الرواية الجديدة هل هي رافعة صوت الراوي
إن هذا التهشيم للأساليب السردية سواء منها الحداثوية جدا التي لم تتركز على ثوابت ومرتكزات الفن السردي أو الأساليب الكلاسيكية التي تبني فيه الجسد النصي لأنها معنية بإيصال الفكرة ولم يترك التهشيم قدرة على إلمام الواقع السردي وجعله خاضعا إلى العالم الروائي.. بمعنى أن المحاولات تسعى لأن تكتب رواية بطريقة جديدة على أن تبقى اليافطة الكبيرة هي أنها رواية حتى لو سعى البعض إلى طرح مصطلح جديد يكتب أسفل العنوان فهو محاولة لإخفاء الرواية تحت ثوب العنونة الجديدة..
لذلك نجد أن هذه المحاولات التي نطلق عليها الآن محاولات تجريبية يقوم بها وينفذها عدد من كتاب الرواية وتسعى إلى طرح مفهوم جديد على ما هو سلوك قائم في عالم اليوم وما يمر به العالم ذاته من تهشيم للقيم والتعاليم واضمحلال الحب وتنامي الكراهية والسعي الى الموت واستنزاف العقل البشري وزارعة الأحقاد وطفح غياب الهوية الرئيسية، كل ذلك يعد إحباطا للعالم الجديد الذي نعش فيه وأن الأسلوب القديم لم يعد يستوعب القيم الأخلاقية في الثيمة السردية أو الأسلوب السردي ولم يعد قادرا على استيعاب المتغيرات التي حصلت على الكرة الأرضية والمتقدمة في التقنيات من جهة والعراق من جهة أخرى وهو المنطقة المشتعلة بالحروب وهو بين هذا وذاك ما زال يشتعل ويحترق..
لذا فإن الأوان قد آن لإيجاد متسع سردي يستجيب لهذه النداءات بغض النظر عن التوافقات التي تتبعها الذائقة القرائية من جهة أو التي تتطلبها الحالة النقدية من جهة أخرى.. فهي تكتب وتلتفت إلى ما يعنيه الآخر من تصادمات مع الذائقة أو القبول بها.. إذا ما آمنّا أن الابداع يحمل بصمة خاصة بصفة إنتاج ذاتي يعلن عن كشف مرجعيات الذات المنتجة فإن التقنيات التي تنتج النص تخضع بكل تأكيد وفق هذا المفهوم إلى ما تمثله حالة الكاتب/المنتج للنص الروائي من أفكار خاصة حتى لو لم تقترب من الأيديولوجيات المتعارف عليها في الساحة السياسية أو الثقافية على أساس أن المرجعية الأيديولوجية هي خصائص التفكير الخاصة داخل الانتماء الشخصي الذاتي..
ولهذا ولأجل تذويب كل ملامح الثوابت النقدية الروائية سعى كتاب الرواية الجديدة إلى تهشيمها أو على الأقل تكسيرها من ملامح تيار الوعي إلى التيار الباطني، إلى المزج بين الأسلوب الكتابي في التخاطب المباشر أو الغائب أو الموجه بل وحتى الانقلاب على الوصف بصفته واحدا من عوامل المخيلة التي تقرّب صورة ما هو مكتوب إلى ذهنية المتلقي أو حتى حياته.. وأيضا فإن الرواية الجديدة تسعى إلى تكسير الحوار بصفته تقنية سردية والتداعيات التاريخية وكذلك الحواس فيما يبقى الخيال العنصر الأهم المتبقي الذي يحدد جمالية النص في استخلاص جزء من المتغيرات التي أحدثها الواقع..
