الرواية ذات البعد المعرفي
يأتي العنصر المعرفي في صلب تاريخ نشوء الرواية -بحسب ما قد يُفهَم من باختين- الذي يتأمل تاريخ الرواية في مقولات متعددة، تختصر، برغم عدم قابليتها للاختصار، إلى نقاط ثلاث هي «تفاعل اللغات، وانفتاح الثقافات على بعضها، الضحك الشعبي، تعدد المعارف في زمن تاريخي لا مراتب فيه» "ميخائيل باختين :الكلمة، اللغة، الراوية، د. فيصل دراج. مجلة الآداب الأجنبية- دمشق".
وقبل الشروع في بيان هذا البعد المعرفي في الرواية، يعنينا أن نحيّد المكتسبات الجمالية والفنية أو الأسلوبية من نطاق المعرفة المقصودة هنا، مع أنها قد تُراكِم معرفةً من نوعها، لكننا نقصد هنا إلى المعرفة المُضمَّنة في الرواية، أو في السرد والحوار الروائيين.
يتدرَّج البعد الروائي من الأعلى، وقد يكون في الروايات التأريخية (التوثيقية) والاجتماعية (على اتساع مفهوم الاجتماع الإنساني) إلى روايات الخيال العلمي، هبوطا إلى روايات خيالية، أو خرافية بما يعني انحصارها في دائرة مغلقة عن الواقع ومعطياته، لكنها تتماسّ أكثر مع الرواية بوصفها كائنات ورَقية، أو لعب باللغة، وإمتاع، أو تسلية، أو محقِّقة للقيمة الخيالية فقط، وهي قيمة بحدّ ذاتها.
فمجرَّد البدء في السرد إبحار مفتوح نحو الاكتشاف والكشف، هكذا من الممكن أن نفترض في الرواية، مهما كانت وجهتها، أو إطارها، فنتازية، أم واقعية، أم تسلوية؟
وهنا اختلاف مفصلي حول الأولوية في الرواية، أهي للبعد المعرفي أم للتسلوي الإمتاعي؟
مع أنه لا تعارض بالضرورة بينهما، بل لا بد منهما. فقد رأى كونديرا، مثلا، أن التسلية لا تزال هدفا في معظم الروايات، ويحنُّ لها كلُّ الروائيين الحقيقيين، وأن التسلية لا تستبعد الخطورة، ذلك مع تأكيده أهمية احتوائها على ثيمة، حيث الثيمة تساؤل وجودي.
وثمة من غلّب الإمتاع على المعرفة، على أنَّ المعرفة التي يحملها العمل الروائي هي المحمول الخفيّ، فيما خاصية الإمتاع هي الصفة الأبرز. وقد لا يلزمنا هنا التوسُّع في هذه المسألة، ما دام أن المعيارين يجتمعان، وتقتضيهما الرواية، بصفة عامة.
وأيًّا كان نطاق المعرفة، أو محلُّها وموضوعها، الطبيعة أم الوجود، أم المجتمع، أم الفرد، فإنها كلها معرفة. وحتى أولئك الذين لم يشترطوا في الرواية أن تعكس، أو تعبِّر عن الواقع ومشكلاته، وتصوِّر الطبيعة، وتفسح عن أبعادها، ممّن رأى فيها مرآة فردية يرى فيها المرء وجهه، بالذات، كما ذهب كولن ولسون، فحتى هذا الكشف عن الذات ووجهها هو نوع من المعرفة.
وحتى الرواية الخيالية، أو التاريخية الخيالية التي قد يُظن أنها ماضويَّة المعرفة؛ إنما تكتب بروح عصر كاتبها ذلك، ذلك أن «التقنية الروائية في حدِّ ذاتها لا تنفصل -كما يقول مرتاض- عن لحظة الكتابة؛ إذ الكاتب، في حالَيْ القبول والرفض لها، يظل خاضعا لأساليب العيش لعهده» (ص 184 «في نظرية الرواية» عبدالملك مرتاض).
تتأثر الرواية إذن، بروح كاتبها المتأثر بروح عصره، فالإنسان والعالم مترابطان -كما يقول هيدجر- ارتباط الحلزون بصدفته، فالعالم يؤلف جزءا من الإنسان إنه بعده. وبقدر ما يتغير العالم يتغير الوجود، ولو على تفاوتٍ في هذا التأثر، بين رواية تمتح من التاريخ، وأخرى خيالية فنتازية، بدرجات تقلّ أو تكثر. ولذلك تتأثر معرفيَّتُها بمدى ما تضيفه من معارف معاصرة لقرُّائها.
