الرواية البوليسيّة والأدب غير النظيف
السؤال الأوّل: ما الذي يدفع النقد الرسميّ إلى وصف الرواية البوليسيّة بهذا الوصف والاستخفاف بها، وهو ما كان له أثره في انزواء الكتاب عن مثل هذا الجنس وتفضيل الرواية الكلاسيكية أو التطرق إلى أنواع جديدة كأدب الديستوبيا؟ والسؤال الثاني: ما علاقة الرواية البوليسيّة برواية الاستبداد أو القمع السياسيّ؟ وهل يمكن الفصل بين رواية الجريمة القائمة على فكرة البحث عن حل اللغز، والرواية البوليسيّة بمعناها السياسيّ أي القمعي لا التشويقي؟
فكّ الالتباس
تسعى هذه الدِّراسة أولاً إلى فكّ الالتباس بين المفاهيم المتداخلة -على نحو ما أظن- كنموذجي رواية الجريمة والرواية البوليسيّة التي أراها رديفة للرواية السياسية القمعية أو على الأقل تنتمي إليها. بداءة أعترف أنه لأمر صعب جدًّا. وتكمن صعوبته في القداسة التي أولاها النقد للمصطلحات وركون العقلية العربيّة لما أقرّته النظرية الأدبيّة عبر المثاقفة دون مراجعة أو حتى اختبار لواقعنا الثقافيّ بكل إشكالياته. كما تهدف الدراسة في جزء منها إلى وضع الرواية البوليسيّة موضع الدراسة الجادّة دون الأخذ بما روّج عنها والنظر إليها في ضوء المعايير الأدبيّة. وهل تتحقق في النصوص التي تمثلها معايير الأدبية أو حتى بعضًا منها؟
السؤال الآن: هل توصف الرّواية المُتعلّقة بالجريمة بأنها بوليسيّة بحكم المضمون أم برغبة الناقد وسطوة المصطلح المتوارث؟ فإذا كان بحكم المضمون واعتماد النص على عناصر الجريمة عندئذ المفهوم سيتغير وتخرج عن هذا التوصيف نماذج كانت تعدّ من الرواية البوليسية، ولنا في نموذج رواية غساني كنفاني “الشيء الآخر: من قتل ليلى الحايك” خير مثال، فالعنصر الشرطي المعتمد على البحث والتحرِّي لمعرفة الجاني غير مُتحقّق، فالرواية أشبه بمحاكمة أو تحقيق طويل بين المتهم والقاضي، وفي جزء منها منولوج داخلي للبطل. وبالمثل رواية الحبيب السالمي “من قتل أسعد المرّوري؟”، فالبحث والتحرّي لكشف ملابسات جريمة القتل يقوم بهما صحفي وليس رجل البوليس.
ونظرًا لهذا الخلط في المفاهيم فسيكون تعاملي في الأساس مبنيًّا على ترددات مفردة بوليس وأصدائها على المتلقي. أوّل ما يصل إلى ذهن المتلقي من معانٍ؛ نتيجة سماع كلمة “بوليس″ هو البطش والقمع، وبهذا فلا يصل إلى ذهن المتلقي معنى التحرّي والبحث مُباشرة. أما لو ذهبنا إلى المعجم فسنجد أن كلمة بوليس يُعرِّف لها هكذا “البوليس (الشُّرطة)، الدائرة الحكومية التي تُعنى بالمحافظة على النظام، وتطبيق القوانين، ومتابعة الجرائم ومنع حدوثها”. ووفق الآليات والإجراءات المستخدمة تأتي التقسيمات هكذا: فالبوليس الجنائي هو فرقة من الشرطة تبحث عن المجرمين، والبوليس السّريّ فرقة من الشرطة لا تظهر هويتها حتى تصل إلى المجرم، وبوليس الآداب فرقة من الشرطة تكافح الرذيلة… إلخ.
لاقت الرواية البوليسيّة في العالم العربي الاهمالَ إلى حدّ التحقير مِن شأنها واعتبارها أدبًا غير نظيف أو أنّها أدب المراهقين لدرجة أن محمد البساطي في تحقيق أجرته رشا عامر لجريد الأهرام تخوّف من كتابة هذا النوع مع أنه يحلم بكتابته “لأن هذا النوع من الروايات لا يتميز بالثقل الأدبي، إذ يمكن اعتباره من الاستسهلال في الكتابة خاصة في مجتمعاتنا”
الصّفة الأساسيّة التي أنشئ من أجلها البوليس هي المحافظة على النظام وتطبيق القوانين، ومن هذه الزاوية جاءت أدوات الشرطة وآلياتها حفظًا للأمن. وبناء عليه فمصطلح الرواية البوليسية الذي راج تعبيرًا عن روايات الجريمة والمغامرة يُستخدم اختصارًا للحديث عن ذلك النوع من الرواية التي تكون فيها صفة البوليس هي التحرّي لاكتشاف الجريمة. وهو الأمر الذي يعزّزه ورود المصطلح في لغاته الأصل برواية الجريمة، وهو ما أكّدته الناقدة البريطانيّة جوليان سيمونز في دراسة مهمّة لها، بعنوان “أدب الجريمة وتقنيات روايات الجرائم” وقد صدرت سنة 1985 بطبعات متعدّدة. وفي الدراسة رأت أن أجاثا كريستي تربعت على عرش روايات الجرائم الإنكليزية طوال نصف قرن دون مزاحمة.
لذا فالصواب عندي أن الرواية البوليسيّة يمكن أن تُدرج إلى الرواية السياسيّة لأسباب منها أن معظم تعريفات الرواية السياسيّة، سواء الغربية كتعريف جوزيف بلوتنر أو إيرفنج هاو، وكذلك العربيّة كتعريف أحمد محمد عطية وطه وادي ومحمد السيد إسماعيل، جميعها تضع الاهتمام بالقضايا السياسية والتعبير عنها كشرط لإدراج العمل تحت هذا النوع، والقمع والسجن أظن أنهما يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالقضايا السياسية، وبمعنى أدق هما نتاج لهذا الاهتمام بالقضايا السياسية. وهو الأمر الذي أشار إليه محمد السيد إسماعيل بصورة واضحة في تعريفه، حيث قال “الرواية السياسية، هي الرواية التي نستطيع من خلال أيديولوجية تشكيلها الفني كشف آليات ممارسـة السلطة في مستوياتها ودوائرها المتعدّدة والمتداخلة” (الرواية والسلطة، ص33)، وهذه الممارسات متحقّقة بصورة كبيرة عبر القمع المادي الذي عاني منه كل من وقف في وجه السلطة وأجهزتها.
ومن الأسباب أيضًا، لما تقدّمه الرواية البوليسيّة من صراع بين طرفين، الطرف الأول يتمثّل في السُّلطة والتي ترى حقها في الدفاع عن نفسها وقراراتها ورجالها، وهذا الدفاع حق أصيل لها فهي الدولة، والطرف الثاني تمثله المعارضة أو الموقف المضاد من السُّلطة، أيًّا كان حامله ينتمي إلى المعارضة أو النقابات، أو المثقف المؤمن بحقه في دوره في تبصير السُّلطة ومراجعتها إذا حادت عن أهدافها، أو حتى الشعب الذي تكون قرارات السُّلطة ظالمه له فيخرج محتجًا بوسائل سلميّة في غالبها، في حين تستخدم السُّلطة القوة الغاشمة لحماية شرعيتها وكيانها، وقد أوجز خالد صفوان في رواية “الكرنك” مفهوم الشرعية، حيث قال “نحن نحمى الدولة التي تُحرّركم من كافة أنواع العبودية” (ص 63 ).
الرواية البوليسية والأدب الرديء
لاقت الرواية البوليسية في الغرب اهتمامًا كبيرًا وأقبل عليها الجمهور. كما اهتمّ بها النقاد وأولوها اهتمامًا كبيرًا، فاتخذها البعض حافزًا لتطوير علوم أخرى حتى “صار الأدب البوليسي مناسبة لتقاطع مثمر جدّا بين الأدب والتحليل النفسي”، فكما يذكر إيمانويل فريس وبرنار موراليس أن جاك لاكان (1901- 1981)، قد بنى إحدى أشهر دراساته انطلاقًا من “الرسالة المسروقة” لإدجار آلان بو. في المقابل وربما بصورة أشد إثارة للدهشة حاول بيير بيار خلال قراءته أجاثا كريستي تطبيق الأدب على علم النفس التحليلي والمقصود عنده “هو أن يبيّن أن النص الأدبي يسمح بفهم بعض المفاهيم المفاتيح في منهج علم النفس التحليلي، بل بإغنائها” (محمد العبد، مجلة فصول، ص 154).
