إلى اتخاذ هذه الأساليب “نقص أدبي؛ لأن الكمال الأدبي يستلزم أن تكون اللغة ملائمة للحياة” (حديث الأربعاء ص 11).

في الكتاب ثمة رسائل نقدية أخرى منها رسالته في الرد على كتاب “مهذب الأغاني” للأستاذ محمد الخضري، فالرسالة أشبه بتقييم نقدي للكتاب، حيث أبدى طه حسين ملاحظات نقدية على الكتاب، دون أن تقلل ملاحظاته من تقديره لصاحب الكتاب، وثنائه على جهده. بل يورد طه حسين المراسلات بينه وبين محمد الخضري تعقيبًا على كتابه، وبقدر ما جاءت رسالة الخضري شكرًا وتقديرًا للأستاذ على قراءته للكتاب، بقدر ما فيه من الدفاع عن الكتاب، وتفنيد للملاحظات التي ذكرها طه حسين في مقالته/رسالته له، فيستهل الخضري رسالته هكذا “إلى الدكتور طه حسين من محمد الخضري. السلام عليك ورحمة الله. وبعد، لقد قرأت نقدك لما اتجهت إليه الهمة من ‘مهذب الأغاني’. وإني شاكر لك كلماتك التي صدّرت بها نقدك، فأنت أبر الأبناء وأفضلهم. وإذا سرني أن تكون لك الحرية فيما تنقد به كتابي، فأظنك لا تبخل عليّ بقسط منها حتى أساجلك الحديث دفاعًا عن نفسي. وعهدي بك والحق غايتك” (حديث الأربعاء، 3، ص67)، يورد طه حسين رسالة الخضري كاملة، وردوده عليه، ثم يعقب في النهاية على كلامه.

عشق الفلاسفة

عشق الفلاسفة

يتكوّن مجموع الرسائل المتبادلة بين الفيلسوفين؛ مارتن هايدجر وحنّة آرندت، من سبعين رسالة، تؤرخ لأطرف قصص الحب الفلسفي. جمعهما – إلى جانب الحب – وعيهما الفكري بضرورة القطع مع التراث الموروث، كل بطريقته، هي كانت تدافع عن فكرة وصول الفكر [أو نزول] إلى العالم والاهتمام بالإنسان كإنسان في ضعفه وتجاربه ومحنه، أما هو فاختار الخطاب الفلسفي من أجل إنقاذ الفلسفة من براثن تقليد ميتافيزيقي وهو ما أضرها.

الرسائل لم تقتصر على يوميات الحياة وفقط، وإنما اشتغلت – أيضًا – بعويص الأسئلة الفلسفيّة، وقد بدأت علاقتها به وهي طالبة في الثامنة عشرة من عمرها، في حين كان هو في الخامسة والثلاثين، ومتزوجًا وله ولدان. في أول رسالة بعثها إليها عام 1925، عبّر لها عن حُبّه، طالبًا منها إقامة علاقة من نوع خاص تكون “بسيطة وصافيّة”. اتسمت الخطابات بحرارة العاطفة ودفء الحب؛ إذ وجد فيها قارئة متميزة لأعماله المعقدة، أما هي فوصفته بأنه “المعلّم الذي تعلّمت على يديه كيف تفكّر” كان يلقُّبها بحورية الغابة، وهي لقَّبَتُه بقرصان البحر، وقد تضرعت له كي لا ينساها، كما أكدت له بعد إصراره على ترسيم العلاقة بينهم (هو وهي وزوجته ألفريدا، أي هايدجر والإلاهتين المتصارعتين) فيقول لها “إنني أحس تقريبًا بقربك الجواري” [69]، ومرة ثانية “سأفقد حقي في الحياة، لو فقدت حبي لك”. أما هي فتعترف بحبها له منذ أول لقاء، لكن معظم خطاباتها فيها تحفظ، ويغلب عليها سرد الحياة العلمية لها، مشاريعها، وكتاباتها، وكذلك آراؤها، فيضطر إزاء هذا في رسالة لها يشرح موقفه من رفض إقصاء الطلاب اليهود من المحاضرة، رسائلها قليلة مقابل السيل المنهمر من رسائله، والذي لا يكتفي بما ينثره من كلام، بل يطعمها بقصائد، يحملها الكثير من مشاعره.

وتعد مراسلات جورج لوكاتش (350 رسالة) التي عُثر عليها بعد وفاته، ذات قيمة كبيرة في الكشف لا عن عبقرية الفيلسوف المجري، أو حتى خصوصيته الإنسانية وفرادته الفكرية والجمالية، وإنما – تنبع أهميتها الأساسية أيضًا - كوثيقة للإحاطة بالخصوصيات التاريخيّة والثقافيّة، والاتجاهات الفلسفيّة والأدبيّة والنقديّة السّائدة في تلك الفترة. علاقة سيمون دي بوفوار بجان بول سارتر من أكثر العلاقات التي نالت اهتمامًا كبيرًا، وألفت حولها الكثير من الكتابات، نظرًا لمتانة العلاقة بين الطرفين من تارة، وامتدادها لفترة طويلة، وهي العلاقة التي تبدأ بلقاء خارج مدرج المحاضرات في إحدى ممرات السوربون، بمراقبتها، ثم تحولت المراقبة إلى لقاء مباشر في صالة الشاي، أخذت العلاقة بينهما منعطفات كثيرة، خاصة مع حالة التمرد وتعدد العلاقات التي اتسمت بها بوفوار إلى أن انتهت إلى صداقة نادرة بين الطرفين، وقد تبادل الاثنان الرسائل في وقت مبكر، وكان دومًا يدعوها “حبي العذب” فأرسل سارتر لها رسالة وهو ابن الرابعة والعشرين، في عام 1929، عبّر فيها عن حبه الشديد لها، بل يصف حبه بأنه مغاير عن الآخرين، فيقول “فتاتي الصغيرة العزيزة: أردت أن أكتب لك منذ وقت طويل، مساءً، بعد إحدى تلك النزهات مع الأصدقاء والتي سأصفها قريبًا في ”الهزيمة”، إنها من الليالي التي أصبح فيها العالم ملكًا لنا، أردت أن آتيك بسعادتي كمنتصر وأضعها أسفل قدميك كما كان الرجال يفعلون في عصر ملك الشمس، ثم – متعبًا من كل صراخي – أخلد إلى الفراش، أنا اليوم أفعل هذا من أجل متعة لا تعرفينها بعد، متعة الانتقال المفاجئ من الصداقة إلى الحب، من القوة إلى الحنان، الليلة أحبك بطريقة لم يسبق لك اكتشاف وجودها فيّ، لست مرهقًا من الترحال ولست محاصراً برغبتي في وجودك قربي، إنني أتقن فن حبي لك وأحوّله إلى عنصر أساسي من عناصر نفسي، هذا يحدث أكثر بكثير مما أعترف لك به، لكنه نادراً ما يحدث عندما أكتب لك، حاولي أن تفهميني: أحبك وأنا منتبه لأشياء خارجية، في تولوز أحببتك ببساطة، الليلة أحبك والمساء ربيعيّ، أحبك والنافذة مفتوحة، أنت لي، والأشياء لي، وحبي يغيّر الأشياء من حولي وهي أيضا تغيّر حبي، حبك يدفئني”.

لم تقف الرسالة عند سارتر، فما إن وصلت الرسالة إليها حتى كتبت له قائلة “حبيبي، أشعر أني محاطة بحبك ليل نهار، حبك يحميني من كل الغضب، عندما يصبح الطقس حاراً يبردني، وعندما تهب ريح باردة، يدفئني، طالما أنت تحبني لن أكبر أبداً، لن أموت أبداً، عندما أطلب منك أن تضمني ذراعيك، أشعر بانقباض في معدتي مهما كان ما تتحدث عنه، وأشعر أن جسمي كله يؤلمني” [70].

ارتبط الاثنان بعلاقة مفتوحة “عقد تعايش لمدة سنتين” كان سارتر يعلن لها أنه لا يستطيع أن يستغني عن النساء، وبالمثل هي كانت لها علاقات أخرى، أسماها علاقات عرضية، فارتبطت نتيجة لذلك بعلاقة مع الكاتب الأميركي نيلسون آلغرين، ومع أنها لازمته فترة طويلة إلا أنها طوال هذه السنوات لم تترك سارتر أبدًا، ولم يكن الأمر سرًّا، ففي إحدى رسائلها إلى نيلسون عن سارتر تقول فيها “إنني صديقته الحقيقية الوحيدة التي تفهمه وتمنحه السلام والتوازن، لا أستطيع التخلي عنه بتاتًا، وقد أتخلى عنه لفترات طويلة، أو قصيرة، ولكن لا أستطيع أن أكرّس حياتي كاملة لرجل آخر”.

