الرواية البوليسية في مجتمعات بوليسية
من ثوابت الإبداع ومسلماته، التي كثيراً ما شكلت منطلقاً تنظيرياً للنقد الأدبي، بل كثيراً ما سطر الواقع المرجعي الخطوط الإطارية التي تحكم الفن الأدبي الذي ينكتب منه وفيه، لتكون التقنيات السردية وأدوات الكتابة ابنة شرعية للمجتمع والتاريخ والسياق الذي أنتجها. فكيف بنا إن تعلق الأمر بحساسية الأنماط الأدبية التي تنتجها تقاليد حضارية وطبيعة مجتمع وبيئة وثقافة شديدة الخصوصية، ثم تجد نفسها ترتحل إلى أقطار وبيئات مغايرة تحت مسمّى النمط الأدبي. فهل تتحول تقنيات الكتابة التي أنتجتها بيئتها الأولى، حين ترتحل وتتبيّأ في مجتمع وحضارة وثقافة جديدة؟ وكيف تنتقل العدوى في حساسية الفكرة والموضوع، من المجتمع الواقعي إلى المجتمع الروائي؟ ثم إلى المجتمع الواقعي عبر القارئ المثقف المفترض؟
وبالنسبة إلى نمط سردي شديد الخصوصية والتعلق بالبيئة والمدينة والمجتمع الأوروبي الذي صاغه، مثل السرد البوليسي؛ هل يحافظ هذا النمط من الكتابة، بتماثل البنى الفنية مهما اختلفت المجتمعات المرجعية؟ أم إنه يغيّر عدّته وملامحه وأدواته الفنية ويسقطها من متاعه كلما غيّر الأجواء.
يعلم القارئ المتابع لفن السرد البوليسي بأن الواقع المؤسساتي في أوربا، قد أفرز -في لحظة حداثية من تطوره- واقعاً تخييلياً بوليسياً موازياً في أدبه منذ بدايات القرن العشرين. ويتعلق الأمر بنصوص شكّل واقع المدينة الغربية مساراتها الدرامية، وشكّلت هي أسس الكتابة في هذا النمط السردي فيما بعد.
ورغم اختلاف أنماطه، وتعدد مراجعه الواقعية والفكرية، فإن السرد البوليسي ينتظم شكلياً بانقسامه إلى فئتين كبيرتين، (وهما بالمناسبة نفس فئتي السرد التاريخي)، ونقصد بهما تلك التي تروي قصة حدث، أو أحداث تُنسج حول مركزها خيوط المغامرة، وتلك التي تروي قصة شخصية وتجعل منها محور الحكي ومصدر إشعاعه على بقية بنى النص. تقوم الفئة الأولى على جوهرية حدث أو وقائع تتشظى عبر تعاريج الحبكة والتعقيد، وهو نمط تجسده عن الغرب أعمال أجاثا كريستي في صورة “جريمة في قطار الشرق”، “لغز الصورة”، “كلب الموت”، و دان براون “شيفرة دافنشي”، “الرمز المفقود”، “الحصن الرقمي”، وغيرهما، أما عند العرب فنجده ماثلاً بوضوح في أعمال كل من غسان كنفاني (فلسطين) ميلودي وعبد الإله الحمدوشي (المغرب)، نسيمة بولوفة، أمل بوشارب (الجزائر)، وتدور أحداث الفئة الثانية (رواية الشخصية)، حول شخصية محورية مثل دراكولا “برام ستوكر“، وشارلوك هولمز “آرثر كونان دويل”، عند الغرب، و”رحمة” لميسون سرور (مصر)، التي تعد نموذجاً متفرداً لقصة الشخصية في الرواية البوليسية العربية الحالية. وهي شخصية ثابتة عبر ثلاثية روائية نامية الأحداث.
الرهان الأسلوبي ونمذجة الحبك
بموازاة مع نوعي السرد البوليسي السابقين فإننا نجده في حال التلقي يستثير نوعين من الاهتمام؛ عمد النقاد إلى رصدهما وصياغتهما نظرياً باعتبارهما الشكلين الأسلوبيين الأكثر استهدافاً من طرف الكتاب.