وقد حظي هذا الجنس باهتمام نقدي لافت في الغرب، وهذا ظاهر في دراسات جاك ديبوا وتودروف الذي خصّص فصلاً في كتابه “شعرية النثر” لدراسة “أنماط الرواية البوليسيّة”، وجيل دولوز وغيرهم، إلا أنّ هناك مَن قَرَنَ بينه وبين الأنواع الشعبيّة في إشارة إلى التهميش الذي لحق بهذه الأجناس على نحو ما فعل بيار براهام الذي خصّص عددًا من مجلة “أوروب” (Europe) المتخصصة في الدراسات الأدبيّة والنقدية للحديث عن الآداب الشعبيّة والرواية البوليسيّة. وأكّد في افتتاحية المجلة كما ذكر عبدالقادر شرشار “على أهمية دراسة هذه الأنواع الأدبية التي بقيت مهمّشة على الرغم من مكانتها العريضة والمتنامية فوق رفوف المكتبات وإقبال الجمهور الواسع على قراءتها”.
في المقابل لاقت الرواية البوليسيّة في العالم العربي الاهمالَ إلى حدّ التحقير مِن شأنها واعتبارها أدبًا غير نظيف أو أنّها أدب المراهقين لدرجة أن محمد البساطي في تحقيق أجرته رشا عامر لجريد الأهرام تخوّف من كتابة هذا النوع مع أنه يحلم بكتابته “لأن هذا النوع من الروايات لا يتميز بالثقل الأدبي، إذ يمكن اعتباره من الاستسهلال في الكتابة خاصة في مجتمعاتنا”. في ذات التحقيق أشار إدوار الخراط إلى أنّ انصراف الكتاب عن هذا النوع يعود إلى ما تقابله الرواية البوليسية من قبل النقاد “بالترفع والاستعلاء، ومن قبل الكتاب باعتبارها رواية مُسلّية كُتبت خصيصًا لتمضية وقت الفراغ”.
وعلى مستوى النقد فقد انصرف النقد الأكاديمي عنها كليّةً واعتبرها أدبًا ظلاً. وقد جاء الاهتمام بها متأخرًا مع دراسة عبدالرحمن فهمي في مجلة فصول عام 1982 لتكون بداية للاهتمام بهذا النوع، ومع ريادة هذه الدراسة وشموليتها حيث وقفت على حدود الجنس وأرَّخت لحضوره في تراثنا العربي، علاوة على التقسيمات المهمة للأجناس القريبة والمتداخلة، إلا أنّها مالت في تطبيقاتها للأدب الغربي ولم تقدّم نماذج عربية باستثناء ما أورده صاحب الدراسة عن ألف ليلة وليلة وقصة إيزيس وأوزيريس.
ترى نعمة خالد أن أسبابَ هذا الغياب تعود إلى عوامل خمسة، حصرتها في: غياب أصول الرواية البوليسيّة المتعارف عليها عن الرواية العربيّة، وتخلّف المنطقة العربيّة على المستوى العلميّ والتكنولوجي، وكذا المفاهيمي والفلسفي والسوسيولوجي، وهيمنة البلاغة والقدرية على مستوى القراءة وتعويد القارئ عليهما
النقلة المهمّة جاءت بعد فترة طويلة وأيضًا كانت الريادة لمجلة فصول حيث خصصت العدد 76 عام 2009 لهذا الجنس، وجاء عنوان الملف الرئيسي هكذا “الرواية البوليسية”، واشتمل الملف على دراسات مهمّة تحت إشراف شعيب خليفي. كما جعلت من شخصية صالح مرسي رائد أدب الجاسوسية شخصية العدد. ومع هذه الحفاوة المتأخِّرة بهذا الجنس إلا أنّ الملف دار حول ذات التقسميات القديمة عن الرواية البوليسية المعتمدة على الجريمة دون أن تتجاوز المفهوم القديم الدارج الذي يجعل من التشويق والإثارة المحرك الأساسي لباقي العناصر فيها.
في ظنّي حدث تغيّر على مستوى النقد الرّسمي بهذا الجنس، فكون احتلال عنوان “الرواية البوليسيّة” عددًا كاملاً من مجلة متخصّصة ورصينة لهو في حدّ ذاته تأكيد على اعتراف بهذا الجنس، وإن جاء متأخّرًا فيكفي أنه جاء، ومن قبل إحدى قلاع النقد الأكاديمي المتخصص. كما أن ثمّة كتاباتٍ عربيةً متخصّصةً أَوْلت هذا الجنس الاهتمام على نحو ما فعل عبدالقادر شرشار في أكثر من عمل له، وهو ما يشير إلى تحوّل نسبي في المؤسسة النقدية لصالح الرواية البوليسية.
ومثلما كان هناك إهمال من قبل النقد الرسميّ وتخوّف من قبل الكُتّاب أنفسهم كان هناك أيضًا حذر وصل إلى حدّ الرفض من قبل الناشرين، فحسب ما يقول عبده وازن في مقالة له عن الرواية العربية والبوليس “في العالم العربي ما زال الناشرون يتعاطون مع الرواية البوليسيّة بما يشبه الاحتقار، أو لأَقُل عدم الاحترام”. على العكس تمامًا ما تلقاه الرّواية البوليسية في الغرب حيث تبدأ الصحافة الغربية مع مطلع كل صيف الترويج للرواية البوليسيّة، بل إن دور النشر على حد قوله “تستعين في أحيان ببعض الكتّاب المحترفين في ‘صناعة’ الروايات البوليسيّة وهم يجيدون هذا الفن تقنيًّا وكأنهم ‘حرفيون، مثلهم مثل كتاب السيناريو في السينما الهوليودية. ومرجع هذا الاهتمام لأن قرّاء الأدب البوليسيّ يمثّلون فئة كبيرة من هواة القراءة ودور النشر تلبّي أهواءهم”.
في مقابل هذا الاهتمام النقدي الذي لم تحظَ به أنواع أخرى، من التي وُصفت -من قبل- بأنها شعبيّة ورديئة كان ثمة غياب كامل على مستوى الإنتاج الروائي من قبل الكُتّاب أنفسهم، وهو ما يُعدُّ لغزًّا، فمن قبل كانت المعوِّقات كما ردّد الكثيرون (وما زالوا)، راجعة إلى إهمال النقد الرسمي لهذا الجنس، وهو ما انعكس على كتابته، ومع تغيّر نظرة النقاد لهذا النوع لم تتغير وجهة نظر الكُتّاب أو الناشرين بتشجيع الكتّاب على إنتاج مثل هذه الكتابات التي تحقّق الروّاج كما هو منتشر في الغرب.
السؤال: لماذا هذا الغياب على الرغم من تغيّر الظروف والاشتراطات السّابقة التي كانت تحول دون إقدام الكُتّاب على مثل هذا الجنس؟ هناك مَن يرى أنّ الغياب مرهون وغير منفصل بالسياق العام حيث الظاهرة الإبداعيّة لا تنفصل عن سياقها المنتجة فيه. في مقدمة كتاب “الذاكرة المفقودة” لإلياس خوري مقالة بعنوان “البوليس والقصة البوليسيّة” يوضح سبب هذا الغياب قائلاً “استطاعت الحداثة العربية أن تستعير جميع أشكال الحداثة الغربية من جهاز الدولة إلى البوليس إلى الأشكال الفنية الحديثة، لكنّ شكلاً فنيًّا مُحدَّدًا بقي مستحيلاً ومتمردًا على كل استعارة، إنه القصة البوليسيّة”.