نوعية المعرفة الروائية
ولا يخفى أن نوعية المعرفة الروائية تختلف عن المعرفة التي تتوصل إليها، أو توصلها العلوم والمعارف الأخرى، فالمعرفة الروائية محمولة بالخيال، أو ممزوجة به، ومصنوعة به، تعتمد لغة رحبة سحرية متجاوِزة؛ ذلك أنها ليست محصورة بقوانين الطبيعة، ولا بالحواس، أو بالطريقة التجريبية الاختبارية، مستذكرين هنا شكوى فاوست، في قطعة شعرية كتبها شامسو (1781-1838) من أنه «يحول بينه وبين المعرفة الحقيقية قوانينُ العقل، وإطارات الحساسية، وأشكال اللغة». مع أن الرواية توضع في سياق مُوهِم بالواقعية، فضلا عن كونها قادرة على المزج والمراوحة بين الواقعية والمعرفة، من جهة، والسحرية والخيال، من جهة أخرى.
هنا يتأكد قول كونديرا الذي يشترط كشْفَ الرواية جزءا من الوجود ما يزال مجهولا؛ حتى تكون أخلاقية، حين ردَّد مع هيرمان بروخ أنَّ ميزة الرواية، ومبرِّر وجودِها، هو «اكتشاف ما يمكن للرواية وحدَها دون سواها أنْ تكتشفه». ويقول كونديرا «ففي حين أن الشعر والفلسفة لا يقدران على استيعاب الرواية، تقدر الرواية على استيعاب الشعر والفلسفة، دون أن تفقد شيئا من هويتها التي تتميز بها على وجه الدقة». («فن الرواية» كونديرا).
ويمكن أن نستحضر -كما قال برادة- ما قاله سيغموند فرويد بخصوص اشتمال أعمال سوفوكل وشكسبير ودوستويفسكي وآخرين على «معرفة تلتقي مع ما وصل إليه هو عبر التجارب المختبرية والتنظيرات السيكولوجية» («الرواية العربية ورهان التجديد» محمد برادة).
فالمعرفة الروائية -بالطبع- تُغايِر المعرفة العلمية المعتمدة على التوثيق الدقيق، أو على الإجراءات الاختبارية، فأهمُّ ما جاءت الرواية من أجله، بحسب كونديرا هو حمايته من «نسيان الكائن»، أو العالم العياني للحياة، بعد الأزمنة الحديثة التي انهمكت في الاستكشاف التقني والرياضي. فرواية «صيف سان مارتان» التي أبدعها الروائي أدالبيرستيفر، مؤسس النثر النمساوي، وهو الذي أبدع «الرواية التاريخية التعددية» بالرغم من تصنيف نيتشه للرواية آنفة الذكر ضمن الكتب الأربعة في النثر الألماني، قال عنها كونديرا «إنها بالكاد تكاد تُقرأ في نظري، فنحن نتعلم منها الكثير عن الجيولوجيا والنبات والحيوان وجميع الحِرف والرسم والعمارة، لكن الإنسان والأوضاع الإنسانية تتواجد على هامش هذه الموسوعة التربوية الهائلة». فثمة جرعة معرفية، إذا زادت، أو طغت، فإنها تشوِّه الرواية، أو تذهب بها.
ويتفرع من المعرفة الروائية سؤال عن مصدر تلك المعرفة، أو منابعها، فهي قد لا تكتفي بالمنابع القرائية، أو الوثائقية، أو التأملية التجريدية، إذ يلزمها حين تكون واقعية، أو تروي وقائع معاصرة للكاتب أن تكون ناتجة عن المعاينة لواقعها، أو موضوعها، أو معايشته.
وقد تتطرف بعيدا عن منابع الرواية بما هي أكثر احتفاء بالخيال إلى الاستقاء من العلم الطبيعي وخير من يمثل هذا الاتجاه إميل زولا الذي «أقام الرواية على أساس علمي، وأحلَّ التجربة الواقعية محل الخيال والإبداع العبثي» (جورج لوكاتش «نظرية الرواية وتطورها»).
وقد تنجح الرواية المعرفية في تبوُّؤ مكانة ثقافية اجتماعية تفوق كتبا خُصِّصت للشأن الثقافي، وتهيئ لكاتبها دورا إيجابيا، كما يوضح إدوارد سعيد في معرض حديثه عن المثقف الذي «لا يمثل فقط حركة اجتماعية باطنة، أو هائلة، بل يمثل أيضا أسلوب حياة خاص»، ثم يردف قائلا «ولن نجد ما يحدِّد ملامح ذلك الدور خيرا من بعض الروايات الفذَّة التي صدرت في القرن التاسع عشر، أو أوائل القرن العشرين، مثل رواية الروائي الروسي تورجنييف ‘آباء وأبناء’ أو الكاتب الفرنسي فلوبير ‘التربية العاطفية’، أو الكاتب الأيرلندي جويس ‘ صورة الفنان في شبابه’. وهي الروايات التي يتأثر فيها تمثيل الواقع الاجتماعي تأثيرا عميقا، بل وتتغير صورته تغيُّرا حاسما؛ بسبب الظهور المفاجئ للمثقف الشاب الحديث الذي يمثل قوة جديدة على مسرح الحياة» («المثقف والسلطة» إدوارد سعيد).