رسائل الآخرة

رسائل الآخرة

وهناك من الرسائل ما يكون بمثابة رسائل الوداع قبل الرحيل على نحو ما فعل دوستويفسكي في رسائله لأخيه وهو في السجن [71] قبل تنفيذ حكم الإعدام الذي لم ينفذ فيما بعد، ومنها أيضًا رسالة الرسام الهولندي فان جوخ ورسالته إلى أخيه ثيو قبل انتحاره، ويقول فيها “إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذي يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة..”.

وبالمثل فعل الشاعر الروسي فلاديمير مايكوفسكي، قبل انتحاره بإطلاق رصاصة على قلبه. ترك رسالة كتب فيها “زورق الحب تحطّم على روتين الحياة اليومية”. وكذلك فعل الكاتب وجيه غالي قبل انتحاره، بأن ترك رسالة قصيرة لصديقته الكاتبة البريطانية ديانا أتهيل، وضعها على باب غرفته قال فيها “ديانا، لا تدخلي، اتّصلي بالشرطة فورًا”. علاوة على رسالة أخرى قال فيها “أظن أن الانتحار هو الشيء الأصيل الوحيد الذي فعلته في حياتي.”

ومن رسائل ما قبل الرحيل رسالة فيرجينيا وولف التي تركتها لزوجها قبل انتحارها، وتقرُّ فيها بعدم استجابتها للعلاج، وأن حالتها تسوء، وأن ما ستُقْدم عليه هو نتيجة لشدة الألم؛ لذا فإن حبّها له يُحتِّم عليها أن تفعل الأفضل لكليهما، خاصة أنها تعترف له بأنه مصدر سعادتها، في حين أنها كانت بمرضها على النقيض تمامًا أفسدت عليه حياته، فترسل له رسالة أخرى بتاريخ مارس 1941، تؤكد ما يعتريها من يأس وقلق على ما سببته له، وكأنها تسعى بإنهاء حياتها تخليص العالم والآخرين من الجحيم الذي سببته لهم فتقول: إني أسمع أصواتا إني أحس بأني سأجن، وليس في مقدوري أن أبقى على ظهر الأرض في هذه الأوقات الرهيبة، إني أسمع أصواتا ولا أقوى على حصر فكري في عملي؛ لقد قاومت هذا الشعور، ولكني عاجزة عن الاستمرار في هذا الكفاح. إني مدينة لك بكل ما تمتعت به من سعادة في هذه الحياة، فقد أحسنت إليّ كل الإحسان، ولست أستطيع البقاء لأفسد عليك حياتك” [72].

ولا تغيب عن الذاكرة رسالة الإيرانية ريحانة جباري إلى أمها شعلة قبل تنفيذ حكم الإعدام من قبل حكم الملالي الذي نُفذ فيها يوم السبت 25 أكتوبر 2014. وفيها تسرد موقفها من هذا الحكم الجائر، فتقر بعجزها أمام سلطة هؤلاء فكما تقول “لا نملك أموالهم، ولا نفوذهم… لم تساعدني مبادئي”. لا تأتي الرسالة كنوع من البكاء على المآل، بقدر ما هي تكشف مشاعر ابنة إلى أمها في موقف مهيب، الابنة تتبادل دور الأم، في الدعم والمساندة، وكأنها رسالة اعتراف بدور هذه الأم ومبادئها التي كان لها حكم الملالي بالمرصاد، فتعدد لها ما نهلت منه “تعلَّمت منكِ وأنا أخطو إلى المدرسة أن أتحلَّى بالأخلاق الرفيعة في مواجهة الشجار والشكوى. هل تذكرين إلى أيّ حدٍّ كنتِ تشددين على الطريقة التي يجب أن نتصرف بها؟ لقد كانت تجربتكِ خاطئة. حين وقعت الواقعة، لم تساعدني مبادئي. حين قُدمت إلى المحاكمة بدوت امرأةً تقتل بدمٍ باردٍ، مجرمةً لا تملك ذرة من رحمة. لم تسقط مني ولو دمعة واحدة. لم أتوسل إلى أحد. لم يغمرني البكاء لأني وثقت في القانون”.

كما تضرب أروع الأمثلة في العطاء إذ تطلب من أمها، وتعتبرها وصيتها، بل تتوسل إليها أن تجاهد من أجل تحقيقها “لا أريد أن أتعفَّن تحت الثرى. لا أريد لعينيَّ أو لقلبي الشاب أن يتحوَّل إلى تراب. توسَّلي لهم ليعطوا قلبي، وكليتي، وعيني، وعظمي، وكل ما يمكن زرعه في جسدٍ آخر، هديةً إلى شخصٍ يحتاج إليهم بمجرد إعدامي. لا أريدُ لهذا الشخص أن يعرف اسمي، أو يشتري لي باقة من الزهور، ولا حتى أن يدعو لي. أقول لكِ من أعماق قلبي”، وإشفاقًا على أمها المكلومة تطلب منها أن توضع في “قبر تزورينه، وتبكين عنده، وتعانين. لا أريدكِ أن تلبسي ثوب الحداد الأسود. ابذلي ما في وسعكِ لتنسي أيامي الصعبة. اتركيني لتبعثرني الريح”.

وفي الأدب العربي الحديث مِن أشهر مَن كتبوا الرسائل الشاعرة فدوى طوقان، فبالإضافة إلى رسائلها المتبادلة مع أنور المعداوي، هناك رسائلها مع سامي حداد، ورسائلها إلى ثريا حداد صديقتها، وبالمثل هناك رسائل غادة السمان إلى غسان كنفاني، ثم إلى أُنسي الحاج، وجبران خليل جبران إلى مي زيادة، ومي زيادة إلى آخرين، ورسائل نازك الملائكة إلى عيسى الناعوري، وهناك رسائل عبدالحكيم قاسم التي جاءت بعنوان “كتابات نوبة الحراسة” وهي الرسائل التي كتبها أثناء رحلته إلى ألمانيا. وهي رسائل تعكس وطأة الاغتراب والائتناس بالكتابة، وتؤرخ لفترة مهمة من حياة عبدالحكيم قاسم، ولجيل الستينات، ومن ثم يمكن اعتبارها – على تعبير مُحرّرها محمد شعير - أنها “سيرة لجيل الأحلام المسروقة”.  وإن كانت تغفل بدرجة ما رسالته الأكاديمية التي كان يعدها في ألمانيا.

ويعد الشاعر أمل دنقل (1940 - 1983) واحدًا من القلائل الذين كتبوا النثر، فهو كان يرى الشعر “فرحه المختلس” فأخلص للشعر دون غيره، إلا أن لوعة الحب جعلته يلوذ بالنثر/الرسائل، كي يستميل قلب محبوبته “عبلة الرويني التي صارت زوجته فيما بعد”، فكان يجد في الرسائل غايته في تبديد ما عكره عنفه، وإن كان هذا العنف قناعًا يخفي به ضعفه الإنساني على نحو ما رأت عبلة نفسها، فهو “لا يُفصح عن مشاعره بسهولة، ولا تدخل قواميسه عبارات الإطراء وألفاظ الحب. إن إخفاء مشاعره وكتمانها سمة غالبة عليه، وعلى الآخرين وحدهم إدراكها دون إفصاح”.

وذات مرة نشب خلاف بينهما فاتجه أمل دنقل إلى مكتب البريد وأرسل إليها برقية عاجلة هكذا «الآنسة عبلة الرويني، صفحة المسرح بجريدة الأخبار: أرجو إرسال 35 جرام ثقة، التفاهم مطلوب، مع إلغاء التفكير السابق. أخطرونا تلغرافيًّا. أمل”.

تكشف رسائل أمل لعبلة الرويني التي كان يخاطبها ببلبل عن صورة خفية أو نقيضة للصورة الصلبة التي يرسمها دومًا على وجهه وتصد عنه الكثير من الأصدقاء وغير الأصدقاء؛ صورة تكشف عن شخص رقيق المشاعر، يتأثر إلى أقصى درجة ويلين إلى حد التنازل. ففي إحدى رسائله، وقد كان عزم على قطع صلته بعبلة بسبب ما يحدث بينهما من سوء تفاهم نتيجة “للهجته الحادة في الكلام” أو “لتسرعها في الفهم”، لكن ما إن اكتشف أنها تبكي في المترو حتى شعر بالتأثر المشبوب بهزة عنيفة داخليًّا فكما يقول “لقد هزتني دمعتك اليتيمة هزة عنيفة.. على عكس ما تعتقدين، فإن الضعف في الحب وفي المشاعر يؤثر فيَّ تأثيرًا عميقًا.. في هذه اللحظة فقط ندمت على المشاجرة التي حدثت بيننا”.

كانت الرسالة عند أمل أشبه بمصارحة وعتاب، فمثلاً في واحدة منها يفضي لها بما يساوره من مخاوف قائلاً “أكثر شيء أخافه هو تربيتك أو بالأحرى حياتك، ففي العادة تبحث كل الفتيات اللاتي لهن مثل ظروفك من الأمان في البيت والعمل عن قدر من القلق والانشغال، وأنا لا ألومك في هذا، بل وأصنعه لك متعمدًا في كثير من الأحيان”.