ويعلّل أسباب الفشل في الاستعارة بالسُّلْطة هنا مقارنة بالسُّلْطة لدى الغرب، فالغرب كما هو معروف استطاع الفصل بين السلطات، كما أن الأجهزة الأيديولوجيّة على حدّ قوله “استطاعت تقديم صورة لامعة لرجل البوليس باعتباره أداة أخلاقية تنشر الطمأنينة لدى الجماهير، وبذلك استطاعت أن تؤسّس قاعدة لامتصاص العنف الاجتماعي وتحويله إلى قنوات نبيلة”، في حين أن السلطة في المجتمعات العربية “جهاز من خارج المجتمع، من خارج علاقاته”. فصورة رجل البوليس التي ترسّخت لدى العربيّ هي أنه القامع، وهذه الصورة ليست سوى تجلٍّ لقمع الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وينتهي خوري إلى رأي مهمّ يُفسّر به سبب غياب هذا الأدب قائلا “غياب القصة البوليسيّة ليس مشكلة ولا خطأ، إنه يكشف خطأ السُّلْطة وخطيئتها”.
وهناك مَن أرجع غياب هذا الجنس في المدوّنة السّردية العربيّة في مقابل ازدهاره في الغرب، لأن الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وارتباطها بالمدينة كما ذهب عبدالقادر شرشار حيث يرى أن المجتمع الغربي المتحضّر بما يُعرف عنه من اتّساع وتكدّس نتج عنه بروز ظواهر اجتماعيّة سلبية خطيرة كنمو الحسّ الأناني والفردية والبحث عن العزلة والطموح إلى اعتلاء مراكز السُّلْطة باستخدام طرائق مُنحطة كالتزوير والرشوة وغيرها، واللجوء إلى العُنف الشفهي أو الجسدي ومُمارسة العنف السياسيّ وغيرها من آثار سلبية وعلى مستوى الحياة الثقافيّة وتطوّر الجهاز الأيديولوجي والفكريّ.
وثمّة رأي آخر يُرجع غياب الرواية البوليسيّة إلى افتقاد مناخ الحرية في المجتمعات العربية. فقد ربط المغربي عبدالإله الحمدوشي (وهو مختص بكتابة الرواية البوليسيّة) بين انتشار الرواية البوليسيّة بالمناخ الديمقراطي والحرية، فيقول “الكتابة البوليسيّة لا تخضع لمنطق الطلب والعرض، بل تدخل في إطار سيروة تاريخية. الرواية البوليسيّة في إسبانيا لم تكتب إلا سنة 1973 بعد موت فرانكو. وفي إيطاليا بلد المافيا هناك كتابة بوليسيّة ولكن غير مزدهرة. الرواية البوليسيّة بدأت في إنكلترا وفرنسا، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة الأميركية، فكل دولة تكتب روايتها البوليسيّة الخاصة حسب التطورات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تقع في هذه البلدان” ( فصول العدد 76 ص 73). وهذا ما أكّده وحيد الطويلة في تبريره لأسباب غياب الرواية البوليسيّة حيث قال “لا أظن أننا نحتاج لرواية بوليسيّة من أساسه، نحن جميعاً في عالمنا العربي نعيش رواية بوليسيّة بامتياز″. ويدخل ضمن هذا الرأي ما ذهب إليه محرّر المجلة العربيّة حيث قال إنه لا يمكن أن “تُنتج في مجتمع توجد به بيئة تعليمية تَلْقِينيّة تفتقر إلى التخيُّل والإبداع؛ ولذا ما زالت الرواية السعودية تميل للجانب الاجتماعي”.
وترى نعمة خالد أن أسبابَ هذا الغياب تعود إلى عوامل خمسة، حصرتها في: غياب أصول الرواية البوليسيّة المتعارف عليها عن الرواية العربيّة، وتخلّف المنطقة العربيّة على المستوى العلميّ والتكنولوجي، وكذا المفاهيمي والفلسفي والسوسيولوجي، وهيمنة البلاغة والقدرية على مستوى القراءة وتعويد القارئ عليهما، وغياب الشفافية في عرض الجرائم التي من شأنها أن تشكّل تيمة محرّضة على الخيال الروائي العربي، وأيضًا إلى تصنيف الرواية البوليسيّة بأنها رواية للتسلية، وهو ما دفع العديد من الروائيين إلى العزوف عن كتابتها.
أما بوشعيب السّاوري فيرد أسباب هذا الغياب في مقالته “في مفارقة الإنتاج والتلقي في الرواية البوليسيّة العربية”، إلى سببين؛ الأوّل خارجي مرتبط بالسّياق العام حيث ارتباط إنتاج الأدب في الوطن العربي بالنخب المنفتحة على الثقافة الغربية وتأثرها بموقف المؤسسات الغربية من الرواية البوليسيّة والتي رفضت الاعتراف بها واعتبرتها أدبًا هامشيًّا شعبيًّا لا يرقي إلى مستوى الأدب. وكذلك إلى السُّلطة القمعية التي ترفض أجهزتها الأيديولوجية نشر القضايا الجنائية التي تحصل في المجتمع. وهو ما يتوازى مع غياب مفاهيم الحرية. والثاني يعود إلى أسباب داخلية في السياق الخاص وتتمثل في ما ينبغي توفّره في كاتب الأدب البوليسي من اطّلاع واسع بطرق التحقيق والقدرة على فكّ الألغاز وتتبع الآثار والطب الجنائي، وشيء من أصول القوانين وعلم الإجرام ودوافع الجريمة لدى الإنسان، مع خبرة عميقة بالنوازع البشرية.
كما يشير إلى هيمنة الجانب الأيديولوجي والسياسي والاجتماعي على الرواية العربيّة مما كان له أثره في حجب هذا النوع الروائي عن دائرة الاهتمام.
اللافت أنّه مع قلة الإنتاج الكتابي لهذا الجنس في عالمنا العربي إلا أن هناك مقروئيّة ورواجًا كبيريْن له على مستوى الجماهير، وتحليل هذا التناقض الذي مع الأسف لم تأخذ بها المؤسسة النشرية في تحفيز الكُتّاب على كتابة مثل هذا النوع، ويرجع هذا إلى عنصر الإثارة القائمة عليه الرواية والسعي إلى فك اللغز. فالرواية البوليسيّة كما في تعريفها تتميّز بقدر كبير من الإثارة لا يتوفّر في الألوان الأخرى، كما أن سهولة القراءة عامل مساعد أيضًا لجذب جمهور القرّاء. وإن كان ثمة سبب جوهري يتمثّل فيما يحقّقه حلّ اللغز من تحقيق العدالة والانتصار لقيم الخير وهو الأمر المُنتفي على مستوى الواقع، ومن هنا يجد جمهور القرّاء في هذا الانتصار بديلاً مرضيًّا عن هزائم وإحباطات الواقع.
إعادة قراءة المصطلح
الحقيقة التي لا لبس فيها أن مصطلح الرواية البوليسيّة في أدبنا العربي يُقابله في اللغة الإنكليزية “رواية الجريمة” (The Crime Story) أو رواية المخاطرة أو المغامرة (The Adventure Story). في دراسة مبكّرة ومفصّلة نوعًا ما بعنوان “الرواية البوليسيّة” نُشرت في مجلة فصول (العدد الثاني يناير مارس 1982)، درس عبدالرحمن فهمي،فيها الرواية البوليسيّة، وأشار إلى الفوارق بين رواية الجريمة والمغامرات، كما أنه قدّم أصنافًا لرواية الجريمة على نحو: رواية التحقيق أو البحث الجنائي (Detection)، حيث بناؤها القصصي يقوم غالبًا على صراع بين مجرم ورجل شرطة سرّي أو رسمي.
وهناك رواية اللُّغز (Mystery)التي يقوم فيها بناء الرواية على كشف الغموض والخفاء، وكذلك رواية الرعب (Thriler)، وبناؤها القصصي يقوم على إشاعة جوٍّ من إثارة الأعصاب والفزع، والجريمة فيها لا تعتمد على الذكاء بقدر ما تعتمد على القسوة. وهناك أيضًا رواية المفاجأة (Startler) وبناؤها يعتمد على مفاجأة القارئ لا البطل بما لم يكن يتوقع، فالأحداث تجري أمام القارئ وكأنها لا تتطوّر نحو ذروة معينة.
أما رواية المغامرات، وهو يقصد بها الروايات التي تدور حول اقتحام المخاطر، فيقسّمها إلى رواية الرّحْلة، أيًّا كان مقصد الرحلة، إلى بلد قريب أم بعيد، وهناك رواية البحر وهي قريبة من رواية الرحلة والصراع فيها أقرب لروايات القراصنة. وكذلك رواية الخيال العلمي وغزو الفضاء، وأخيرًا روايات الفروسيّة وفيها تكون الشَّجاعة والشهامة هما الدافع الذي يدفع البطل إلى العمل (مجلة فصول، ص ص 40- 41، عدد 2 مارس 1982).