الشكل الأسلوبي الأول: رواية الفضول، ويسير الخط السردي لهذا الشكل بالمقولب، أي من النتيجة إلى السبب (حسب تودوروف- شعرية النثر ص9)، حيث يتمّ التصعيد التدريجي للتشويق انطلاقاً من عرض نتيجة لحدث ما (هو عادة جريمة تعلن عنها جثة وبعض قرائنها)، ويتّجه ذلك التصعيد التشويقي نحو تعرية الدوافع والأسباب بطريقة ملغزة، ليتم بعدها تقديم الجاني ودوافع ارتكابه للجريمة وكشف ملابساتها، ونعثر على هذا النموذج متكاملاً في رواية “الشيء الآخر- من قتل ليلى الحايك” للروائي الفلسطيني غسان كنفاني، التي يفتتحها المتهم/الراوي بتبرئة نفسه وتقديم أسباب الجريمة المرتكبة بطريقة تزيدها تعمية وتلغيزاً حين يقول “من الذي قتل ليلى الحايك إذن؟.. أجيبك ببساطة: شيء آخر هو الذي قتل ليلى الحايك، شيء لم يعرفه القانون، ولا يريد أن يعرفه.. شيء موجود فينا، فيك أنتِ، فيَّ أنا، في زوجها، وفي كل شيء أحاط بنا جميعاً منذ مولدنا”، وهو أسلوب يضاعف إثارة الغموض لدى القارئ الذي ينتقل فضوله من إرادة معرفة القاتل إلى إرادة معرفة اللغز الذي يلفّ هذا الشيء الآخر الغامض؟ الذي قام الكاتب بتلغيمه انطلاقاً من العنوان، ليزرع حقل نصه من البداية بالألغاز والمجاهيل التي تمسك بفضول القارئ وتشحذ مخياله على التقصي وطرح التوقعات التي لا تتوقف عن الانكسار والتجدد، ولا تطلق إساره حتى بانتهاء المغامرة، وكثير من هذه السرود الفضولية تترك غصاتها وخيباتها وحتى هواجس كتّابها وشخصياتها في نفوس القراء. وهي غلة التشويق وسرّ ذيوع هذا الشكل السردي.
الشكل الأسلوبي الثاني: رواية الترقب ومراكمة القلق: وتبدأ هذه الرواية بداية منطقية، أي عكس رواية الفضول، كونها تنطلق من السبب الماثل في مجموعة المعطيات الأولية حول الجريمة لينحصر اهتمام القارئ بعدها على ترقب وانتظار ما سيحصل (جثث، جرائم، مشاجرات) (تودوروف- شعرية النثر، ص9)، ليقدم له الكاتب بعد طول ترقب وانتظار وتوقعات خائبة؛ ما ترتب عن تداعيات تلك الأسباب التي قادت إلى وقوع الجريمة.
وعادة ما يبقى القارئ تحت وطأة هذا الشكل من القلق والترقب طيلة الرواية في انتظار المواجهة المرتقبة (بين المجرم ومطارديه) التي تهدد بوقف كل الأحداث، وهو ما سيحصل في النهاية طبعاً. ونعثر على هذا النموذج في النصوص البوليسية المصرية، في صورة ما تنجزه الروائية ميسون سرور “رحمة، 1و2 و3″ والروائي محمد عادل الذي أنجز سلسلة روايات بوليسية إلكترونية النشر أطلق عليها تسمية “مذكرات إجرامية” أبرزها روايات (البطل المحتقر، عاشق النار، قاتل المتحرشين)، وهي نصوص يستهلها الكاتب بتعريف البطل بنفسه وسنّه ومهنته وكل متعلقات شخصيته وحالته الاجتماعية بعدها يخاطب القارئ قائلاً “هذه قصتي..” ليزرع في مسالك الرواية أجزاء الإشكالية وأسبابها وفق تسلسل تدريجي يعمل فيه على تصعيد درامي يشحن به قارئه الذي يبقى من بدية الرواية إلى نهايتها في حالة ترقّب وانتظار دائمين لما سينتج عن تداعيات عن أسباب وتراكمات حوادثية حقيقة بأن تزيح الغشاوة عن كوارث متوقعة، وهو الكنز التأثيري الدفين الذي يراهن الكتاب على الظفر به وفق هذه الأسلبة، لهذا تلعب الخلفية الاجتماعية دور الإطار الانتقائي للنماذج البشرية للشخصيات، وتركيبها في سكة المسار الحكائي للأحداث.