وهناك من الرسائل ما يتبنى أغراضًا أيديولوجية كرسالة الإمام حسن البنا إلى المرأة المسلمة، وهي بمثابة خارطة طريق – من وجهة نظر الإمام – يجب أن تسير عليها المرأة المسلمة في حياتها؛ كي يتحقق الاستقرار للأسرة المسلمة، موضحًا ما يجب عليها أن تتعلّمه من أمور حياتيّة، كتربية النشء، دون الاهتمام بتعلم العلوم النظرية واللغات. الغريب أنه يعترف في مستهل رسالته بأن الإسلام رفع قيمة المرأة وجعلها شريكًا للرجل في الحقوق والواجبات، كما اعترف الإسلام بحقوق المرأة الشخصية كاملة وبحقوقها المدنية والسياسية كاملتين، إلا أنه يحد هو من هذه الحقوق، بأن يحدد المجالات التي ينبغي تعلمها هكذا “ومن حسن التأديب أن يعلمهن ما لا غنى لهن عنه من لوازم مهمتهن كالقراءة والكتابة والحساب والدين وتاريخ السلف رجالاً ونساء، وتدبير المنزل والشؤون الصحية ومبادئ التربية وسياسة الأطفال، وكل ما تحتاج إليه في تنظيم بيتها ورعاية أطفالها.. أما المجالات في غير ذلك من العلوم التي لا حاجة للمرأة بها فعبث لا طائل تحته، فليست المرأة في حاجة إلى التبحّر في اللغات المختلفة، وليست في حاجة إلى الدراسات الفنية الخاصة..، وحسبها أن تعلم من ذلك ما يحتاج إليه عامة الناس”.

وهناك من الرسائل ما يعتني بتفاصيل الحياة الشخصية لمؤلفه، أو بمعنى أدق سيرة فكرية، على نحو رسائل توفيق الحكيم في كتابه “زهرة العمر” (1943)، وهي مجموعة من الرسائل أرسلها الحكيم إلى صديقه الفرنسي أندريه، وهي رسائل تكشف عن التكوين الفكري للحكيم، وآرائه في الكثير من الكتابات التي اضطلع عليه، وأيضًا رأيه في المرأة كشرقي متوحش على حد تعبيره، كما يطالعنا فيها على اهتماماته وشغفه بالعلوم والفنون (الموسيقى والتصوير)، والمعارف والأفكار، وضيقه من ضآلة الفكر ومحدوديته.

رسائل الحرمان

رسائل الحرمان

إذا كان من المعروف أن الرسائل تكون بين طرفين معلومين، فإن هناك بعض الرسائل ترسل إلى مجهول، ومن هذه النوعية الرسائل التي كان يرسلها الأديب عبدالقادر المازني إلى امرأة مجهولة توقع باسم “فاخرة” إلا أنه في نهاية الأمر اكتشف أن الشخص الذي يتبادل معه المازني الرسائل ما هو إلا الشخص التابع – واسمه عبدالحميد رضا – الذي كان يقوم بتوصيل الرسائل بينهما، وقد كشف عن غرضه عندما أرسل الرسائل إلى إحدى المجلات الأدبية آنذاك طالبًا نشر الرسائل، بأنه كان يريد أن يحصل على رسائل أدبية راقية من المازني، عن طريق تحريك عواطفه، وأنّه لم يقصد إيذاء الكاتب الكبير ولا جرح مشاعره.

المهم في هذه الرسائل هو الحيلة التي استطاع من خلالها أن يستدرج بها الشاب الكاتب الكبير، فكشف عن حالة من الحرمان العاطفي الذي كان يعيشها الأديب الكبير، فكانت الرسائل بمثابة النافذة التي عبّر من خلالها عما يعتريه من عواطف مكبوتة وشوق إلى الجنس الآخر/المرأة، وشغفه بها [73].

اللافت أن الكاتب ساورته الشكوك في ماهية صاحبة الرسائل المجهولة التي توقع باسم “فاخرة” فكتب لها رسالة يصارحها في ما خطر على باله وما يساوره من هواجس وشكوك، وسأنقل للقارئ الرسالة كاملة لما فيها من نموذج صادق لأدب الاعتراف، وصدق الذات مع أناتها، وعدم التحايل أو التنميق بل الصراحة إلى حد السخرية من الذات، وتقريعها، ومن ثمّ – وبما أن هذه الحالة التي أدخلت الرسائل فيها الأديب طواعية – كانت فرصة حقيقيّة لمواجهة الذات بكل عيوبها وكأن الرسالة أشبه بالمرآة المستوية التي تظهر فيها الذات على حقيقتها بكل عيوبها وخباياها دون رتوش أو إضفاء أي زينة:

 “عزيزتي الآنسة فاخرة هانم أظن أنك حيّرتني، حيّرتني جداً إلى حد ـ لا تضحكي من فضلك ـ إلى حد أني بدأت أظن أن الذي يُراسلني ليست آنسة ذكية القلب نافذة البصيرة، بل هي شاب داهية يُكاتبني باسم آنسة ليتفكّه بي ويسخر مني. فما رأيك في هذا الخاطر؟ أعترف لك أنه خاطر جرى ببالي من أول يوم وهذا هو السبب في التحرز الشديد الذي بدا مني في رسائلي الأولى ـ على الأقل رسائلي الأولى ـ ولكني تساهلت قليلاً مع نفسي وأرسلتها على سجيتها إلى حد محدود، فهل تدرين السبب في نشوء خاطر كهذا في رأسي؟

السبب أنني كنت وما أزال أعتقد أنه ليس في هذه الدنيا امرأة يمكن في أيّ حال من الأحوال أن يعجبها إبراهيم المازني، ولست أقول هذا تواضعاً أو على سبيل المزاح، ولكني أقوله لأنه عقيدة راسخة مخامرة لنفسي مع الأسف، وقد كانت نتيجة هذه العقيدة أني كما خبرتك في رسالتي الماضية تحاشيت في حياتي أن أحاول التحبّب إلى أية امرأة ولو كانت روحي ستزهق من فرط حبّي لها. ذلك أنّي لاعتقادي ذلك في نفسي أخشى أن أتلقى صدمة فتكون النتيجة أن تجرح نفسي فتثور فأتعذب وأعذبها معي.

لا أدري كيف يكون رأيك في رجل هذه حالته النفسية بلا مبالغة، وإنّي أقسم لك بكل ما يحلف به الأبرار أنّي لستُ كاذباً ولا متخيّلاً وأن هذه هي حقيقة اعتقادي في نفسي وحقيقة الواقع ـ ولا شك أنها شاذّة – ولكن ما حيلتي؟ وأنا أخسر بسببها كثيراً مما يفوز به الرجال، وأرى مفاتن الحياة تتخطاني وتقع على سواي بغير سعي منه لها، فلا أتحسّر لأني رضت نفسي على الحرمان ووطّنتها على أن لا تأسف على شيء.

وما أكثر ما يفوتني وأحرمه في دنياي في كل باب حتى باب المعيشة المادية، ولكن ماذا أصنع؟ لا شيء. صرت أتفلسف وأقول إن رياضة النفس على الزهد تتطلب قوة نفسية أكبر وأعظم من القوة التي يحتاج إليها الاقدام على التمتّع بلذاذات الحياة ونعم العيش، فهل هذا صحيح؟ لا أدري، ولكني أدري أنني لم أطق في باريس أكثر من ربع ساعة، ولا لندن أكثر من أسبوع، وأحببت الريف والبساطة، وكنت في رحلتي أفضّل أن أجوب الريف بسيارة صديق أحمل فيها طعامي وأبيت أحياناً كثيرة فيها بعد اغلاق نوافذها. لقد قلت مرة لصاحبة اجتمعت بها على ظهر السفينة:

يا سيدتي إنّك جميلة وحرام أن تُلقي بجمالك بين يدي حمار مثلي لا يُعجبه إلّا البرسيم.

هي مرارة نفسي تطفح أحياناً وتقطر من اللسان أو من القلم، ولكني ربّما كنت معذوراً ولعّلي كنت أكون أسعد في حياتي لو عشت في كهف بعيداً عن الناس.

أي نعم. وقد حاولت هذا مرة وقضيت بضعة أسابيع في جبل المقطم على أثر صدمة قوية تلقيتها من يد القدر، وكنت أشرب الماء بحفْنَتي من كفي وآكل من شبه مأجور من الطين فهل تصدقين.