من التقسيمات السّابقة يتضح لنا مدى الخلط بين الأنواع المتعدّدة. فعلى سبيل المثال أسطورة إيزيس وأوزيريس تتوافر فيها عناصر أكثر من عمل، ففيها من عناصر رواية الجريمة حيث جريمة القتل، وأيضًا رواية الرحلة حيث رحلة إيزيس لتقصي الأثر وإعادة الجثة، وتتضمن أيضًا المغامرة والفروسيّة. وفي كثير من الروايات في العصر الحديث التي أدرجت تحت عنوان الرواية البوليسيّة لا يتوفر فيها إلا عنصر الجريمة والمحقّق. ومن ثمّ فالأنسب لها أن تنسب إلى رواية الجريمة لا إلى الرواية البوليسية.
الحقيقة أنّ الروايات القائمة على وجود جريمة وقاتل مجهول الوصف الأدق لها أنها رواية الجريمة أو التّحرّي أو رواية المفتش نظرًا لطبيعة موضوعها القائم في الأساس على التشويق، وأيضًا لتوافر عناصر الجريمة والسّعي لحلّها، بدءًا من الجريمة ذاتها وانتهاء باكتشاف القاتل. وهذه التسميّة في ظني ليست غريبة عن أدبيات الغرب التي أطلقت ذات التسميّة على الروايات المتحقّقة فيها هذه السّمات، خاصة أن الغرب نفسه استطاع التمييز ووصفها برواية الجريمة، بل هناك من وصفها بالرواية السّوداء، وقد عرفها الأديب الأميركي رايموند تشاندلر في مقاله “الفن البسيط للقتل” عام 1950 بأنها “رواية العالم المهني الجريمة”.
قد يكون السبب وراء التداخل غير المقصود بين الرّواية البوليسيّة بالمعنى الذي يترادف مع القمع والاستبداد (وهو المرادف الذي أقصده هنا) ورواية الجريمة والمغامرة والألغاز راجعًا للتعريفات الخاصة بالرواية البوليسيّة. ففي معجم “النقد الأدبي” لجويل جارد تامين وماري كلود هيربيت، تُعرَّف الرواية البوليسيّة هكذا “شكل روائي ظهر في القرن التاسع عشر مع التطوّر الحضري للمدينة الأوروبيّة وتطوّر الشرطة، وكذلك العلم الوضعي، وكذا التقنيات الجديدة للبحث، بالإضافة إلى تقنيات السينما. فهي تطرح غالبًا جريمة أو عدة جرائم قتل للحل”.
وفي التعريف العربي للرواية البوليسيّة يقترب محمد العبد من المفهوم السابق فيقول “تحكي الرواية البوليسيّة بأسلوب مُثير وشائق قصة جريمة، هي غالبًا جريمة قتل في ارتباطها بظروف القاتل النفسيّة والاجتماعيّة ودوافعه إلى ارتكاب هذه الجريمة وملابسات وقوعها ونتائجها”. هنا يضع الناقد الجريمة أحد العناصر الأساسيّة للحكم على أن العمل ينتمي إلى الرواية البوليسيّة. كما أنّه يستحضر الجانب البوليسيّ في الكشف عن دوافع ارتكاب الجريمة وملابساتها وإن كان يضع الظروف النفسيّة والاجتماعيّة للقاتل كمعيار مهمّ. وكل هذا -في نظري- يُلصق العمل إلى رواية الجريمة بامتياز حيث ثمّة جريمة ومحقّق ودوافع للقتل.
فمثلا لأيّهما ننسب رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، ورواية “مقتل فخرالدين” لعزالدين شكري، و”ميس إيجيب” لسهير المصادفة، وغيرها من أعمال، للرواية البوليسيّة أم لرواية الجريمة؟
في “اللص والكلاب” و”ميس إيجيبت”، ثمة عناصر بوليسيّة حاضرة مثل “جريمة/تحقيق/مطاردة”، وهو ما يعزّز أن يُلْحِقها برواية المغامرة، فالجزء الخاص بهروب سعيد مهران ومطاردة البوليس له يعدّ مغامرة. وفي “مقتل فخر الدين” تحضر جميع العناصر داخل الرواية بدءًا من الجريمة وانتهاء بالسعي لحلّ اللغز، بل تعتمد الرواية على الإثارة وهو ما يُثير المتلقّي. في حين أن رواية الطيب صالح لم توصف بأنها رواية بوليسيّة أو رواية جريمة، مع أن بعض عناصر الجريمة متحقّقة في اختفاء مصطفى سعيد نفسه. وبالمثل رواية يوسف القعيد “يحدث في مصر الآن” تتحقق في بنيتها جريمة القتل وحضور التحري كذلك ولم توصف بأنها رواية بوليسيّة.
في المقابل هناك أعمال مثل “الزيني بركات” لجمال الغيطاني ورواية “الكرنك” لنجيب محفوظ ورواية “ملف الحادثة 67″، لإسماعيل فهد إسماعيل و”الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى” لعبدالرحمن منيف و”اعترافات كاتم صوت” لمؤنس الرزاز و”عشرون دستة من الرجال” لعلي حمد إبراهيم، وغيرها من أعمال، جميعها تتطرّق للقمع السياسي واستبداد أنظمة الحكم ضدّ المحكومين. كما أن هذه الروايات على اختلافات بيئاتها تتفنّن في تصوير الآليات القمعيّة المادية والنفسيّة التي تُمارسها أجهزة الدولة الأيديولوجية (بتعبير ألتوسير) ضدّ من أطلقت عليهم الخونة والمارقين والمخالفين لها وهي منشغلة بتثبيت دعائم وركائز سلطتها.
في التأصيل
في مسألة التأصيل للرواية البوليسيّة لدى الغرب، ثمّة آراء مختلفة، ففي الوقت الذي يؤكّد الكثيرون فيه على أن نشأة الرواية البوليسيّة في الأدب الغربي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمجتمع المديني وبمعنى أدق هي وليدة الحضارة الصناعيّة في مطلع القرن التاسع عشر أو نتاجها. وهو ما يعنى وضع إطار زمني يبدأ من القرن التاسع عشر، حتى أنهم يشيرون إلى أن إدجار ألان بو (1809- 1849م)، هو أبو الرواية البوليسية في روايته “حوادث القتل في شارع مستودع الجثث” في العام 1841م، ثم “رواية لغز ماري روجيه”، ورواية “الرّسالة المسروقة”. كما ينْسب إلى إدجار ألان بو أنه أبدع شخصية الشرطي السّريّ “أُوجست ديوبن”، الذّكي الذي يستخدم المنطق في حلّ الألغاز. تلا هذه المحاولة الرائدة كما كتب الكثير، محاولة “تشارلز ديكنز″ (1812 1870م)، فكانت روايته “البيت الكئيب” في العام 1852م… إلخ.
ومع هذه المسلّمة التي يكرّرها الكثيرون ممّن تناولوا في دراساتهم موضوع الرواية البوليسيّة،7 إلا أنّ هناك مَن جاء وشكّك في نسبة الرواية البوليسيّة إلى إدجار ألان بو، وأثبت أن ألان بو اقتبس فكرة الرواية البوليسيّة من مؤلف فولتير “زاديك” (Zadig)، والغريب أن فرانسيس لكسان أشار إلى أن فولتير نفسه اقتبس فكرة “زاديك” من مؤلف عربي، وحسب قوله وفقًا لما أورده عبدالقادر شرشار في مقالة له بعنوان “المخيال في الأدب البوليسي وأصوله الأسطورية والاجتماعيّة في الثقافة الشعبيّة والعالميّة”، حيث قال “وكما نعلم فإن فولتير استلهم فكرة زاديك من مؤلف عربي يتضمن أسطورة الأمراء الثلاثة لسرنديب، التي هي مِن أصل فارسي كما رجّح كثيرون”.
ويرى البعض أنها كانت تسمى من قبل “الرواية القضائية”، وقد وجدت ونشأت وتطورت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر في الفترة الصاخبة حيث تعاقبت الحكومات، وكان لكل حكومة شرطتها الخاصة وبوليسيها السري. واللاّفت أن الرّواية البوليسيّة لم تُقنّن ولم تُصبح جنسًا أدبيًّا متميزَ المعالم إلا بعد العشرينات من القرن الماضي على يد الفيلولوج الأميركي فان دين (Van dine) واضع العشرين قاعدة المشهورة.