وهو ما يعني بكل تأكيد تكسير النمط الزمني باعتبار أن الزمن واحد من العوامل الضائعة في الحياة العراقية وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى عدم إعطاء ملامح المكان باستثناء إطلاق الأسماء على الأمكنة دون الخوض في تفاصيل الوصف لها ولذا فإن غياب الوصف أو ما أطلق عليه المستوى التصويري يؤدي إلى تحويل السرد من قراءة متخيلة هادئة إلى صوت مرتفع بين المنتج الروائي والمتلقي.. وهنا تكمن واحدة من خواص الرواية الجديدة وهي تحولها من السرد في الحفاظ على عوامل المخيلة التي تمنح المتلقي رؤية أخرى واستنباط قصدية جديدة وإنتاج تأويل قريب له إلى رواية صوت تستغل العاطفة والحاجة إلى جلد الذات من قبل المتلقي الذي يجد في مثل هذا الوقت هو الأقرب له في التمكن من تهشيم معاناته والشعور بالراحة لأن هناك من يصرخ بدلا عنه ويشتم بدلا عنه ويكسر الثوابت بدلا عنه ويتجاوز التابوات بجرأة يفتقدها، حتى لكأن الروائي صار هو حال الناس والناطق باسم الجميع، ولهذا لا يجد المتلقي سوى تلك الحزمة من المعاني الدالة على واقع مأزوم يعيشه، وهو أن الروائي واحد من هؤلاء الناس وهو متلقٍ أصلا فقد أخذ على عاتقه أن ينساق هو الآخر إلى إيجاد موجّه قرائي آخر حتى لو كان هو الكاتب والمدون.
وهذا الموجه هو أن تكون اللغة التي يعتمد عليها في تدوين سردياته غير خاضعة لثوابت الكتابة الروائية حتى التي جاءت بها سرديات ميتا ميتا رواية لأنه معنيّ أولا بوضع النقدية للواقع ووضع ما ينقص القارئ من الصراخ بوجه واقعه المخيب للآمال، ومعنيّ أن يجلد ذاته وذات الآخرين معه باعتبار أن هذا الواقع هو الأكثر سوداوية ويحتاج إلى كتابة تجابه هذا الواقع حتى لو كان عن طريق السخرية أو السوداوية أو حتى الفنطازيا على الرغم من أن هذه الطرق في الكتابة لم تكن جديدة لكن ما نعنيه هو تلك الطرق الموصلة إلى الحافة السردية عن طريق صوت الراوي، وبالتالي صوت الروائي الذي ينحاز هنا إلى مرجعياته الواقعية سواء في المعارضة للواقع من جانبه السياسي أو جانبه الديني.
إن الرواية الجديدة التي يحاول بعض منتجيها الترويج لها على أنها هي الرواية المروجة لنفسها والتي تجد لها صدى واسعا هل نجحت في إدارة الأحداث التي تنطوي عليها فكرة الرواية في سخريتها أو فنطازيتها..؟ هل نجحت في إدارة هذا التهشيم والتكسير للثوابت المتحركة في التدوين السردي والذي لا أعني به بالضرورة الثوابت المتعلقة في انتهاج ثابت للتدوين السردي المتعارف عليه في الروايات الأولى التي ظهرت بل في إدارة الحدث وفق الأحداث التي ترتئيها الفكرة ويرتئيها المنتج لكي تصل الفكرة وفلسفتها وتأويلها إلى المتلقي؟
تهتم الرواية الحديثة بمخاطبة المتلقي بطريقة مباشرة عبر استخدام الأسلوب العاطفي الذي يعتمد اعتمادا كليا على الصوت فالمتلقي هنا سيجد صوتا يخاطبه وهو بالتالي واقع تحت تأثير جلد الذات
هل نجحت أيضا في تغليف المخيلة على العاطفة لأننا إذا ما عرفنا أن أيّ عنصر للعاطفة إذا ما دخل في محركات الإنتاج الفني سرعان ما ينتهي مفعول سحرها لأنها ستكون أشبه بلحظةٍ مبكيةٍ أو ضاحكةٍ ولا تكون كذلك في إعادة القراءة مرة أخرى لأننا في القراءة الثانية سنكتشف أن ما قيل لا يعدو عن كونه مجرد قول مأخوذ من واقع نحن نعيشه وأن تلك المفردات التي سمعها متلقياً هي صوته ورغبته في جلد ذاته لأنه يعيش في هذا المجتمع.. وأن ما قرأه هي حياته فينتج تأففاً مقبولا عن جرأة الروائي أكثر منه مقبولية عن كون ما قرأه هو رواية سردية لأن قارئ الرواية يدرك أن الرواية ليست نقلا للواقع بل تقديم حزمة من الممكنات المتخيلة تجعله يتماهى معها وتمنحه قدرة على الولوج إلى عوالم متقدمة لا مهدِّدة بالصراخ.