ونفعني ذلك فعدت إلى الحياة بعزم جديد ونشاط كان مفقوداً. كتبت هذا لأشرح لك جانباً من شخصيتي السخيفة، ولست أعرف هل هي مزدوجة أو مثلثة، ولكني أعرف أنّي مثل غازل أعمى جيء له بخيوط وقيل له اغزلها. فتناول الخيوط وراح يعمل وأنّه ليعلم أن للخيط مذهبًا، ولكنه لا يرى طريقه، بل يتحسّسه، وقد تثور به الرياح فتفلت الخيوط من كفيه. أنا ذلك الغازل الأعمى الذي جاءت به الحياة وقالت له اغزل… وقد نظّمت قصيدة في هذا المعنى فلا تقرئيها.

مدهش جداً أن تقولي عن نفسك ما قلت في خطابك.

أيّ جريمة؟ ماذا في جوابك مما يمكن أن يسوءني يا سيدتي. حقاً كأنك لا تعرفين أنّك أوّل سيدة جليلة أولتني عطفاً وظنتني شيئاً يستحق كل هذه العناية. لا يا سيدتي. إني رجل أحفظ الجميل ولا أكفّره، ولا أجحد فضل الله وفضلك عليّ، فإذا كنت قد وجدت في ردّى ما يُشعرك أنّي تألمت، فإنّي آسف جداً وأرجو أن تحملي هذا على محمل المرارة التي في نفسي، وهي مرارة طبيعية لا تتأثر بشيء من الخارج أبداً، فسامحيني بالله واعفي عني واغفري لي زلّاتي وكوني معي على الدنيا. ألم أقل لك إنّي جاهل؟ بلى. وإني لأجهل الجهلاء وأبلد البلداء. فهل صح عزمك على أن تتفرجي على هذا الجاهل الغبي وتريه بعينيك يوم الأحد؟ أم عدلت يا ترى؟ أرجو أن يكون عزمك مستمراً، وسلامي وتحياتي وأشواقي وشكري العميق وما هو فوق الشكر والتحيات والأشواق، وأبلغ من كل ذلك.

أين يضعون هذه العلامة: (+)؟ إني أضعها في كل مكان فوق اسمي وتحته وإلى يمينه ويساره وفي حبّة القلب وتحت كل ضلع، وعلى كل عرق نابض وفي كل واحدة من مسام الجسد.

المازني”.

ومع حالة التخوف والتشكيك في ماهية صاحبة الرسائل إلا أن المازني يواصل رسائله، ويبث لها أشجانه وعواطفه، وزيادة في التخفي والإيهام يعطي تابع السيدة صاحبة الرسائل للمازني صورة زاعمًا بأنه صورة صاحبة الرسائل، وهكذا يسقط المازني في الفخ، ولتستمر اللعبة تطلب السيدة صاحبة الرسائل استرداد صورتها، وهو ما يفعله المازني كي يكون صادقًا وفيًّا إلا أنه يعلن لها في إحدى رسائله عن شغفه بالصورة ويطلب منها ” سامحيني… فإن عقلي ليس معي، عقلي مع الصورة التي أعيدها إليك وقلبي يتمزّق… لي رجاء صغير… أعيدي إليّ الصورة مع كل رسالة منك لأنظر إليها وأتزوّد ثم أعيدها إذا كنت لا تريدين أن أبقيها عندي.. أعيديها إليّ. أستحلفك بأعزّ عزيز عليك بأن تعيديها إليّ لأراها مرةً أخرى” [74].

الرسائل التخيليّة

الرسائل التخيليّة

استعان كثير من الروائيين في نصوصهم الروائيّة برسائل، يتبادلها أبطال العمل الروائي، ويأتي حضور الرسالة كجزء من العمل، فعدت ركنًا ركينًا في السرد، وحضورها بمثابة الوثيقة التي تراوح العمل بين المرجعي والتخييلي، في هذه الحالة تكون وظيفة الرسالة “وسيلة لاستحضار الماضي، واستعادة ما فات منه، واتخاذه مرقاة لتأمل الحاضر، وإدراك فعل الزمن في البشر والحجر” [75]. وقد اعتبرها جيل دولوز وفليكس غاتاري تشكل جزءًا لا يتجزأ من آلية العمل الأدبي، تنتمي تمامًا إلى الكتابة، سواء خارج العمل الأدبي أم ضمنه. وفي دراسته عن رواية السيرة الذاتية يعتبر محمد آيت ميهوب، أن رواية السيرة الذاتية اعتمدت على الوثائق للمزج بين الواقعي والتخييليّ، ويقسّم الوثائق إلى ثلاثة ضروب تداخلت مع النص السردي وهي: الصور الفوتوغرافية، الرسائل، اليوميات الخاصة” [76].

ولئن وردت الرسالة في النّصوص السّردية كجزء في السرد، فإنها في بعض النصوص احتلت مكانًا مركزيًّا، وصارت بنية النص بنية رسائلية، أي هو قائم على رسائل متبادلة بين الشخصيات.، وهو ما عرف باسم الرواية الترسليّة أو الرسائليّة في أوروبا، وهي حسب قاموس السرديات، ضرب من الروايات انتشر في أوروبا في القرن الثامن عشر، عماد النص فيه رسائل تخييلية، إن بصفة كلية أو بصفة جزئية تضطلع بوظيفة السرد أو تؤدي على الأقل دورًا هامًا في سياق أحداث الحكاية. وأهم ما يميز الرواية الترسليّة هو أن للرسائل المضمنة في صلب النص وظيفة سردية دونها، بل لا إمكان للقارئ أن يدخل عالم الرواية في تفاصيله ودقائقه إلا من خلال هذه الرسائل، والراوي يميل في الرواية الترسليّة إلى الغياب عن النص غيابًا تامًا والتخلّي عن وظيفته الأولى؛ وظيفة السّرد مُفْسحًا المجال للشخصيات لتتبادل الرسائل وعبرها تنتقل أطوار الحكاية، وتتطوّر الأحداث. الميزة الأهم في الرواية الترسليّة أن القارئ صار بالأهمية التي تضاهي المؤلف والشخصيات، فلم يعد دوره مقتصرًا على تلقي الأحداث من قبل الراوي، بل أصبح دوره متساويًّا مع المؤلف والشخصيات في العلم بمجريات الحكاية. ومن الروايات الترسليّة ما كان ثنائي الصوت وذلك حين يتوافر متراسلان يتبادلان الرسائل بصفة منتظمة، ومن الروايات الترسلية ما شابه السيمفونية في تنسيقه ومزاوجته بين رسائل لمتراسلين متعددين يتبادلون الرسائل في وقت متزامن، وإلى هذا النوع يعزو الدارسون ما يميز الرواية الترسليّة من تعدد في الأصوات وتنوع في وجهات النظر، وتداخل في الأساليب واختلاف في قص أطوار الحدث. وهي ميزات جعلت الرواية الترسلية تعبيرًا أدبيًّا عما ساد القرن الثامن عشر من تمرد على الثوابت والمطلقات وتدمير لفكرة المركز، كما جعلتها أسا من الأسس التي قامت عليها الحداثة في الكتابة الروائية في القرن العشرين [77].

وقد ظهرت الرواية الرسائليّة مع الإنجليزي صاموئيل ريتشارد سو (1689 – 1761) في روايتيه “باميلا أو جزاء الفضيلة”، و”كلاريسا أو تاريخ السيدة الشابة”، واحتوت رواية الألماني غوته “آلام فرتر” (1774) على رسائل متبادلة بين الأبطال، واستهل الكاتب الروسي دوستويفسكي رواياته برواية ترسليّة هي “الفقراء”(1846) التي جاءت على هيئة رسائل بين بطلي الرواية (السيد ماكار ألكسييفيتش وفارفارا أليكسييفنا) المرأة التي تقطن أمامه. وقد تضمنت الروايات بعض الرسائل، فاحتوت رواية التركية أليف شفق “قواعد العشق الأربعون” (2009) على رسائل إلكترونية متبادلة بين بطلي الرواية، وبالمثل رواية الأميركية جين وبيستر “صاحب الظل الطويل” (1912)، على رسائل من طرف جودي بطلة الرواية اليتيمة التي تحصل على منحة من رجل ثري، مجهول، وإن كان يطلب منها أن ترسل لها رسائل شهرية بانتظام، تعلمه تطور مراحل تعليمها، فابتكرت له اسم صاحب الظل الطويل، وأخذت تداوم على إرسال رسالتها حسب الاتفاق دون أن تنتظر ردًا منه.