من المجتمع الواقعي إلى المجتمع الروائي البوليسي
الانتقاء والتفاعل والتركيب
في لحظة وعي أيديولوجي وفنّي لبناء المجتمع الروائي البوليسي، تكون هدفية الانتقاء أو اختيار النماذج البشرية مبنية على نوعية السياق المجتمعي والحوادثي الذي يحكمها.
فالطبقية والعصبية وذهنية الفتوة السلطوية في المجتمع المصري، الذي يحايثه المجتمع الروائي لنجيب محفوظ؛ هو من أتاح اختيار تشكيل ثقافة سعيد مهران كشخصية نامية في اللص والكلاب، تبحث عن تحقيق العدالة الذاتية بوسائل منحطّة ومدنّسة، باعتبارها نفس وسائل مجتمع اللاعدالة الذي يصارعه. تقود محاربة المجتمع بسلاحه إلى إذكاء الصراع، ويقود الصراع إلى ضحية وكبش فداء، هو البطل الثوري سعيد مهران نفسه، وهو مصير الثائر البورجوازي في زمن القصة وزمن الحدث معاً.
بطرح بسيط يوضح هذا النموذج تقنية الانتقاء للنماذج البشرية، ويتيح اختيارات استراتيجية للروائي في تركيبها على نحو تصاعدي ثم تنازلي على طرفي قمة التوتر الدرامي، في لحظة إقرار المصارع الثائر بالهزيمة أمام مجتمع الخنوع وسلطة اللاعدالة: (يا كلاب).. لتكون هذه الهرمية الانتقائية للشخصيات، والتركيبية للسيرورة الوقائعية نتيجة تفاعل قاعدي، بين الدال (الشخصية)، والمدلول (قيمتها الوظيفية)، والقناة (المجتمع الروائي)، والمرجع (المجتمع الواقعي). لينتقل هذا التفاعل والتركيب للدوال التمثيلية والمدلولات الوظيفية إلى القارئ المعني بالأساس بالتجاذبات التشويقية للحبكة والتعقيد عسى تتحقق العدوى المرجوة بين النص والقاري على مستوى التلقي، كما انتقلت في مستوى تأليفي سابق بين المجتمع الواقعي والمجتمع الروائي المتخيل.
الواقع البوليسي العربي وأشكال الحداثة البعدية للسرد
من منظور مغاير؛ يبدو أن الأجيال الحالية للروائيين العرب قد أعادت هيكلة النمط البوليسي للكتابة على نحو أخرجه من مؤسسات المدينة والفكر المدني ومطاردة المجرمين في الشوارع والجوسسة والغموض إلى نمط قد يخرج هذا السرد من الأثر البوليسي ذاته إلى آثار ابتكارية وليدة سياقها التاريخي، مقدمة رؤية مختلفة وخطاباً جديداً يقول بأن الواقع المجتمعي والسياسي العربي لم يأتلف يوماً مع البولسة، ولم تعرف المجتمعات العربية مدينة بوليسية مكتملة الأركان، ولا نظاما بوليسياً يتيح تلك النهاية التي طالما استهدفها البولار الغربي (le polar occidental) في إرساء العدالة وقيم الإنسانية وإحقاق الحق، إذ أن أول وآخر من يشعر بالمواطنة في عالم متهالك بالفساد السياسي للأنظمة العسكرية وشبه العسكرية العربية لا يؤمن بتحقيق عدالة بوليسية مأمولة ولا بإمكانية القبض على الجاني أو محاسبته عند نهاية المغامرة، وهذا الوضع الغرائبي الساخر هو ما عكسته نهايات روايات عربية نموذجية كـ”اللص والكلاب” و”الشيء الآخر”.