ثمّ يأتي الناقد إبراهيم العريس ويذهب في نشأتها إلى زمن بعيد، يعود إلى أوديب وجريمته، إلا أنّه يقول إن هذه الفترة التي يجعلها البعض بداية للرواية البوليسيّة وهو يقصد القرن التاسع عشر، على العكس كان عصر ازدهار الأدب البوليسي. فكان هذا الزمن مهمًّا في رواج هذا الفن ويرجع مثل الازدهار إلى السينما ثم التلفزة، وحسب قوله “في شكل أو آخر، تعتبر الرواية البوليسيّة مرتبطة بالقرن العشرين، لا سيما بالثلاثي الذي ستأتي السينما لتعزيزه في أفلام انتمت إلى بلدان عدة طوال هذا القرن: المدينة، المرأة والجريمة”.
أشار عبدالرحمن فهمي إلى عناصر الرواية البوليسيّة وعلى الأخص الجريمة والتحقّق والتحرّي، متحقّقة في أسطورة إيزيس وأوزيريس، حيث الأسطورة تتكوّن من ثلاثة أجزاء، الأوّل يتمثّل في تخلُّص سيت من أوزيريس بوضعه في صندوق وإلقائه في النيل، والثاني خاص بجهود إيزيس لاستعادة الجثة وبعثها من جديد، أما الجزء الثالث فخاص بالصراع بين سيت وأوزيريس وحورس
وهناك مَن أشار إلى أنّ أصول الرواية البوليسيّة ترجع إلى تراث شرقي سواء أكان فارسيًّا كما تجلّى في أسطورة الأمراء الثلاثة لسرنديب، كما تقدم عاليًّا، أم عربيًّا كما في ألف ليلة وليلة، على نحو ما ذهب “بيار براهام في افتتاحيته لمجلة “أوروب” المتخصّصة في الدراسات الأدبية والنقدية، وقد خصصّ عددًا لهذه الآداب الشعبيّة والرواية البوليسيّة أشار فيه إلى الأصول الأولى للرواية البوليسيّة، وأرجعها إلى “ألف ليلة وليلة”، حيث يقول “يستحسن كثيرًا الرجوع إلى الأصول الأولى.. إنها أصول تضيع في الزمان، ما هي إذن ألف ليلة وليلة، إذا لم تكن هذا المسلسل الشفوي الذي يتصوّر كل ليلة ‘شهرزاد’ من أجل إثارة فضول الملك ‘شهريار’، وبفضل حكمة ومساهمة أختها ‘دينا زاد’، تستطيع تأجيل حكم الإعدام الذي يهدّدها، ويهدّد أختها من فجر إلى آخر. ولم يستطع كُتّاب الروايات المُسلسلة الحديثة بناء وضعيات ومواقف أكثر درامية من التي طالعتنا بها أساطير ألف ليلة وليلة”.
مع الأهمية بمكان، لما أورده بيار عن أصول الرواية البوليسية وصلتها بتراثنا العربي، إلا أن الشيء المهم هو الربط بين الرواية الشعبيّة والرواية البوليسيّة، هذا من جانب، والربط بين الذيوع والجمهور وهذه الآداب من جانب ثانٍ، كأنه يؤكّد على أن عامل الإثارة هو السرّ في جذب المتلقي، كما يكشف عن طبيعة الجمهور بوصفه “قارئًا طاغية” كما وصفته فرجينيا وولف في تحديد ماهية النوع الذي سيقرأ، فيجبر الكتاب على الرضوخ لرأيه، وهذا واضح في روايات النشأة العربية، حيث مالت جميع الروايات إلى المغامرة والجريمة استجابة إلى جمهور القرّاء الذين كانت ذائقتُهم هي الدافع وراء إنتاج مثل هذه الأعمال التي وصفت بأنها شعبية، ومن ثم استبعدها النقاد من التقييم والمراجعة.
وعن نشأتها في مدوّنة السّرد العربيّة، هناك مَن يرى أنّ ثمّة جذورًا تمتد إلى زمن قديم “منذ عرفت البشرية فن القصة”، كما ذهب عبدالرحمن فهمي حيث أشار إلى عناصر الرواية البوليسيّة وعلى الأخص الجريمة والتحقّق والتحرّي، متحقّقة في أسطورة إيزيس وأوزيريس، حيث الأسطورة تتكوّن من ثلاثة أجزاء، الأوّل يتمثّل في تخلُّص سيت من أوزيريس بوضعه في صندوق وإلقائه في النيل، والثاني خاص بجهود إيزيس لاستعادة الجثة وبعثها من جديد، أما الجزء الثالث فخاص بالصراع بين سيت وأوزيريس وحورس. وبذلك تعدّ الأسطورة وفقًا لقول عبدالرحمن فهمي في جزئها الأوّل “رواية جريمة”، وفي جزئها الثاني “رواية رحلة”، وفي جزئها الثالث “رواية فروسية”.
وإذا تقدمنا زمنيًّا فهناك الحكاية في سِفْرِ “ألف ليلة وليلة” الثمين، حيث الحكاية الشهيرة في الليلة “التاسعة والستين” بعنوان “التفاحات الثلاث” والتي يعتبرها الكثيرون أول قصة بوليسيّة، حيث العثور على جثة مجهولة والبحث عن القاتل، وقد وصفها روجر ألن بأنها “لغز جريمة نموذجي” وتارة “قصّة بوليسية مصنوعة بشكل ممتاز″. خاصة بالدّور الذي اضطلع به الخليفة هارون الرشيد وحثّه لوزيره جعفر بن يحيى البرمكي بأن يقوم بدور التحري في البحث عن القاتل.
الحكاية تبدأ أثناء تفقد الخليفة ووزيره جعفر أحوال العوام ومعهما مسرور الخادم، فوجدوا صيادًا يشكو قلة الرزق، وأنه لم يعثر على سمكة واحدة في نهر دجلة منذ أوّل النهار، فأمره الخليفة أن يرمي الشبكة، على اسمه، وما يصطاده سيشتريه منه بمئة دينار، فخرج صندوق مقفول اشتراه الخليفة بمئتي دينار وحمله مسرور إلى القصر.
وعندما فتحوه وجدوا فيه قفة خوص مخيّطة بصوف أحمر، ففتحوها فوجدوا إزارًا مطويًّا أربع طيات، وما أن كشفوا الإزار، حتى رأوا تحته صبيّة غضّة كأنها سبيكة فضة مقتولة مقطعة، وتبدأ الليلة السبعون بقصة البحث والتحرّي عن شخصية المقتولة والقتيل. ويكلّف الخليفة هارون الرشيد وزيره جعفر بحلّ القضية وتقديم المتهم للعدالة، وإلا قتله وأربعين من أهله معه، ومنحه مهلة ثلاثة أيام فقط. ومع مرور الأيام يفشل الوزير في حلّ اللغز، فيأمر بإعدامه، لكن وهو في طريقه إلى حبل المشنقة تتوالى الاعترافات من قبل شاب، وآخر مُسنّ. فيأخذ جعفر كليهما إلى الخليفة وهناك يشرحان له ما حدث، الغريب أن الرجليْن يعترفان مُجدّدًا فيأمر الخليفة بإعدامهما معًا، لكن جعفر ينصحه بالعدول عن فعله حتى لا يقتل رجلاً بريئًا.
في الحقيقة مع توافر شخصية الباحث عن الحقيقة في شخصية هارون الرشيد إلّا أن عناصر القصة البوليسيّة غير متوفّرة باستثناء وجود جريمة القتل والمحقّق، فمع الأسف المحقّق الوزير جعفر لم ينجح في المهمة، فهو في المرّتين لزم بيته واستسلم للموت حتى في نهاية القصة عندما طلب منه الخليفة العثور على العبد الأسود بعدما اتضح اللّغز وبان سبب القتل الخطأ، فالابن هو الذي أعطى التفاحة للعبد. كتب وصيّته استعدادًا للعقاب الذي سيقرّره الخليفة لفشله في العثور على العبد.