وفي عالمنا العربي هناك روايات اعتمدت بنيتها على الرسائل كما في نموذج رواية “قلب الرجل” (1904) للبيبة هاشم، فالرواية التي تعتبر من النتاجات الأولى للرواية في عالمنا العربي، تلعب الرسالة دورًا مهمًا في العلاقة كشف الفتور بين الحبيبين (عزيز وروزه)، فالرسالة كانت هي نقطة الضوء لأسباب هذا الفتور، فعندما ذهبت روزه إلى منزل عزيز كي تخبره بصفح أبيها عنه وتبرئته، إلا أنها فوجئت بين أوراقه برسالة دق لها قلبها عندما فتحتها تقول صاحبتها: (“حبيبي عزيز: إني شاعرة بحبك لي، واثقة بصدق ودادك الذي باحت لي به نواظرك، ونمّ عليه اضطرابك وخفوق فؤادك أثناء تلاقينا، فثق أن محبتي تماثل غرامك، وإعجابي بك يُعادل حسن سجاياك، وطيب خصالك، فتفضل بقبول من لا تحيا إلا لأجلك ومن لا تجد سعادة إلا بقربك” محبتك ماري) (الرواية: ص 57 ـ طبعة هنداوي). وتحضر الرسائل بكثرة في رواية محمود خيرت “الفتاة الريفية” (1905)، فيقول “فتيات: كان يجدر بي أن لا أوقفك على هذه الهوة العميقة ثم أتخلى عنك وأنا الذي سهلت لك طريق الحب ومهدت لك سبيل الهوى حتى استرسلت فيه واستسلمت له (..) حبيبك الأول” (الرواية: ص 139).

 ومن ثم توالت الأعمال التي طرزت الحكاية بالرسائل مثل روايات: “إبرسيم أو غرام حائر” (1977) لمحمد عبدالحليم عبدالله، و”شيء في صدري” لإحسان عبدالقدوس، و”جزء من حلم” (1984) لعبدالله الجفري، و”الزهايمر” (2010) لغازي القصيبي، و”بنات الرياض” (2005) لرجاء الصانع، و”ليليات رمادة” (2020)، واسيني الأعرج، و”بريد الليل” (2018) لهدى بركات.

حظيت الرواية الترسلية مؤخرًا باهتمام نقدي ملحوظ فصدر كتابان، اهتما بدراسة وتحليل هذه الروايات الأول هو: “الرواية الرسائلية: مدخل إلى شعرية الأصول، والأنواع، والوظائف، والتحولات” للدكتور فهد إبراهيم البكر، والدراسة صادرة عن مؤسسة الانتشار العربي، بالاشتراك مع نادي الطائف الأدبي الثقافي (2021)، والثاني كتاب عزوز علي إسماعيل “الرواية الرسائلية والرسالة الروائية … دراسة تحليلية”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2021.

الرسائل والسيرة الذاتية

ارتبطت السيرة الذاتية بالرسائل كتقنية يعتمد عليها الكاتب، كي تكون وثيقة، وهذا ما أكده جورج ماي في كتابه السيرة الذاتية (1979)، عندما ربط بين السيرة الذاتية وكتب الوقائع، فذكر لئن كان الحوار يضفي بعدًا دراميًّا على السيرة، فإن الرسائل تجعل منها وثيقة، وأكد قوله بالرسائل التي أدرجها روسو في اعترافاته، وكذلك في سيرة “هربرت سبنسر”، فروسو حسب قوله جعل وظيفة الرسائل “استعادة الحقيقة التاريخية التي زيفها خصومه نكاية به”، أما هربرت سبنسر فقد جعل من الرسائل “شاهد صدق على حديثه”، وقد حفلت سير ذاتية كثيرة برسائل تجاوزت المعنى الظاهر للرسالة، إلى استحضار عصر بعينه، أو التأكيد على حقيقة معينة، المهم أنها لم تكن مجرد زينة، بل كانت غاية، وذات وظيفة تعمل على تقوية الحكاية والتأكيد على صدق جوانبها.

الرسائل الإلكترونية

لم تلغ التطورات التكنولوجية التي حدثت بسبب الطفرة في وسائل الاتصال، وحلول وسائط جديدة حلت محل الوسائط القديمة في كافة معاملاتنا وممارستنا اليومية الرسائل الشخصية وإن تغيرت طبيعتها وصورتها وطريقة إرسالها، فصارت الرسائل ترسل عبر الهاتف، وعبر البريد الإلكتروني وهو ما عرف بالرسائل النصية (Text messages) تارة، وتارة عبر غرف الدردشة (Chat) بعدما غزت وسائل التواصل الاجتماعي حياتنا، وتطور الأمر وصارت هناك الرسائل الصوتية (Voice messages) كتأكيد لتأثير التكنولوجيا، فاختفت الرسائل الورقية وحلت محلها الرسائل الإليكترونية التي يتم تبادلها عبر الإنترنت، ومع هذا فاحتفظت الرسائل الإليكترونية (النصية) – على اختلاف طبيعة كتابتها وأغراضها – بالصفات الجوهرية التي  كانت مُشكّلة لبنية الرسائل الورقية، فظهرت الديباجة الرئيسية التي تحتل أعلى الصفحة بين المرسلين، على نحو: عزيزي/صديقي/صديقتي، إلى آخر، وبالمثل خاتمة الرسالة التي كانت تعكس طبيعة العلاقة بين المتراسلين، الفارق الوحيد بين الرسائل الإلكترونية والورقية، أن صورة واسم المتراسلين ظاهران داخل مربع التراسل (الإيميل/الشات عبر الماسينجر أو الواتس أو الانستجرام وغيرها من وسائط).

وهذا الاختلاف – في ظني – يلغي فكرة الخيال التي كانت تصل إلى رسم صورة للمرسل إليه عبر الرسائل الورقية، أما الاختلاف الثاني فاتسمت الرسائل الإلكترونية بأنها آنية، والردود لا تأخذ وقتًا طويلاً إلا إذا كان الطرف المرسَل إليه مشغولاً ولم يفتح إيميله الشخصي أو الحسابات الشخصية (الأكونتات) المرسل عليها (كالفيسبوك، والواتس آب، والإنستغرام وتويتر، وسناب شات وغيرها)، وهذه الآنية غير متحقِّقة في الرسائل القديمة، حيث الرسائل كانت تأخذ وقتًا طويلاً بين رحلة الإرسال والجواب عليها، فيأتي الرد بعد فترة من وصول الرسالة، بسبب عوامل متعلقة بالإرسال وغيرها وظروف النقل، وهو ما كان يخلق شغفًا في الانتظار، وتخيّل الرد كيف سيكون.

من النماذج الدالة على هذا ما كان ينشر في جريدة “الرأي” الأردنيّة من رسائل بين الشاعرة والفنانة التشكيلية السورية دلال مقاري باوش التي تقيم في ألمانيا، والكاتب الصحافي المصري حسام عبدالقادر الذي يقيم في كندا، ثم صدرت لاحقًا في كتاب بعنوان “رسائل من الشاطئ الآخر” فـأصل هذه الرسائل هو رسائل عن طريق البريد الإلكتروني. وبالمثل رسائل منى الشيمي إلى أسامة الرحيمي (صباح الخير يا منى: رسائل بنت الشيمي وابن الرحيمي)، وتشتركان الرسائل في أن سبب كتابتهما هو جائحة وباء كورونا، والحجر الإجباري الذي فرض على الجميع، فجاءت الرسائل وكأنها محاولة لكسر رتابة هذا الحجر، واعتبارها نافذة لتجاوز الأضرار النفسية التي خلقتها الجائحة.

وبصفة عامة هي رسائل حملت همًّا بقضايا أدبيّة وثقافيّة وإنسانيّة، فنرى ثمّة إثارة لقضايا مهمة معاصرة كالاغتراب أو الغربة ومشاكلها وكيفية التعامل معها، إلى جانب قضايا الهجرة غير الشرعية وقضايا النزوح الجماعي والنازحين، واللجوء السياسي، وهناك ما يتعلق بما يواجه المغتربين من إشكالية اللغة والهوية وغيرها، ومن ثم تتجاوز الرسائل الإطار الشخصي أو الذاتي إلى إطار عام مجتمعي إنساني.

وقد احتوت الرسائل على ثلاث وثلاثين رسالة تبادلها الطرفان على فترات مختلفة، عكست الكثير من الاهتمامات المشتركة بين الطرفين، حتى غدت الرسائل في إحدى تجلياتها، أدبَ رحلة لما تضمنته من أوصاف للأماكن التي يعيش فيها الطرفان، في الرسالة الأولى بعنوان “الحُلم” يسرد عن مخاوفه مما آل إليه الوضع، بتعثّر السّفر بسبب الحجر الصحي، والحلم الذي يراوده لتخطّي كافة العراقيل بما فيها الحرب، لتأتي رسالة دلال مقاري كردّ على رسالته، ولكن أشبه بأسئلة تستفسر من خلالها عن مغامرته للسفر، وعن خطواته، وإن كانت تدعوه بأن يبقى ولا يرحل “صديقي حسام لا تطلق جناحك للسفر، ابق هناك، دع حصانك يقفز فوق ظله، فوق خوف من فراغ، فوق زحمة الكلمات، والشجر المحروق انتظارًا”، ثم تنهي رسالتها باستدراجه إلى الكتابة عن الإسكندرية: تمنيت أن تكتب لي عن بحر الإسكندرية، وأين يمضي الموج؟” [78].