وإذ اهتزت أوطان العرب بداية من أزمة تسعينات القرن العشرين في الجزائر إلى انتفاضات ما سمّي بـ”الربيع العربي” في عدد من الأقطار، ظهرت إلى العلن روايات تمتاح من الفكر البوليسي في الأدوات والوقائع دون السيروارت السردية والمضامين والنمط الحكائي، فظهر نمط مستحدث يمكن أن نسميه “رواية الحروب” أو إن شئنا “رواية الأزمة”، التي برز فيها باللغة الفرنسية الجزائري يسمينة خضرة (محمد مولسهول) برواياته الأزموية “سنونوات كابول”، “الصدمة”، “فضل الليل على النهار”، “صفارات إنذار بغداد”، “موريتوري”، “خرفان المولى”، “ليلة الريس الأخيرة”، وغيرها، مستجيباً لحركية هاجس الهاجس العالمي للإرهاب، دون أن يخفي تبعيته لأقطاب إعلامية واستخباراتية غربية وتيارات فكرية سامية تؤطر مساره الكتابي، ويتبنى خطابها الإعلامي ورؤيتها الأيديولوجية للموضوع، على الرغم من أنه رجل عسكري المسار والتكوين والتجربة الميدانية في محاربة الإرهاب، تعفيه موضوعياً من أيّ تبعية قطبية. كما كتب السوري نبيل سليمان “مدائن الأرجوان” و”جداريات الشام” (نمنوما) و”ليل العالم”، مستجيباً لشعرات الثائرين على نظام بلاده، وقد دخل كلاهما في حمأة التبعية الأيديولوجية التي أخرجت سردهما من البوليسي إلى نوع من كتابة المحررين الإعلاميين عن الحروب والأزمات، بتوجيه من الخطوط الافتتاحية للأقطاب الأيديولوجية التي يمثلانها. ويكتبان تحت رايتها.
ومهما يكن من أمر فقد برزت أقلام محدثة في مرحلة ما بعد الأزمات السياسية والثورات العربية، تشتغل على أفكار جديدة ظهرت في الغرب مثلتها رواية “المجتمعات السرية“، والحبكة المخابراتية، مثلما نشهده في روايات جزائرية معاصرة “زينزيبار” (2018) لعبدالقادر ضيف الله، ورواية “ثابت الظلمة” (2018) لمواطنته المغتربة بإيطاليا أمل بوشارب. ورواية “كولاج” (2018) لأحمد عبدالكريم، وغيرهم من روائيي ما بعد الأزمات الأمنية العربية. ونلفت النظر إلى أن الرواية البوليسية المصرية تشهد في هذا الشكل السردي المعاصر تدفقاً لافتاً وغير مسبوق لجملة من الأقلام الواعدة في السرد البوليسي وبالخصوص في صنف قصص المطاردة والخيال العلمي والرعب في صورة أعمال حسن الجندي، حسين السيد، ميسون سرور، تامر إبراهيم، أحمد خالد توفيق، وشريف صبري.
وهي أقلام تبدو من نوعية مواضيعها وخطابها التمثيلي؛ متجاوزة لرواية الأزمة والحروب العربية التي سبقتها، ومُتناصة على نحو حداثي مع الثروة السردية البوليسية العالمية لأدباء الفنتازيا والخيال العلمي والرعب والأسرار، من أمثال دان براون وبول أوستر وستيفان كينغ وفق أسطرة سردية رامزة خليقة بالحالة العبثية الساخرة والغرائبية القائمة بين الوضع الاجتماعي للمواطن العربي والوضع السياسي المتقلب للأنظمة التي تحكمه بالرغيف والجزمة وهاجس الأزمة في محاولة لصنع عالم سردي مواز محمول على مفاهيم الثورة والتجاوز والتغريب والتحرر الافتراضي. وهي فضاءات مشتقة عن حساسيات هذا الجيل وملونة بخطاباته البديلة، في نمط تصويره لثقافته وأشكال تعبيره عن الذات والخيبات.