إن هناك ما يمز هذه الرواية وما يمنحها علامات محددة وخواص دالة:
-1 جنوح الرواية الجديدة إلى استخدام لغة انتقادية تتصل بالانتقاص من كل شيء في الواقع وإحالته إلى لغة جديدة تهكمية وقد تستخدم حتى الألفاظ التي لا يمكن للمتلقي قولها مع نفسه فتنوب عنه الرواية في القول والطرح.. مثلما تكون هذه اللغة تحمل روح الاشمئزاز بل وعدم اعتمادها على التصريح البلاغي أو الثوابت النحوية في محاولة لتهشيم هذه الثوابت لكونها غير مهمة من جهة أو أنها لا تؤثر على حيثيات الفكرة.
-2 بالتالي النزوع نحو استخدام قواعد لغوية جديدة لا يهم إن كانت (لم) جازمة أو أن المفردة الشعبية هي مفردة عربية مفهومة من جميع القراء لأن ما يهم هو كيفية سبر أغوار الصوت في جسد الرواية وكيفية سحب العاطفة من المتلقي وإسقاطها على النص.
-3 عدم الاهتمام الكلي بالوصف أو المستوى التصويري الذي يقرّب مخيلة المنتج من مخيلة المتلقي والاستمرار في عملية الإخبار لما يحصل في المتن على أنه الميزة الأهم والاكتفاء بسرد الأحداث على لسان الراوي والركض خلف المعلومة بطريقة الصوت.
-4 غياب الاهتمام العام بالزمن الذي تجري فيه الأحداث وعدم ملاحقة الواقعة بزمنها أو جزيئية الحدث في الرواية لأنها غير معنية بجذب الوحدات الزمنية لتكوين زمن خلاق قادر على إعطاء المكان أيضا ملامحه من خلال الزمن، وبالتالي ربما يكون اغترابا زمنيا في الرواية الحديثة لأنها غير معنية بذلك.
-5 عدم الاهتمام بالمكان كجزء من حيثيات الرواية وجعله معلومة تحمل اسما فقط دون الخوض كثيرا في تفاصيله أو تتويجه بفعل المخيلة القادرة على تقريب المكان في مخيلة المتلقّي الذي ربما لن يجد في لحظة التصوير القرائي منطقة مشابهة لما يقرأ وتجعله يقترب كثيرا منها، والرواية تعتمد هنا على معرفة المكان لشهرته وخاصة إذا كان هذا المكان في بغداد كعاصمة.
-6 تهتم الرواية الحديثة بمخاطبة المتلقي بطريقة مباشرة عبر استخدام الأسلوب العاطفي الذي يعتمد اعتمادا كليا على الصوت فالمتلقي هنا سيجد صوتا يخاطبه وهو بالتالي واقع تحت تأثير جلد الذات التي يحتاجها ويقدم له الروائي فرصة لتحيق هذا الهدف.
-7 انفلات عقدة الأبطال المحددين في الروي وجعل كل ما هو موجود بطلا حتى لو كان ذلك على لسان الراوي وهذه تحتاج إلى مقدرة روائية كبيرة لم تصل بعد إلى نضجها الإنتاجي لأن هناك إرباكا واضحا في تسلسل الأحداث المتوزعة على الأبطال المختلفين.
-8 الجنوح إلى الفنطازيا كحل ميتافيزيفي لإحداث رؤية مخالفة للقصدية التي يراد طرحها والتي يراد منها أن تمنح التأويل منطقة أولى.. وهذا الجنوح يمهد إلى طرق أبواب عديدة لمواجهة ما هو مخالف لكي ينطق ويكون قادرا على كشف عوراته.