أما رسائل منى الشيمي وأسامة الرحيمي (صباح الخير يا منى) فهي رسائل كُتبت مباشرة على صفحات الفيسبوك، حيث بدأت برسالة أرسلتها منى الشيمي بعد تفشي وباء كورونا، أثناء تواجدها في مدينة الغردقة للانتهاء من بعض أوراق انتدابها من وزارة التربية والتعليم إلى وزارة الثقافة في القاهرة، ومع بداية توقف الحياة، نشرت رسالتها مباشرة إلى أسامة الرحيمي على صفحتها، فوجدت تفاعلاً من الأصدقاء الذين دفعوه دفعًا ليرد على رسالتها على الملأ أيضًا. واستمر الاثنان في تبادل الرسائل، وعبرها استعرضا للكثير من الجوانب الشخصية وبداية التعارف بينهما، وشغفهما بالأفلام والروايات، وكذلك ناقشا بعض الأفكار المتعلقة بالموت، فلكل واحد منهما تجربة خاصة مع الموت.

الرسائل الغريبة

من الرسائل التي تدخل في باب الغريب والعجيب رسالة فريجينا وولف التي ترفض فيها طلب زواجها، فكتبت رسالة حادة تقول فيها “أشعر بالغضب من طلبك، تبدو أجنبيًا للغاية، وأنا مضطرة إلى درجة تثير الخوف. كما قلت لك بقسوة، لا أشعر بأيّ انجذاب جسدي نحوك. مع ذلك يغمرني اهتمامك بي”. ويدخل في باب الغريب رسالة أبي حيان التوحيدي [79] التي برّر فيها لمنتقدين إحراقه كتبه، ولماذا أقدم على ما أقدم، كان أبوحيان قد أحرق كتبه في آخر عمره لقلة جدواها، وضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته. وكتب إليه القاضي أبوسهل علي بن محمد يعذله على صنيعه، ويعرفه قبح ما اعتمد من الفعل وشنيعه. فكتب إليه أبوحيان يعتذر من ذلك “حرسك الله أيها الشيخ من سوء ظني بمودتك وطول جفائك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعًا مما سوّد وجه عهد إن رعيناه كنا مستأنسين به، وإن أهملناه كنا مستوحشين من أجله، وأدام الله نعمته عندك، وجعلني على الحالات كلها فداك. وافاني كتابك غير محتسب ولا متوقع على ظمأ برح بي إليه، وشكرت الله تعالى على النعمة به علي، وسألته المزيد من أمثاله، الذي وصفت فيه بعد ذكر الشوق إليّ، والصبابة نحوي ما نال قلبك والتهب في صدرك من الخبر الذي نمى إليك فيما كان مني من إحراق كتبي النفيسة بالنار وغسلها بالماء، فعجبت من انزواء وجه العذر عنك في ذلك، كأنك لم تقرأ قوله جلّ وعزّ: (كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون)، وكأنك لم تأبه لقوله تعالى: (كل من عليها فان). وكأنك لم تعلم أنه لا ثبات لشيء من الدنيا وإن كان شريف الجوهر كريم العنصر، ما دام مقلباً بيد الليل والنهار، معروضاً على أحداث الدهر وتعاود الأيام”. ثم يذكر له دوافع ما أقدم عليه بقوله “إن كان – أيدك الله – قد نقب خفك ما سمعت، فقد أدمى أظلي ما فعلت، فليهن عليك ذلك، فما انبريت له ولا اجترأت عليه حتى استخرت الله عز وجل فيه أياماً وليالي، وحتى أوحى إلي في المنام بما بعث راقد العزم، وأجد فاتر النية، وأحيا ميت الرأي، وحث على تنفيذ ما وقع في الروع وتريع في الخاطر، وأنا أجود عليك الآن بالحجة في ذلك إن طالبت، أو بالعذر إن استوضحت، لتثق بي فيما كان مني، وتعرف صُنع الله تعالى في ثنيه لي: إن العلم – خاطك الله – يراد للعمل، كما أن العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم كلاً على العالم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلاً وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه علاً – وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار”. وبعدها يعدد له ما في هذه الكتب، وموقع المتلقي منها، وبعدها يذكر له أنه لم يفعل سابقة، “فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم، ويؤخذ بهديهم، ويعشى إلى نارهم، منهم: أبوعمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر. وهذا داود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهداً وفقهاً وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول. وهذا يوسف بن أسباط: حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسد بابه، فلما عوتب على ذلك قال: دلنا العلم في الأوّل ثمّ كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناه من أجل ما أردناه. وهذا أبوسليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك. وهذا سفيان الثوري: مزق ألف جزء وطيرها في الريح”.. [80] إلخ (الرسالة).

تركيب

الرسائل فن أصيل عرفته الشعوب – منذ قديم الزمن – على مختلف ثقافاتها وأعراقها، مارسته شخصيات متعددة، لا تقف عند حدود الأدباء والكتاب، بل مارسه الساسة والفلاسفة والمفكرون وغيرهم، لما أتاحته – نظرًا لخصوصيتها الشديدة – من مساحة شاسعة للتعبير عن النفس ونوازعها دون الخوف من الرقيب أو الشعور بالخجل، أو الحاجة إلى القناع والتخفي كما يحدث في كتابات الذات وتحديدًا رواية السيرة الذاتية.

كشفت الرسائل على اختلاف أغراضها؛ رسائل حبّ، ورسائل سياسيّة، ورسائل فكريّة، وغيرها عن المضمر عنه في المجتمعات، كما قدّمت صورة حقيقيّة للمشهورين بعيدة عن تلك الهالة التي صاحبت نفوذهم ومواقعهم، فهم بشرٌ يتفاعلون بالأحداث يقعون في الحب، وأحيانًا يذلهم، ويجردهم من كل سلطاتهم وقوتهم، فنراهم شخصيات ضعيفة لا حول لها ولا قوة، تستعطف المحبوب كي يرق لحالهم.

كما كشفت الرسائل عن الأنساق المهيمنة في المجتمعات؛ فثمة مجتمعات كانت الأصوليّة المتشدّدة هي المهيمنة فرأت في الحب جريمة وأيّ جريمة، بل يُعاقب مَن يجهر به بالموت. وأيضًا كشفت عن دكتاتورية ترفض أيّ أيديولوجيا مخالفة لها، حتى لو وصل بها الأمر إلى مطاردة وإقصاء الكُتَّاب عن أوطانهم.

بقدر ما تمثّل الكثيرون لمفهوم الرسالة الدارج بأنها خطاب بين طرفين، إلا أن كثيرًا من الكتب حملت عناوين رسالة، وهي أبعد عن المعنى المقصود، فكانت الرسالة أقرب إلى البحث والمقالة الطويلة، فالجاحظ في كثير من رسائله يقصد معنى البحث والمقالة، لا معنى الرسالة الموجهة إلى شخص بعينه.

حملت الرسائل أغراض الشعر، فظهرت الرسالة الهجائيّة والمدحيّة، والرثائيّة والغزليّة، وهو ما يشير إلى انفتاح النوع على أغراض متعددة وتداخله مع أجناس قريبة فاستفادت الرواية من الرسالة وجعلتها جزءًا من نسيجها السردي كالرواية والسيرة الذاتية، وفي أحد أطوارها استقلت الرسالة وصارت نوعًا له خصائصه المميزة كما في الرواية الترسليّة أو الرسائليّة التي ذاعت شهرتها في القرن السابع الميلادي.

تعددت أغراض الرسالة، وانشغل جزء كبير من الأدباء بالرسائل الفكرية، التي كانت أشبه بسجالات نقدية، ومناقشات للأفكار والآراء حول موضوعات أدبية، وعلمية بحتة، وكتابات منشورة في الصحف والدوريات. فقدمت الرسائل وجوهًا متعدّدة للكتاب، فعرفنا رسائل مي وجبران الحميمة، ورسائل العقاد لها، لكن في جزء من رسائلها كانت عقلية مفكرة ناقدة، تدافع عن المرأة وقضاياها على نحو ما رأينا في رسائلها لجبران ورفضها للأفكار التي طرحها في روايته الأجنحة المتكسرة، وبالمثل موقفها من أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، ومحاولته إقصاء المرأة عن المشهد، فثارت ثورتها ودافعت عن جنسها، وأحقيته في أن يشاطر الرجل في مجالسه.

كشفت الرسائل عن معاناة المرأة في التعبير عن مشاعرها وعواطفها في المجتمعات الغربية، نظرًا لتفشي الأصوليّة، وأن تقييد حرية المرأة لم يكن حِكرًا على المجتمعات الشرقيّة، وإنما ساد في كل المجتمعات المنغلقة، أو تلك التي يهيمن على أنساقها حُرّاس الفضيلة والأخلاق.