إذن بعض الروايات ذات البعد المعرفي تلعب دورا مؤثرا تغييريا ارتقائيا اجتماعيا.. ولا تقتصر على الأثر المعرفي التوعوي.
وعربيا يتناول برادة، مثلا، عددا من الروايات العربية «الجديدة» من زاوية بعدها المعرفي بالتحليل «محللا إسهاماتها في التعبير عن جزء من المتخيَّل الوطني والاجتماعي والنفسي، خلال فترات ومنعطفات برزت في تاريخ المجتمعات العربية، موردا عددا من الروايات التي صبَّت في هذا المجال، منها ‘تغريد البجعة’ لمكاوي سعيد، ‘دع لومي’ لخليل صويلح، ‘فيلسوف الكرنتينة’ لوجدي الأهدل… وغيرها» («الرواية العربية ورهان التجديد» محمد برادة).
ولا يخفى أن تلك المكوِّنات المعرفية لا تصلح للراوية، إذا لم تأتلف، وتندمج مع سائر العناصر، فيما يقترب مما عبَّر عنه كونديرا بمصطلح «الوحدة البوليفونية» المستمد من الموسيقا، وهي تطوير متزامن لصوتين، أو لعدَّة أصوات (خطوط لحنية) تحتفظ رغم ارتباطها على نحو كامل باستقلال نسبي في «فن الرواية»، ففي الرواية يجري دمج أو إدخال العناصر المتعددة كالأشعار والحكايات والحكم والتحقيقات والمقالات بما يتناسب مع شكل الرواية القائم على النسبية.
وكما يقول جورج لوكاتش في «نظرية الرواية وتطورها»، «وكل معرفة بظروف المجتمع تظل مجردة، وليست ذات فائدة من زاوية السرد القصصي، إذا هي لم تتحول إلى عنصر فاعل في تكامل العمل، وكل وصف للأشياء والأوضاع يظل بدون محتوى إذا ما بقي وصفا بسيطا سلبيا بدل أن يكون عنصرا إيجابيا في العمل أو معطلا له»، وحتى الكلمة الروائية ينبغي أن تكون حية، كما أكد باختين، مُفرّقا بين الكلمة القاموسيَّة، والكلمة الحيَّة التي هي موضوع الرواية.
ولو كانت المعرفة الروائية لا تتعدى مجرد تبصير المتلقي، أو تعديل وعيه، باستمرار، بالوجود والحياة والإنسان لكانت قيمة كبرى، وهي فوق ذلك يمكن أن تحدث آثارا سيكولوجية، وأحيانا عملية. يقول وولتر سكوت عن رواية åجيل بلاسò، «إن هذا الكتاب يترك القارئ راضيا عن نفسه وعن العالم». فيما كانت رواية åمول فلاندرزò لرابسيكريفو ومعظم الروايات الشهيرة الأخرى خلال هذه الفترة كانت تنتهي بنهايات سعيدة». («نظرية الرواية وتطورها» لوكاتش).
هذا دون أن تنزلق الرواية إلى الوعظية، أو المباشرة، أو الالتزام بالمعنى الأيديولوجي المجحف بالرواية، بوصفها فنًّا خياليا له تقنياته. يقول ماركيز «أرغب في أن يصبح العالم اشتراكيا، وأعتقد أن هذا سيحدث، إن عاجلا أم آجلا. مع ذلك فإنني أبدي العديد من التحفُّظات إزاء ما أصبح يسمى في أمريكا اللاتينية بـ’أدب الالتزام’، أو بتعبير أكثر تحديدا رواية الاحتجاج الاجتماعي» («رائحة الجوافة» غابرييل غارسيا ماركيز).
ولا يزال الواقع العربي محرّضا على مزيد من الروايات المعرفية البعد، سواء من جهة احتياجات القارئ، أو الإنسان العربي غير الشغوف بالقراءات الثقافية غير السردية، أو الفكرية المائلة إلى التجريد، أو التخصص، أو من جهة انطواء واقعنا العربي المعيش، ولا سيما وهو يمرُّ بهذه التحولات العميقة والخطيرة. انطواؤه على أبعاد وخفايا قد لا تكشفها فعلا، أو تسائلها، مثلُ الرواية، بما تختص به من نسبية ومرونة وخيال، ربما تشتد الحاجة إليه؛ لمغادرة أنماط من التفكير قاصرة، أو غير مدهشة، ولا قادرة على إحداث صدمة، أو اهتزاز ضروري في ما قرّ في قاع العقليات الجمعية العربية المأزومة.