كما أن حلّ اللّغز في هذه الحكاية قائم في الأساس على الصُّدفة وليس كنتيجة عمل المحقّق وجهده في البحث والتحرّي، ففي المرة الأولى يأتي اعتراف الشّاب والمسن تلقائيًّا، وفي المرة الأخيرة عندما يودِّع ابنته يلحظ شيئًا مُستديرًا داخل طيات ثيابه فتخبره بأمر التفاحة التي جلبها عبدهم ريحان، وعندئذ يبتهج ويأخذ العبد بعد اعترافه إلى الخليفة، وإن كان يشترط قبل حكاية الحكاية أن يسامحه الخليفة، وبالفعل يوافق الخليفة. بمعنى صريح غياب إجراءات التحقيق واكتشاف المجرم على نحو ما ستظهر في حكاية المعتضد واليد المخضّبة بالحنّاء.
وبذلك تبدو هذه الحكاية من وجهة نظري خارج الحكاية البوليسيّة وفقًا للمفهوم المتداول وإن احتوت على بعض العناصر البوليسيّة؛ حيث الجريمة ووجود المحقّق، فهي كما تصفها ميا جيرهارت بأنها “نصف قصة بوليسيّة”، في حين تراها فدوى مالطي دوجلاس “تمثل في أحد المستويات سردًا معاكسًا للسّرد البوليسيّ أو حتى مضادًا له” وبعبارة أوضح “مكوّنات القصة البوليسيّة الأساسيّة مقلوبة، فلا الخليفة الذي أخذ على نفسه عهدًا بالانتقام للضحية، يكافئه في النهاية بالعفو وتقرير راتب له”.
على منوال هذه الحكاية وما قام به الخليفة بأمره لوزيره بالتحرّي، تسير نادرة “حالة اليد المخضَّبة”، كما أسمتها فدوى مالطي دوجلاس وهي الحكاية الموجودة في كتاب “أخبار الأذكياء” لابن الجوزي، وتعدها دوجلاس نموذجًا للنادرة التي تتوافر فيها عناصر الحكاية البوليسيّة.
النادرة تبدأ عندما رمى أحد الصيادين شبكته في النهر وما أن شعر بأنّها أمسكت شيئًا حتى اكتشف أنها حقيبة يد، وما أن فتحها حتى وجد بين القرميد يدًا بشرية مخضّبة، وما أن رآها حتّى أصابه الهلع، فجاء إلى الخليفة المعتضد وسلّم له كل الأشياء. لكن المعتضد استفزه الأمر وأخذ يبحث عن القاتل حتى قال جملته “معي في البلد مَن يقتل إنسانًا، ويقطّع أعضاءه ويفرّقه، ولا أعرف به! ما هذا مُلك”. فيصدر الأوامر لأحد عماله في البحث والتحرّي، وبالفعل يتقصّى العامل الأخبار، ويبدأ بأوّل الخيوط بسؤال الدبّاغين وصانعي الحقائب، وهو الخيط الذي سيقوده إلى الهاشمي الذي وقع في غرام إحدى الجواري، إلا أنّ مالكتها ضنّتْ بها عليه، ثمّ تواردت الأخبار لديه ببيعها لأحد التجار، فاحتال إلى المالكة لتعطيها له لوداعه، حتى فعل فعلته. وقتلها كما قال جيرانه.
هذه الحكاية تتماثل كلية مع الإطار البوليسيّ للقصة الغربيّة التي يطلق عليها “رواية الجريمة” حيث تبدأ الحكاية بجريمة ما، ثمّ يبدأ التفكير في حلّ لغزها، أي تعيين المجرم. وعملية الحل نفسها تقام بوسائل علمية حيث الاستعانة بمحقّق (العامل هنا، وجعفر في قصة التفاحات الثلاث) ويبدأ هذا العامل بأوّل طريق لحلّ اللغز ويتمثّل في التحرّي والتحقيق.
دور العامل المُوعز من الخليفة المعتضد يتوازى مع دور التحرّي أو المحقّق في روايات الجريمة حيث يجمع الخيوط للوصول إلى الجاني الأصلي. وهو ما قام به عامل الخليفة. كما أن طبيعة عمله بداية من الجثة (اليد المخضّبة بالحناء)، والحقيبة هي الأدوات التي تُساعده على الكشف. فبفضل هذا الدور تقول فدوى مالطي دوجلاس إنّنا بإمكاننا أن نضع هذه النادرة كما أسمتها مقارنة بالقصة البوليسية الغربية. ومن ثمّ فترى أن نموذج المعتضد بوصفه محققًّا فهو أقرب إلى حدّ أكبر من النموذج الكلاسيكي.
في الحقيقة مع الاعتداد بكل الأطروحات التي تجعل من رواية الجريمة رديفًا للرواية البوليسيّة، إلا أنني أرى أن الاعتماد على العناصر التشويقيّة المتمثّلة في وجود الجريمة والقاتل المجهول (أو المشتبه فيه)، والضحية (القتيل)، وظروف الجريمة (الزمان والمكان وأقوال الشهود)، والدافع (الأسباب التي قادت المتهم لجريمته) ورجل التحرّي (الذي يتّصف بالذكاء غالبًا) ومفتاح اللغز (مجموعة الأدلة والآثار التي تقود إلى الحل)، وأساليب المحقّق أو حيله للوصول إلى كشف اللغز للانتصاف إلى قيم العدالة والحق والخير، يقرِّبُها إلى رواية جريمة، ومن ثمّ فأضطر -على الأقل لقناعتي الخاصة- للتفريق بين رواية الجريمة والرواية البوليسيّة، فليس معنى وجود التحرّي في رواية الجريمة دليل على إدراجها تحت الرواية البوليسيّة.
الجدير بالذكر هنا أن فكرة الجريمة التي تعدُّ العنصر الأساسيّ التي تقوم عليه الرواية البوليسيّة وفقًا للمفاهيم التي راجت عنها في الغرب أو عند العرب تحرّرت منها الرواية البوليسيّة الآن وصارت تكتب وفق معايير أخرى فمن الممكن كتابة رواية بوليسيّة بلا جثه ولا بوليس أيضًا، فكما يقول عبده وازن في مقالته “الرواية العربية والبوليس″ في الرواية البوليسيّة، قد تقدمت على وجود جثة ورجل التحرّي “أمور أخرى مثل الجنس والسياسة والاضطرابات الاجتماعية والبعد النفسي والتحليل”.
ويستمر في قوله “أصبحت الرواية البوليسيّة الراهنة رواية اختبارية حرّة ومفتوحة على مُصادفات الكتابة، رواية مُشرّعة الأفق والرؤية وغير مقصورة داخل حدود ومقاييس. بل تمكّنت الرواية هذه من أن تلامس قضايا فلسفيّة ووجودية وميتافيزيقية من غير أن تقع في شَرَكَ النظرية”. ويمكن تلمُّس الوظيفة الجديدة التي تلعبها الرواية البوليسية غير التشويق الذي كانت قائمة عليه من قبل من خلال قول الناقد الفرنسي فيليب كوركوف صاحب كتاب “رواية بوليسيّة، فلسفة ونقد اجتماعي”: “تستطيع الرواية البوليسيّة أن تُساعد القارئ على حلّ السؤال: هل لحياتنا معنى في خواء العالم الحديث؟”.
يبدو لي أن الخلط بين رواية الاستبداد أو القمع أو ما يمكن تسميته بالراوية البوليسية ورواية الجريمة القائمة على التشويق هو أحد الأسباب التي صرفت النقاد عن الاهتمام بالرواية البوليسيّة وإهمال جانب مهم في رصد القمع وإكراهات السُّلْطة ضد مناوئيها، وهو ما آل بها إلى أن تترك اليد الطولى للأجهزة الأيديولوجية في قمع المعارضين والسّاخطين عليها.
ما أسعى إليه أن أصف الرواية التي تعتمد على الأدوات البوليسيّة القمعيّة التي تتمثلها أجهزة الدولة الأيديولوجية في الحفاظ على أمنها واستقرارها كما تزعم دومًا بالرواية البوليسيّة، وقد يأتي مَن يقول إن مثل هذا النوع من الروايات يندرج بطبيعة الحال تحت الرواية السياسية، وهذا صحيح، لكن أدوات السُّلْطة القمعية متحقّقة باطّراد كما هو واضح في “الزيني بركات” لجمال الغيطاني و”الكرنك” لنجيب محفوظ و”حكاية تو” لفتحي غانم وغيرها من نماذج أظهرت بشاعة السُّلْطة وأجهزتها.