قدمت الرسائل - بصورة عامة - صورة للمجتمعات التي كُتبت فيها، والسياقات التي نتجت عنها، وموقف هذه المجتمعات من المرأة والعشق تحديدًا، كما أبانت عن مشاعر حقيقيّة وعواطف ساميّة، لم يعد لها وجود في عصر العولمة والتكنولوجيا، فالمشاعر الآن تتناقل عبر (إيموجي)، صار هو الوسيط لنقل هذه المشاعر، فالرسائل الإلكترونية مع الأسف لم تحل بديلاً عن الرسائل الورقية، بالطبع، حلّت الرسائل كخطاب بين شخصين أو أكثر (كما في الجروبات)، لكن - مع الأسف - غاب الصدق والأهم دفء المشاعر في التواصل والمكاتبات.

هوامش

[1]. محمد بدران، مقدمة كتاب “أشهر الرسائل العالمية: من أقدم الأزمنة إلى الوقت الحاضر”، سلسلة آفاق عالمية، ع 187، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2019، ص 1.
[2] . السابق نفسه: ص 1.
[3]. نزار قباني: “100 رسالة حب”، منشورات نزار قباني، الطبعة الثانية عشرة، آذار / مارس 1982، ص 1.
[4]. شوفليي دو جوكور: “رسائل العلوم”، الموسوعة، الجزء ،9 1765، ص 411 .
[5]. جمع المؤرخ البريطاني سيمون سيباخ مونتيفيوري ( Simon Sebag Monterfiore) (1965- …)، في كتاب (التاريخ المدوّن: الرسائل التي غيّرت العالم) Written in History: Letters that Changed the World»» العديد من الرسائل ومقتطفات مرتبة ومزودة بالسيرة الذاتية والتاريخ، وقد رتبها عشوائيًّا تحت عناوين: الحب، الصداقة، العائلة، السلطة، المصير، والوداع، دون مراعاة لترتيب الزمن، وقد جاء جمعه لهذه الرسائل حسب قوله: “من باب محبتي الشخصية لكل رسالة فيها، فقد اخترت كلاً منها عن عمد؛ لأني وجدت فيها ما يدفعني إلى تسليط الضوء عليها”، لمزيد من التفاصيل راجع، عماد فؤاد: “مونتيفيوري: رسائل غيّرت وجه العالم الرسالة أكثر ما يمكن أن يتركه الشخص ليدلّ عليه”، مجلة الفيصل، مارس 2021، ويمكن مطالعة المقالة على الموقع التالي:
https://www.alfaisalmag.com/?p=20436 [6]. لماذا نحب أن نقرأ الرسائل الأدبية، مقالة على موقع https://www.elhayatalarabiya.net/ar/لماذا-نحب-أن-نقرأ-الرسائل-الأدبية؟/ بدون اسم المؤلف، بتاريخ: 12 مارس 2021. ومقالة إليزابيث مدرجة ضمن كتاب:
The Collected Essays of Elizabeth Hardwick (New York Review Books Classic October 17, 2017. [7]. السابق نفسه.
[8] . معاوية محمد نور: “بين ثقافتين: مقالات وقصص”، كتاب الدوحةـ ع (129 من مجلة الدوحة)، يوليو 2018، ص 57.
[9]. من رسالة كافكا إلى ميلينا، وقد جاء فيها: “مِن أين تُراها قد نشأت فكرة التواصل بين الناس عن طريق الرسائل؟ قد يخطُرُ لنا أن شخصًا ما يودّ أن يقرّب إليه شخصًا آخر بعيدًا عنه، وأن يتمسك به، وكل تفسير عدا هذا يتجاوز قدرة البشر. ومع ذلك، فإن كتابة الرسائل تعني التعري أمام أشباح، وهو شيء تنتظره تلك الأشباح في نهم، والقبلات المكتوبة لا تبلغ غايتها. ذلك أن الأشباح تشربها في الطريق… إلخ الرسالة”، راجع: فرانز كافكا: “رسائل إلى ميلينا”، ترجمة: الدسوقي فهمي، سلسلة آفاق الترجمة، ع 36، الأعمال الكاملة – 2، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1997، ص 325.
[10]. أندريه جيد: “دوستويفسكي: مقالات ومحاضرات”، ترجمة: إلياس حنا إلياس، سلسلة زدني علمًا، منشورات عويدات، بيروت – باريس، ط أولى، 1988، ص 15.
[11]. تشارلز أوزبورن: “كافكا”، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت – لبنان، ط أولى، 1967، ص 76.
[12]. لويس غروس: “ما لا يُدرك: النساء في حياة وأعمال فرانز كافكا، وفرناندو بيسوا، وتشيزاري بافيزي”، ترجمة: زينب بنياية، مراجعة: نهى أبو عرقوب، مشروع كلمة، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، الإمارات العربية المتحدة، 2016، ص 66.
[13] . فروخ عمر: “تاريخ الأدب العربي”، دار العلم للملايين، بيروت 1969، ج 1، ص 374.
[14] . حسين نصّار: “نشأة الكتابة الفنية في الأدب العربي”، مكتبة النهضة المصرية، ط أولى، 1954، ص 43.
[15]. القلقشندي: “صبح الأعشى في صناعة الإنشاء”، دار الكتب المصرية، 1340 – 1922، ج1، ص 91.
[16] . جرجي زيدان: “تاريخ آداب العرب”، مطبعة الهلال، د.ت ص 365.
[17]. طه حسين (وآخرون): “التوجيه الأدبي”، لجنة التأليف والنشر، ص 215.
[18]. ابن حزم الأندلسي: “طوق الحمامة في الإلفة والألاف”، حققه وقدم له وعلق عليه: دكتور الطاهر أحمد مكي، سلسلة كتاب الهلال، ع (497)، مؤسسة دار الهلال، القاهرة، ذو القعدة مايو 1992.
[19]. لويس غروس: “ما لا يُدرك كله…”، مرجع سابق، ص 69.
[20]. نقلاً عن لويس غروس، مرجع سابق، ص 70.
[21]. الجاحظ: “مجموع رسائل الجاحظ”، حقق نصوصه وقدم لها وعلق عليهاـ الدكتور محمد طه الحاجري، دار النهضة العربية، بيروت، 1983، ص 17.
[22]. الجاحظ: “كتاب التربيع والتدوير”، عني بنشره وتحقيقه: شارل بلات، المعهد الفرنسي بدمشق للدراسات العربية، دمشق 1955.
[23]. الجاحظ: “مجموع رسائل الجاحظ”، مرجع سابق، ص 41 وما بعدها.
24]. حسين غالب: “بيان العرب الجديد”، دار الكتاب اللبناني، ط أولى، 1971، ص 181.
[25]. هذا الوصف جاء على لسان هلواز حبيبة أبلار، عندما كان يتراسلان، فوصفت له شعوره برسائله عندما تصل إليها، وما تنقله من أحاسيس ومشاعر، ومن ثم تحرضه على التواصل عبر الرسائل ما دام حِيل بينهما، فكما تقول “ليس ثمة ما يمنعنا أن نتبادل الرسائل، لأن هذه المتعة البريئة لا يحرمها علينا الناس، …. ولعلها هي السعادة الوحيدة التي لا يستطيع حقد أعدائنا ان يغتصبها”، وكان غرضها بهذا الوصف حثه على الاستمرار في كتابة الرسائل لها، فهي تنتظرها بشغف، تتخيله أمامها وتتحدث إليه، ص ص: 52، 53.
[26]. نقلاً عن لويس غروس: “ما لا يدرك كله”، مرجع سابق، ص 74 – 75.
[27]. راجع: طه محمد ذكي عبد المعطي: “الكياسة في بعض رسائل شيشرون”، مجلة مركز الدراسات البردية، جامعة عين شمس، المجلد 37، ع 1، 2020، ص 153.
[28]. مجموعة مؤلفين: “نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير”، ترجمة ناجي مصطفى، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي، ط أولى، 1989، ص 103.
[29]. السابق نفسه: ص 99.
[30]. رسائل نابليون إلى جوزفين: ترجمة: زهرة مروّة، دار الرافدين، العراق، ط أولي، يناير 2021، ص 45.
[31]. السابق نفسه: ص 55.
[32]. السابق نفسه: ص 68.
[33]. محمد على كرد: “رسائل البلغاء”، (دار الكتب العربية الكبرى، مصطفى البابي الحلبي وإخوته، بكري وعيسى بمصر، سنة 1331ه- 1913م.
[34]. السابق نفسه: ص 172 وما بعدها.
[35] . السابق نفسه: ص 215.
[36]. محمد بدران: “أشهر الرسائل العالمية من أقدم الأزمنة إلى الوقت الحاضر”، مرجع سبق ذكره في هامش 1.

[37]. السابق نفسه: ص 7.
[38]. السابق نفسه: ص 39.
[39]. السابق نفسه: ص 40.
[40]. السابق نفسه: ص 17.
[41]. السابق نفسه: أشهر الرسائل ج 2، ص 33.
[42]. السابق نفسه: ص61.
[43]. رسائل نابليون إلى جوزفين: ترجمة: زهرة مروّة، دار الرافدين، العراق، ط أولي، يناير 2021.
[44]. نص الرسالة المؤرخة في يناير 1898، منشور كاملاً في كتاب “أشهر الرسائل العالمية” لمحمد بدران، الجزء الثاني، على صفحات: 155- 158.
[45]. السابق نفسه: ص 75.
[46]. السابق نفسه: الرسائل ج 2، ص 25.
[47]. الجاحظ: “رسالة الصداقة والصديق، تحقيق: إبراهيم الكيلاني، دار الفكر المعاصر، بيروت – لبنان، ودار الفكر، دمشق – سورية، ط ثانية: 1998، ص،35.
[48]. عبدالرحمن منيف، ومروان قصاب باشي: “في أدب الصداقة”، تقديم: فواز طرابلسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ودار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، ط أولى، 2012.
[49]. زينة الحلبي: “معجم الحميمية: رسالة سارة أحمد التي لن تقرأها لورين برانت”، موقع الجمهورية، بتاريخ 1 تشرين الأول، 2021.
[50]. أنطوان تشيخوف: “رسائل إلى العائلة”، ترجمة: ياسر شعبان، كتاب الدوحة ع 42، مجلة الدوحة نوفمبر 2014، وزارة الثقافة والفنون والتراث، دولة قطر.
[51]. فيودور دوستويفسكي: “الرسائل، 1-2″، ترجمة خيري الضامن، دار سؤال، لبنان، بيروت، ط أولى، 2017.
[52]. السابق نفسه: ج 2 / 63 [53] . السابق نفسه: ج 2 / 521.
[54]. فرانز كافكا: “الآثار الكاملة، الأسرة، الحكم، الوقاد، الانمساخ، رسالة إلى الوالد”، ترجمها عن الألمانية، إبراهيم وطفي، الناشر: إبراهيم وطفي، طرطوس، حصين البحر، الجمهورية العربية السورية، توزيع: دار الحصاد للنشر، سوريا، دمشق، برامكة، ط 2، 2002، ص 601 -658.
[55]. روجيه جارودي: “واقعية بلا ضفاف (بيكاسو، سان جون بيرس، كافكا)”، تقديم أراجون، ترجمة: حليم طوسون، مراجعة: فؤاد حداد، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968، ص ص 151، 152
[56]. فرانز كافكا: “الآثار الكاملة، الأسرة، الحكم، الوقاد، الانمساخ، رسالة إلى الوالد” مرجع سابق، ص 603.
[57]. السابق نفسه: ص 608.
[58]. السابق نفسه: ص 624.
[59]. سامية محرز: “إبراهيم ناجي: زيارة حميمة تأخرت كثيرًا”، دار الشروق، القاهرة، ط أولى، 2022، ص 61.
[60]. السابق نفسه: ص 83.
[61]. محمد بدران:” أشهر الرسائل العالمية”، مرجع سابق، ص 142.
[62]. أوّل مَن نشر الرسائل “ويلي هاس” وهو صديق مشترك بينهما، وقد ائتمنته ميلينا على الرسائل قبل الحرب الألمانية. وفي عام 1952 نشر الرسائل وما أن ظهرت حتى اعترضت جانا كيرنا ابنة ميلينا، وقالت “إنّها على ثقة أن أمها وكافكا ما كانا ليوافقا على نشر رسائلهما” الغريب أن هاس كان قلقًا من الرسائل؛ لأنها ستفتح جراحًا غير جراح كافكا ولذا قرّر أن يحذف عددًا من الفقرات والرسائل التي خشى أن تجرح أناسًا آخرين مازالوا على قيد الحياة في وقت النشر. وفي عام 1986 قام ميشيل مولير وجورجين بور بإصدار نسخة ألمانية عن الكتاب ذاكرين كل الفقرات والتفاصيل التي قام هاس بإلغائها، فتميزت بمحتوى جوهري. عرفت هذه الطبعة بأنها طبعة بورن – مولير، وكانت مادة جديدة على تاريخ الترجمة تُعطي طابعًا مهيبًا شاعريًا وإنسانيا لكافكا. راجع: فرانز كافكا: “رسائل إلى ميلينا”، ترجمة: الدسوقي فهمي، مرجع سبق ذكره.
63]. لويس غروس: “ما لا يُدرك: النساء….: مرجع سابق، ص 29.
[64]. فلاديمير نابوكوف: “رسائل إلى فيرا”، اختارها وترجمها وقدّم لها، د. عبد الستار الأسدي، دار الرافدين، بيروت – لبنان، ط أولى، 2018، ص 70.
[65] أدب الرسائل بين الألوسي والكرملي، وهي الرسائل المتبادلة بين علّامتي العراق: السيد محمود شكري الألوسي، والأب أنستاس ماري الكرملي”، تحقيق كوركيس عواد، ميخائيل عواد، دار الرائد العربي، بيروت – لبنان، ط أولى 1407 هـ – 1987، ص 81.
[66]. مي زيادة: “رسائل مي: صفحات وعبرات من أدب مي الخالد”، تقديم: جميل جبر، منشورات مكتبة بيروت، بيروت 1951، ص 13.
[67]. آني كارلسون وفولكر ميشيلز (إعداد): “المراسلات: رسائل هرمان هيسه وتوماس مان”، ترجمة نجاة عيسى حسن، الرافدين 2020، ص 86.
[68]. طه حسين: “حديث الأربعاء، ج 3″، دار المعارف مصر، الطبعة 12، د.ت، ص 8.
[69]. حنة آرندت مارتين هيدغر: “رسائل حنة آرندت ومارتين هيدغر: 1925 – 1975″، ترجمة: حميد لشهب، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت – لبنان، ط أولى، تشرين الأول / أكتوبر 2014، ص 68.
[70]. هازلي رولي: “سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر وجهًا لوجه “الحياة والحب”، ترجمة: محمد حنانا، دار المدى، سوريا، ط أولى، 2017، ص 47.
[71]. دوستويفسكي: “الرسائل”، مرجع سابق، ص 150. فيقول له: “وداعًا يا أخي، وداعًا، أعانقك بشدة، وأقبلك بشدة، تذكرني من دون ألم في القلب، ولا تحزن، رجاء، لا تحزن عليّ”، ص 153.
[72]. محمد بدران: ” أشهر الرسائل العالمية”، مرجع سابق، ج 2، ص 2106
[73]. أورد الأديب فتحي رضوان قصة الرسالة في كتاب “عصر ورجال”، فرضوان كان يرأس تحرير مجلة أدبية اسمها “الصرخة”، وفي يوم من الأيام جاء إليه شاب يدعى شبه ريفي يُدعى عبدالحميد رضا، يقدم له نفسه ومجموعة من الأوراق، وبعد قراءة الأوراق يكتشف فتحي رضوان أن عبدالحميد رضا شخص غريب الأطوار وأنه مارس على المازني لعبة عجيبة، فقد ذهب عبدالحميد إلى المازني وأبلغه بأنه تابع لامرأة من علية القوم اسمها «فاخرة» هانم، وأنها أرسلت له هذا الخطاب، ويقرأ المازني الخطاب فيعلم أن فاخرة هانم بعثت له بذلك الخطاب العاطفي الرقيق، والحكاية من البداية إلى النهاية كانت مجرد لعبة من الشاب. راجع تفاصيل أكثر في كتاب فتحي رضوان: “عصر ورجال”، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ج 1، 2008، ص 166، وقد أدرج رضوان نص الخطاب كاملاً في صفحات: 168 – 178.
[74]. السابق نفسه: ص 177.
[75]. محمد آيت ميهوب: “الرواية السير ذاتية في الأدب العربي المعاصر”، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، عمّان، ط أولى، 2016، ص 215.
[76]. السابق نفسه: ص 215.
[77]. معجم السرديات: (محمد القاضي وآخرون) دار محمد على للنشر- تونس، بالاشتراك مع دور (الفارابي – لبنان، مؤسسة الانتشار العربي – لبنان، تالة – الجزائر، دار العين- مصر، الملتقى – المغرب)، الطبعة الأولى 2010. ص ص: 214 -215.
[78]. حسام عبدالقادر ودلال مقاري ياوش: “رسائل من الشاطئ الآخر”، دار نشر غراب، القاهرة، 2021، ص 12.
[79]. كتبها أبوحيان التوحيدي (310ه – 414 ه) في شهر رمضان سنة أربعمائة، وقد أوردها ياقوت الحموي في معجم الأدباء، وكذلك وردت في” بغية الوعاة” ج 2: 205، راجع: ياقوت الحموي الرومي: “معجم البلدان: إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب”، تحقيق الدكتور: إحسان عباس، ص 1929- 1933، دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1993.
[80]. السابق نفسه: ص 1931.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.