الشيء الثاني أن معظم روايات الجريمة التي تُنسب للرواية البوليسيّة تستعير فقط آليات العمل البوليسي من البحث والتحرّي وحل اللغز، لكن الرواية البوليسيّة تستخدم الفعل البوليسيّ والأدوات القمعيّة المستخدمة في الحصول على المعلومة أو المُحرِّضة على اعتراف المُشتبه فيهم، وفي ظني الأخير هو الذي يُقرّب العمل إلى الرواية البوليسيّة، أما بقية العناصر فهي مجرد أدوات للوصول لحل لغز الجريمة لا أكثر.
نقف قليلاً عند نموذجيْن من الروايات التي دفعتني للتفرقة بين الرواية البوليسيّة ورواية الجريمة. الوقفة الأولى مع رواية “الزيني بركات” الصادرة سنة 1974 لجمال الغيطاني. وقد أدرجها معظم النقاد ضمن المرويّات التاريخية لتناولها فترة مصر تحت الحكم العثماني، مع أن الغيطاني نفسه صرّح في أكثر من حوار أنها “ليست رواية تاريخيّة”. الرواية تُقدِّم صورة باذخة على تغوّل أجهزة السُّلْطة حيث أنّ بطشها لم يقتصر فقط على المعارضين، وإنما أيضًا امتدت يدها القمعية إلى الفئات الفقيرة والمهمّشة على نحو مشهد الفلاحين وهم “يسيرون مربوطين من أعناقهم بسلاسل حديدية أمام الجميع″. كما أن عليّ بن أبى الجود تجاوز في ظلمه هو ونائبه زكريا بن راضي، حتى أن الأوّل “لا يكتفي بتعذيب امرأة فقيرة لا ظهر لها، بل يشنقها في النهاية على باب زويلة”، وكل هذا “بغرض ترويع الآخرين”، كما يقول محمد السيّد إسماعيل. (الرواية والسلطة، ص 46).
فالرواية تجاوزت الإطار التاريخي الذي وُضعت فيه باستحضارها زمنًا وأشخاصًا تاريخييْن إلى مروية دالة على بطش السُّلطة وقمعها واستثمارها لكافة أجهزتها القمعيّة والأيديولوجيّة في تثبيت سُلطانها وقمع معارضيها، لا في المجتمع الذي وقعت فيه الأحداث بل تتجاوزه إلى مجتمعات مُختلِفة عنها في الطبيعة الجغرافية وإن كانت لا تختلف عنها في وجود الطاغية أو أدواته القمعية، وهذا ما يجعل منها رواية متجاوزة لزمنها المرجعي وأيضًا زمنها الواقعي وصالحة لغيرهما من أزمان تكون فيها الكلمة العُليا للسُّلطة وأجهزتها على المستوى الأيديولوجي والقمعي. فإذا كان الزمن المرجعي نهاية الدولة المملوكية بسقوط رأس سلطانها وبداية التدخُّل العثماني أو ما عُرِفَ باحتلال دولة بني عثمان لمصر، وتبعية واليها لصدر الباب العالي في إسطنبول، وصكّ العملة العثمانية وصدور الفرمانات العثمانية، وهي تلك الوقائع التي سجلَّها الرحالة الإيطالي البندقي “فياسكونتي جانتي”.الذي تبدأ به الرواية وتنتهي أيضًا.
الغيطاني نفسه في أحد حواراته يشير إلى أن دوافع الكتابة مرتبطة بالآليات البوليسيّة القمعية التي مُورست ضد المثقفين في دولة يوليو فيقول “الزيني بركات جاءت نتيجة لعوامل عديدة. أهمُّهَا في تقديري، تجربة مُعاناة القهر البوليسيّ في مصر خلال الستينات…. عانينا من الرقابة في الستينات. وأسلوب التعامل البوليسي”(مجلة الهلال، 34).
الرواية قدمت صورة مُقزّزة للدكتاتورية وما مارسته من قمع وإرهاب ومن ثمّ فنحن أمام رواية كما وُصفت في الأوساط النقدية أو المُسْتَقْبِلَةِ عن طريق الترجمة عن القمع بكافة صوره وأدواته، أي رواية بوليسيّة بامتياز بفعل الآليات التي مارستها أجهزة السلطة الأيديولوجية، أو رواية عن السُّلطة القامعة التي تبرِّر تبرّر وسيلة لحماية أركان نظامها من السقوط في أيّ زمانٍ دون الاقتصار على زمن تاريخي مُحَدَّد يحيل إلى زمنٍ قَار، فقد “انسلخت الوقائع التاريخية عن لحظتها الماضية وتحرَّرت من سكونها التاريخي، وأصبحت حيَّة لا تتوقف عند زمن معين” (ص، 40).
فكرة الجريمة التي تعدُّ العنصر الأساسيّ التي تقوم عليه الرواية البوليسيّة وفقًا للمفاهيم التي راجت عنها في الغرب أو عند العرب تحرّرت منها الرواية البوليسيّة الآن وصارت تكتب وفق معايير أخرى فمن الممكن كتابة رواية بوليسيّة بلا جثه ولا بوليس أيضًا، فكما يقول عبده وازن في مقالته “الرواية العربية والبوليس″ في الرواية البوليسيّة، قد تقدمت على وجود جثة ورجل التحرّي “أمور أخرى مثل الجنس والسياسة والاضطرابات الاجتماعية والبعد النفسي والتحليل”
وما بين القامع وأدواته يكون المقموع حاضرًا، بوصفه مفعولاً فيه تُمارِسُ عليه أجهزة السُّلطة الأيديولوجية وأدواتها القهرية، قمعها وجبروتها، فلا فرق في تغيير الأشخاص كتغيير “الزيني بركات” بـ “عليّ بن أبي الجود”، فالناس لا تلتمس تغييرًا، إلّا في شكل واسم الشَّخص، أما الوسيلة والأداة فواحدتان. الفرق فقط في استبدال سياسة الزيني الناعمة المعتمدة على فلسفة خاصة، بسياسة علي بن أبي الجود الفظَّة المتجبِّرة. والمقموع متمثِّلُ في جموع الشَّعب (من خلال الاحتكارات التي يُمارِسُها موظفو الدولة، والمكوس والجبايات التي تجمع منهم قَهْرًا)، والمثقفين المختلفين أيديولوجيا مع السلطة (سعيد الجهيني والشيخ الجارحي).
النموذج الثاني هو رواية “الكرنك” الصادرة عام 1974 لنجيب محفوظ وفيها يتكرّر تعاظم أجهزة السلطة، فهي المتحكّمة وهي التي تُمارس سطوتها على معارضيها بغية الحماية. فالحدث الرئيسي المهيمن في نص “الكرنك” هو هيمنة الأجهزة الرقابية على البلد وحالة الارتباك والخلل التي تصنعها هذه الأجهزة، وهو ما انتهى إلى تغوُّل هذه الأجهزة فصارت هي المُفَكِّر الأوحد، ولكي تبرِّر بطشها رسَّخت فِكْرَة حماية الثورة. لا ندري ممّن!
فلقد اخترعت للثورة أعداءً وللأسف اختارت أبناء الثورة والمؤمنين بالثورة وبالزعيم أيّما إيمان لتُمارِسَ عليهم سطوتها بفعل وسائلها القهرية، فحوَّلت المؤمنين بها إلى كافرين، والذين نظروا إلى صورة الزعيم في قداسة وأهابوا عليه مظاهر الآلهة أزاحوا الصُّورة بما بها من جلال ووقار إلى نقيضها، فإسماعيل الشيخ، وزينب دياب ظلت صورة الثورة والزعيم لديهما محلّ قداسة، إلى مرحلة الاعتقال الثانية، فقد ظلا على إيمانهما العميق بالثورة وأنَّ ما يَحْدُثُ مجردَ خطأ، وهو ما دفعهم إلى تبرير هذه الأفعال، وعدم المثول لِفْكر حلمي حمادة، أو حتى اليأس الذي تسرَّب إلى نفوس الناس من جرَّاء حملة الاعتقالات التي أصابت الجميع، أو الخوف الشديد الذي بدأ عليه الناس لئلا يلحق بهم ضررٌ كما يسمعون.
فالمسألة ليست مرتبطة بحلمي حمادة الشَّاب الشيوعي المُحِبَّة له قرنفلة بقدر ما هي مسألة عامة تعود أهميتها في أنها سوف تكون ردِّة في مسار الثورة، وهو ما يتحقّق بعد الاعتقال الثالث وموت حلمي حمادة نفسه بما يحمل من قِيم ثورية نبيلة من شأنها المحافظة على مكتسبات الثورة، فيأتي موته أثناء التحقيق كإنذار مُسْبَقٍ بأن الثورة حادت عن مسارها ولا بد من التصحيح، ومن ثم كانت هزيمة 1967 طبيعية للمراجعة. بل أراد الراوي أنْ يُمَهِّدَ لها بموت حلمي حمادة، فالموت بهذه الطريقة البشعة من أجهزة الدولة القمعيّة، والتي في الجانب الآخر أخذت أجهزتها الإعلامية تؤكّد حتمية النصر وقربه، رغم حالة التناقض بين أجهزة الدولة وذراعها الباطش التي بدأت واضحة وماثلة للجميع؛ فأجهزة الدولة تُمَارِسُ قَمْعًا في الداخل دون صَوت، في حين الفعل الذي يحتاج إلى فِعْلٍ حقيقي ومَلْمُوس تواجهه بنبرات حماسية وخُطَبٍ فقط.
مقابل الروايات القائمة على توغّل وإظهار استبداد أجهزة السُّلطة، هناك الروايات القائمة على الجريمة، ومن هذه الروايات رواية غسان كنفاني “مَن قتل مريم الحايك؟”. فالرواية قائمة على جريمة قتل مريم الحايك والمحامي صالح عشيقها وصديق زوجها هو المتهم، فيخضع للتحقيق خاصة بعد استدلال المحقّق على أدلة تدينه منها علبة السجائر التي وجدت أمام باب شقتها.
الرواية في مجملها اجتماعيّة تقوم على علاقة بين صديقيْن، ويتورط صالح المحامي في علاقة مع ليلى زوجة سعيد وهي صديقة لزوجته، ذهبا إلى الفراش “تحت دافع من المصادفة والاشتهاء والتغيير”، لكن تأخذ الرواية جانبًا من الدفاع حيث يتبارى المحامي صالح في الدفاع عن علاقته بليلى الحايك، وكيف أن المصادفة هي التي لعبت دورًا في علاقتهما دون أن يكون هناك تأثير على علاقته بزوجته ديما، فهذه العلاقة جعلت من زوجته ديما “إنسانة أكثر معنى مما كانت وأقل عادية مما هي” فما حدث مع ليلى لم يكن جورًا على حصّة زوجها ولا على حصّة زوجته وإنما كما يقول “استعملنا القوة الفائضة التي أفرزتها المصادفة والشهوة خارج طوق العادة” (ص، 44)
يتحايل المحامي بعد أن صار متهمًّا ومضّطرًا لأن يدافع عن نفسه، في تقديم مبرراته لإقدامه على هذه العلاقة فيقول “قد جاءت هذه المصادفة كي تعطي ليلى فرصة لإثبات أنوثة مسلوبة هي سلاحها الوحيد في أعماقها أمام زوجها، وجاءت لتعطيني دون أن أقصد تجديدًا لعلاقتي بزوجتي” (ص، 46).
ومع إلقاء القبض عليه وتوجيه الاتّهام له تأخذ الرواية جانبًا آخر يتمثّل في البحث عن القاتل الحقيقي من خلال صيغة التحقيق وأسلوبه الذي سيطر على كثير من أجزاء النص، خاصة أن صالح روى تفاصيل علاقته بليلى والشيء الوحيد الذي كان يخشاه هو معرفة زوجته بهذه العلاقة التي رفضتها تمامًا، بل وعندما أثارها المحقّق غضبت غضبًا شديدًا ووجّهت لهم بعض الإهانات.
وإزاء إصرار المحامي بألّا يتحدث أخذت القضية بُعدًا أخر، خاصّة بعد التحقيقات مع سعيد الحايك زوج ليلى الذي نفى وجود علاقة بين زوجته وصالح المحامي. ثم حكايات الشهود بعد استجوابهم والتي تأخذ جانب التحقيق والاستشكاف. بعد كل هذا هل نستطيع أنّ نصف هذه الرواية على أنها رواية بوليسية؟ بالطبع لا، فهي رواية جريمة.
وهو ما يتكّرر مع رواية الحبيب السالمي “من قتل أسعد المرّوري؟”، فالرواية تبدو كأنها رواية بوليسيّة حيث عنوانها غايته البحث عن القاتل، مَن “قتل أسعد المروري؟”. فالرواية في مجملها عبارة عن تحقيق في جريمة قتل دون أن تكون رواية بوليسيّة. ونموذج الرواية يؤكّد لنا ما سعينا إليه من التفرقة بين رواية الجريمة القائمة على فكرة البحث عن القاتل والرواية البوليسيّة التي تعتمد على آليات القهر والتعذيب المادي والمعنوي. فمن يلعب دور المحقّق، على غير عادة روايات الجريمة والتحقيق، هو الصحفي رُستم معاود. فما أن يختفي أسعد المرّوري، الأستاذ بجامعة وهران والناشط الحقوقي والمسرحي والنقابي والسياسي اليساري، أربعة أيّام، وفي اليوم الخامس تُعلن الجهات المختصة عثورها على جثته مقتولاً في مقر الحزب الذي ينتمي إليه هو وصديقه، ساعية إلى اختلاق رواية تبرّر بها القتل هكذا “اغتيال على ضوء ممارسة الأستاذ لعلاقة حبّ مثلية، والتي لا تتوافق مع القيم المجتمعية والدينيّة السّائدة في العلن والتي يراها شذوذًا” (ص، 62). وهو الفعل الذي يتنافى مع أخلاقيات المجتمع.
لكن لا تنطلي هذه الرواية الضبابيّة التي يحاول جهاز الشّرطة تمريرها للرأي العام وفرضها واقعًا حقيقيًّا، على صديقه،ـ فيهم الصحفي بالتحري والبحث. الغريب في رحلته لاكتشاف ملابسات الجريمة يجد نفسه عالقاً في ألغاز ومتاهات لا تنتهي وهو يبحث عن الحقيقة، خاصة أن الشرطة تتكتم على بعض المعلومات لكنه بمساعدة صهره الذي يعمل مفتشًا في الشرطة القضائية وبمساعدة “لطيفة” حبيبته التي تعمل طبيبة شرعية، وهو ما يسهّل لها الكشف على الجثة وتشريحها، يتمكّن من الوصول إلى الكثير من الحقائق التي تحاول الجهات الأمنية التكتم عليها، وربما طمسها ومحاولة تزييفها. يعتمد “رستم” في رحلة التحرّي على وثائق وتسريبات ولقاءات من رجال أمن وشهود من محيطي الضحيّة والمتهم ومن الأوساط المنحرفة، وهو ما يكشف عن توغّل أجهزة السّلْطة واستبداد آلياتها، وهو ما يُقرّب النّص من ناحية بالرواية البوليسيّة بالمعنى القمعي.
في الختام
بعد هذا العرض النّظري وما تبعه من تحليلات لمتون بعض الأعمال نستطيع أن نطمئنّ قليلاً من صحّة التفرقة بين الرواية البوليسيّة ورواية الجريمة خاصّة أن بعض الروائيين يرفضون الاعتراف بأنّ نصوصهم تنتمي إلى هذا الفصيل من الكتابات خِشية اتهامهم بالتسطيح ومغازلة قطاع عريض من الشّباب. كما دحضت الدراسة فكرة إدراج هذا النوع إلى الأدب غير النظيف أو أدب الهامش حيث أثبتتْ أنّ ثمّة جهودًا نقديةً مهمّةً اعتنتْ بتحليل وتتبّع هذه الظاهرة على مستوى مدوّنة النقد الغربي والعربي كذلك. وهو ما يعني أننا أمام جنس أدبي يستحق التوقّف عنده والتوسع في دراسته وفق هذا التقسيم الجديد سعيًّا لاكتشاف سماته الأسلوبيّة واللّغوية التي يحملها كل جنس على حدة، وهو ما يعطي كل جنس تميّزه وأهميته.